1. نزهة المشتاق في اختراق الآفاق المؤلف الإدريسي الجزء الأول من الإقليم الأول/الجزء الاول الي الجزء الغاشر
إن هذا الإقليم الأول مبدؤه من جهة المغرب من البحر الغربي المسمى ببحر الظلمات وهو البحر الذي لا يعلم ما خلفه وفيه جزيرتان تسميان بالخالدات ومن هذه الجزائر بدأ بطليموس يأخذ الطول والعرض وهاتان الجزيرتان فيما يذكر في كل واحدة منهما صنم مبني من الحجارة طول كل صنم منها مائة ذراع وفوق كل صنم منهما صورة من نحاس تشير بيدها إلى خلف وهذه الأصنام فيما يذكر ستة أحدهما صنم قادس التي بغربي الأندلس ولا يعلم أحد شيئاً من المعمور خلفها. وفي هذا الجزء الذي رسمناه من المدن اوليل وسلى وتكرور وبريسى ودو ومورة وهذه البلاد من أرض مقزارة السودان فأما جزيرة اوليل فهي في البحر وعلى مقربة من الساحل وبها الملاحة المشهورة ولا يعلم في بلاد السودان ملاحة غيرها ومنها يحمل الملح إلى جميع بلاد السودان وذلك أن المراكب تأتي إلى هذه الجزيرة فتوسق بها الملح وتسير منها إلى موقع النيل وبينهما مقدار مجرى فتجري في النيل إلى سلى وتكرور وبريسى وغانة وسائر بلاد ونقارة وكوغة وجميع بلاد السودان وأكثرها لا يكون لها مأوى ولا مستقر إلا على النيل بعينه أو على نهر يمد النيل وسائر الأرضين المجاورة للنيل صحار خالية لا عمارة فيها وهذه الصحارى فيها مجابات مياه وذلك أن الماء لا يوجد فيها إلا بعد يومين وأربعة وخمسة وستة واثنى عشر يوماً مثل مجابة تيسر التي في طريق سجلماسة إلى غانة وهي أربعة عشر يوماً لا يوجد فيها ماء وأن القوافل تتزود بالماء لملوك هذه المجابات في الأوعية على ظهور الجمال ومثل هذه المجابة كثير في بلاد السودان وأكثر أرضها أيضاً رمال تنسفها الرياح وتنقلها من مكان إلى مكان فلا يوجد بها شيء من الماء وهذه البلاد كثيرة الحر حامية جداً ولذلك أهل هذا الإقليم الأول والثاني وبعض الثالث لشدة الحر وإحراق الشمس لهم كانت ألوانهم سوداء وشعورهم متفلفلة بضد ألوان أهل الإقليم السادس والسابع.
ومن جزيرة اوليل إلى مدينة سلى ست عشرة مرحلة ومدينة سلى على ضفة نهر النيل وبشماله وهي مدينة حاضرة وبها مجتمع السودان ومتاجر صالحة وأهلها أهل بأس ونجدة وهي من عمالة التكروري وهو سلطان مؤمر وله عبيد وأجناد وله حزم وجلادة وعدل مشهور وبلاده آمنة وادعة وموضع مستقره والبلد الذي هو فيه مدينة تكرور وهي في جنوب النيل وبينها وبين سلى مقدار يومين في النيل وفي البر ومدينة تكرور أكبر من مدينة سلى وأكثر تجارة وإليها يسافر أهل المغرب الأقصى بالصوف والنحاس والخرز ويخرجون منها التبر والخدم وطعام أهل سلى وأهل تكرور الذرة والسمك والألبان وأكثر مواشيهم الجمال والمعز ولباس عامة أهلها قداوير الصوف وعلى رؤوسهم كرازى الصوف ولباس خاصتها ثياب القطن والمآزر.
ومن مدينة سلى وتكرور إلى مدينة سجلماسة أربعون يوماً بسير القوافل وأقرب البلاد إليهما من بلاد لمتونة الصحراء أزكى وبينهما خمس وعشرون مرحلة ويتزود بالماء فيها من يومين إلى أربعة إلى خمسة وستة أيام وكذلك من جزيرة ارليل إلى مدينة سجلماسة نحو من أربعين مرحلة بسير القوافل.
ومن مدينة تكرور إلى مدينة بريسى على النيل مشرقاً اثنتا عشرة مرحلة ومدينة بريسى مدينة صغيرة لا سور لها غير أنها كالقرية الحاضرة وأهلها متجولون تجار وهم في طاعة التكروري.
وفي الجنوب من بريسى أرض لملم وبينهما نحو من عشرة أيام وأهل بريسى وأهل سلى وتكرور وغانة يغيرون على بلاد لملم ويسبون أهلها ويجلبونهم إلى بلادهم فيبيعونهم من التجار الداخلين إليهم فيخرجهم التجار إلى سائر الأقطار وليس في جميع أرض لملم إلا مدينتان صغيرتان كالقرى اسم إحداهما ملل واسم الثانية دو وبين هاتين المدينتين مقدار أربعة أيام وأهلها فيما يذكره أهل تلك الناحية يهود والغالب عليهم الكفر والجهالة وجميع أهل بلاد لملم إذا بلغ أحدهم الحلم وسم وجهه وصدغاه بالنار وذلك علامة لهم وبلادهم وجملة عماراتهم على واد يمد النيل وليس بعد أرض لملم في جهة الجنوب عمارة تعرف وبلاد لملم تتصل من جهة المغرب بأرض مقزارة ومن جهة المشرق بأرض ونقارة ومن جهة الشمال بأرض غانة ومن جهة الجنوب بالأرض الخالية وكلامهم كلام لا يشبه كلام المقزاريين ولا كلام الغانيين.
ومن بريسى المتقدم ذكرها إلى غانة في جهة المشرق اثنا عشر يوماً وهي في وسط الطريق إلى مدينة سلى وتكرور وكذلك من مدينة بريسى إلى اودغشت اثنتا عشرة مرحلة واودغشت من بريسى شمالاً وليس في بلاد السودان شيء من الفواكه الرطبة إلا ما يجلب إليها من التمر من بلاد سجلماسة أو بلاد الزاب يجلبه إليهم أهل وارقلان الصحراء والنيل يجرى في هذه الأرض من المشرق إلى المغرب وينبت على ضفتيه القصب الشركي وشجر الأبنوس والشمشار والخلاف والطرفاء والإثل غياضاً متصلة وبها تقيل وتسكن مواشيهم وإليها يميلون ويستظلون عند شدة الحر وحمية القيظ وفي غياضه الأسد والزرائف والغزلان والضبعان والأفيال والأرانب والقنافذ وفي النيل أنواع من السمك وضروب من الحيتان الكبار والصغار ومنه طعام أكثر السودان يتصيدونه ويملحونه ويدخرونه وهو في نهاية السمن والغلظ وأسلحة أهل هذه البلاد القسي والنشابات وعليها عمدتهم والدبابيس أيضاً من أسلحتهم يتخذونها من شجر الأبنوس ولهم فيها حكمة وصناعة متقنة وأما قسيهم فإنها من القصب الشركي وسهامم منه وكذلك أوتارها من القصب وبناء أهل هذه البلاد بالطين والخشب العريض الطويل عندهم قليل الوجود وحليهم النحاس والخرز والنظم من الزجاج والباذوق ولعاب الشيخ وأنواع المجزعات من الزجاج المؤلف.
وهذه الأمور والحالات التي ذكرناها من المطاعم والمشارب واللباس والحلى يفعلها أكثر السودان في جميع أرضهم لأنها بلاد حر ووهج شديد وأهل المدن منها يزرعون البصل والقرع والبطيخ ويعظم عندهم كثيراً ولا حنطة عندهم أكثر من الذرة ومنها ينتبذون ويشربون وجل لحومهم الحوت ولحوم الإبل المقددة كما قدمنا وصفه وهاهنا انقضى ذكر الجزء الأول من الإقليم الأول والحمد لله على ذلك.
نجز الجزء الأول من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء الثاني منه إن شاء الله.
2.==========================================================
2.
إن الذي تضمنه هذا الجزء الثاني من الإقليم الأول من المدن مدينة مدل وغانة وتيرقى ومداسة وسغمارة وغيارة وغربيل وسمقندة فأما مدينة ملل التي هي من بلاد لملم فقد ذكرناها فيما تقدم وهي مدينة صغيرة كالقرية الجامعة لا سور لها وهي على تل تراب أحمر منيع جانبه وأهل مال متحصنون فيه عمن يطرقهم من سائر السودان وشربهم من عين خرارة تخرج من الجبل الذي في جنوبها وماؤها زعاق ليس بصادق الحلاوة وبغربي هذه المدينة على ماء العين الذي يشربون منه ومع نزوله إلى أن يقع في النيل أمم كثيرة سودان عراة لا يستترون بشيء وهم يتناكحون بغير صدقات ولا حق وهم أكثر الناس نسلاً ولهم إبل ومعز يعيشون من ألبانها ويأكلون الحيتان المصيدة ولحوم الإبل المقددة وأهل تلك البلاد المجاورة لهم يسبونهم في كل الأحايين بضروب من الحبل ويخرجونهم إلى بلادهم فيبيعونهم من التجار قطاراً ويخرج منهم في كل عام إلى المغرب الأقصى أعداد كثيرة وجميع من يكون في بلاد لملم مرسوم بالنار في وجهه وهي لهم علامة كما قدمنا ذكره.
ومن مدينة ملل إلى مدينة غانة الكبرى نحو من اثنتي عشرة مرحلة في رمال ودهاس لا ماء بها وغانة مدينتان على ضفتي البحر الحلو وهي أكبر بلاد السودان قطراً وأكثرها خلقاً وأوسعها متجراً وإليها يقصد التجار المياسير من جميع البلاد المحيطة بها ومن سائر بلاد المغرب الأقصى وأهلها مسلمون وملكها فيما يوصف من ذرية صالح بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو يخطب لنفسه لاكنه تحت طاعة أمير المؤمنين العباسي وله قصر على ضفة النيل قد أوثق بنيانه وأحكم إتقانه وزينت مساكنه بضروب من النقوشات والأدهان وشمسيات الزجاج وكان بنيان هذا القصر في عام عشرة وخمس مائة من سني الهجرة وتتصل مملكته وأرضه بأرض ونقارة وهي بلاد التبر المتكورة الموصوفة به كثرة وطيباً والذي يعلمه أهل المغرب الأقصى علماً يقيناً لا اختلاف فيه أن له في قصره لبنة من ذهب وزنها ثلاثون رطلاً من ذهب تبرة واحدة خلقها الله خلقة تامة من غير أن تسبك في نار ولا تطرق بآلة وقد نفذ فيها ثقباً وهي مربطة لفرس الملك وهي من الأشياء المغربة التي ليست عند غيره ولا صحت لأحد إلا له وهو يفخر بها على سائر ملوك السودان وهو أعدل الناس فيما يحكى عنه ومن سيرته في قربه من الناس وعدله فيهم أن له جملة قواد يهبون إلى قصره في صباح كل يوم ولكل قائد منهم طبل يضرب على رأسه فإذا وصل إلى باب القصر سكت فإذا اجتمع إليه جميع قواده ركب وصار يقدمهم ويمشي في أزقة المدينة ودائر البلد فمن كانت له مظلمة أو نابه أمر تصدى له فلا يزال حاضراً بين يديه حتى يقضى مظلمته ثم يرجع إلى قصره ويتفرق قواده فإذا كان بعد العصر وسكن حر الشمس ركب مرة ثانية وخرج وحوله أجناده فلا يقدر أحد على قربه ولا على الوصول إليه وركوبه في كل يوم مرتين سيرة معلومة وهذا مشهور من عدله ولباسه إزار حرير يتوشح به أو بردة يلتف بها وسراويل في وسطه ونعل شركي في قدمه وركوبه الخيل وله حلية حسنة وزي كامل يقدمه أمامه في أعياده وله بنود كثيرة وراية واحدة وتمشي أمامه الفيلة والزرائف وضروب من الوحوش التي في بلاد السودان ولهم في النيل زوارق وثيقة الإنشاء يتصيدون فيها ويتصرفون بين المدينتين بها ولباس أهل غانة الأزر والفوط والأكسية كل أحد على قدر همته وأرض غانة تتصل من غربيها ببلاد مقزارة ومن شرقيها ببلاد ونقارة وبشمالها بالصحراء المتصلة التي بين أرض السودان وأرض البربر وتتصل بجنوبها بأرض الكفار من اللملمية وغيرها.
ومن مدينة غانة إلى أول بلاد ونقارة ثمانية أيام وبلاد ونقارة هذه هي بلاد التبر المشهورة بالطيب والكثرة وهي جزيرة طولها ثلاث مائة ميل وعرضها مائة وخمسون ميلاً. والنيل يحيط بها من كل جهة في سائر السنة فإذا كان في شهر أغشت وحمى القيظ وخرج النيل وفاض غطى هذه الجزيرة أو أكثرها وأقام عليها مدته التي من عادته أن يقيم عليها ثم يأخذ في الرجوع فإذا أخذ النيل في الرجوع والجزر رجع كل من في بلاد السودان المنحشرين إلى تلك الجزيرة بحاثاً يبحثون طول أيام رجوع النيل فيجد كل إنسان منهم في بحثه هناك ما أعطاه الله سبحانه كثيراً أو قليلاً من التبر وماً يخيب منهم أحد فإذا عاد النيل إلى حده باع الناس ما حصل بأيديهم من التبر وتاجر بعضهم بعضاً واشترى أكثره أهل وارقلان وأهل المغرب الأقصى وأخرجوه إلى دور السكك في بلادهم فيضربونه دنانير ويتصرفون بها في التجارات والبضائع هكذا في كل سنة وهي أكبر غلة عند السودان وعليها يعولون صغيرهم وكبيرهم وأرض ونقارة فيها بلاد معمورة ومعاقل مشهورة وأهلها أغنياء والتبر عندهم وبأيديهم كثير والخيرات مجلوبة إليهم من أطراف الأرض وأقاصيها ولباسهم الأزر والأكسية والقداوير وهم سود جداً فمن مدن ونقارة تيرقى وهي مدينة كبيرة وفيها خلق كثير لاكن ليس لها سور ولا حظيرة وحي في طاعة صاحب غانة وله يخطبون وإليه يتحاكمون وبين غانة وتيرقى ستة أيام وطريقها مع النيل ومن مدينة تيرقى إلى مدينة مداسة ستة أيام ومدينة مداسة هذه مدينة متوسطة كثيرة العمار صالحة العمالات وفي أهلها معرفة وهى على شمال النيل ومنه شربهم وهي بلد أرز وذرة كبيرة الحب طعمها صالح وأكثر معايشهم من الحوت وتصيده وتجارتهم بالتبر ومن مدينة مداسة إلى بلد سغمارة ستة مراحل وبين مداسة وسغمارة إلى جهة الشمال ومع الصحراء قوم يقال لهم بغامة وهم برابر رحالة لا يقيمون في مكان يرعون أجمالهم على ساحل واد يأتي من ناحية المشرق فيصب في النيل واللبن عندهم كثير ومنه يعيشون ومن مدينة سغمارة إلى مدينة سمقندة ثمانية أيام ومدينة سمقندة هذه مدينة لطيفة على ضفة البحر الحلو ومنها إلى مدينة غربيل تسعة أيام ومن مدينة سغمارة إلى مدينة غربيل جنوباً ستة أيام ومدينة غربيل هذه على ضفة البحر الحلو وهي مدينة لطيفة القدر في سفح جبل يعلوها من جهة الجنوب وشرب أهلها من النيل ولباسهم الصوف وأكلهم الذرة والحوت وألبان الإبل وأهلها يتصرفون في تلك البلاد بضروب من التجارات التي تدور بين أيديهم ومن مدينة غربيل مع المغرب إلى مدينة غيارة إحدى عشرة مرحلة ومدينة غيارة هذه على ضفة النيل وعليها حفير دائر بها وبها خلق كثير وفي أهلها نجدة ومعرفة وهم يغيرون على بلاد لملم فيسبونهم ويأتون بهم ويبيعونهم من تجار غانة وبين غيارة وأرض لملم ثلاث عشرة مرحلة وهم يركبون النجب من الجمال ويتزودون الماء ويسرون بالليل ويصلونه بالنهار إلى أن يغنموا ويرجعوا إلى بلدهم بما يفتح الله سبحانه عليهم من السبي من أهل لملم ومن مدينة غيارة إلى مدينة غانة إحدى عشرة مرحلة وماؤها قليل وجملة هذه البلاد التي ذكرناها هي في طاعة صاحب غانة وإليه يؤدون لوازمهم وهو القائم بحمايتهم.
نجز الجزء الثاني من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء الثالث منه إن شاء الله.
==========================================================
3.
إن الذي تضمنه هذا الجزء الثالث من الإقليم الأول من المدن المشهورة كوغة وكوكو وتملمة وزغاوة ومانان وانجيمى ونوابية وتاجوة فأما مدينة كوغة فإنها مدينة على ضفة البحر الحلو وفي شماله ومنه شرب أهلها وهي من عمالة ونقارة ومن السودان من يجعلها من بلاد كانم وهي مدينة عامرة لا سور لها وبها تجارات وأعمال وصنائع يصرفونها فيما يحتاجون إليه ونساء هذه المدينة ينسب إليهن السحر ويقال إنهن به عارفات وبه مشهورات وعليه قادرات ومن كوغة إلى سمقندة في جهة الغرب عشرة أيام ومن كوغة إلى غانة نحو من شهر ونصف ومن كوغة إلى دمقلة شهر ومن كوغة إلى شامة دون الشهر ومن كوغة إلى مدينة كوكو في الشمال عشرون مرحلة بسير الجمال والطريق على أرض بغامة وأهل بغامة سودان بربر قد أحرقت الشمس جلودهم وغيرت ألوانهم ولسانهم لسان البربر وهم قوم رحالة وشربهم من عيون يحفرونها في تلك الأرض عن علم لهم بها وتجربة في ذلك صحيحة ولقد أخبر بعض السفار الثقات وكان قد تجول في بلاد السودان نحواً من عشرين سنة أنه دخل هذه الأرض أعني أرض بغامة وعاين فيها رجلاً من هؤلاء البربر فكان يمشي معه في أرض خالية رملة ليس بها أثر للماء ولا لغيره فأخذ البربري غرفة من ترابها وقربه من أنفه ثم اشتمه وتبسم وقال لأهل القافلة انزلوا فإن الماء معكم فنزل أهل القافلة هناك وعرسوا متاعهم وقيدوا الجمال وتركوها ترعى ثم عمد البربري إلى موضع وقال احفروا هاهنا فحفر الناس في ذاك الموضع أقل من نصف قامة فخرج إليهم الماء الكثير العذب فعجب من ذلك أهل القافلة وهذا مشهور معلوم يعلمه تجار أهل تلك البلاد ويحكونه عنهم وفي هذه الطريق التي ذكرنا من كوغة إلى كوكو على أرض بغامة مجابتان لا ماء فيهما وكل مجابة منهما تقطع من خمسة أيام إلى ستة أيام ومدينة كوكو مدينة مشهورة الذكر من بلاد السودان كبيرة وهي على ضفة نهر يخرج من ناحية الشمال فيمر بها ومنه شرب أهلها ويذكر كثير من السودان أن مدينة كوكو هذه على ضفة الخليج وذكر قوم آخرون أنها على نهر يمد النيل والذي صح من القول أن هذا النهر يجري حتى يجوز كوكو بأيام كثيرة ثم يغوص في الصحراء في رمال ودهاس مثل ما يغوص نهر الفرات الذي ببلاد العراق وغوصه هناك في البطائح ثم إن ملك مدينة كوكو ملك قائم بذاته خاطب لنفسه وله حشم كثير ودخلة كبيرة وقواد وأجناد وزي كامل وحلية حسنة وهم يركبون الخيل والجمال ولهم بأس وقهر لمن جاورهم من الأمم المحيطة بأرضهم ولباس عامة أهل كوكو الجلود يسترون بها عوراتهم وتجارهم يلبسون القداوير والأكسية وعلى رؤوسهم الكرازى وحليهم الذهب وخواصم وجلتهم يلبسون الأزر وهم يداخلون التجار ويجالسونهم ويبضعونهم بالبضائع على جهة المقارضة وينبت في أرض كوكو العود المسمى بعود الحية ومن خاصته أنه إذا وضع على جحر الحية خرجت إليه مسرعة ثم أن ماسك هذا العود يأخذ من الحيات ما شاء بيده من غير أن يدركه شيء من الجزع ويجد في نفسه قوة عند أخذها والصحيح عند أهل المغرب الأقصى وأهل وارقلان أن ذلك العود إذا أمسكه ماسك بيده أو علقه في عنقه لم تقربه حية البتة وهذا مشهور وصفة هذا العود كصفة العاقرقرحا مفتولاً لاكنه أسود اللون.
ومن مدينة كوكو إلى مدينة غانة شهر ونصف شهر ومن مدينة كوكو إلى مدينة تملمة شرقاً أربع عشرة مرحلة وهي مدينة صغيرة من أرض كوار جامعة فيها بشر كثير ولا سور لها وفيها رجل ثائر بنفسه وهي على جبل صغير لاكنه جبل منيع بأجراف قد أحاطت به من جميع جهاته ولها نخيل ومواش وأهلها عراة شقاة وضربهم من مياه الآبار وماؤها بعيد القعر عن وجه الأرض وبها معدن شب ليس بالكثير الجودة ويبيعونه في كوار ويخلطه التجار بالشب الطيب ويسافرون به إلى جميع الجهات.
ومن تملمة إلى مدينة مانان من أرض كانم اثنتا عشرة مرحلة ومدينة مانان مدينة صغيرة وليس بها شيء من الصناعات المستعملة وتجاراتهم قليلة ولهم جمال ومعز ومن مدينة مانان إلى مدينة انجيمى ثمانية أيام وهي أيضاً من كانم وانجيمى مدينة صغيرة جداً وأهلها قليل وهم في أنفسهم أذلة وهم يجاورون النوبة من جهة المشرق وبين مدينة انجيمى والنيل ثلاثة أيام في جهة الجنوب وشرب أهلها من الآبار ومن انجيمى إلى مدينة زغاوة ستة أيام ومدينة زغاوة مدينة مجتمعة الكور كثيرة البشر وحولها خلق من الزغاويين يشيلون بإبلهم ولهم تجارات يسيرة وصنائع يتعاملون بها بين أيديهم وشربهم من الآبار وأكلهم الذرة ولحوم الجمال المقددة والحوت المصيد والألبان عندهم كثيرة ولباسهم الجلود المدبوغة يستترون بها وهم أكثر السودان جرباً ومن مدينة زغاوة إلى مانان ثماني مراحل وفي مانان يسكن أميرها وعاملها وأكثر رجاله عراة رماة بالقسي ومن مدينة مانان إلى مدينة تاجوة ثلاث عشرة مرحلة وهي قاعدة بلاد التاجوين وهم مجوس لا يعتقدون شيئاً وأرضهم متصلة بأرض النوبة ومن بلادهم سمنة ومدينة سمنة هذه مدينة صغيرة وحكى بعض المسافرين إلى مدائن كوار أن صاحب بلاق توجه إلى سمنة وهو أمير من قبل ملك النوبة فحرقها وهدمها وبدد شملهم على الآفاق وهي الآن خراب ومن مدينة تاجوة إليها ست مراحل ومن مدينة تاجوة إلى مدينة نوابة ثماني عشرة مرحلة وإليها تنسب النوبة وبها عرفوا وهي مدينة صغيرة وأهلها مياسير ولباسهم الجلود المدبوغة وأزر الصوف ومنها إلى النيل أربعة أيام وشرب أهلها من الآبار وطعامهم الذرة والشعير ويجلب إليهم التمر والألبان عندهم كثيرة وفي نسائهم جمال فائق وهن مختتنات ولهن أعراق طيبة ليست من أعراق السودان في شيء وجميع بلاد أرض النوبة في نسائهم الجمال وكمال المحاسن وشفاههم رقاق وأفواههم صغار ومباسمهم بيض وشعورهم سبطة وليس في جميع أرض السودان من المقازرة ولا من الغانيين ولا من الكانميين ولا من البجاة ولا من الحبشة والزنج قبيل شعور نسائهم سبطة مرسلة إلا من كان منهن من نساء النوبة ولا أحسن أيضاً للجماع منهن وإن الجارية منهن ليبلغ ثمنها ثلاث مائة دينار وأقل من ذلك ولهذه الخلال التي فيهن يرغب ملوك أرض مصر فيهن ويتنافسون في أثمانهن ويتخذونهن أمهات أولاد لطيب متعتهن ونفاسة حسنهن وذكر بعض الرواة أنه كان بالأندلس جارية من هؤلاء الجواري المتقدم ذكرهن عند الوزير أبي الحسن المعروف بالمصحفي فما أبصرت عيناه قط بأكمل منها قداً ولا أصبح خداً ولا أحسن مبسماً ولا أملح أجفاناً ولا أتم محاسن وكان هذا الوزير المذكور مولعاً بها بخيلاً بمفارقتها ويذكر أن شراءها عليه مائتان وخمسون ديناراً من الدنانير المرابطية وكانت هذه الجارية المذكورة مع تمام محاسنها وبديع جمالها إذا تكلمت أسحرت سامعها لعذوبة ألفاظها وحلاوة منطقها لأنها ربيت بمصر فكانت بذلك تامة الصفات ومن مدينة نوابة إلى مدينة كوشة نحو من ثماني مراحل خفاف.
نجز الجزء الثالث من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء الرابع منه إن شاء الله.
=================================4.
4.
وفي هذا الجزء الرابع من الإقليم الأول بلاد النوبة وبعض بلاد الحبشة وبقية جنوب أرض التاجوين وقطعة من بلاد الواحات الداخلة وفي بلاد النوبة من البلاد المشهورة والقواعد المذكورة كوشة وعلوة ودنقلة وبلاق وسوبة وفي أرض الحبشة مركطة والنجاغة ومن أرض الواحات الداخلة وأعلى ديار مصر مدينة أسوان وأتفو والردينى.
وفي هذا الجزء افتراق النيلين أعني نيل مصر الذي يشق أرضها وجريه من الجنوب إلى الشمال وأكثر مدن مصر على ضفتيه معاً وفي جزائره أيضاً والقسم الثاني من النيل يمر من جهة المشرق إلى أقصى المغرب وعلى هذا القسم من النيل جميع بلاد السودان أو أكثرها وهذان القسمان مخرجهما من جبل القمر الذي أوله فوق خط الاستواء بست عشرة درجة وذلك أن مبدأ النيل من هذا الجبل من عشر عيون فأما الخمسة الأنهار منها فإنها تصب وتجتمع في بطيحة كبيرة وكذلك الخمسة الأنهار الأخر تنزل من الجبل إلى بطيحة أخرى كبيرة ويخرج من كل واحدة من هاتين البطيحتين ثلاثة أنهار فتمر بأجمعها إلى أن تصب في بطيحة كبيرة جداً وعلى هذه البطيحة مدينة تسمى طرمى وهي مدينة عامرة يزرع بها الأرز وعلى ضفة البطيحة المذكورة صنم رافع يديه إلى صدره يقال إنه مسخ وإنه كان رجلاً ظالماً ففعل ذلك به وفي هذه البحيرة سمك تشبه رؤوسه رؤوس الطير ولها مناقير وفيها أيضاً دواب هائلة وهذه البحيرة المذكور فوق خط الاستواء مماسة له وفي أسفل هذه البحيرة التي بها تجمع الأنهار جبل معترض يشق أكثر البطيحة ويمر منها إلى جهة الشمال مغرباً فيخرج معه ذراع واحد من النيل فيمر في جهة المغرب وهو نيل بلاد السودان الذي عليه أكثر بلادها ويخرج مع شق الجبل الشرقي الذراع الثاني فيمر أيضاً إلى جهة الشمال فيشق بلاد النوبة وبلاد أرض مصر وينقسم في أسفل أرض مصر على أربعة أقسام فثلاثة أقسام تنصب في البحر الشامي وقسم واحد ينصب في البحيرة الملحة التي تنتهي إلى قرب الإسكندرية وبين هذه البحيرة وبين سكندرية ستة أميال وهي لا تتصل بالبحر بل هي من فيض النيل ومع الساحل قليلاً وسنستقصي ذكرها في موضعه إن شاء الله عز وجل.
ومن تحت جبل القمر فيما بين الأنهار العشرة والبطيحات ماراً مع جهة الشمال إلى أن يتصل بالبطيحة الكبيرة مقدار عشر مراحل وعرض ما بين البطيحتين الصغيرتين من المشرق إلى المغرب ست مراحل وفي هذه الأرض الموصوفة ثلاثة جبال مارة من المشرق إلى المغرب فأما الجبل الأول فهو مما يلي جبل القمر ويسميه كهنة مصر جبل هيكل الصور وأما الجبل الثاني الذي يلي هذا الجبل مع الشمال فإنهم يسمونه جبل الذهب لأن فيه معادن الذهب وأما الجبل الثالث الذي يلي الجبل الثاني مع الأرض فإنهم يسمون أيضاً الأرض التي هو فيها أرض الحيات ويزعم أهل تلك الأرض أن فيها حيات عظيمة تقتل بالنظر وفي هذا الجبل الذي في هذه الأرض المذكورة عقارب على قدر العصافير سود الألوان تقتل في الحال وقد ذكر ذلك صاحب كتاب العجائب وذكر أيضاً في كتاب الخزانة لقدامة أن جرية النيل من مبدئه إلى مصبه في البحر الشامي خمسة آلاف ميل وستمائة ميل وأربعة وثلاثون ميلاً وعرض النيل في بلاد النوبة ميل واحد على ما حكاه صاحب كتاب العجائب أيضاً وعرضه في قبالة مصر ثلث ميل.
وفي البطيحات الصغار وما بعدها من النيل الحيوان المسمى بالتمساح وفيها أيضاً الحوت المسمى بالخنزير وهو ذو خرطرم أكبر من الجاموس يخرج إلى الجهات المجاورة إلى النيل فيأكل بها الزرع ويرجع إلى النيل وفي النيل المذكور سمكة مدورة حمراء الذنب يقال لها اللاش لا تظهر به إلا ندرة وهي كثيرة اللحم طيبة الطعم وفيه أيضاً سمك يسمى الأبرميس وهو حوت أبيض مدور أحمر الذنب ويقال إنه ملك السمك وهو طيب الطعم لذيذ يؤكل طرياً ومملوحاً إلا أنه لطيف بقدر الفتر طولاً. ومثل نصفه عرضاً وفيه الراى وهو سمك كبير لونه أحمر ومنه كبير وصغير وربما كان في وزن كبير ثلاثة أرطال وأقل وهو طيب الطعم قريب من طيب السمك الذي يسمى الأبرميس وفيه سمك يقال له البني وهو كبير عجيب الطعم والطيب وربما وجد في الواحد منه خمسة أرطال وعشرة أرطال وأكثر وأقل وفيه أيضاً من السمك قبيل يقال له البلطى وهو مدور في خلقة العفر الذي ببحيرة طبرية قليل الشوك طيب الطعم وقد يوجد منه الحوت الكبير الذي في وزنه خمسة أرطال وفيه سمك يقال له اللوطيس ويسميه أهل مصر بالفرخ وهو حوت طيب الطعم كثير الشحم ويوجد منه في الندرة ما وزنه قنطار وأقل وأكثر وفيه اللبيس وهو حوت طيب لذيذ شهي الطعم إذا طبخ لا يوجد فيه رائحة السمك ويصرف في جميع ما يصرف فيه اللحم من أنواع الطبيخ ولحمه شديد ويكون كبيراً وصغيراً فمنه ما يكون وزنه عشرة أرطال ودون ذلك ولهذا السمك كله قشر وفيه أسماك لا قشور لها ومنها الحوت الذي يسمى السموس وهو سمك كبير الرأس كثير السمن وربما بلغ وزن الحوت منه قنطاراً وأكثر وأقل ويباع لحمه مقطعاً وفيه سمك يسمى النيناريات وهو سمك مائل إلى الطول طويل الفم كأنه منقار طائر وفيه سمكة يقال لها أم عبيد تحيض ولا قشور لها وفيه السمك الذي يقال له الحلبوة بغير قشر وربما كان في وزنه الرطل والأكثر والأقل وهو مسموم وفيه سمك يقال له الشال وله شوكة في ظهره يضرب بها فيقتل مسرعاً وفيه أيضاً سمك في صور الحيات يقال لها الإنكليس مسمومة وفيه أيضاً سمك أسود الظهر له شوارب كبير الرأس دقيق الذنب يسمى الجرى وفيه سمك مدور خشن الجلد يقال له القافو تمشط النساء به الكتان وفيه أيضاً السمكة المعروفة بالرعادة وهي مثل الكرة خشنة الجلد ذات سم إذا مسها الإنسان ارتعدت يده حتى تسقط منها وهذه الخاصة فيها موجودة ما دامت حية فإذا ماتت كانت كسائر السمك وفيه كلاب الماء وهي في صور الكلاب ملونات وفيه فرس الماء وهو في خلقة الفرس لكنه لطيف وحوافره مثل أرجل البط تنضم إذا رفعتها وتنفتح إذا وضعتها وله ذنب طويل وفيه أيضاً السقنقور وهو صنف من التمساح لا يشاكل السمك من جهة يديه ورجليه ولا يشاكل التمساح لأن ذنبه أملس مستدير وذنب التمساح مسيف وشحمهه يتعالج به للجماع وكذلك ملحه الذي يملح به والسقنقور لا يكون بمكان إلا في النيل من حد أسوان والتمساح أيضاً لا يكون في نهر ولا بحر إلا ما كان منه في نيل مصر وهو مستطيل الرأس وطول رأسه نحو طول نصف جسده وذنبه ملوح وله أسنان لا يقبض بها على شيء من السباع أو من الناس إلا ومر به في الماء وهو بري وبحري لأنه يخرج إلى البر فيقيم به اليوم والليلة يدب على يديه ورجليه ويضر في البر لكن ضرراً قليلاً وأكثر ضرره في الماء ثم إن الله سبحانه سلط عليه دابة من دواب النيل يقال لها اللشك وهي تتبعه وترتصده حتى يفتح فمه فإذا فتحه وثبت فيه فتمر في حلقه ولا تزال تأكل كبده ومعاه حتى تفنيه فيموت ويخرج أيضاً إلى النيل من البحر الملح سمك يقال له البوري حسن اللون طيب الطعم في قدر الراي يكون وزن الحوت منه رطلين وثلاثة أرطال ويدخل أيضاً من البحر إلى النيل سمك يقال له الشابل وهو بقدر طول الذراع وأزيد على ذلك لذيذ الطعم حسن اللحم سمين ويدخل أيضاً منه حوت يسمى الشبوط وهو ضرب من الشابل إلا أنه صغير في طول شبر ويدخله من البحر أنواع كثيرة ويوجد أيضاً في أسفل النيل بناحية رشيد وفوة ضرب من السمك له صدف يتولد عند آخر النيل إذا خالط الماء الحلو الماء الملح هذا الصدف يقال له الدلينس وهو صدفة صغيرة في جوفها لحمة فيها نقطة سوداء وهو رأسها وأهل رشيد يملحونه ويرفعونه إلى جميع بلاد مصر وللنيل في جريه أخبار وعجائب سنذكر منها ما تيسر للذكر في موضعه من الكتاب بعون الله تعالى.
