دغاء الوعيد

وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد في أمري كله

Translate

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2024

كتاب ابن سينا – النجاة

 

كتاب النجاة الشيخ الرئيس ابن سينا 

 تقديم موقع الفلسفة الإسلامية

  الفهرست

  القسم الأول : في المنطق

  فصل في التصور والتصديق وطريق كل منهما

  كل معرفة وعلم

  فصل في الألفاظ المفردة فصل في اللفظ المفرد الجزئي فصل في المقول في جواب ما هو فصل في المقول في جواب أي شيء هو فصل في النوعفصل في الخاصة فصل في الأسم فصل في الحملية فصل في الشرطية المنفصلة فصل في المحصورة فصل في السور فصل في المعدولة والبسيطة فصل في القضية العدمية فصل في الممكن وتحقيقه فصل في الواجب والممتنع فصل في المقدمة والحد فصل في الممكنات فصل في القضيتين المتقابلتين فصل في عكس المطلقات فصل في عكس الممكنات فصل في القياس فصل في أجزاء القياسات الاقترانية وأشكالها فصل في التأليف من الضروريات فصل في اختلاط المطلق والضروري في الشكل الأول فصل في اختلاطهما في الشكل الثالث فصل في اختلاط الممكن والمطلق في الشكل الأول فصل في اختلاط الممكن والضروري في الشكل الأول فصل في الممكنتين في الشكل الثاني فصل في اختلاط الممكن والضروري في الشكل الثاني فصل في اختلاط الممكن والضروري في الشكل الثالث فصل في القياسات الاقترانية من المتصلات فصل في القياسات الاقترانية من المنفصلات فصل في القياس الاستثنائي فصل في القياسات المركبة فصل في اكتساب المقدمات فصل في استقرار النتائج التابعة للمطلوب الأول فصل في قياس الدور فصل في عكس القياس فصل في القياس الذي من مقدمات متقابلة فصل في بيان أن الشيء كيف يعلم ويجهل معاً فصل في التمثيل فصل في الدليل فصل في التصور والتصديق فصل في المتواترات فصل في المظنونات فصل في الأوليات فصل في برهان الأن فصل في مطلب هل فصل في مطلب لم فصل في معنى الأي فصل في مقدمات البراهين فصل في المقدمة الأولية فصل في المناسب فصل في الموضوعات فصل في الأصول التي تعلم أولاً قبل البراهين فصل في المقدمات فصل في اشتراك العلوم في المسائل فصل في الاتفاقيات فصل في أن الحد لا يكتسب من البرهان ولا القسمة ولا حد ضد المحدود ولا الاستقراء فصل في طريق اكتساب الحد فصل في الأجناس العشرة فصل في أقسام معنى الحد فصل في دفع توهم الدور المحال من ترتب في الطبيعة يوهم ذلك فصل في بيان وجوه الغلط في الأقوال الشارحة فصل في المغلطات في القياس القسم الثاني في الطبيعيات المقالة الأولى من طبيعيات كتاب النجاة فصل في المبادئ التي يتقلدها الطبيعي ويبرهن عليها الناظر في العلم الآلهي فصل في تجوهر الأجسام المقالة الثانية من الطبيعيات: في لواحق الأجسام الطبيعية فصل في أن لكل متحرك علة محركة غيره فصل في أنه لا يجوز أن يتحرك الشيء بالطبيعة

  فصل في أنه لا يمكن أن تكون حركة مكانية غير متجزئة... فصل في الحركة الواحدة فصل في المكان فصل في النهاية واللانهاية فصل في عدم إمكان وجود قوة غير متناهية بحسب الشدة فصل في عدم قبول القوة الغير المتناهية بحسب العدة للانقسام والتجزى المقالة الثالثة: في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام فصل في أن لكل جسم طبيعي حيزاً طبيعياً فصل في أن الأمكنة الأولى هي أمكنة البسائط فصل في أن العالم واحد وأنه لا يمكن التعدد فصل في إثبات أن الحركة المبدعة واحدة بالعدد ومستديرة المقالة الرابعة في الاشارة إلى الأجسام الأولى... فصل في فسخ ظنون قيلت في هذا الموضع ... فصل في التخلخل والمكاثف فصل في بيان آثار للحرارة والبرودة في الأجسام المقالة الخامسة: في المركبات الناقصة والمعادن المقالة السادسة في النفس فصل في النفس الناطقة فصل في الفرق بين إدراك الحس وإدراك التخيل وإدراك الوهم وإدراك العقل فصل في أنه لا شيء من المدرك للجزئي بمجرد ولا من المدرك للكلي بمادي فصل في تفصيل الكلام على تجرد الجوهر الذي هو محل المعقولات فصل في إن تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية فصل في إعانة القوى الحيوانية للنفس الناطقة فصل في أن النفس لا تموت بموت البدن ولا تقبل الفساد فصل في بطلان القول بالتناسخ فصل في وحدة النفس فصل في الاستدلال بأحوال