وأما بلاد النوبة التي قدمنا ذكرهما فمنها مدينة كوشة الواغلة وبينها وبين مدينة نوابة ستة أيام وهي تبعد عن النيل يسيراً وموضعها فوق خط الاستواء وأهلها قليلون وتجاراتها قليلة وأرضها حارة جافة كثيرة الجفوف جداً وشرب أهلها من عيون تمد النيل هناك وهي في طاعة ملك النوبة وملك النوبة يسمى كاسل وهو اسم يتوارثه ملوك النوبة وقرارته ودار ملكه في مدينة دنقلة.
ومدينة دنقلة في غربي النيل وعلى ضفته ومنه شرب أهلها وأهلها سودان لكنهم أحسن السودان وجوهاً وأجملهم شكلاً وطعامهم الشعير والذرة والتمر يجلب إليهم من البلاد المجاورة لهم وشرابهم المزر المتخذ من الذرة واللحوم التي يستعملونها لحوم الإبل طرية ومقددة ومطحونة ويطبخونها بألبان النوق وأما السمك فكثير عندهم جداً وفي بلادهم الزرائف والفيلة والغزلان.
ومن بلاد النوبة مدينة علوة وهي على ضفة النيل أسفل من مدينة دنقلة وبينهما مسير خمسة أيام في النيل وماؤهم من النيل وشربهم منه وبه يزرعون الشعير والذرة وسائر بقولهم من السلجم والبصل والفجل والقثاء والبطيخ وحال علوة في هيأتها ومبانيها ومراتب أهلها وتجاراتهم مثل ما هي عليه حالات مدينة دنقلة وأهل علوة يسافرون إلى بلاد مصر وبين علوة وبلاق عشرة أيام في البر وفي النيل أقل من ذلك انحداراً وطول بلاد النوبة على ساحل النيل مسير شهرين وأكثر وكذلك أهل علوة ودنقلة يسافرون في النيل بالمراكب وينزلون أيضاً إلى مدينة بلاق في النيل.
ومدينة بلاق من مدن النوبة وهي بين ذراعين من النيل وأهلها متحضرون ومعايشهم حسنة وربما وصلت إليهم الحنطة مجلوبة والشعير والذرة عندهم ممكن كثير موجود وبمدينة بلاق يجتمع تجار النوبة والحبشة وتجار أرض مصر يسافرون إليها إذا كانوا معهم في صلح وهدنة ولباس أهلها الأزر والمآزر وأرضها تسقى بالنيل وماء النهر الذي يأتي من بلاد الحبشة وهو واد كبير جداً يمد النيل وموقعه بمقربة من مدينة بلاق وفي الذراع المحيط بها وعليه مزارع أهل الحبشة كثير من مدنها وسنذكرها فيا بعد بعون الله تعالى وليس في مدينة بلاق مطر ولا يقع فيها غيث البتة وكذلك سائر بلاد السودان من النوبة والحبشة والكانميين والزغاويين وغيرهم من الأمم لا يمطرون ولا لهم من الله رحمة ولا غياث إلا فيض النيل وعليه يعولون في زراعة أرزاقهم ومعيشتهم الذرة والألبان والحيتان والبقول وجميع ذلك بمدينة بلات كثير موجود.
ومن مدينة بلاق إلى جبل الجنادل سية أيام في البر وفي النيل أربعة أيام انحداراً وإلى جبل الجنادل تصل مراكب السودان ومنها ترجع لأنها لا تقدر على النفوذ في السير إلى مدينة مصر والعلة المانعة من ذلك أن الله جل اسمه خلق هذا الجبل وجعله قليل العلو من ناحية بلاد السودان وجعل وجهه الثاني مما يلي أرض مصر عالياً جداً والنيل يمر من جهة أعلاه فيصب إلى أسفل صباً عظيماً مهولاً وهناك حيث ينصب الماء أحجار مكدسة وصخور مضرسة والماء يقع بينها فإذا وصلت مراكب النوبيين وغيرها من مراكب السودان وجاءت إلى هذا المكان من النيل لم يمكنها عبوره لما فيه من العطف المهلك فإذا انتهت المراكب بما فيها من التجار وما معهم من التجارات تحولوا عن بطون المراكب إلى ظهور الجمال وساروا إلى مدينة أسوان في البرية وبين هذا الموضع أعني الجبل وأسوان نحو من اثنتي عشرة مرحلة بسير الجمال.
وأسوان هذه من ثغور النوبة إلا أنهم في أكثر الأوقات متهادنون وكذلك مراكب مصر لا تصعد في النيل إلا إلى مدينة أسوان فقط وهي آخر الصعيد الأعلى وهي مدينة صغيرة عامرة كثيرة الحنطة وسائر أنواع الحبوب والفواكه والدلاع وسائر البقول وبها اللحوم الكثيرة من البقر والحملان والمعز والخرفان وغيرها من صنوف اللحوم العجيبة البالغة في الطيب والسمن وأسعارها مع الأيام رخيصة وبها تجارات وبضائع تحمل منها إلى بلاد النوبة وربما أغار على أطرافها خيل السودان المسمين بالبليين ويزعمون أنهم روم وأنهم على دين النصرانية من أيام القبط وقبل ظهور الإسلام غير أنهم خوارج في النصارى يعاقبة وهم منتقلون فيما بين أرض البجة وأرض الحبشة ويتصلون ببلاد النوبة وهم رحالة ينتقلون ولا يقيمون بمكان مثل مما تفعله لمتونة الصحراء الذين هم بالمغرب الأقصى.
وليس يتصل بمدينة أسوان من جهة الشرق بلد الإسلام إلا جبل العلاقي وهو جبل أسفله واد جاف لا ماء به لكن الماء إذا حفر عليه وجد قريباً معيناً كبيراً وبه معدن الذهب والفضة وإليه تجتمع طوائف من الطلاب لهذه المعادن وعلى مقربة من أسوان جنوباً من النيل جبل في أسفله معدن الزمرد في برية منقطعة عن العمارة ولا يوجد الزمرد في شيء من جميع الأرض إلا ما كان منه بذلك المعدن وبه طلاب كثيرة ومن هذا المعدن يخرج ويتجهز به إلى سائر البلاد.
وأما معدن الذهب فمن أسوان إليه نحو خمسة عشر يوماً بين شرق وشمال وهو في أرض البجة ولا يتصل بأسوان من جهة المغرب إلا لواحات وهي الآن خالية لا ساكن فيها وكانت في زمان سلف معمورة والمياه تخترق أرضها وبها الآن بقايا شجر وقرى متهدمة لا تعمر وكذلك من ظهرها إلى ديار كوار وكوكو لا تخلو تلك الأرضون من جزائر نخل وبقايا بناء وحكى الحوقلي أن بها إلى يومنا هذا معز وغنم وقد توحشت فهي تتوارى من الناس وتصاد كما يصاد الحيوان البري وأكثر الواحات نازلة مع أرض مصر وفيها بقايا عمارة وسنذكرها فيما بعد بحول الله وعونه.
ومن مدينة بلاق إلى مدينة مركطة ثلاثون مرحلة وهي مدينة صغيرة لا سور لها وهي مجتمعة الخلق متحضرة وبها شعير ويتعيشون به والسمك والألبان عندهم كثير وإليها يدخل التجار من مدينة زالغ التي على بحر القلزم وسنذكر هذه البلاد عند بلوغنا إلى أمكنة ذكرها بعون الله وتأييده ونصره وتسديده.
نجز الجزء الرابع من الإقليم الأول و الحمد لله ويتلوه الجزء الخامس منه إن شاء الله.
==========================================================
5.
وهذا الجزء الخامس من الإقليم الأول تضمن من الأرضين أكثر أرض الحبشة وجملة من بلادها وأكبر مدنها كلها جنبيتة وهي مدينة متحضرة لكنها في برية بعيدة من العمارات وتتصل عماراتها و بواديها إلى النهر الذي يمد النيل وهو يشق بلاد الحبشة ولها عليه مدينة مركطة ومدينة النجاغة وهذا النهر منبعه من فوق خط الاستواء وفي آخر نهاية المعمور من جهة الجنوب فيمر مغرباً مع الشمال حتى يصل إلى أرض النوبة فيصب هناك في ذراع النيل الذي يحيط بمدينة بلاق كما قدمنا وصفه وهو نهر كبير عريض كثير الماء بطيء الجري وعليه عمارات للحبشة وقد وهم أكثر المسافرين في هذا النهر حين قالوا إنه النيل وذلك لأنهم يرون به ما يرون من النيل في خروجه ومده وفيضه في الوقت الذي جرت به عادة خروج النيل وينقص فيض هذا النهر عند نقصان فيض النيل ولهذا السبب وهم فيه أكثر الناس وليس كذلك حتى أنهم ما فرقوا بينه وبين النيل لما رأوا فيه من الصفات النيلية التي قدمنا ذكرها وتصحيح ما قلناه من أنه ليس بالنيل ما جاءت به الكتب المؤلفة في هذا الفن وقد حكوا من صفات هذا النهر ومنبعه وجريه ومصبه في ذراع النيل عند مدينة بلاق وقد ذكر ذلك بطلميوس الأقلودي في كتابه المسمى بالجغرافية وذكره حسان بن المنذر في كتاب العجائب عند ذكره الأنهار ومنابعها ومواقعها وهذا مما لا يهم فيه نبيل ولا يقع في جهله عالم ناظر في الكتب باحث عن غرضه وعلى هذا النهر يزرع أهل بوادي الحبشة أكثر معايشهم مما تدخره لأقواتها من الشعير والذرة والدخن واللوبيا والعدس وهو نهر كبير جداً لا يعبر إلا بالمراكب وعليه كما قلناه قرى كثيرة وعمارات للحبشة ومن هذه القرى ميرة جنبيتة وقلجون وبطا وسائر القرى البرية فأما المدن الساحلية فإنها تمتار مما يجلب إليها من اليمن في البحر.
ومن مدن الحبشة الساحلية مدينة زالغ ومنقونة واقنت وباقطى إلى ما اتصل بها من عمارات قرى بربرة وكل هذه القرى ميرتها مما يتصيده أهلها من السمك ومن الألبان وسائر الحبوب التي يجلبونها من قراهم التي على ضفة النهر المذكور.
ومدينة النجاغة مدينة صغيرة على ضفة النهر وأهلها فلاحون يزرعون الذرة والشعير وبه يتجهزون ومنه يتعيشون ومتاجر هذه البلدة قليلة وصنائعهم النافعة لأهلها قليلة والسمك عندهم كثير ممكن والألبان غزيرة وبين هذه المدينة ومدينة مركطة السابق ذكرها ستة أيام إنحداراً في النهر وفي الصعود أزيد من عشرة أيام على قدر الإمكان وزوارقهم صغار وخشبهم معدوم وليس بعد هاتين المدينتين من جهة الجنوب شيء من العمارات ولا شيء يعول عليه.
وبين مدينة النجاغة ومدينة جنبيتة ثماني مراحل وكذلك بين مركطة وجنبيتة مثلها وجنبيتة كما حكيناه في برية منقطعة من الأرض وشرب أهلها من الآبار وماؤها يجف في أكثر الأوقات حتى لا يوجد والغالب على أهل هذه البلدة أنهم طلاب معادن الفضة والذهب وذلك جل طلبهم وأكثر معايشهم منه وهذه المعادن في جبل مورس وهو على أربعة أيام من مدينة جنبيتة ومن هذا المعدن أيضاً إلى أسوان نحو من خمسة عشر يوماً.
ومن مدينة جنبيتة إلى مدينة زالغ التي على الساحل من أرض الحبشة نحو من أربع عشرة مرحلة ومدينة زالغ على ساحل البحر الملح المتصل بالقلزم وقعر هذا البحر أقاصير كله متصلة إلى باب المندب لا تعبره المراكب الكبار وربما تجاسرت عليه المراكب الصغار فتتخطفها الرياح فتتلفها ومن زالغ إلى ساحل اليمن ثلاثة مجار مقدرة الجري ومدينة زالغ صغيرة القطر كثيرة الناس والمسافرون إليها كثير وأكثر مراكب القلزم تصل إلى هذه المدينة بأنواع من التجارات التي يتصرف بها في بلاد الحبشة ويخرج منها الرقيق والفضة وأما الذهب فهو فيها قليل وشرب أهلها من الآبار ولباسهم الأزر ومقندرات القطن.
ومن مدينة زالغ إلى مدينة منقونة خمسة أيام في البر وأما في البحر فأقل من ذلك ويقابلها في البرية بلدة اسمها قلجون وبينهما اثنا عشر يوماً في البرية ومن منقونة إلى اقنت أربعة أيام في البر وهي على الساحل في الجنوب ويسافر إليها في الزوارق الصغار التي لا تحمل الشيء الكثير من الوسق لأن هذا البحر كله من جهة أرض الحبشة تروش وأقاصير متصلة لا تجري به المراكب كما قلناه ومدينة اقنت صغيرة ليست بكبيرة ولا بكثيرة الخلق وأكثرها خراب وأهلها قليل وأكثر أكلهم الذرة والشعير وسمكهم موجود وصيدهم كثير وأما عامة أهلها فإنهم يعيشون من لحوم الصدف المتكون في تلك الأقاصير من البحر يملحونه ويصيرونه إداماً لهم.
ومن مدينة اقنت إلى باقطى خمسة أيام وباقطى هذه مدينة صغيرة جداً كالقرية الجامعة ليست بمسورة لكنها على تل رمل وبينها وبين البحر نحو من رمية سهم وأهلها مقيمون بها قليل سفرهم منها وقليلاً ما يدخل المسافرون إليها لضيق معايشها وكون متاجرها مجالبة وبواديها شاقة وجبالها جرد لا نبات فيها وليس فوقها مما يلي الجنوب عمارة ولا قرى إلا ما كان منها قريباً ولهم إبل يتصرفون عليها ويتعيشون منها ويتجرون بها.
ومنها على ثمانية أيام مدينة بطا وتتصل بها قرى بربرة وأولها جوة وهي منها قريبة.
وجملة الحبشة يتخذون الإبل ويكتسبونها ويشربون ألبانها ويستخدمون ظهورها وينتظرون لقاحها وهي أجل بضاعة عندهم ويسرق بعضهم أبناء بعض ويبيعونهم من التجار فيخرجونهم إلى أرض مصر في البر والبحر. وتجاور أرض الحبشة في جهة الشمال أرض البجة وهي بين الحبشة والنوبة وأرض الصعيد وليس بأرض البجة قرى ولا خصب وإنما هي بادية جدبة ومجتمع أهلها ومقصد التجار منها إلى وادي العلاقي وإليه ينجلب أهل الصعيد وأهل البجة وهو واد فيه خلق كثير وجمع غزير. والعلاقي في ذاته كالقرية الجامعة والماء بها من آبار عذبة ومعدن النوبة المشهور متوسط في أرضها في صحراء لا جبل حوله وإنما هي رمال لينة وسباسب سائلة وإذا كان أول ليالي الشهر العربي وآخره خاض الطلاب في تلك الرمال بالليل فينظرون فيها كل واحد منهم ينظر فيما يليه من الأرض فإذا أبصر التبر يضيء بالليل علم على موضعه علامة يعرفها وبات هنالك فإذا أصبح عمد كل واحد منهم إلى علامته في كوم الرمل الذي علم عليه ثم يأخذه ويحمله معه على نجيبه فيمضي به إلى آبار هنالك ثم يقبل على غسله بالماء في جفنة عود فيتخرج التبر منه ثم يؤلفه بالزئبق ويسبكه بعد ذلك فما اجتمع لهم منه تبايعوه بينهم واشتراه بعضهم من بعض ثم يحمله التجار إلى سائر الأقطار وهذا شغلهم دأباً لا يفترون عنه ومن ذلك معايشهم ومبادئ مكاسبهم وعليه يعولون.
ومن وادي العلاقي إلى عيذاب من أرض البجة اثنا عشر يوماً ومن بلاد البجة مدينة بختة وهي أيضاً قرية مسكونة وبها سوق لا يعول عليها وحولها قوم ينتجون الجمال ومنها معايشهم وهي أكثر مكاسبهم وإلى هذه القرية تنسب الجمال البختية وليس يوجد على وجه الأرض جمال أحسن منها ولا أصبر على السير ولا أسرع خطاً وهي بديار مصر معروفة بذلك.
وبين أرض النوبة: أرض وأرض البجة قوم رحالة يقال لمم البليون ولهم صرامة وعزم وكل من حولهم من الأمم يهادنونهم ويخافون ضرهم وهم نصارى خوارج على مذهب اليعقوبية وكذلك جميع أهل بلاد النوبة والحبشة وأكثر أهل البجة نصارى خوارج على مذهب اليعاقبة كما قدمنا ذكره.
ويتصل أيضاً بأرض الحبشة على البحر بلاد بربرة وهم تحت طاعة الحبشة وهي قرى متصلة وأولها قرية جوة ومنها إلى باقطى ستة أيام ومنها أيضاً إلى بطا البرية سبعة أيام ومدينة بطا المتقدم ذكرها فوق خط الاستواء في نهاية المعمور.
نجز الجزء الخامس من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء السادس منه إن شاء الله.
=================================
6.
إنه هذا الجزء السادس من الإقليم الأول تضمن من ناحية الجنوب مدينة قرقونة ومركة والنجا وهذه البلاد الثلاثة من أرض بربرة وإليها تنتهي عمالتها وهي على البحر اليماني وأهل قرى بربرة أكثر عيشهم من لحوم السلاحف البحرية وتسمى عندهم البسة.