النفس الناطقة على وجود العقل الفعال وشرحه بوجه ما فصل في مساوقة الواحد للموجود فصل في بيان الأعراض الذاتية... فصل في بيان أقسام الموجود فصل في إثبات المادة وبيان ماهية الصورة الجسمية فصل في أن الصورة الجسمية مقارنة للمادة في جميع الأجسام عموماً فصل في أن الصورة الجسمية مقارنة للمادة في جميع الأجسام عموماً فصل في أن المادة لا تتجرد عن الصورة فصل في إثبات التخلخل والتكاثف فصل في ترتيب الموجودات فصل في أن الوحدة من لوازم الماهيات لا من مقوماتها... فصل في أن الكيفيات المحسوسة أعراض لا جواهر فصل في أقسام العلل وأحوالها والمبدأ فصل في إن علة الحاجة إلى الواجب هي الامكان لا الحدوث على ما يتوهمه ضعفاء المتكلمين فصل في القديم والحادث فصل في أن كل حادث زماني فهو مسبوق بالمادة لا محالة فصل في تحقيق معنى الكلي فصل في التام والناقص فصل في بيان الحدوث الذاتي فصل في أنواع الواحد والكثير فصل في أن الواجب بذاته لا يجوز أن يكون واجباً بغيره وأن الواجب بغيره ممكن فصل في بساطة الواجب فصل في أن الواجب تام وليس له حالة منتظرة فصل في أن الواجب حق بكل معاني الحقية فصل في أنه واحد من وجود شتى فصل في اثبات واجب الوجود فصل في أنه لا يمكن أن يكون الممكنات في الوجود بعضها علة لبعض فصل آخر في التجرد لإثبات واجب الوجود... فصل في إثبات انتهاء مبادئ الكائنات إلى العلل المحركة لحركة مستديرة فصل في أن واجب الوجود بذاته عقل وعاقل ومعقول فصل في أنه بذاته معشوق وعاشق ولذيذ وملتذ وأن اللذة هي إدراك الخير الملائم فصل في أن واجب الوجود بذاته كيف يعقل ذاته والأشياء... فصل في أن واجب الوجود كيف يعقل الأشياء فصل في تحقيق وحدانية الأول... فصل في صدور الأشياء عن المدبر الأول فصل في إثبات دوام الحركة بقول مجمل ثم بعده بقول مفصل فصل في أن ذلك يقع لانتظار وقت ولا يكون وقت أولى من وقت فصل في أنه يلزم على قول المخالفين أن يكون الله تعالى سابقاً على الزمان والحركة بزمان فصل في أن المخالفين يلزمهم أن يضعوا وقتاً قبل وقت بلا نهاية وزماناً ممتداً في الماضي بلا نهاية وهو بيان جدلي إذا استقصى مال إلى البرهان فصل في أن الفاعل القريب للحركة الأولى نفس فصل في أن حركة السماء مع أنها نفسانية كيف يقال إنها طبيعية فصل في أن المحرك الأول كيف يحرك وأنه محرك على سبيل التشويق إلى الاقتداء بأمره الأولى لاكتساب تشبه بالعقل فصل في أن لكل فلك جزئي محركاً أولاً مفارقاً قبل نفسه يحرك على أنه معشوق فإن المحرك الأول للكل مبدأ لجميع ذلك فصل في أن المعشوقات التي ذكرنا ليست أجساماً فصل في طريق ثالث للبرهنة على العقول المفارقة فصل في حال تكون الأسطقسات عن العلل الأول فصل في العناية وبيان دخول الشر في القضاء الإلهي فصل في معاد الأنفس الإنسانية فصل في المبدأ والمعاد بقول مجمل وفي الإلهامات والدعوات المستجابة والعقوبات السماوية وسائر الأحوال - ومنها الكلام على التنجيم - ومنها الكلام على القضاء والقدر الصفحة : 1 بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر أما بعد حمد الله والثناء عليه بما هو أهله والصلاة والسلام على أنبيائه الذين هم عبيده ورسله وعلى سائر خاصته الذين نالهم من كرمه أفضله وأجله وأغرقهم إحسانه وجوده وفيضه وفضله. فإن طائفة من الإخوان الذين لهم حرص على اقتباس المعارف الحكمية سألوني أن أجمع لهم كتاباً يشتمل على ما لا بد من معرفته لمن يؤثر أن يتميز عن العامة وينحاز إلى الخاصة ويكون له بالأصول الحكمية إحاطة وسألوني أن أبدأ فيه بإفادة الأصول من علم المنطق ثم أتلوها بمثلها من علم الطبيعيات ثم أورد من علمي الهندسة والحساب ما لا بد منه لمعرفة القدر الذي يقرن بالبراهين على الرياضيات وأورد بعده من علم الهيئة ما يعرف به حال الحركات والأجرام والأبعاد والمدارات والأطوال والعروض دون الأصول التي يحتاج إليها في التقاويم وما تشتمل عليه الزيجات مثل أحوال المطالع والزوايا وتقويم المسير بحسب تاريخ تاريخ إلى غير ذلك وأن أختم الرياضيات بعلم الموسيقى ثم أورد العلم الآلهي على أبين وجه وأوجزه وأذكر فيه حال المعاد وحال الأخلاق والأفعال النافعة فيه لدرك النجاة من الغرق في بحر الضلالات فأسعفتهم بذلك وصنفت الكتاب على نحو ملتمسهم مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه فبدأت بإيراد الكفاية من صناعة المنطق لأنه الآلة العاصمة للذهن عن الخطأ فيما نتصوره ونصدق به والموصلة إلى الاعتقاد الحق بإعطاء أسبابه ونهج سبله. القسم الأول في المنطق فصل في التصور والتصديق وطريق كل منهما كل معرفة وعلم فإما تصور وإما تصديق والتصور هو العلم الأول ويكتسب بالحد وما يجري مجراه مثل تصورنا ماهية الإنسان والتصديق إنما ويكتسب بالقياس أو ما يجرى مجراه مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ فالحد والقياس آلتان بهما تكتسب المعلومات التي تكون مجهولة فتصير معلومة بالرؤية وكل واحد منهما - منه ما هو حقيقي - ومنه ما هو دون الحقيقي ولكنه نافع منفعة ما بحسبه - ومنه ما هو باطل مشبه بالحقيقي والفطرة الإنسانية في الأكثر غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف ولولا ذلك لما وقع بين العقلاء اختلاف ولا وقع لواحد منهم في رأيه الصفحة : 2 تناقض وكل واحد من القياس والحد فإنه معمول ومؤلف من معان معقولة بتأليف محدود فيكون لكل واحد منهما مادة منها ألف وصورة بها يتم التأليف وكما أنه ليس عن أي مادة اتفقت يصلح أن يتخذ بيت أو كرسي ولا بأي صورة اتفقت يمكن أن يتم من مادة البيت بيت ومن مادة الكرسي كرسي بل لكل شيء مادة تخصه وصورة بعينها تخصه كذلك لكل معلوم علم بالرؤية مادة تخصه وصورة تخصه منهما يصار إلى تحققه وكما أن الفساد في اتخاذ البيت قد يقع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحة وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحة وقد يقع من جهتيها جميعاً - كذلك الفساد في الرؤية قد يقع من جهة المادة وإن كانت الصورة صحيحة وقد يقع من جهة الصورة وإن كانت المادة صالحة وقد يقع من جهتهما جميعاً. فصل في منفعة المنطق فالمنطق هو الصناعة النظرية التي تعرف أنه من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حداً والقياس الصحيح الذي يسمى بالحقيقة برهاناً وتعرف أنه عن أي الصور والمواد يكون الحد الإقناعي الذي يسمى رسماً وعن أي الصور والمواد يكون القياس الإقناعي الذي يسمى ماقوى منه وأوقع تصديقاً شبيهاً باليقين جدلياً وما ضعف منه وأوقع ظناً غالباً خطابياً وتعرف أنه عن أي صورة ومادة يكون الحد الفاسد وعن أي صورة ومادة يكون القياس الفاسد الذي يسمى مغالطياً وسوفسطائياً وهو الذي يتراءى أنه برهاني أو جدلي ولا يكون كذلك وإنه عن أي صورة ومادة يكون القياس الذي لا يوقع تصديقاً البتة ولكن تخييلاً يرغب النفس في شيء أو ينفرها ويقززها أو يبسطها أو يقبضها وهو القياس الشعري فهذه فائدة صناعة المنطق ونسبتها إلى الروية نسبة النحو إلى الكلام والعروض إلى الشعر لكن الفطرة السليمة والذوق السليم ربما أغنيا عن تعلم النحو والعروض وليس شيء من الفطر الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم بإعداد هذه الآلة إلا أن كون إنساناً مؤيداً من عند الله تعالى. الصفحة : 3 فصل في الألفاظ المفردة لما كانت المخاطبات النظرية بألفاظ مؤلفة والأفكار العقلية من أقوال عقلية مؤلفة وكان المفرد قبل المؤلف وجب أن نتكلم أولاً في اللفظ المفرد فنقول إن اللفظ المفرد هو الذي يدل على معنى ولا جزء من أجزائه يدل بالذات على جزء من أجزاء ذلك المعنى مثل قولنا الإنسان فإنه يدل به على معنى لا محالة وجزآه وليكونا الإن والسان إما أن لا يدل بهما على معنى لا محالة أو أن يدل على معنيين ليسا جزئي معنى الانسان وإن اتفق أن كان الإن مثلاً يدل على النفس والسان يدل على البدن فليس يقصد بإن وسان في جملة قولنا الإنسان الدلالة بهما فيكونان كأنهما لا يدلان أصلاً إذا أخذا جزئي قولنا الإنسان. فصل في اللفظ المركب وأما اللفظ المركب أو المؤلف فهو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم مسموعه ومن معانيها يلتئم معنى الجملة كقولنا الإنسان يمشي أو رامي الحجارة. فصل في اللفظ المفرد الكلي واللفظ المفرد الكلي هو الذي يدل على كثيرين بمعنى واحد متفق أما كثيرين في الوجود كالإنسان أو كثيرين في جواز التوهم كالشمس وبالجملة الكلى هو اللفظ الذي لا يمنع مفهومه أن يشترك في معناه كثيرون فإن منع من ذلك شيء فهو غير نفس مفهومة. الصفحة : 4 فصل في اللفظ المفرد الجزئي واللفظ المفرد الجزئي هو الذي لا يمكن أن يكون معناه الواحد لا بالوجود ولا بحسب التوهم لأشياء فوق واحد بل يمنع نفس مفهومه من ذلك كقولنا زيد لمشار إليه فإن معنى زيد إذا أخذ معنى واحداً هو ذات زيد الواحدة فهو لا في الوجود ولا في التوهم يمكن أن يكون لغير ذات زيد الواحدة إذ الاشارة تمنع من ذلك فإنك إذا قلت هذه الشمس أو هذا الإنسان يمنع من أن يشترك فيه غير الإشارة. فصل في الذاتي ولنترك الجزئي ولنشتغل بالكلي وكل كلي فإما ذاتي وإما عرضي والذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه ولا يكفي في تعريف الذاتي أن يقال إن معناه ما لا يفارق فكثير مما ليس بذاتي لا يفارق ولا يكفي أن يقال إن معناه ما لا يفارق في الوجود ولا تصح مفارقته في التوهم حتى إن رفع في التوهم يبطل به الموصوف في الوجود فكثير مما ليس بذاتي هو بهذه الصفة مثل كون الزوايا من المثلث مساوية لقائمتين فإنه صفة لكل مثلث ولا يفارق في الوجود ولا يرتفع في الوهم حتى يقال إنا لو رفعناه وهما لم يجب أن نحكم أن المثلث غير موجود وليس بذاتي ولا أيضاً أن يكون وجوده للموصوف به مع ملازمته بينا فإن كثيراً من لوازم الشيء التي تلزمه بعد تقرير ماهيته تكون بينة اللزوم له بل الذاتي ما إذا فهم معناه وأخطر بالبال وفهم معنى ما هو ذاتي له وأخطر بالبال معه لم يمكن أن يفهم ذات الموصوف إلا أن يكون قد فهم له ذلك المعنى أولاً كالإنسان والحيوان فإنك إذا فهمت ما الحيوان وفهمت ما الإنسان فلا تفهم الإنسان إلا وقد فهمت أولاً أنه حيوان وأما ما ليس بذاتي فقد تفهم ذات الموصوف مجرداً دونه فإذا فهم فربما لزمه أن يفهم وجوده له كالمحاذاة للنقطة أو يفهم ببحث ونظر كتساوي الزوايا القائمتين في المثلث أو يكون جائزاً أن يرفع توهماً وإن لم يرتفع وجوداً كالسواد للإنسان الزنجي أو يرتفع وجوداً وتوهماً معاً مثل الشباب فيما يبطي زواله والقعود فيما يسرع زواله. وأما العرضي فهو كل ما عددناه مما ليس بذاتي وقد يغلط فيه فيظن أنه العرض الذي هو المقابل للجوهر الذين سنذكرهما بعد وليس كذلك فإن العرضي قد يكون جوهراً كالأبيض والعرض لا يكون جوهراً كالبياض. الصفحة : 5 فصل في المقول في جواب ما هو ثم من الذاتي ما هو مقول في جواب ما هو ومنه ما ليس بمقول والذاتي المقول في جواب ما هو مشكل ويكاد أكثر الشروح تغفل عن تحقيقه ويكاد أن يرجع ما يراه الظاهريون من المنطقيين في المقول في جواب ما هو إلى أنه هو الذاتي لكن الذاتي أعم منه وتحقيقه بحسب ما انتهى إليه بحثنا إن الشيء الواحد قد تكون له أوصاف كثيرة كلها ذاتية لكنه إنما هو ما هو لا بواحد منها بل بجملتها فليس الإنسان إنساناً بأنه حيوان أو مائت أو شيء آخر بل بأنه مع حيوانيته ناطق فإذا وضع لفظ مفرد يتضمن " لست أقول يلتزم " جميع المعاني الذاتية التي بها يتقوم الشيء فذلك الشيء مقول في جواب ما هو مثل قولنا الإنسان لزيد وعمر فإنه يشتمل على كل معنى مفرد ذاتي له مثل الجوهرية والتجسم والتغذي والنمو والقولية وقوة الحس والحركة والنطق وغير ذلك فلا يشذ عنه مما هو ذاتي لزيد شيء وكذلك الحيوان لا للإنسان وحده لكن للأنسان والفرس والثور وغيرها ذلك بحال الشركة فإنه يشتمل على جميع الأوصاف الذاتية التي لها بالشركة وإنما يشذ منه ما يخص واحداً واحداً منها فالمقول في جواب ما هو هكذا يكون وأما الداخل في جواب ما هو فهو كل ذاتي. الصفحة : 6 فصل في المقول في جواب أي شيء هو أما في المقول في جواب أي شيء هو فهو الذي يدل على معنى يتميز به الشيء عن أشياء مشتركة في معنى واحد فمنه عرضي مثل الأبيض الذي يميز الثلج عن القار وهما جسمان جماديان: ومنه ذاتي مثل الناطق الذي يميز الأنسان عن الفرس وهما حيوانان وقد اصطلح قوم على أن يسموا هذا الذاتي مقولاً في جواب أيما هو فيكون المقول في جواب أيما هو بحسب إصطلاحهم هو المميز بعد ماهية مشتر تمييزاً ذاتياً مثل الناطق للانسان بعد الحيوان دون البياض للثلج. فصل في الألفاظ الخمسة والألفاظ الكلية خمسة جنس - ونوع - وفصل - وخاصة - وعرض عام. فصل في الجنس الجنس هو المقول على كثيرين مختلفين بالأنواع في جواب ما هو وقولنا مختلفين بالأنواع أي بالصور والحقائق الذاتية وأن لم يعرف بعد النوع الذي هو مضاف إلى الجنس. وقولنا في