ومن جوة إلى قرقونة يومان في البحر وعليها جبل عظيم يمتد في جهة الجنوب ومن قرقونة إلى برمة ثلاثة أيام في البحر ويبتدئ منها جبل خاقوني وهو جبل له سبعة رؤوس خارجة ويمتد تحت الماء في البحر أربعة وأربعين ميلاً وإلى رؤوس هذا الجبل بلاد صغار كالقرى يقال لها الهاوية ومن خاقونى إلى مركة على الساحل ثلاثة مجار صغار وفي البر سبعة أيام وعلى مرحلتين من مركة في البرية واد يمد كمد النيل وعليه يزرعون الذرة ومن مركة إلى بلد النجا على البحر يوم ونصف يوم وعلى البر أربعة أيام والنجا آخر أرض بربرة.
ومن النجا إلى قرنوة ثمانية أيام وهي مدينة صغيرة على البحر ومنها إلى بذونة ستة أيام وهي قرية كبيرة مسكونة آهلة وأهلها يأكلون الضفادع الأحناش وأشياء من القاذورات التي يعاف الناس أكلها وهذه الأرض أيضاً تليها بلاد الزنج ثم إن قرنوة وبذونة مدينتان وأهلهما كفرة وهما تتصلان ببلاد الزنج على ضفة البحر الملح وكل هذه البلاد المذكورة تقابل بلاد اليمن في جهة الشمال وبينهما عرض البحر وعرضه هناك ست مائة ميل ويكون في أمكنة أخرى أكثر من هذا وأقل على قدر خروج أجوان البحر في البراري وعلى قدر دخول القراطيل في البحر. وفيما تضمنه هذا البحر المحصل في هذا الجزء أربع جزائر منها جزيرتان في جهة المشرق واسم إحداهما خرتان والثانية مرتان وهما في جون الحشيش وسنستقصي ذكرهما في موضعه بعون الله تعالى.
ومنها جزيرة سقطرى التي ينسب الصبر إليها وبين وبين الساحل مجريان بالريح الطيبة ويقابلها من بلاد اليمن مدينة برباط وحاسك وسنذكر هاتين المدينتين في موضع ذكرهما مع جملة أخبار بحول الله وقوته.
والجزيرة الرابعة تسمى جزيرة قنبلا وهي في ناحية المغرب من هذا الجزء وهي خالية لكنها كثيرة الشجر وفيها جبال ممتدة وعرة فيها ضروب وحوش ودواب مضرة وفيها أيضاً عين ماء خرارة تصب في البحر وربما سقط إلى هذه الجزيرة من أحرم إليها من بلاد اليمن أو من مراكب القلزم أو من مراكب الحبشة فيستغيثون بها وهي تقابل الحصن المعروف بمخلاف حكم من ساحل اليمن.
ومنها إلى جبل المندب مجريان والمندب جبل يحيط به البحر من جميع جهاته وطرفه إلا على مما يلي الجنوب ويمر إلى جهة الشمال مع تغريب يسير وطوله نحو من اثني عشر ميلاً وظهره مما يلي بلاد الحبشة كله أقاصير وجزائر متصلة حتى تنتهي إلى زالغ واقنت وباقطى فلا يقدر أحد على خوض هذا البحر من هذه الجهة وفي وسط هذه التروش والجزائر جبل معترض يسمى موريقس وهو يتصل من نحو زالغ إلى ظهر المندب وليس بكثير العلو في الجو لكنه يعلو على وجه الماء مرة ويغيب في مواضع أخرى يستره الماء لكنه متصل في ذاته وحكى صاحب كتاب العجائب أنه لا يمر بهذا الجبل شيء من المراكب المسمرة بالحديد إلا اجتذبه إليه وأمسكه معه فلا تكاد تتخلص منه البتة وأما جبل المندب فإنه ممتد مع ساحل اليمن كما قلناه وليس لشيء من مراكب القلزم الصاعدة إلى اليمن بد من أن تمر به في مسيرها ورجوعها لأن البحر يضيق هناك حتى يرى الرجل صاحبه من البر الثاني من اليمن وفي هذا الجبل من ظهره مغارة لا يدخلها أحد فيخرج منها إما لحيوان يأكله أو لحفر يقع فيه ولما علم الناس ذلك منها قصدوا إليها وسدوها بالحجارة والطين فلا يصل الآن إليها أحد.
ومدينة صنعاء كثيرة الخيرات متصلة العمارات وليس في بلاد اليمن أقدم منها عهداً ولا أكبر قطراً ولا أكثر ناساً وهي في صدر الإقليم الأول معتدلة الهواء طيبة الثرى والزمان بها أبداً معتدل الحر والبرد وبها كانت ملوك اليمن قاطنة وهي ديار العرب وكان لملوكها بها بناء كبير عظيم الذكر وهو قصر غمدان فتهدم وصار كالتل العظيم وأكثر بنيانها في هذا الوقت بالخشب والألواح وبها دار لعمل الثياب المنسوبة إليها وهي قاعدة اليمن وهي على نهر صغير يأتي إليها من جبل يوافي من شمالها فيمر بها نازلاً إلى مدينة ذمار ويصب في البحر اليماني وبشمال صنعاء جبل المدخير وطول أعلاه ستون ميلاً وبه مزارع ومياه وينبت فيه الورس والورس نبات أصفر يشبه الزعفران تصبغ به الثياب.
ومن صنعاء إلى ذمار ثمانية وأربعون ميلاً وهي مدينة صغيرة قليلة العمارة ضياقة المساكن ومن مدينة صنعاء إلى مدينة عدن مائة ميل وأربعة أميال والطريق في ديار داحس فمن صنعاء إلى ذمار ثمانية وأربعون ميلاً ثم إلى مخلاف سفتان أربعة وعشرون ميلاً ثم إلى حجر وبدار وهما قريتان متجاورتان ستون ميلاً ثم إلى مخلاف أبين اثنان وسبعون ميلاً ومن مخلاف أبين إلى عدن اثنا عشر ميلاً.
ومدينة عدن مدينة صغيرة وإنما شهر ذكرها لأنها مرسى البحرين ومنها تسافر مراكب السند والهند والصين وإليها يجلب متاع الصين مثل الحديد الفرند والكيمخت والمسك والعود والسروج والغضار والفلفل والدارفلفل والنارجيل والهرنوة والقاقلة والدارصيني والخولنجان والبسباسة والأهليلجات والأبنوس والذبل والكافور والجوزبوا والقرنفل والكبابة والثياب المتخذة من الحشيش والثياب العظيمة المخملة وأنياب الفيلة والرصاص القلعي وغيرها من القنا والخيزران وأكثر السلع التي يتجهز بها إلى سائر البلاد كما قد علم ذلك ومدينة عدن يحيط بها من جهة شمالها وعلى بعد منها جبل دائر من البحر إلى البحر وقد نقب فيه من طرفيه نقبان كالبابين يدخل منهما ويخرج عليهما وبين الباب والباب على ظهر الجبل مسيرة أربعة أيام وليس لأهل عدن دخول ولا خروج إلا على هذين النقبين أو على البحر وهي بلد تجارة ويقابل عدن في البرية على مسافة يوم مدينة كبيرة جداً تسمى بذي جبلة وعليها حصن منيع كبير جداً يرف بالتعكر.
ومن عدن إلى المهجم ثماني مراحل خفاف في ديار داحس والمهجم مدينة صغيرة كالحصن وأهلها مجتمعون فيها وهي الحد بين عمل تهامة واليمن ومنها إلى صنعاء سبع مراحل ومن المهجم إلى حيران أربع مراحل وحيران مدينة صغيرة جداً تشتمل على قرى ومزارع ومياه عليها عمارة أهلها وهي في وطاء من الأرض وأهلها أصناف من قبائل اليمن ومنها إلى صنعاء ثلاث مراحل ومن حيران إلى صعدة ثمانية وأربعون ميلاً وعلى المغرب من صنعاء مخلاف شاكر وبينهما ثمانية عشر ميلاً والذي يتجهز به من صعدة الأديم لأن بها دار صناعة الأديم العديم المثال إلا ما كان منه بصنعاء وبها مجتمع التجار وأهلها أهل أموال وافرة وبضائع وتجارات كثيرة. ومن عدن مع الساحل في جهة المشرق إلى قرية أبين اثنا عشر ميلاً وهي على ضفة البحر اليماني وأهلها موسومون بالسحر ومنها إلى لسعا في البحر ليلة ويوم وفي البر خمسة أيام لأن بينهما جبل يعترض في الساحل يتصل من البحر إلى الصحراء فيعوق عن الطريق ومدينة لسعا صغيرة جداً على ضفة البحر الملح ومنها إلى شرمة على الساحل يوم وبين ضرمة ولسعا قرية كبيرة فيها حمة حامية كالجابية وأهل تلك النواحي يتطهرون فيها ويجلبون إليها مرضاهم فيصحون بها من آلامهم وأنواع أسقامهم ومدينة لسعا وشرمة هما على ساحل أرض حضرموت وبينهما يومان في البرية.
وبأرض حضرموت مدينتان اسم إحداهما شبام والأخرى تريم وبين المدينتين مقدار مرحلة ومن مدن حضرموت مأرب وهي الآن مدينة خراب وكانت مدينة سبا ومنها بلقيس زوجة سليمان عليه السلام ومن حضرموت إلى صداء مائتان وأربعون ميلاً ومن صنعاء إلى صداء مائة وعشرون ميلاً ومن عدن إلى حضرموت خمس مراحل وهي في شرقي عدن وبها رمال متصلة تعرف بالأحقاف وبلادها بلاد صغار وبها متاجر قليلة ويخرج منها الصبر الحضرمي وهو دون الصبر السقطري وربما سبكه الغشاشون للصبر فغشوا به الصبر السقطري وبمدينة سبا طوائف من أهل اليمن وأهل عمان وبها كان السد المذكور في أخبار العرب وقبل تفرقها عنه ومن شرمة المقدم ذكرها على الساحل إلى مدينة مرباط ستة أيام في البحر وبينهما غب القمر ومعنى الغب الجون وفي قعر هذا الجون بلد يقال له خلفات وعلى رأس الجون المذكور جبل كبير مستدير على هيئة القمر أبيض اللون ولذلك سمي بجبل القمر لتقويسه وبياضه وجبال مدينة مرباط تنبت شجر اللبان ومنها يتجهز به إلى جميع المشارق والمغارب وأهل مرباط هذه قوم أخلاط من اليمن وسائر قبائل العرب ومنها إلى قرية حاسك على البحر أربعة أيام في البر ومجريان في البحر ويقابل حاسك في البحر جزيرتان جزيرة خرتان وجزيرة مرتان وقد تقدم ذكرهما وعلى حاسك جبل يسمى لوس وهو جبل كبير مطل على البحر وأرض قوم عاد تقابله في جهة الشمال ومن حاسك إلى قبر هود أيضاً مقدار ميلين وحاسك مدينة صغيرة كالقرية متحضرة وبها مصيد للحوت كبير وهي على جون يسمى جون الحشيش وهو جون مقعر كالكيس إذا وقعت به المراكب لم تكد تتخلص لأن الخروج منه يصعب إلا أن يكون بريح مستعملة وقليلاً ما يخرج منه من سقط فيه.
نجز الجزء السادس من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء السابع منه إن شاء الله.
=======================
7.
إن هذا الجزء السابع من الإقليم الأول تضمن في حصته ووجب له قطعة من البحر الهندي وجملة جزائر متفرقة فيها أنواع من الأمم وعلى جنوبه أيضاً بقايا من بلاد الكفرة السود وما اتصل بها على البحر من بلاد الزنج ونحن الآن نريد بعون الله أن نذكر جميع ذلك ذكراً شافياً ونأتي به على استقصاء فنقول إن هذا البحر هو بحر الهند وعلى ضفته مدينة بروة وهي آخر بلاد الكفرة الذين لا يعتقدون شيئاً وإنهم يأخذون الأحجار القائمة فيدهنونها بدهن السمك ويسجدون لها ومثل هذه السخافة وما جانسها تعبدهم واعتقادهم الفاسد وهم على ذلك ثابتون بعض هذه البلاد في طاعة ملك بربرة وبعض في طاعة الحبشة ومن بروة على الساحل إلى بذونة ثلاثة أيام في البحر وهي مدينة خراب قليلة الدمارة وحشة المساكن قذرة البقاع وعيش أهلها من السمك ولحوم الصدف والضفادع الأحناش والفيران والورل والحيوان الذي يسمى أم حبين وغير ذلك من الحيوانات التي لا تؤكل وهم يتصيدون في البحر عوماً من غير مركب ولا وقوف في ساحل وإنما هم يتصيدون بالسباحة بشباك صغار يصنعونها من النبات ويربطونها في أرجلهم ولهم أخيات وأنشوطات يجذبونها بأيديهم إذا أحسوا بأن الحوت دخل في شباكهم بصنعة قد أحكموها وحيل قد هندموها وعرفوها ويضعون في شباكهم حناش الطين وبها يطعمون للحوت ومع هذا فإنهم في فاقة وفقر وضيق حال لكن الله عز وجل حبب المواطن لأهلها فهم قد قنعوا بذلك ورضوه لأنفسهم وهم في طاعة الزنج.
ومن هذه المدينة على الساحل إلى مدينة ملندة من بلاد الزنج ثلاثة أيام في البحر بلياليها ومدينة ملندة على ضفة البحر على خور ماء عذب وهي مدينة كبيرة وأهلها مخترقون بالصيد براً وبحراً فيصيدون في البر النمور والذئاب ويصيدون في البحر ضروباً من الحيتان فيملحونها ويتجرون بها وعندهم معدن حديد يحتفرونه ويعملونه وهو جل مكسبهم وتجارتهم وأهلها يزعمون أنهم يسحرون الحيوان الضار حتى لا يضر إلا لمن أرادوا ضره والنقمة منه وأن السباع والنمور لا تعدو عليهم بما يسحرونها به واسم السحر عندهم بلغتهم المقنقا.
ومن هذه المدينة إلى مدينة منبسة على الساحل مسافة يومين وهي مدينة صغيرة للزنج وأهلها محترفون باستخراج الحديد من معدنه والصيد للنمور وكلابهم حمر تغلب كل الذئاب وجملة السباع وهي في نهاية من القهر لها وهذه المدينة على البحر وعلى ضفة خور كبير تدخله المراكب مسيرة يومين وليس عليه شيء من العمارة أكثر من أن الوحوش تسكن في غياض ضفتيه معاً فهم يصيدونها هناك كما قدمنا ذكره وفي هذه المدينة سكنى ملاث الزنج وأجناده يمشون رجالة لأن الدواب ليست عندهم ولا تعيش بأرضهم.
ومن منبسة إلى قرية البانس في البر ستة أيام ومجرى ونصف في البحر وقرية البانس قرية جامعة آهلة بالناس وهم يعبدون الرجيم والرجيم عندهم طبل كبير كالبتية مجلد من وجه واحد ويربطون في ذلك الجلد شريطاً يجذبونه به فيكون له صوت هائل يسمع على ثلاثة أميال أو نحوها ومدينة البانس هي آخر بلاد الزنج وتتصل بها أرض سفالة الذهب فمنها على الساحل إلى مدينة تسمى بتهنة ثمانية أيام في البر ومجرى ونصف في البحر وذلك لأن ما بين هاتين المدينتين جون كبير يأخذ في جهة الجنوب فيعوق عن الطريق قصداً وبين هاتين المدينتين في البحر جبل عال عريض يقال له عجرد والماء قد حفر جوانبه من كل ناحية فيصوت الموج به صوتاً هائلاً وهذا الجبل المذكور يجتذب إلى نفسه من المراكب ما لاصقه فالمسافرون يتنحون عنه ويفرون منه.
ومدينة بتهنة أيضاً من بلاد سفالة وتتصل بأرض الزنج قرى كثيرة كل قرية منها على خور وجميع بلاد الزنج بضائعهم الحديد وجلود النمور الزنجية وهي جلود إلى الحمرة رطبة جداً وليس عندهم دواب وإنما يتصرفون بأنفسهم وينقلون أمتعتهم على رؤوسهم وعلى ظهورهم إلى مدينتي منبسة وملندة فيبيعون هناك ويشترون وليس لزنج مراكب يسافرون فيها وإنما تدخل المراكب من عمان وغيرهما إلى جزائر الزنج فيبيعون بها متاعهم ويشترون متاع الزنج وأهل جزائر الرانج يسافرون إلى الزنج في زوارق ومراكب صغار فيجلبون منها أمتعتها لأنهم يفهم بعضهم كلام بعض وللعرب في قلوب الزنج رعب عظيم ومهابة فلذلك متى عاينوا رجلاً من العرب تاجراً أو مسافراً سجدوا له وعظموا شأنه وقالوا بكلامهم هنيئاً لكم يا أهل بلاد التمر وإن المسافرين في بلادهم يسرقون أبناء الزنج بالتمر يخدعونهم به فينقلونهم من مكان إلى حتى يقبضون عليهم ويخرجونهم من بلادهم إلى البلاد التي يكونون بها وأهل بلاد الزنج كثيرو العدد قليلو العدد وصاحب جزيرة كيش من بحر عمان يغزو بمراكبه بلاد الزنج فيسبي منها خلقاً كثيراً.
ويقابل بلاد الزنج الساحلية جزائر تسمى جزائر الرانج وهي كثيرة وأرضها واسعة وأهلها سمر جداً وكل ما يزرع بها من الذرة وقصب السكر وشجر الكافور لونه أسود ومن جزائر الرانج جزيرة شربوة وتكسيرها على ما يذكر ألف ميل ومائتا ميل وبها مغائص للجوهر وبها أفاويه الطيب والتجار يدخلون إليها ومن جزائر الرانج الواقعة في هذا الجزء الذي نتكلم عليه جزيرة الانجية ومدينتها التي يسكن فيها أهل هذه الجزيرة تسمى الأنقوجة بلغة أهل الرانج وأهلها أخلاط والغالب عليهم أنهم مسلمون في هذا الوقت وبينهما وبين مدينة البانس التي من ساحل بلاد الزنج مجرى واحد ودورها أربع مائة ميل وأكثر عيشهم من الموز والموز عندهم خمسة ألوان فمنه الموز المسمى القند والموز الفيلي أيضاً وقد يوجد في وزن الموزة اثنتا عشرة أوقية والموز العماني والموز المورياني والموز السكري وأكثر عيش أهل هذه الجزيرة منه وهو عجيب الطعم لذيذ الذوق شهي المزازة وهذه الجزيرة يقسمها من العرض جبل يسمى جبل ويره وهو جبل منيع يأوي إليه المنقطعون من المدينة وهم هناك خلق كثير وجمع غزير وربما قطعوا في طرق المدينة وهم ممتنعون في أعلى هذا الجبل متحصنون فيه عمن قصدهم من ناحية صاحب الجزيرة وفيهم منعة ونجده وهم متمكنون من الأسلحة والعدد.
ولهذه الجزيرة أيضاً عمارات متصلة وقرى كثيرة فيها مواشيهم ويزرعون بها الأرز وتجاراتها كثيرة والداخل إليهم في كل سنة كثير بضروب من الأمتعة وجمل من البضائع التي يتصرفون إليها ومنها ويقال إنه لما اضطرب أمر الصين بالخوارج وكثر الظلم والتخليط بالهند صير أهل الصين تجاراتهم إلى الرانج وغيرها من جزائرها وعاملوا أهلها وأنسوا إليهم لعلهم وحسن معاشرتهم ومعاملتهم وسماحة تجارهم فهي لذلك عامرة والمسافر إليها كثير.
وبالقرب من هذه الجزيرة في البحر جزيرة صغيرة فيها جبل عالي الذرى لا يصل أحد إلى أعلاه ولا إلى شيء منه لإحراقه كل ما قرب منه وذلك أنه يظهر منه بالنهار دخان عظيم وبالليل نار تتقد ويخرج من أسفله عيون فمنها باردة عذبة ومنها حارة زعاق.
وبالقرب من جزيرة الرانج المذكورة أيضاً جزيرة كرموه وأهلها سود الألوان يسمون بالبوميين ولباسهم الأزر والفوط وهم أهل دعارة ونجدة ويحملون السلاح وبها يمشون في طرقهم وربما ركبوا في مراكبهم وتعرضوا للسفن فأكلوا متاعها وقطحوا على أهلها ومنعوا من الدخول إليهم إلا أقواماً بأعيانهم لا يخافون عاديتهم وشرهم وبينها وبين ساحل الزنج مجرى يوم وليلة وبينها وبين جزيرة الرانج المسماة أنقوجة مجرى يوم.
وبالقرب من هذه الجزيرة جزيرة القرود وبينهما نحو من ثلاثة مجار ومنها إلى البر المتصل بأرض الحبشة مجريان خفيفان وهي جزيرة كبيرة فيها غياض وشجر وحواف منيعة وبها أنواع من الثمر والقرود بهذه الجزيرة كثيرة تتولد وتتزايد حتى إنها قد تغلبت على هذه الجزيرة لكثرتها ويقال إن لها أميراً تنقاد إليه وتحطه على أعناقها وهو يحكم عليها حتى لا يظلم بعضها بعضاً وألوان هذه القرود إلى الحمرة وهي ذوات أذناب ولها ذكاء وحدة فهم وإذا انكسر عل جزيرتها مركب أو لجأ إليها أحد من الناس عذبته عذاباً بليغاً بالعض والرجم بالقاذورات وتعبث بمن سقط في أيديها عبثاً عظيماً وربما أمضت عليه فقتلته مسرعاً وربما أقلت العبث به فمات بينها جوعاً وقد يتحيل عليها أهل جزيرني خرتان ومرتان فيصيدونها ويخرجونها إلى بلاد اليمن فتباع بالثمن الكثير وأهل اليمن أعني التجار منهم يتخذونها في حوانيتهم حراساً كالعبيد يحرس أمتعة مواليها فلا يتقدر أحد على خدعها ولا على أخذ شيء مما بين أيديها وهي في نهاية من الذكاء ومن هذه الجزيرة التي للقرود إلى جزيرة سقطرى مجريان وأهل سقطرى يتحيلون عليها فيصيدونها بحيلة لطيفة وهي أنهم ينشئون لصيدها زوارق صغاراً جداً فيها طول فيحملونها معهم في المراكب وصورة صيدهم لها أنهم ينسجون على أفواه الزوارق شباكاً من الحبال مهندمة يلقونها مع جوانب الزوارق المذكورة حتى لا تحس بها القرود وتخفى فإذا وصلوا الجزيرة زرقوا في البحر تلك الزرارق وجعلوا فيها طعاماً لتأكله القرود فإذا قربوا من البر قذفتهم القرود بالحجارة فيتركون الزوارق الصغار مع البر وتباعدوا بمراكبهم إلى لجة البحر فإذا نظرت القرود إليهم قد بعدوا ولم يبق مع البر إلا تلك الزوارق قصدتها فوثبت فيها فوجدت بها ذلك الطعام الذي أعد لها فتتزاحم عليه وتشتغل به فيجذب أهل المركب تلك الشباك التي في الزوارق في لطف بحبال تحت الماء مهندمة جذباً لطيفاً فتكسي الشباك فوق أفواه الزوارق ويجتذبون الزوارق إلى أنفسهم فتثب القرود إليهم فلا تدعها الشباك فيتولون ضربها بالعصي حتى تهدأ ويتحيلون عليها حتى يلقوا الأخيات في أعناتها ويخرجونها أحياء إذا أرادوا ذلك وقد يقتلونها بالدق ويسلخون جلودها فيخرجونها معهم إلى بلاد اليمن.
ومن جزيرة القرود في جهة الشمال جزيرة يقال لها القطربة وهي جزيرة عامرة يسكنها قوم نصارى لكن زيهم عربي وهم يتكلمون بالعربية ويدعون أنهم عرب وهم أهل غدر ونكاية يقطعون بالمراكب المارة والآتية فيما بين البحرين والبصرة إلى قرب عمان وهم أخبث عدو يلقى في البحر وفي هذه الجزيرة مغائص للؤلؤ كان أهل اليمن يقصدون إليها ويغوصون بها لكن أهل الجزيرة أكلوا متاع الغواصين والتجار القاصدين إليهم حتى قطعوا الناس عن السفر إليهم.
ويسمى هذا البحر المضمن في هذا الجزء والجزء الذي قبله أعني البحر العماني ببحر هركند بلغة أهل الهند وفي هذا البحر عجائب كثيرة وصور شتى وحيتان ملونة فمنها ما يكون طوله مائة ذراع ودون ذلك ويسمى هذا السمك الوالي وهو ابيض ويتبع هذا السمك الكبير المسمى بالوالي سمكة صغيرة تسمى اللشنك فإذا طغت السمكة الكبيرة وجارت واعتدت على سائر السمك لصقت السمكة الصغيرة المسماة لشنك بأصل أذن الدابة الكبيرة فلا تفارقها حتى تقتلها وفيه سمك ذاهب في العرض إذا شق بطنها وجدت فيه سمكة أخرى وإذا شقت تلك الأخرى وجد في بطنها سمكة أخرى وكذلك إذا فعل بالثالثة مثل هذا وجد في بطنها سمكة أخرى إلى أربع سمكات بعضها في جوف بعض وفي هذا البحر سلاحف طول السلحفاة عشرون ذراعاً وفي بطنها نحو من ألف بيضة وهي تلد وترضع وظهورها الذبل الجيد وفيه سمك على خلقة البقر تلد وترضع وتعمل من جلودها الدرق وفيه سمك طوله مقدار الذراع وله وجه كوجه البومة يطير على الماء ويسمى السبح وقد قيض الله له سمكة أخرى تسمى العنقريس ترعاها تحت الماء فإذا سقط السبح في الماء ابتلعته وفيه أيضاً أسماك طيارة يقال لما النطيق لها مرارات يكتب بها الكتب فإذا جفت قرئت في الظلام كما تقرأ بالنهار في ضوء الشمس وفيه سمكة تسمى الهنس وهي من صدرها إلى رأسها مثل الترس تطيف به عيون تنظر منها وباقيها طويل مثل الحية في طول عشرين ذراعاً ولها أرجل كثيرة كأسنان الميشار من صدرها إلى ذنبها لا تمر بشيء إلا أهلكته.
ومن هذا البحر يخرج العنبر الكثير الطيب الرائحة وقد توجد منه العنبرة من قنطار وأكثر وأقل وهو شيء تقذف به عيون في قعر البحر مثل ما تقذف عيون هيت بالنفط فإذا اشتد هيجان الريح رمى به إلى الساحل وقد وهم فيه بعض الناس حين ظنوا أنه رجيع دابة وليس هو برجيع دابة وإنما هو ما ذكرناه وقد حكى ذلك إبراهيم بن المهدي في كتابه المسمى بكتاب الطيب وذكر فيه أن هارون الرشيد بعث إلى اليمن قوماً من قبله يبحثون عن العنبر ما هو على الحقيقة فأخبر أهل عدن وشرمة وحاسك أنه شيء تقذف به عيون في قعر البحر فيسوقه الموج إلى الساحل صغيراً وكبيراً وليس العنبر بشيء غير ما ذكرناه.
نجز الجزء السابع من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء الثامن منه إن شاء الله تعالى.
================================================
8.
إن هذا الجزء الثامن من الإقليم الأول تضمن في حصته بقية من أرض سفالة فيها مدينتان كالقرى ويليهما قرى صغار ودواير رحالة كالعرب فأما المدينتان فهما جنطمة ودندمة وهما على ضفة البحر الملح وهما مدينتان صغيرتان كالقرى الجامعة وأهلهما في ذاتهم قلة وفي أنفسهم أذلة وليس بأيديهم شيء يتصرفون به ويتعيشون منه إلا الحديد وذلك أن بلاد سفالة توجد في جبالها معادن الحديد الكثيرة وأهل جزائر الرانج وغيرهم من ساكني الجزائر المطيفة بهم يدخلون إليهم ويخرجونه من عندهم إلى سائر بلاد الهند وجزائرها فيبيعونه بالثمن الجيد لأن بلاد الهند أكثر تصرفهم وتجاراتهم بالحديد ومع ذلك وإن كان الحديد موجوداً في جزائر الهند ومعادنه بها ففي بلاد سفالة هو أكثر وأطيب وأرطب لكن الهنديون يحسنون تركيب أخلاط الأدوية التي يسبكون بها الحديد اللين فيعود هندياً ينسب إلى الهند وبها دور الضرب للسيوف وصناعهم يجيدونها فضلاً على غيرهم من الأمم وكذلك الحديد السندي والسرنديبي والبينماني كله يتفاضل بحسب هواء المكان وجودة الصنعة وإحكام السبك والضرب وحسن الصقل والجلاء ولا يوجد شيء من الحديد أمضى من الحديد الهندي وهذا شيء مشهور لا يقدر أحد على إنكار فضيلته.
وبين جنطمة ودندمة مجريان في البحر وفي البر سبعة أيام ودندمة هذه أحد قواعد سفالة ويتصل بأرض سفالة ثلاث مدن إحداها صيونة وهي متوسطة القدر وأهلها جماعات من بلاد الهند والزنوج وغيرهم وهذه المدينة على ضفة البحر وبها يسكن رئيس هذه البلاد و له عساكر رجالة لا خيل عندهم وهذه المدينة على خور تدخله المراكب المسافرة إليها ومنها إلى مدينة برخة على الساحل ثلاثة مجار وكذلك من صيونة إلى مدينة دندمة من أرض سفالة في جهة المغرب ثلاثة مجار في البحر وفي البر نحو من عشرين مرحلة لأن بينهما غباً كبيراً ذاهباً في جهة الجنوب فيعوق عن الطريق المستقيم ومن مدينة برخة إلى مدينة جسطة في البحر مجرى واحد وفي البر أربعة أيام.
وبجميع بلاد سفالة يوجد التبر الذي لا يعدله شيء من التبر في الطيب والكثرة والعظم وهم مع هذا يفضلون النحاس على الذهب ومنه حليهم وهذا التبر الموجود في أرض سفالة كبير المقدار يشف على غيره بالكبر لأنه يوجد في التبرة منه مثقال ومثقالان وأكثر وأقل وعلى قدر الرمل وهم يسبكونه في البواذق بنار أرواث البقر الجاف ولا يحتاجون فيه إلى جمع بزيبق ولا غيره كما يفعله أهل المغرب وذلك أنهم يؤلفون أجزاء تبرهم ويجمعونها بالزيبق وبعد ذلك يسبكونه بنار الفحم فيذهب الزيبق في الدخان ويبقى جسد التبر مسبوكاً نقياً وتبر أرض سفالة لا يحتاج إلى ذلك بل ينسبك بلا صنعة تدخله وسنذكر باقي أرض سفالة فيما يأتي بعد هذا بحول الله وعونه.
وفي هذا الجزء من الجزائر المرسومة في أمكنتها جزائر الدبيحات المتصلة بعضها ببعض وهي لا تحصى وأكثرها خالية وأكبرها جزيرة انبونه وهي عامرة وفيها خلق كثير يعمرونها ويعمرون ما حولها من كبار الجزائر وتتصل بهم جزيرة القمر ولجميع هذه الجزائر رئيس يجمعهم ويذب عنهم ويحامي عليهم ويهادن على قدر طاقته وزوجته تحكم بين الناس وتكلمهم ولا تستر عنهم والرئيس زوجها حاضر لا يتكلم فيما تأمر به من جميع أوامرها وتحكيم النساء عندهم سيرة دائمة لا ينتقلون عنها واسم هذه الملكة دمهرة وهي تلبس حلة الذهب المنسوج وتحمل على رأسها تاج الذهب المكلل بأنواع اليواقيت والأحجار النفيسة وتجعل في رجليها نعل الذهب وليس يمشي أحد في هذه الجزائر بنعل إلا الملكة وحدها ومتى عثر على أحد أنه لبس النعال قطعت رجلاه وهذه الملكة في فصول مذهبها وأعيادها تركب ويركب خلفها جواريها بالزي الكامل من الفيلة والرايات والأبواق والملك زوجها وجملة الوزراء يتبعونها على بعد منها ولهذه الملكة أموال تجمعها من جبايات معلومة فتتصدق بهذه الأموال على فقراء أهل بلادها في ذلك اليوم ولا تتصدق بشيء منه إلا وهي واقفة تنظر وأهل بلادها يعلقون على طرقها ومواضع مسيرها أنواع ثياب الحرير ولها زي حسن كما وصفنا وهذه الملكة وزوجها سكناهم من هذه الجزائر المذكورة بجزيرة انبونه.
وبضائع أهل جزائر الدبيحات المذكورة الذبل والذبل يكون على السلاحف وهي سبع قطائع لا يكون على السلحفاة أكثر منها ومبلغ وزن أربع قطائع منها منا والمنا تكون جملته مائتين وستين درهماً وأثقل ما يكون قطعتان في المن وهذا الذبل يتخذ منه حلى وأمشاط لأنه غليظ وهو في ذاته كثير التلوين صافي الديباجة ونساء هذه الجزيرة يمشين مكشوفات الرؤوس مضفورات الشعور والمرأة الواحدة تمسك في رأسها عشرة أمشاط وأقل وأكثر وهي حليهن وبهذا الزي تمشي نساء جزائر السحاب وأهلها مجوس وسنذكرهم فيما بعد بعون الله.
وهذه الجزائر المعروفة بجزائر الدبيحات عامرة بالناس ويزرع فيها النارجيل وقصب السكر وتجاراتهم بالودع وبين الجزيرة والأخرى مسير ستة أميال وأكثر وأقل وملكهم يدخر الودع في خزائنه وهو أكثر عدده وأهل هذه الجزائر أهل صناعات بالأيدي حذاق نبلاء من ذلك أنهم ينسجون القميص مفروغاً بكميه وبنائقه وجيبه وينشئون السفن من العيدان الصغار ويبنون البيوت المتقنة وسائر المباني العجيبة المتقنة من الحجر المجان ويتخذون أيضاً بيوتاً من الخشب تسير على الماء وربما استعملوا في مبانيهم عود المجمر همة ونخوة ويحكى أن هذا الودع الذي يدخره ملكهم يأتيهم على وجه الماء وفيه روح فيأخذون عيدان شجر النارجيل فيطرحونها على الماء فيتعلق هذا الودع بها وهم يسمونه الكنج وقد يخرج من بعض هذه الجزائر سيل يشبه القطران يحرق السمك في البحر فيطفو على وجه الماء.