جواب ما هو أي قولاً يحال بحال الشركة لابحال الأنفراد كالحيوان للأنسان والفرس لا كالحساس للأنسان والفرس فإن الحساس لا يدل على كمال ماهية مشتركة للانسان والفرس وإن كان يدل على معنى ما ذاتي وهو كونه ذا حس وتخلى عن المتحرك بالإرادة وعن النامي وعن المغتذي وغير ذلك إلا على سبيل الالتزام لا على سبيل التضمن وفرق بين الألتزام والتضمن فإن السقف يلتزم الحائط ولا يتضمنه. والبيت يلتزم الحائط ويتضمنه فيجب إذا حددت الجنس أن تحده بما لا يشاركه فيه فصل الجنس وإذا حددت الجنس أن لا تديره على النوع ولا تشتغل بما يقوله " فرفوريوس " الصفحة : 7 فصل في النوع وأما النوع فهو الكلي الذاتي الذي يقال على كثيرين في جواب ما هو ويقال أيضاً عليه وعلى غيره آخر في جواب ما هو بالشركة مثل الحيوان الذي هو نوع من الجسم فإنه يقال على الانسان والفرس في جواب ما هو بالشركة ويقال الجسم عليه وعلى غيره أيضاً بالشركة في جواب ما هو وقد يكون الشيء جنساً لأنواع ونوعاً لجنس مثل الحيوان للجسم ذي النفس فإنه نوعه وللانسان والفرس فإنه جنسهما لكنه ينتهي الأرتقاء إلى جنس لا جنس فوقه ويسمى جنس الأجناس وينتهي الانحطاط إلى نوع لا نوع تحته ويسمى نوع الأنواع ويرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب ما هو كالانسان لزيد وعمرو والفرس لهذه الفرس وتلك. فصل في الفصل وأما الفصل فهو الكلي الذاتي الذي يقال على نوع تحت جنس في جواب أي شيء هو منه كالناطق للانسان فيه يجاب حين يسأل أنه أي حيوان هو - والفرق بين الناطق والانسان أن الانسان حيوان له نطق والناطق شيء مالم يعلم أي شيء هو له نطق والنطق فصل مفرد والناطق مركب وهو الفصل المنطقي. الصفحة : 8 فصل في الخاصة وأما الخاصة فهي الكلي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو لا بالذات بل بالعرض أما نوع هو جنس كتساوي الزوايا من المثلث لقاثمتين فإنه خاصة للمثلث وهو جنس وأما نوع ليس هو بجنس مثل الضاحك للإنسان وهو خاصة ملازمة مساوية ومثل الكتابة وهو خاصة غير ملازمة ولا مساوية بل أخص. وأما العرض العام فهو كل كلي مفرد عرضي أي غير ذاتي يشترك في معناه أنواع كثيرون كالبياض للثلج والققنس ولا تبال بأن يكون ملازماً أو مفارقاً لكل واحد من النوع أو للبعض جوهراً كان في نفسه - كالأبيض أو عرضاً كالبياض بعد أن لا يكون مقوماً للماهية. فإن وقوع العرض على هذا وعلى الذي هو قسم الجوهر في الوجود وقوع بمعنيين مختلفين فصل في الأعيان والأوهام والألفاظ والكتابات ألشيء إما عين موجود وإما صورة موجودة في الوهم أو العقل مأخوذة عنهما ولا يختلفان في النواحي والأمم وإما لفظة تدل على الصورة التي في الوهم أو العقل معبرة وإما كتابة دالة على اللفظ ويختلفان في الأمم فالكتابة دالة على اللفظ واللفظ دال على الصورة الوهمية أو العقلية وتلك الصورة دالة على الأعيان الموجودة. الصفحة : 9 فصل في الأسم والأسم لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى من الأزمنة الثلاثة كقولنا زيد - فمنه محصل كقولنا زيد - ومنه غير محصل قرن فيه لفظ السلب بشيء هو اسم محصل وجعل مجموعهما إسماً دالاً على ما خالف معنى المحصل كقولنا لاانسان للانسان فصل في الكلمة والكلمة لفظ مفردة تدل على معنى وعلى الزمان الذي كان ذلك المعنى موجوداً فيه لموضوع ما غير معين كقولنا مشى فإنه يدل على مشى لماش غير معين في زمان قد مضى. فصل في الأداة وأما الأداة فهي لفظة مفردة إنما تدل على أمر لمعنى يصح أن يوضع أو يحمل بعد أن يقرن باسم أو كلمة كقولنا في وعلى. فصل في القول والقول كل لفظ مركب وقد عرفناه قبل. فصل في القضية والقضية والخبر هو كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب. الصفحة : 10 فصل في الحملية والحملية هي التي توقع هذه النسبة بين شيئين ليس في كل واحد منهما هذه النسبة إلا بحيث يمكن أن يدل على كل واحد منهما بلفظ مفرد كقولنا الانسان حيوان أو قولنا الحيوان الضاحك ينتقل من مكان إلى مكان بوضع قدم ورفع أخرى فكأنك قلت الانسان يمشي أو قولك فلان كثير علمه فإن قولك كثير علمه معادل لقولك فيلسوف. فصل في الشرطية والشرطية هي التي توقع هذه النسبة بين شيئين فيهما هذه النسبة من حيث هي مفصلة كقولنا إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود فإنك إن فصلت هذه النسبة انحل إلى قولك الشمس طالعة وإلى قولك النهار موجود وكل واحد منهما قضية - وكذلك إذا قلت - إما أن يكون هذا العدد زوجاً - وإما أن يكون هذا العدد فرداً " كأنك قلت العدد زوج والعدد فرد. فصل في الشرطية المتصلة وأما المتصلة من الشرطية فهي التي توجب أو تسلب لزوم قضية لأخرى كما قدمناه من مثال الشرطي. الصفحة : 11 فصل في الشرطية المنفصلة والمنفصلة ما توجب أو تسلب عناد قضية لأخرى كما أخرناه في مثال الشرطي. والايجاب مطلقاً هو إيقاع النسبة وإيجادها. وفي الجملة هو الحكم بوجود مجمول لموضوع. فصل في السلب والسلب مطلقاً هو رفع النسبة الوجودية بين شيئين وفي الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع. فصل في المحمول والمحمول هو المحكوم به أنه موجود أو ليس بموجود لشيء آخر. فصل في الموضوع والموضوع هو الذي يحكم عليه بأن شيئاً آخر موجود أو ليس بموجود له مثال الموضوع قولنا زيد من قولنا زيد الكاتب ومثال المحمول قولنا كاتب من قولنا زيد الكاتب. فصل في المخصوصة والمخصوصة قضية جملية موضوعها شيء جزئي كقولنا زيد كاتب وتكون موجبة وتكون سالبة - ولا تسمى بالشخصية -. والمهملة قضية حملية موضوعها كلي ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه كقولنا الانسان أبيض وتكون موجبة وسالبة وإذا لم يتبين فيها أن الحكم في كل أو في بعض فلا بد أنه في بعض وشك في أنه في الكل أو أهمل ذلك فلذلك كان حكم المهملة حكم الجزئي نذكره. الصفحة : 12 فصل في المحصورة والمحصورة هي التي موضوعها كلي والحكم عليه مبين أنه في كله أو في بعضه وتكون موجبة وسالبة. فصل في الموجبة الكلية والموجبة الكلية من المحصورات هي التي الحكم فيها إيجاب على كل واحد من الموضوع كقولنا كل إنسان حيوان. فصل في السالبة الكلية والسالبة الكلية هي التي الحكم فيها سلب عن جميع الموضوع كقولنا ليس ولا واحد من الناس بحجر. والموجبة الجزئية هي التي الحكم فيها إيجاب ولكن على بعض من الموضوع كقولنا بعض الناس كاتب. فصل في السالبة الجزئية والسالبة الجزئية هي التي الحكم فيها سلب ولكن عن بعض الموضوع كقولنا ليس بعض الناس بكاتب أو ليس كل إنسان بكاتب بل عسى بعضهم. الصفحة : 13 فصل في السور والسور هو اللفظ الذي دل على مقدار الجصر مثل كل ولا واحد وبعض ولا كل. فصل في مواد القضايا المادة الواجبة هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون دائماً في كل وقت أن يكون الصدق مع الموجب في كل وقت كحالة الحيوان عند الانسان ولا يعتبر السلب - والمادة المتمنعة هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يكون الصدق فيها دائماً مع السلب كحالة الحجر عند الانسان ولا يعتبر الايجاب والمادة الممكنة هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع لا يدوم بها له صدق في إيجاب ولا سلب كحالة الكاتب عند الانسان وقيل إن الممكن هو الذي حكمه غير موجود في وقت ما أي في الحال ثم له حكم في المستقبل يفرد به عماله حكم في الحال بالضرورة. فصل في الثنائي والثلاثي كل قضية حملية فإن أجزاءها الذاتية عند الذهن ثلاثة معنى موضوع ومعنى محمول ومعنى نسبة بينهما - وأما في اللفظ فربما اقتصر على اللفظ الدال على معنى الموضوع واللفظ الدال على معنى المحمول وطويت اللفظة الدالة على معنى النسبة فتسمى نائية كقولنا زيد هو كاتب - وأما الثلاثية فهي التي قد صرح فيها باللفظة الدالة على النسبة كقولنا زيد هو كاتب وتسمى تلك اللفظة رابطة والكلمة ترتبط بذاتها لأنها تدل على موضوع في كل حال فالنسبة متضمنة فيها. الصفحة : 14 فصل في المعدولة والبسيطة القضية البسيطة هي التي موضوعها اسم محصل ومحمولها اسم محصل وأما القضية المعدولة فهي التي موضوعها أو محمولها اسم غير محصل كقولك اللاانسان أبيض أو الانسان لا أبيض - والقضية المعدولة المطلقة في وصفها بالعدول هي التي محمولها كذلك كقولك زيد هو غير بصير فقولنا زيد هو غير بصير قضية موجبة معدولة والفرق بين الموجبة المعدولة كقولنا زيد هو غير بصير وبين السالبة البسيطة كقولنا زيد ليس هو ببصير أما من جهة الصيغة فلأن حرف السلب في المعدولة جزء من المحمول كأنك أخذت الغير والبصير شيئاً واحداً حاصلاً منهما