وآخر هذه الجزائر يتعلق بظاهر جزيرة سرنديب في البحر المسمى هركند ويتصل بهذه الجزائر المسماة بالدبيحات جزيرة القمر وبينهما مجرى سبعة أيام وهي جزيرة طويلة وملكها يسكن منها مدينة ملاي ويقول أهل هذه الجزيرة إن طولها ماراً مع المشرق أربعة أشهر أولها في الدبيحات وآخرها يعارض جزائر الصين في جهة الجنوب وملكها لا يحجبه ولا يقوم بخدمته في طعامه وشرابه وجميع أوامره إلا المخنثون يلبسون الثياب النفيسة من الحرير الصيني والعراقي وفي يمين كل واحد منهم سوار ذهب واسم السوار عندهم بلغة الهند اللكنكو ويسمون هولاء الخنثين التنبابة وهم يتزوجون الرجال عوضاً من النساء ويخدمون الملك بالنهار ويرجعون بالليل إلى أزواجهم وفي هذه الجزيرة زرع ونارجيل وقصب السكر والتانبول وهو أكثر ما ينبت في هذه الجزيرة والتانبول شجر ساقه مثل ساق العريش ويلتوي ويتعلق بما جاوره من الشجر وله ورق مثل ورق الرند أو أشف منه حار الطعم يشبه طعم القرنفل وإذا أراد أحد منهم أكله يأخذ الجيار معجوناً بالماء ويتناول مع كل ورقة منه وزن ربع درهم ولا يطيب طعمه إلا بهذه الصفة ثم يصيب الذي يأكل عند أكله منه سكر وطيب نفس وعطرية ذكية تنم عليه وهذا مشهور في جمع بلاد الهند وما جاورها وفي هذه الجزيرة تصنع ثياب الحشيش وهذا الحشيش هو نبات يشبه نبات البردي وهو القرطاس وسمي بذلك لأن أهل مصر يعملون منه القراطيس فيأخذ الصناع منه أطيبه ويتخذون منه ثياباً مثل ثياب الديباج ملونة حساناً وتخرج هذه الثياب إلى سائر بلاد الهند وربما وصلت إلى اليمن فلبست هناك وحكى بعض المخبرين أنه رأى باليمن الشيء الكثير منها وقد تصنع بهذه الجزيرة حصر بيض فيها الرقم البديع ويبسطها الرؤساء في بيوتهم ويجعلونها عوضاً من الحرير وغير ذلك وفي هذه الجزيرة شجر يقال له البل وهو نوع من المقل تظل الشجرة منه عشرة رجال ومن هذه الجزيرة تخرج المراكب المعروفة بالمشعيات وهي شوان غزوانية محكمة الصنعة يكون طول الواحد ستين ذراعاً وهو منحوت من قطعة واحدة يقذف على ظهره مائة وخمسون رجلاً وحكى أيضاً بعض المخبرين وهو قريب العهد بذلك المكان أنه رأى هناك مائدة يقعد حولها مائتا رجل وبهذه الجزيرة من الخشب ما لا يوجد مثله على الأرض وأهلها بيض قليلو اللحى يشبون الأتراك ويزعمون أن أصلهم من الترك.
ومن الجزائر المشهورة في هذا البحر المسمى هركند جزيرة سرنديب وهي جزيرة كبيرة مشهورة الذكر وهي ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً وفيها الجبل الذي أهبط عليه آدم وهو جبل سامي الذروة عالي القمة ذاهب في الجو يراه البحريون في مراكبهم على مسيرة أيام واسم هذا الجبل جبل الرهون وتذكر البراهمة وهم عباد الهند أن على هذا الجبل أثر قدم آدم عليه السلام مغموس في الحجر وطوله سبعون ذراعاً وأن على أثر هذا القدم نور يخطف شبيه بالبرق دائماً وأن القدم الثانية منه جاءت في البحر عند خطوته والبحر من هذا الجبل على مسيرة يومين أو ثلاثة وعلى هذا الجبل وحوله توجد أنواع اليواقيت كلها وأنواع من الأحجار وغيرها وفي واديه الماس الذي يحاول به نقش الفصوص من أنواع الحجارة وعلى هذا الجبل أيضاً أنواع من الطيب وضروب من صنوف العطر مثل العود والأفاويه ودابة المسك ودابة الزبادة وبها الأرز والنارجيل وقصب السكر وفي أنهارها يوجد جيد البتور وكبيره وبجميع سواحلها مغائص اللؤلؤ الجيد النفيس الثمن وفي جزيرة سرنديب من القواعد المشهورة مرقايا واغنا وفرسقورى وابدذى وماخولون وحامرى وقلماذى وسندونا وسندورا ونيبرى وكنبلى وبرنشلى ومرونه وملك هذه الجزيرة يسكن من هذه المدن مدينة اغنا وهي مدينة القصر وبها دار ملكه وهو ملك عادل كثير السياسة يقظان الحراسة ناظر في أمور رعيته حائط لهم وذاب عنهم وله ستة عشر وزيراً أربعة منهم من أهل ملته وأربعة نصارى وأربعة مسلمون وأربعة يهود وقد رتب لهم موضع يجتمع فيه أهل الملل ويتكلمون في أديانهم ويقيم كل واحد منهم حجته ويأتي ببرهانه في دينه والملك يبيح ذلك لهم ويكتب حججهم وأخبارهم ويجتمع إلى علماء كل ملة منهم أعني الرومية والهندية والإسلامية واليهودية جمل من الناس وعدة طوائف فيكتبون عنهم سير أنبيائهم وقصص ملوكهم في سالف الزمان ويعلمونهم شرائعهم ويفهمونهم ما لا يعلمونه وللملك في بره صنم من ذهب لا يدرى لما عليه من الدر والياقوت وأنواع الأحجار الثمينة وليس يملك أحد من ملوك الهند مثل ما يملكه صاحب سرنديب من الدر النفيس والياقوت الجليل وأنواع الأحجار لأن أكثر ذلك موجود في جبال جزيرته وفي أوديتها وبحرها إليها تقصد مراكب أهل الصين وسائر بلاد الملوك المجاورين له وملك سرنديب يحمل إليه الخمر من العراق ومن بلاد فارس فيشتريها بماله وتباع له في بلاده وهو يشرب منها ويحرم الزنا ولا يراه وملوك الهند وأهلها يبيحون الزنا ويحرمون الشراب المسكر إلا ملك قمار فإنه يحرم الزنا والشراب ويجلب من سرنديب الحرير والياقوت بجميع ألوانه كلها والبتور والماس والسنباذج وأنواع من العطر كثيرة.
وبين هذه الجزيرة والبر المتصل بالهند مجاز صغير ومن جزيرة سرنديب إلى جزيرة بلبق الساحلية يوم ويحاذي هذه الجزيرة من أرض الهند أغباب وهي أجوان تقع فيها أنهار وتسمى أغباب سرنديب وتدخلها المراكب السيارة وتمر فيها الشهر والشهرين بين غياض ورياض وهواء معتدل والشاة فيها بنصف درهم وما يكفي جماعة من الشراب العسلي المطبوخ بحب القاقلة الرطبة بنصف درهم ولعب أهل سرنديب الشطرنج والنرد والقمار بأنواعه ولأهل سرنديب نظر في زراعة النارجيل في تلك الجزائر الصغار التي على طرقها ويقومون بحفظه ويبيحونه للصادر والوارد ابتغاء الأجر وطلب المثوبة وأهل عمان ومربط من بلاد اليمن ربما قصدوا إلى هذه الجزائر التي فيها النارجيل فيقطعون من خشب النارجيل ما أحبوه ويصنعون من ليفه حبالاً يحرزون به ذلك الخشب وينشئون منه مراكب ويصنعون منه صواريها ويفتلون من خوصه حبالاً ثم يوسقون تلك المراكب بخشب النارجيل ويمضون به إلى بلادهم فيبيعونه هناك ويتصرفون به.
وتتصل بجزيرة سرنديب جزيرة الرامى والرامى هي مدينة الهند وبها عدة ملوك وفيها زروع ومعادن وطيب وهي فيما يذكر طولها سبع مائة فرسخ وبها دابة تسمى الكركدن وهذه الدابة تكون دون الفيل وفوق الجاموس وفي عنقها عوج كعنق الجمل لكن اعوجاجه بخلاف اعوجاج عنق الجمل ورأسها مما يلي يديها ولها قرن في وسط جبهتها طويل في غلظة قبضتين وفيما يذكر أنه يوجد في بعض هذه القرون في جوفها إذا هي شقت صورة إنسان أو صورة طائر أو غيره من الصور كاملة الشكل بيضاء وهذا القرن الذي توجد فيه هذه الصورة يصنع منه مناطق تساوي من القيمة كثيراً وتكون الصورة التي توجد فيه من أوله إلى آخره وحكى الجاحظ في كتاب الحيوان أن هذه الدابة تقيم في جوف أمها سبع سنين وأنها تخرج رأسها وعنقها من فرج أمها فترعى الحشيش ثم تعيد رأسها إلى جوف أمها فإذا ابتدأ تكون قرنها امتنعت عن الخروج للرعي على حسب عادتها فتنقر في جوف أمها حتى تبقر جوفها وتخرج فتموت الأم وهذا محال من قوله غير مسموع لأن الأمر لو كان كما وصفه لفنى هذا النوع حتى لا يوجد إلا ذكره وحكى الجيهاني في كتابه أن ملوك الهند تصنع من قرن هذه الدابة أنصبة السكاكين للموائد فإذا وضع الطعام بين أيديهم وكان فيه سم عرق ذلك النصاب فيعلم بذلك أن الطعام مسموم. وجزيرة الرامى طيبة الثرى معتدلة الهواء عذبة المياه فيها أعداد بلاد وقرى ومعاقل وفي هذه الجزيرة ينبت البقم ويشبه نباته نبات الدفلى بالسواء وخشبه أحمر وعروقه دواء من سم الأفاعي والحيات وقد جرب ذلك منه فصح وفي هذه الجزيرة جواميس أيضاً لا أذناب لها وفي غياض هذه الجزيرة ناس عراة لا يفهم كلامهم وهم يستوحشون من الناس وطول الرجل الواحد منهم أربعة أشبار وله ذكر صغير وكذلك للمرأة منهم فرج صغير وشعورهم زغب أحمر يتعلقون على الأشجار بأيديهم من غير أرجلهم ولا يدركون لسرعة جريهم وبساحل هذه الجزيرة قوم يلحقون المراكب بالعوم والمركب يجرى بالريح الطيبة ويبيعون العنبر من أصحاب المراكب بالحديد ويحملونه بأفواههم ويتجهز من هذي الجزيرة بالذهب لأن معادنه بها كثيرة ويتجهز أيضاً منها بالكافور الطيب وبضروب من الأفاويه واللؤلؤ الفائق في الجودة.
ومن هذه الجزيرة إلى سرنديب ثلاثة أيام ومن أراد أن يعدل من جزيرة بلبق المذكورة إلى الصين جعل جزيرة سرنديب عن يمينه.
ومن سرنديب إلى جزيرة لنكبالوس مسيرة عشرة أيام وقد تسمى هذه الجزيرة أيضاً لنجبالوس بالجيم وهي جزيرة كبيرة وفيها خلق كثير بيض الألوان والرجال فيها والنساء يمشون عراة وربما استتر النساء بورق الشجر والتجار يدخلون إليهم في المراكب الصغار والكبار ويشترون من أهلها العنبر والنارجيل بالحديد وأكثر أهلها يشترون الثياب فيلبسونها في بعض الأوقات والحر والبرد في هذه الجزيرة قليل لقربهم من خط الاستواء وطعام أهلها الموز والسمك الطرى والنارجيل وأموالهم وجل بضائعهم الحديد وهم يجالسون التجار. ومن جزيرة الرامى في جهة الجنوب جزيره يقال لها البينمان وهي جزيرة عامرة فيها مدينة كبيرة وأكل أهلها النارجيل وبه يأتدمون ومنه ينتبذون وهم أهل شدة ونجدة ومن سيرتهم وعاداتهم التي توارثها الأبناء عن الآباء أن الرجل منهم إذا أراد أن يتزوج امرأة لم يزوجها له أهلها حتى يأتي برأس رجل يقتله فيخرج الرجل يطوف في جميع النواحي المجاورة لهم حتى يقتل رجلاً ويأتي بقحف رأسه فإذا فعل ذلك زوج من المرأة التي خطبها فإن جاء برأسين زوج امرأتين وكذلك إن جاء بثلاثة رؤوس زوج ثلاث زوجات ولو قتل خمسين رجلاً زوج خمسين امرأة وشهد له أهل بلده بالبأس والنجدة ونظروا إليه بعين الفخر والجلالة وفي هذه الجزيرة فيلة كثيرة وبها البقم والخيزران والقصب.
وبالقرب منها جزيرة جالوس وبينهما مسافة يومين وأهلها قوم سود عراة يأكلون الناس وذلك أنه إذا سقط في أيديهم إنسان من غير بلادهم علقوه منكساً وقطعوه وأكلوه قطعاً وذكر بعض رؤساء المراكب أن أهل هذه الجزيرة أخذوا رجلاً من أصحابه فنظر إليهم حق علقوه وقطعوه قطعاً وأكلوه وليس لهؤلاء القوم ملك وغذاؤهم السمك والموز والنارجيل وقصب السكر ولهم مواضع يأوون إليها شبيهة بالغياض والآجام وأكثر نباتهم الخيزران وهم عراة لا يستترون بشيء وكذلك نساؤهم أيضاً وكذلك لا يستترون في النكاح بل يأتونه جهاراً ولا يرون بذلك بأساً وربما فعل الرجل منهم بابنته وأخته وليس يرى بذلك عاراً ولا قبيحاً أتاه وهؤلاء القوم سود مناكير الوجوه مفلفلو الشعور طوال الأعناق والسوق مشوهون جداً وبين البينمان وجزيرة سرنديب ثلاثة مجار ومن جزيرة سرنديب إلى جزيرة لنجبالوس ويقال لنكبالوس عشرة مجار ومن لنجبالوس إلى جزيرة كلة مسيرة ستة أيام وسنذكر هذه الجزائر فيما بعد بحول الله تعالى.
نجز الجزء الثامن من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء التاسع من الإقليم المذكور إن شاء الله.
==================================================
9.
إن هذا الجزء التاسع من الإقليم الأول تضمن قطعة من البحر الهندي وهو البحر المعروف بالبحر الصيني وفيه شيء من البحر المسمى بحر دارلاروى وفي هذا البحر جملة جزائر نذكرها بعد هذا بعون الله وقوته فنقول إن هذا البحر الهندي على جنوبه قطعة من بلاد سفالة التي قدمنا ذكرها وقرى وعمارات فمنها مدينة جسطة وهي مدينة صغيرة وبها يوجد التبر كثيراً وهو غلتهم وشغلهم وإياه يطلبون ومنه معايشهم وأكلهم السلاحف البحرية ولحوم الصدف وعندهم الذرة قليلاً وهي على خور كبير تدخله المراكب وليس لأهل جسطة مراكب ولا دواب يتصرفون عليها وإنما يتصرفون بأنفسهم ويستخدم بعضهم بعضاً وأهل القمر وتجار بلاد المهراج يدخلون إليهم ويجالسونهم ويتجرون معهم.
ومن مدينة جسطة إلى مدينة دغوطة في البحر ثلاثة أيام بلياليها ومنها إلى جزيرة القمر مجرى واحد ومدينة دغوطة آخر بلاد سفالة التبر وهي على خور كبير وأهلها عراة لا يستترون بشيء من الثياب لكنهم يستترون بأيديهم عند التقائهم بالتجار الداخلين إليهم من سائر الجزائر المجاورة لهم ونساؤهم محتجبات لا يدخلن الأسواق ولا المحافل لأنهن عراة فهن لذلك يلزمن أمكنتهن اللاتي يأوين إليها وفي هذه المدينة وبأرضها يوجد التبر مثل ما يوجد بغيرها من أرض سفالة ويتصل بأرض سفالة أرض الواق واق وبها مدينتان حقيرتان وساكنها قليل لضيق عيشها وتكدر رزقها واسم الواحدة منها ددوا واسم الثانية بنهنة وتليهما قرية كبيرة تسمى دغرغه وهم سودان قباح الصور مشوهو الخلقة وكلامهم نوع من الصفير وهم عراة لا يستترون بشيء والداخل إليهم قليل وأكلهم الحوت والصدف ولحوم السلاحف تتصل بهم جزائر الواق واق وسنذكرها فيما يرد بعد هذا بعون الله تعالى وكل واحدة من هذه البلاد على خور كبير وليس بأرض هؤلاء القوم شيء من الذهب ولا تخرج من عندهم تجارة ولا مراكب لهم ولا دواب.
فأما جزيرة جالوس فأهلها زنج سود عراة يأكلون من سقط في أيديهم كما قدمنا ذكرهم وعندهم جبل ترابه فضة إذا مسته النار تحلل وصار فضة ومنها إلى جزيرة لنكبالوس يومان ومن جزيرة لنكبالوس إلى جزيرة كله خمسة أيام وهي جزيرة كبيرة يسكنها ملك يسمى حبابه الهندي وبهذه الجزيرة معدن الرصاص القلعي وهو بها كثير صافي الجوهر والتجار يغشونه بعد خروجه عنها ومنها يتجهز به إلى جميع الأرض ولباس أهلها الفوط يلبس الرجل والمرأة فوطة واحده وبهذه الجزيرة منابت الخيزران وبها الكافور الجيد وهو شجر كبير يشبه شجر الصفصاف لكنه تظل الشجرة منه مائة رجل وأكثر والكافور يستخرج من هذه الشجرة بأن ينقب في أعلاها نقب فيسيل منه عدة جرار وإذا انقطع الجرى نقب أسفل من ذلك في وسط الشجرة فينساب منها قطع الكافور وهو صمغ ذلك الشجر غير أنه ينعقد في داخلها ثم تبطل تلك الشجرة فتنحى ويقصد غيرها وخشب شجر الكافور أبيض خفيف وفي هذه الجزيرة عجائب يقع واصفها في حد التكذيب.
ويلي هذه الجزيرة جزيرة جابة وجزيرة سلاهط وجزيرة هزلج وبين كل واحدة منها وأختها فرسخان وأكثر أو أقل وهذه الجزائر كلها لملك واحد اسمه جابة وهو يلبس حلة الذهب وقلنسوة الذهب مكللة بالدر والياقوت ودراهمه مطبوعة بصورته وهو يعبد البد والبدود هي الكنائس بلغة أهل الهند وبد الملك حسن البناء حسن الصنعة وقد كلفت جميع جوانبه بالرخام وداخل البد يحيط به من كل جهة أصنام مصنوعة من حجارة الرخام الأبيض وعلى رؤوسها التيجان المكللة وعليها الحلل وسائر الثياب المنسوجة من الذهب ونحوه وصلاتهم في هذه الكنائس إنما تكون غناءً وتلحيناً وتصفيقاً لطيفاً بالأكف وزفن الجواري الحسان في شعورهن ولعبهن بأنواع من الخف والتخلع وكل ذلك يكون بين أيدي المصلين والمجتمعين في البد ولكل بد من تلك الجواري عدة يأكلن ويلبسن من مال البد وذلك أن المرأة إذا ولدت بنتاً حسنة الصورة جميلة القد تصدقت بها على البد فإذا ترعرعت وشبت كستها من الثياب أبلغ ما تقدر عليه وتأخذ أمها بيدها وحولها أهلها نساءً ورجالاً وتصير بها إلى البد الذي تصدقت بها أمها عليه وتدفعها إلى خدامه وتنصرف فإذا صارت الطفلة بيد خدام البد دفعوها إلى نساء عارفات بالزفن والتخلع وجمل اللعب بما يحتاج إليه فإذا قبلت التعليم لبست أفضل الثياب وحليت بأرفع الحلي ولزمت البد ولم يكن لها خروج منه ولا زوال عنه وكذلك سنة الهنديين الذين يعبدون البدود وبهذه الجزائر شجر النارجيل كثير والموز المتناهي في الطيب أيضاً كثير عندهم وكذلك السر والأرز بها موجود وبجزيرة هزلج مهوأة كبيره لا يقف أحد على قعرها وهي من عجائب الأرض المريئة.
ويتصل بجزيرة جابة جزيرة مابط على قرب منها وهي تحت طاعة ملك جابة وفيها نارجيل وموز وقصب وأرز وبجزيرة سلاهط صندل كثير وسنبل وقرنفل وصفة شجر القرنفل شبه نبات شجر الحناء في دقة أغصانها وحمرتها ولها زهر يتفتح عن كمام شبيهة بزهر النارنج سواء فإذا سقط الزهر جنيت تلك الكمام ونقعت في مياه هناك إلى أن يصلح منها ما أرادوه ثم يخرجونه ويجففونه فقاحاً وخشباً ويبيعونه إلى التجار الواردين عليهم فيشترونه منهم ويتجهزون به إلى جميع الأقطار وفي آخر هذه الجزيرة بركان نار تتقد مقدار ارتفاعه مائة ذراع فهي بالنهار دخان وبالليل نار تشتعل.
وعلى يسار جزيرة مابط جزيرة تنومة وبينها وبين مابط يوم وهي جزيرة عامرة ولباس أهلها الأزر وبها مياه عذبة وأرز وقصب سكر ونارجيل وبها أيضاً مغائص اللؤلؤ وبجزيرة تنومة يوجد العود الهندي والكافور ونبات العود تكون أوراقه وأغصانه شبيهة بأوراق وأغصان النبات المسمى الصاص بالسواء والعود أصوله تستخرج في وقت لا يكون في غيره بعد أن يتقدم في قطع أغصانه قبل ذلك بأشهر ثم ينحت أعلاها ويزال رخوها وتوخذ قلوبها الصلبة فتجرد بالاسكرفاج وهو مبرد العود حتى تنقى ثم تجرد بالزجاج ثم توضع في أوعية خيش وتصقل صقلاً كثيراً ثم تخرج عن تلك الأوعية وتباع من التجار الواصلين هناك فتخرجه التجار إلى جميع البلاد ويصرفونه ومن جزيرة تنومة إلى جزيرة قمار خمسة أيام وإلى هذه الجزيرة ينسب العود القماري وبها يعرف وهو جيد لكن العود الصنفي أجود منه وبهذه الجزيرة الصندل والأرز وأهلها يلبسون الفوط ويجالسون التجار ويعاملون الجلة وفيهم عدالة ظاهرة وجودة مشهورة وإنصاف كامل وعبادتهم الأصنام والبدود وهم يحوقون موتاهم بالنار.
ويتصل بجزيرة قمار مما يلي الساحل جزيرة صنف وبينهما ثلاثة أميال وبها يوجد العود الصنفي وهو أفضل من العود القماري لأنه يغرق في الماء لجودته وثقله وبهذه الجزيرة بقر وجواميس لا أذناب لها وبها النارجيل والموز والقصب السكري والأرز وأهلها لا يذبحون شيئاً من الحيوان الماشي على أربع ولا غيره من الهوام والحشرات وإنما تؤكل البقر عندهم إذا ماتت بل يعافها أكثرهم ولا يأكلها ومن قتل بقرة لزمه القتل أو تقطع يده وإذا وقفت البقر عن الخدمة والتصرف وضعت في بيوت وتركت حتى يموتها موتها الطبيعي وبهذه الجزيرة ملك اسمه زنبد وأهلها سمر يلبس كل واحد منهم فوطتين فوطة يتزر بها وفوطة يلتحف بها ومياههما عذبة ومنها إلى جزيرة صندى فولات عشرة أيام.
ومن جزيرة الصنف إلى مدينة لوقين ثلاث مراحل وهي أول مراقي الصين وبها طرز الديباج والحرير الصيني ومنها يخرج إلى جميع الجهات وبها يعمل الغضار الصيني ومنها يتجهز به أيضاً إلى سائر البلاد المتصلة بها والمتباعدة عنها وبها أرز وحبوب ونارجيل وقصب ولباس أهلها الفوط وهم يجالسون التجار ويداخلون الناس ولهم همم عالية ونفوس أبية ويستعملون أنواع الطيب أكثر من سائر بلاد الهند.
ومن مدينة لوقين إلى مدينة خانافو مسيرة أربعة أيام في البحر وعشرين يوماً في البر وهي أعظم مراقي الصين وبها ملك مهاب له مملكة شامخة وفيلة كثيرة وأجناد وأسلحة وأهلها يأكلون الأرز والألبان والنارجيل وقصب السكر والمقل وهي على خور تطلع فيه المراكب مسافة شهرين إلى مدينة باجه وهي مدينة البغبوغ والبغبوغ هو ملك الصين بأجمعها وإلى مدينته ينتهي مسافروا بلاد الغرب وبها جميع الفواكه والبقول والحنطة والشعير والأرز ولا يوجد بجميع بلاد الهند والصين عنب ولا تين البتة وإنما يوجد عندهم ثمار شجر يسمى الشكي والبركي وأكثر ما يكونان ببلاد الفلفل وهو شجر له ساق غليظة وورق شبيه بورق الكرنب أخضر ما هو وله ثمر طول الثمرة أربعة أشبار مستدير شبيه بالدلاع له قشرة حمراء وفي جوفها حب مثل حب البلوط يشوى في النار ويؤكل مثل ما يؤكل القسطل وطعمهما سواء ولحم هذا الثمر إذا أكل وجد له آكله طعماً شهياً لذيذاً يجتمع فيه طيب التفاح وطيب الكمثرى وبعض طعم الموز والمقل وهو ثمر بديع الصفة شهي الطعم وهو أجل ما يؤكل ببلاد الهند وقد يوجد ببلاد الهند نبات يسمى العنبا وهو شجر كبير يشبه شجر الجوز وودقه كودقه وله ثمر مثل ثمر المقل حلو إذا عقد في أوله ويجمع في ذلك الحين فيعمل بالخل فيكون طعمه كطعم الزيتون سواء وهو عندهم أيضاً من الكوامخ الشهية ومن مدننة خانفو إلى مدينة خانكو مسيرة ثمانية أيام وسنذكرها في موضعها من الجزء العاشر بعد هذا بيمن الله وعونه.
ومن مدينة الصنف الساحلية إلى جزيرة شامل أربعة أيام وهي في آخر البحر الصنفي معمورة القطر مجتمعة الأهل وفيها حنطة وأرز وموز كثير وقصب سكر وبها سمك كبير العظم لذيذ الطعم يغني آكله عن أكل اللحم ومن جزيرة شامل إلى جزيرة عاشورا أربعة أيام وهي جزيرة قليلة العامر وأرضها أرض حرشاء كثيرة العقارب والأفاعي وجبالها متصلة ومنها إلى جزيرة ملاي يوم خفيف وهي جزيرة كبيرة ممتدة من المغرب إلى المشرق وفيها مدينة يسكنها ملك الجرز ودراهمه فضة تسمى بالدراهم الطاطرية وله أجناد وفيلة ومراكب كثيرة وفيها موز ونارجيل وأرز وقصب وهذه الجزيرة فيما يزعم أهلها أنها تتصل بالبحر الزفتي من آخر الصين وقد يوجد في هذا البحر المسمى بحر الصنف أنواع من الحيتان وضروب من السمك وجمل من العجائب يستدلون بها على السلامة أو العطب وسنذكر أكثر ذلك فيما يلي آخر هذا الجزء من الإقليم الثاني ونأتي منه بما ذكره المتجولون ونقله المسافرون واتفقت عليه أقاويل الناقلين حسب الطاقة ومبلغ الجهد بحول الله سبحانه وعونه وتأييده. نجز الجزء التاسع من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء العاشر منه إن شاء الله.
============================
10.
إن هذا الجزء العاشر من الإقليم الأول وهو نهاية المعمور من جهة المشرق ولا يعلم أحد ما خلفه تضمن البحر الصيني المسمى بحر صنخى ومن الناس من يسميه بحر الصنف ورأسه ومبدؤه من البحر المحيط المسمى هناك البحر الزفتي لأن ماءه كدر وريحه عاصفة والظلمة لا تزال واقعة عليه في أكثر الأوقات ويتصل هذا البحر الزفتي بالبحر المحيط المتصل ببلاد ياجوج وماجوج إلى ما تحتها مما يلي الأرض الحالية في جهة الشمال ويتصل ببحر الظلمات المتصل أيضاً بجهة المغرب كما قد رسمناه ويتصل هذا البحر أيضاً من جهة الجنوب على جزائر الواق واق وبحر الحيات إلى البحر المحيط بالأرض في جهة الجنوب كما قد حكيناه وجئنا به مرسوماً بحول الله ومعونته.
وهذا البحر عاصف الرياح كثير الأمطار وريحه بحرية تجري ستة أشهر دائماً ثم تنقلب إلى ريح أخرى وفيه عدة جزائر فمنها ما يصل إلى التجار ومنها ما لا يصلون إليها لتعذر السلوك وهول البحر وتقلب الرياح وتوحش أهلها وانقطاعهم عن مجاورة الأمم المعلومة.
فأما الجزيرة المسماة بالموجه التي ببحر دارلارومى ففيها عدة ملوك إلا أنهم بيض غير مخرمي الآذان يشبهون أهل الصين في اللباس والزي ولهم خيل كثيرة يقاتلون عليها ملوكاً حولهم وهذه الجزيرة تتصل بمشارق الشمس وتوجد عندهم دابة المسك ودابة الزبادة ونساؤهم من أجمل نساء الأمم ولهم شعور طوال والنساء بها لا يتوارين ولا يستترن بشيء ويمشين مكشوفات الرؤوس ويكللن رؤوسهن بعصائب فيها أنواع من الودع الملون والأصداف المجزعة.
ومن هذه الجزيرة إلى جزيرة سبومة مجريان وهذه الجزيرة جزيرة عظيمة كثيرة الزروع والحبوب وبها أنواع من الطيور المأكولة التي ليست في بلاد الهند وبها نارجيل كثير وتتصل بهذه الجزيرة جزائر كثيرة صغار ولكنها معمورة وملكها يسمى قامرون وبلاده كثيرة المطر والرياح وبحرها مهول وعمق الماء به من أربعين باعاً إلى أكثر وأقل وفي جبال هذه الجزيرة يوجد الكافور الجيد كثيراً أكثر مما يكون في بلاد غيرها وفي بعض هذه الجزائر قوم يسمون القنجت مفلفلوا الشعور سود يخرجون إلى المراكب بالعدد والأسلحة والسهام المسمومة ولا ترد شوكتهم وقليلاً ما ينجو منهم من مر بهم أو سقط في أيديهم وفي أرنبة أنف كل واحد من هؤلاء المذكورين حلقة حديد أو نحاس أو ذهب.
وعلى رأس هذا البحر إلى جهة الصين جزيرة المايد وبينهما أربعة مجار وكذلك من جزيرة سبومة إلى جزيرة الأيام ومنها يخرج إلى بر الصنف وليس في كل البحار التي ذكرنا أكثر منه مطراً ولا أعصب منه رياحاً وربما أقامت السحابة تمطر اليوم واليومين لا تنقطع ويخرج من هذه الجزائر التي ببحر الصنف العود وغيره من الأفاويه وليس لهذا البحر غاية تعرف لسعته وساحله عليه بلاد الملك المسمى المهرج.
وجزائر هذا الملك كثيرة الخيرات متصلة العمارات بها الزرع والضرع والفيلة والكافور والجوزبوا والسباسة والقرنفل والعود والقاقلة والكبابة وسائر الحبوب في بلاده موجودة ممكنة وبلاده كثيرة الوارد والصادر وليس بيد ملك من ملوك الهند ما بيده من هذه البضائع الموصوفة والتجارات الكثيرة المعروفة ومن الجزائر الموصوفة جزيرة المايد وهي جزيرة فيها عدة مدائن وهي أكبر من جزيرة الموجه طولاً وأوسع عرضاً وأخصب أرضاً وأهلها أشبه بأهل الصين من غيرهم أعني كل من جاور الصين من الأمم ولملوكها عبيد خصيان حسان وخدم بيض وبلادهم وجزيرتهم تتصل بأرض الصين وهم يراسلون ملك الصين ويهادونه ويهادنونه وبهذه الجزيرة تجتمع مراكب الصينيين الخارجة من جزائر الصين وإليها تقلع وبها تحط ومنها تخرج إلى سائر النواحي.
ومن جزيرة صنف إلى جزيرة صندى فولات عشره أيام وجزيرة صندى فولات جزيرة عظيمة فيها مياه عذبة وزروع وأرز ونارجيل وملكهم يقال له زنبد وأهلها يلبسون الفوط تأزراً وتوشحاً وجزيرة صندى فولات تحيط بها من جهة الصين جبال وعرة والرياح بها عاصفة وهي باب من أبواب الصين ومنها يركب إلى مدينة خانفو أربعة أيام وأبواب الصين اثنا عشر باباً وهي جبال في البحر بين كل جبلين فرجة يسار منها إلى موضع بعينه من مدائن الصين المقصودة بالساحل وجميع مراقي الصين لا يكون منها شيء إلا على خور تصعد فيه المراكب الشهر والأكثر والأقل بين جنات وغياض وناس ولهم أغنام وأموال زاكية ومياه جميع الأخوار حلوة لكن المد يدخلها من البحر والجزر يكون منها أيضاً في كل يوم وليلة مرتين وفي هذه المراقي أسواق وتجار وخرج ودخل ومراكب وبضائع تحمل وأخرى تحط وبهذه البلاد الأمن المتصل وفي ملوكها العدل وهو سنتهم وعليه يعولون فلذلك اتصلت عمارتهم وحسنت بلادهم وقل جزعهم وكثر أملهم واتسعت أيديهم في الأموال والحالات الحسنة وجميع أهل الهند والصين يقتلون السارق ويؤدون الأمانة وينصفون من أنفسهم من غير احتياج إلى حاكم أو مصلح كل ذلك منهم طبعاً وسجية وأخلاقاً خلقوا بها وطبعوا عليها وللملك قامرون في طاعتة جزيرتان تنسبان إلى بلاده واسم إحداهما جزيرة بوصا واسم الثانية جزيرة لاسية وفيها قوم ألوانهم إلى البياض وفي نسائهم جمال بارع وفيهم نجدة وبأس شديد وربما قطعوا على الناس في مراكب لهم سابقة الجري وإنما يفعلون ذلك إذا كانوا مع الصينيين في خلاف ولم تكن بينهم هدنة.
ومن جزيرة الموجه إلى جزيرة السحاب مسير أربعة مجار أو أكثر من ذلك وجزيرة السحاب سميت بهذا الاسم لأنه ربما طلع من ناحيتها سحاب أبيض يظل المراكب فيخرج منها لسان رقيق طويل مع الريح العاصفة حتى يلتصق ذلك اللسان بماء البحر فيغلي له ماء البحر ويضطرب مثل الزوبعة الهائلة فإن أدركت المركب ابتلعته ثم ترتفع تلك السحاب فتمطر مطراً فيه قذى البحر ولا يدرى أاستقت السحاب ذلك من البحر أم كيف هذا وهي جزيرة بها تلول رمل إذا مستها النار انسكبت وعادت فضة خالصة وفيما يليها من جهة جزائر الواق واق مواضع مقطوعة بالجبال والجزائر فلا يصل السالك إليها لامتناع بلادها وصعوبة مسالكها وسكانها مجوس لا يعرفون ديناً ولا اتصلت بهم شريعة ونساؤهم يكشفن رؤوسهن ويجعلن فيها الأمشاط المتخذة من العاج المكللة بالصدف وربما كان في رأس المرأة منهن عشرون مشطاً وغير ذلك ورجالهم يغطون رؤوسم بشبه القلانس وتسمى بلغة الهند البعارى وهم متحصنون بجبالهم لا يصلون إلى أحد ولا يتصل بهم أحد ولكنهم يشرفون على البحر ويتطلعون إلى المراكب وربما تكلموا معهم بكلام لا يفهم منهم وهم مقيمون في بلادهم بهذه الحالة التي وصفناهم بها وتتصل بهذه الجزائر جزائر الواق واق ولا يعرف ما بعدها وربما وصل أهل الصين إليها في الندرة وهي جزائر عدة ولا عامر بها إلا الفيلة وطيرها كثير جداً وبها شجر حكى المسعودي عنها أموراً لا تقبلها العقول من جهة الأخبار عنها لكن الله على ما شاء قدير.