بالتركيب فإن أوجبت تلك الجملة كشيء واحد كان إيجاباً معدولاً وإن سلبت فقلت زيد لس هو غير بصير كان سلباً معدولاً وأما في البسيطة فإن حرف السلب ليس جزأ من المحمول بل شيئاً خارجاً عنه داخلاً عليه رافعاً إياه وأما من جهة التلازم والدلالة فإن السالبة البسيطة أعم منها لأن السلب يصح عن موضوع معدوم والايجاب كان معدولاً أو محصلاً فلا يصح إلا على موضوع موجود فيصح أن تقول إن العتقاء ليس هو بصيراً ولا يصح أن تقول إن العنقاء هو غير بصير وأما ما يقال بعد هذا من الفرق بينهما فلا تلتفت إليه فإن غير بصير يصح إيجابه على كل موجود كان عادماً للبصر ومن شأنه أن يكون له أو ليس من شأنه أن يكون له بل من شأن نوعه أو جنسه أو ليس البتة من شأنه أو شأن محمول عليه أن يكون له بصر والقضية الثنائية لا يتميز فيها العدول عن السلب إلا بأحد وجهين أحدهما من جهة نية القائل مثلاً إذا قال زيد لا بصير فعنى به أن زيداً ليس ببصير كان سلباً وإن عنى أن زيداً هو لابصير كان إيجاباً معدول " والثاني " من جهة تعارف العادة في اللفظ السالب فإنه إن قال زيد غير بصير علم أنه إيجاب لأن غير يستعمل في العدول وليس يستعمل في السلب وأما في الثلاثية فإن الايجاب المعدول متميز عن السلب المحصل من كل جهة لأن الرابطة إن دخلت على حرف السلب ربطت حرف السلب مع المحمول كشيء واحد فأوجبت كقولك زيد هو لا بصير. وإن دخل حرف السلب على الرابطة سلبت كقولك زيد ليس هو بصيراً لأن الرابطة تجعل البصير وحده محمولاً وتترك حرف السلب خارجاً عنه الصفحة : 15 فصل في القضية العدمية والقضية العدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين هذا بحسب المشهور كقولك زيد جائر - أو الهواء مظلم - وأما في التحقيق فهي التي محمولها دال على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء أو لنوعه أو لجنسه. فصل في الجهات الجهات ثلاثة واجب ويدل على دوام الوجود وممتع ويدل على دوام العدم وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم والفرق بين الجهة والمادة أن الجهة لفظة مصرح بها تدل على أحد هذه المعان والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها وربما تخالفا كقولك زيد يمكن أن يكون حيواناً فالمادة واجبة والجهة ممكنة وبينهما فروق أخرى لا تطول بها القضية الرباعية هي التي تذكر فيها مع الموضوع والمحمول رابطة وجهة وإنما تسلب الموجهة الرباعية بأن يدخل حرف السلب على الجهة لا الجهة على السلب فيمكن أن يصدقا كقولك زيد هو يمكن أن يمشي زيد هو يمكن أن لا يمشي أو يكذبا كقولك زيد هو يجب أن يمشي - زيد هو يجب أن لا يمشي - وأيضاً زيد هو يمتنع أن يمشي - زيد يمتنع أن لا يمشي بل مقابل يمكن ليس يمكن ومقابل يجب ليس يجب ومقابل يمتنع ليس يمتنع. الصفحة : 16 فصل في الممكن وتحقيقه وفي الممكن اشتباه إذا ذكرناه وحللناه الحل الشافي ارتفع به كثير من الشبه والأغاليط التي تقع للناس في تناقض ذوات الجهة وتلازمها فنقول إن العامة تفهم من الممكن غير ما تفهمه الخاصة بحسب تواطئهم عليه أما العامة فيعنون بقولهم ممكن ما ليس بممتنع من غير أن يشترطوا فيه أنه واجب أو لا واجب فيكون معنى قولهم ليس بممكن أنه ليس ليس بممتنع فيكون معناه الممتنع فإذاً الممكن العامي هو ليس بممتنع وغير الممكن ما هو ممتنع فكل شيء عندهم إما ممكن وإما ممتنع وليس قسم ثالث فيكون الممكن بحسب هذا الاستعمال مقولاً على الواجب كالجنس له وليس اسماً مرادفاً له بل لأن الواجب غير ممتنع في المعنى وأما الخاصة فإنهم وجدوا معنى ليس بواجب ولا ممتنع ولم يكن عند العامة لهذا المعنى اسم فإن اسم الممكن عندهم كان لمعنى آخر لكنه كان يصح أن يقال لهذا الشيء أنه ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون بحسب الاستعمال العامي أي بمعنى أنه غير ممتنع أن يكون وغير ممتنع أن لا يكون فنقلوا اسم الممكن وجعلوه دالاً على ذاك ووضعوا اسم الممكن دالاً على ما ليس بممتنع - ومع ذلك ليس بواجب وهو الذي هو غير ضروري في أحد الحالين - فهذا المعنى أخص من المعنى الذي تستعمله عليه العامة فيكون الواجب خارجاً من هذا الممكن ويكون قولنا ليس بممكن ليس بمعنى ممتنع بل بعنى ليس غير ضروري بل واجب أو ممتنع فكلاهما ليسا بهذا الممكن إلا أن ضعفاء الرأي إذا قالوا ليس بممكن وهم يستعملون الممكن الخاصي يخيل لهم معنى الممكن العامي فكان ليس بممكن على معنى الممتنع عندهم وكان الواجب خارجاً عن الممكن فتحيروا في ذلك فإن قالوا إن الواجب ممكن خاصي والممكن الخاصي هو الذي يمكن أن لا يكون صار الواجب عندهم ممكناً أن لا يكون وإن قالوا إن الواجب ليس بممكن ويخيل لهم أن غير الممكن ممتنع صار الواجب ممتنعاً ولو أنهم راعوا حدود النظر فأخذوا الممكن في القسمين على وجه واحد لم تلزمهم هذه الحيرة فإنهم إذا أخذوا الممكن بمعنى أنه لا ضرورة في وجوده ولا عدمه فنظروا هل الواجب ممكن وجدوا الواجب خارجاً عن الممكن ووجدوه ليس بممكن وحينئذ لم يلزم أن ما ليس بممكن هو الممتنع لأن الممكن لم يكن ما ليس بممتنع فيكون سلبه الممتنع بل ما لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه فيكون سلبه سلب ما لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه فيكون ما ليس بممكن هو ما ليس بلا ضرورة في وجوده ولا في عدمه فصدق ليس بممكن على الواجب إذ ليس هو بلا الصفحة : 17 ضرورة لا في وجوده ولا في عدمه لأن له ضرورة في الوجود وأيضاً إن أخذوا الغير الممكن بمعنى الممتنع فلم لم يأخذوا الممكن بمعنى غير الممتنع فيصح على الواجب ولا يلزمهم أن يقال فيمنك أن لا يكون - وذلك لأنه لما عنى بالممكن غير الممتنع فليس يجب أن يكون ما يمكن أن يكون ممكناً أن لا يكون فليس يلزم فيما هو غير ممتنع أن يكون غير ممتنع أن لا يكون فيجتمع من هذا أن الواجب يقع في الممكن العامي ولا يقع في الخاصي وأن غير الممكن الخاصي ليس بمعنى الممتنع بل بمعنى الضروري إما في الوجود وإما في العدم وأن الممكن ما ليس بضروري الحكم ومتى فرض حكمه من إيجاب أو سلب موجوداً فيه حتى يقال إن رسم الممكن أنه ما ليس بموجود في الحال وإذا فرض في الاستقبال موجوداً لم يعرض منه محال - وذلك لأنه إن كان السبب المانع عن كونه موجوداً صيرورته واجاً في وجوده فيجب أن يراعى هذا السبب في جانب اللاوجود أيضاً فإنه إن فرض معدوماً في الحال كان في الحال واجباً في لا وجوده كذلك فيكون ممتنعاً لأن واجب العدم هو الممتنع فإن كان الامتناع الحالي لا يضر الممكن فالواجب الحالي لا يضر الممكن وإن ممكن الكون إن كان يجب أن لا يكون موجود الكون فممكن أن لا يكون يجب أن لا يكون موجود اللاكون لكن ممكن الكون هو بعينه ممكن اللاكون فممكن الكون يجب أن لا يكون على أصلهم موجود اللاكون. الصفحة : 18 فصل في الواجب والممتنع وبالجملة الضروري الواجب والممتع بينهما غاية الخلاف مع اتفاقهما في معنى الضرورة فذاك ضروري في الوجود وذا ضروري في العدم وإذا تكلمنا على الضروري أمكن أن ننقل البيان بعينه إلى كل واحد منهما فنقول إن الحمل الضروري على ستة أوجه تشترك كلها في الدوام فأول ذلك أن يكون الحمل دائماً لم يزل ولا يزل كقولنا الله تعالى حي والثاني أن يكون ما دام ذات الموضوع موجوداً لم تفسد كقولنا كل إنسان بالضرورة حيوان أي كل واحد من الناس دائماً حيوان ما دام ذاته موجوداً ليس دائماً بلا شرط حتى يكون حيواناً لم يزل ولا يزل قبل كونه بعد فساده والأول وهذا الثاني هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري ويعمهما من جهة ما معنى واحد وهو الضرورة ما دامت ذات الموضوع موجودة إما دائماً إن كانت الذات توجد دائماً - وإما مدة ما إن كانت الذات قد تفسد وأما الثالث فأن يكون ذلك ما دام ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها لاما دامت موجودة مثل قولك كل أبيض فهو ذو لون مفرق للبصر بالضرورة أي لا دائماً لم يزل ولا يزال ولا أيضاً ما دام ذات ذلك الشيء الأبيض موجوداً حتى تلك الذات إذا بقيت ولم تفسد لكن البياض زال عنها فقد توصف بأنها ذات لون مفرق للبصر بالضرورة بل أن هذه الضرورة تدوم لا ما دامت موجودة ولكن موصوفة بالبياض وأما الرابع فأن يكون ذلك ما دام الحمل موجوداً وليس له ضرورة بلا هذا الشرط كقولنا إن زيداً بالضرورة ماش ما دام ماشيا إذ ليس يمكن أن لا يكون ماشياً وهو يمشي وأما الخامس فأن تكون الضروررة وقتاً معيناً عينه معيناً والسادس أن كون بالضرورة وقتاً ما وليس دائماً ولا وقتاً بعينه - وهذه الأقسام الأربعة إذا لم يشترط فيها شرط ما فإن الحمل فيها يسمى