ومن جزيرة صنف إلى جزيرة ملاي مسافة اثني عشر يوماً بين جزائر وجبال شارعة في البحر وهذه الجزيرة معترضة من المغرب إلى المشرق ولكنها تتصل مع جهة المغرب بساحل الزنوج وتمر مع المشرق وفي جهة الشمال معترضة اعتراضاً مؤرباً إلى أن تماس ساحل الصين وهي أطول الجزائر قطراً وأكثرها عمارةً وأخصبها جبالاً وأوسعها مملكةً وأنفعها تجارةً وبها الفيلة والكركدن وضروب الأفاويه والعطر مثل القرنفل والقاقلة والسنبل والهرنوة والجوزبوا وفيها جبال فيها معادن ذهب عجيب بالغ الطيب وهو أفضل ذهب يكون ببلاد الصين ولأهل هذه الجزيرة بيوت وقصور يتخذونها على الخشب على مراكب تعوم على وجه الماء وهم ينقلونها حيث أرادوا ولهم أرحاء تدور بالرياح وفيها يطحنون الأرز والحنطة وسائر ما يتخذونه لمعايشهم.
ومن جزيرة المايد في الشرق إلى جزيرة صنجى مسير ثلاثة أيام خفاف وهي جزيرة عامرة فيها خصب ومياه عذبة وأهلها ألوانهم بين البياض والسمرة يحملون في آذانهم أقراط النحاس للرجل قرط واحد وللمرأة قرطان وأكلهم الأرز والقصب كثير عندهم والنارجيل وفي بلادهم معادن الذهب المذكورة في الكثرة والجودة وبهذه الجزيرة أيضاً أصنام عدة على ضفة البحر كل صنم منها رافع يده اليمنى كأنه يشير إلى الناظر إليه أن ارجع إلى حيث جئت فليس خلفي أرض تسير إليها ومن هذه الجزيرة يسار إلى جزائر السيلا وهي كثيرة متقاربة بعضها من بعض وفيها مدينة تسمى الكيوه من دخلها من المسافرين استوطنها ولم يرد الخروج عنها لطيب ثراها وكثرة خيرها والذهب بها كثير جداً حتى أن أهلها يتخذون سلاسل كلابهم وأطواق قرودهم من الذهب ويأتون بالقمص المنسوجة فيبيعونها وكذلك في جزائر الواق واق مثل ذلك أعني من الذهب الكثير وإن التجار يدخلون إليها مع الطلاب ويسبكون الذهب فيها ويخرجونه من هناك مسبوكاً وقد يخرجون ترابه فيذيبونه في بلادهم على الصنعة المعروفة بينهم وفي جزائر الواق واق الأبنوس الذي لا يفوقه شيء في الجودة.
وأيضاً فإن هذا البحر الصيني مع ما يليه من بحر الصنف وبحر دارلاروى وبحر هركند وبحر عمان يوجد بها المد والجزر وقد حكوا عن بحر عمان وبحر فارس أن المد والجزر يكونان فيهما مرتين في اليوم والليلة وحكى ربانيو البحر الهندي والبحر الصيني أن المد والجزر يكونان مرتين في السنة فمرة يمد في شهور الصيف شرقاً ويجزر ضده البحر الغربي ثم يرجع المد غرباً ستة أشهر وقد ذكر في المد والجزر أقوال كثيرة وجب لنا أن نذكر بعضها بالوجيز من القول مع استيفاء المعنى فأما أرسطوطاليس وأرشميدس فإنهما قالا في ذلك إن المد والجزر يحدثان عن الشمس إذا حركت الريح البحار وموجها فإذا انتهى ذلك إلى البحر المسمى أطلنطيقس وهو البحر المحيط كان عنه المد وإذا صارت هذه الريح في النقصان والسكون كان عنها الجزر وأما ساطوطس فإنه يرى أن علة المد والجزر تكون بامتلاء القمر وزيادته وأن الجزر يكون بنقصانه وهذا كلام يحتاج إلى الزيادة فيه والبيان عما أتى به الفلاسفة مجملاً فنقول إن المد والجزر الذي رأيناه عياناً في بحر الظلمات وهو البحر المحيط بغربي الأندلس وبلاد برطانيه فإن المد يبتدئ فيه في الساعة الثالثة من النهار إلى أول الساعة التاسعة ثم تأخذ في الجزر ست ساعات مع آخر النهار ثم يمد ست ساعات ثم يجزر ست ساعات هكذا يمد في اليوم مرة وفي الليل مرة ويجزر في اليوم مرة وفي الليل مرة أخرى وعلة ذلك أن الريح تهيج هذا البحر في أول الساعة الثالثة من النهار وكلما طلعت الشمس في أفقها كان المد مع زيادة الريح ثم تنقص الريح عند آخر النهار لميل الشمس إلى الغروب فيكون الجزر أيضاً وكذلك الليل أيضاً تهيج الريح في صدره وتركد مع آخره وزيادة الماء في المد يكون في ليلة ثلاث عشرة وليلة أربع عشرة وليلة خمس عشر وليلة ست عشرة ففي هذه الليالي المذكورة يفيض المد فيضاً كثيراً ويصل إلى أمكنة لا يصل إليها إلا إلى مثل تلك الليالي من الشهر الآتي وهذا من آيات الله المبصرة في هذا البحر يراه أهل المغرب مشاهدة لا امتراء فيه ويسمى هذا المد فيضاً.
وكل ما في بحر الهند والصين من المراكب السفرية صغاراً كانت أو كباراً فإنها منشأة من الخشب المحكم نجره وقد حمل أطراف بعضه على بعض وهندم وخرز بالليف وجلفط بالدقيق وشحم البابة والبابة دابة كبيرة تكون في بحر الهند والصين منها ما يكون طوله نحواً من مائة ذراع في عرض عشرين ذراعاً ينبت على سنام ظهرها حجارة صدفية وربما تعرضت للمراكب فكسرتها وحكى أيضاً الربانيون أنهم يرشقونها بالسهام فتتنحى عن طريقهم وذكروا أيضاً أنهم يتصيدون ما صغر منها فيطبخونها في القدور فيذوب جميع لحمها ويعود شحماً مذاباً وهذا الدهن مشهور ببلاد اليمن في عدن وغيرها من المدن الساحلية وفي بلاد فارس وساحل عمان وبحر الهند والصين وهو عمدتهم في سد خروق المراكب بعد خرزها ومن العجايب التي في بحر الهند والصين مما أخبر به تجار الناحية أن في هذا البحر جبال ومضائق تجري معهما المراكب وربما تطاير من البحر إلى المراكب صبيان صغار مثل صبيان الزنج سود طول أحدهم نحو من أربعة أشبار يدورون في المراكب ولا يؤذون أحداً ثم يعودون إلى البحر وهذا عندهم مشهور فإذا رأى هذا أهل المراكب علموا أنها علامة لقدوم الريح التي تسمى ريح الخب وهي ريح خبيثة مخوفة فيستعدون لذلك ويأخذون أهبتهم لقدومها فيخففون الأمتعة عن المراكب ويلقون بها في البحر ويلقون أيضاً بما معهم من السمك والملح حتى لا يتركون منه شيئاً ويقطعون من طول الصواري ذراعين وأكثر مخافة أن تنكسر فتهب الريح المذكورة قولاً وفعلاً في حين هبوبها ويصابرها من قدر الله له بالخلاص حتى ينجو أو يتلف كيف شاء الله له وعندهم علامة أخرى للخلاص إذا قضى الله بذلك وهي أن يرى أهل المركب على صاريهم طائراً ذهبي اللون كأنه شعلة نار ويسمى البهمن فإذا رأوه علموا أنه من علامات التخلص وهذا مما قد أبصر عياناً وتواترت الأخبار عنه حتى لا يقدر على إنكاره وفي بحر الصين دابة تعرف بالغيدة لها جناحان كالقلاعين تشيلهما في الجو وتحمل على المراكب فتقلبها ويكون طول هذه الدابة مائة ذراع أو نحوها وإذا رأى أهل المراكب هذه الدابة ضربوا الخشب بعضها ببعض فتنفر منها تلك الدابة وتخرج لهم عن الطريق وقد قيض الله سبحانه لهذه الدابة سمكة صغيرة تسمى الهيدة فإذا رأتها هذه الدابة الكبيرة نفرت منها ومرت على وجهها فلا تستقر بمكان من البحر ما دامت الهبيدة تتبعها.
وملوك الهند والصين ترغب في ارتفاع ظهور الفيلة وتزيد في أثمانها الذهب الكثير وأرفعه تسعة أذرع إلا فيلة الأخوار فإنها عشرة أذرع وأحد عشر ذراعاً وأعظم ملوك الهند بلهرا وتفسير هذا الاسم ملك الملوك ويتلوه الكمكم وبلاده بلاد الساج وبعده ملك الطافن وبعده ملك جابة وبعده ملك الجرز وبعده غابة وبعده دهمى ويحكى أن له خمسين ألف فيل وله الثياب المخملة ومن بلده العود الهندي ثم يتلوه الملك المسمى قامرون ويتصل ملكه بالصين.
وأهل الهند سبعة أجناس أحدها الساكهرية وهم الأشراف منهم والملك يكون فيهم ولا يكون في غيرهم وجميع الأجناس يسجدون لهم عند اللقاء وهم لا يسجدون لأحد ثم البراهمة وهم عباد الهند ولباسهم جلود النمور أو غيرها من الجلود وربما وقف الرجل منهم وبيده عصا ويجتمع إليه الناس فيقف على رجليه يوماً إلى الليل يخطب عليهم ويذكرهم الله عز وجل ويصف لهم أمور من هلك من سائر الأمم الماضية وهؤلاء البراهمة لا يشربون الخمر ولا شيئاً من الأنبذة وعبادتهم الأصنام على جهة التوسط إلى الله تعالى وبعدهم الجنس الثالث وهم الكسترية يشربون من الخمر ثلاثة أقداح فقط ولا يسرفون في شربها مخافة أن يفارقوا عقولهم وهذه الطبقة يتزوجون في البراهمة والبراهمة لا تتزوج فيهم وبعد هؤلاء الشوذرية وهم الفلاحون وأصحاب الزراعات وبعدهم الفسية وهم أصحاب الصناعات والمهن ومنهم السندالية وهم أصحاب اللحون في نسائهم جمال مشهور ومنهم الركية وهم سمر أصحاب لهو ولعب ومعازف وأنواع من الآلات.
ومذاهب أكثر أهل الهند اثنتان وأربعون ملة فمنهم من يثبت الخالق والرسل ومنهم من يثبت الخالق وينفي الرسل ومنهم ينفي الكل ومنهم من يتوسط بالأحجار المنحوتة ومنهم من يتوسط بالأحجار المكدسة يصب عليها الدهن والشحم ويسجد لها ومنهم من يعبد النار ويحرق نفسه بها ومنهم من يعبد الشمس ويسجد لها ويعتقد أنها الخالقة المدبرة للعالم ومنهم من يعبد الشجر ومنهم من يعبد الثعابين يحوطونها بحظائر ويطعمونما أرزاقاً مقدرة وهم يتوسلون بها ومنهم من لا يتعب نفسه بعبادة ولا غيرهما وينكر الكل وسنذكر أمور الهندية: وحداً فواحداً بعد هذا بيمن الله وتسديده.
ولما تكلمنا على هذا الجزء بره وبحره وجزائره وجئنا من ذلك بما تيسر للذكر رأينا أن نكمل القول فيما بقي من مراقي الصين التي على الساحل حسب ما تقدم رسمه قبل هذا بعون الله تعالى فأول مراقي الصين كما قدمناه مدينة خانفو وهي المرقى الأعظم وهي على خور يصعد فيه إلى كثير من بلاد البغبوغ وهو ملك الصين بأسره لا ملك فوقه بل كل ملوك ذلك المكان تحت طاعته والذكر له ومن مدينة خانفو إلى مدينة خانكو وهي مدينة جليلة بديعة البناء بهجة الأسواق حسنة البساتين والرياضات كثيرة الفواكه ويصنع بها الغضار الصيني وثياب الحرير وبالجملة إن فيها جميع ما في مدينة خانفو وهي على خور كبير يحيط بها ويصعد في هذا الخور إلى عدة من بلاد الصين كما قلناه أيضاً وفيما يذكر أن في الصين ثلاث مائة مدينة كلها عامرة وفيها عدة ملوك لكنهم تحت طاعة البغبوغ والبغبوغ يقال له ملك الملوك كما قدمنا ذكره وهو ملك حسن السيرة عادل في رعيته رفيع في همته قادر في سلطانه مصيب في آرائه حازم في اجتهاده شهم في إرادته لطيف في حكمته حليم في حكمه وهاب في عطائه ناظر في الأمور القريبة والبعيدة بصير بالعواقب تصل أمور عبيده المستضعفين إليه من غير منع ولا توسط من ذلك أن له في قصره مجلساً قد اتقن بنيانه وأحكم سمكه وأبدعت محاسنه له فيه كرسي ذهب يجلس فيه ووزراؤه حوله في كل جمعة مرتيين وعلى أعلى رأسه جرس معلق تمتد منه سلسلة ذهب إلى خارج القصر مهندمة الوضع ويتصل طرف السلسلة إلى أسفل القصر فإذا جاء المظلوم بكتاب مظلمته جاء إلى طرف السلسلة فاجتذبها فيتحرك الجرس فيخرج وزير الملك يده من الطاق وذلك علامة يفهم بها أنه يقول له اصعد إلينا فيصعد المظلوم هناك إلى المجلس على درج مختص بصعود المظلومين عليه حتى يقف بين يدي الملك فيسجد المظلوم ثم يقف فيمد الملك يده إلى المظلوم ويأخذ الكتاب منه وينظر فيه ثم يدفعه إلى وزرائه ويحكم له بما يجب الحكم به بما يقتضيه مذهبه وشرعه من غير تسويف ولا تطويل ولا وساطة وزير ولا حاجب ومع ذلك فإنه مجتهد في دينه مقيم لشريعته ديان محافظ كثير الصدقة على الضعفاء ودينه عبادة البدود وبين مذهبه ومذهب الهندية انحراف يسير وأهل الهند والصين كلهم لا ينكرون الخالق ويثبتونه بحكمته وصنعته الأزلية ولا يقولون بالرسل ولا بالكتب وفي كل حال لا يفارقون العدل والإنصاف.
وأهل الإقليم الأول كلهم حمر أو سود فأما أهل الهند والسند والصين وكل من احتضن منهم البحر فألوانهم سمر وأما أهل الصحارى من الزنج والحبشة والنوبة وسائر السودان الذين سبق ذكرهم فلقلة الرطوبة البحرية وتوالي إحراق الشمس لهم وممرها عليهم دائماً تفلفلت شعورهم واسودت ألوانهم وأنتنت أعراقهم وتقشفت جلود أقدامهم وتشوهت خلقهم وقلت معارفهم وفسدت أذهانهم فهم في نهاية الجهالة واقعون وإليها ينسبون وقلما أبصر منهم عالم أو نبيل وإنما يكتسب ملوكهم السياسة والعدل بالتعليم من أقوام يصلون إليهم من أهل الإقليم الرابع أو الثالث ممن قرأ السير وأخبار الملوك وقصصها.
وفي هذا الإقليم الأول من الحيوانات التي لا توجد بغيره من الأقاليم الستة الباقية الفيلة والكركدنات والزرائف والقردة ذوات الأذناب والبقر والجواميس التي لا أذناب لها والنسانس وهم صنف من الخلق وقد تقدم ذكرهم قبل هذا وأنهم يتعلقون بالشجر فلا يلحقون والثعابين الرانجية التي ذكرها ابن خرداذبه وحكاها صاحب كتاب العجائب وأخبر أيضاً عنها جماعة من المؤلفين والكل منهم باتفاق يقولون إن في جبال جزيرة الرانج ثعابين تلتقم الفيل والجاموس ولا يفوتها إذا ظفرت به.
وبهذا الإقليم أيضاً معدن الزمرد ولا يوجد على الأرض إلا في المعدن المذكور قبل هذا والياقوت بأنواعه لا يوجد إلا بجزيرة سرنديب وكذلك الدابة التي في بحر اليمن وبحر هركند المسماة بالبابة لا توجد إلا في هذا البحر دون غيره وكذلك الدابة المسماة بالغيدة لا تكون إلا في هذا البحر وسمكة الغرا توجد به كثيراً وأيضاً السمكة المسماة سقنقورا لا تكون إلا في هذا النيل من هذا الإقليم لا في غيره وفي هذا الإقليم من الطيب القرنفل والصندل والكافور والعود وكل هذه لا يوجد شيء منها في سائر الأقاليم ولا يكون إلا في هذا الإقليم بعينه والليل والنهار فيه متكافيان في حال الاعتدال متساويان في تقدير الساعات وإن كان في آخره من جهة العرض نقص يسير فلا يتبين ذلك إلا عن بحث وعناء كل ذلك قسمة حكيم وتدبير خلاق عليم وفيما ذكرناه من الأخبار من هذا الإقليم الأول بلغة وكفاية لأهل الطلب والعناية والحمد لله أولاً وآخراً لا رب غيره ولا معبود سواه ولا مرجو إلا هو. نجز الجزء العاشر من الإقليم الأول والحمد لله ويتلوه الجزء الأول من الإقليم الثاني إن شاء الله.
=================================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق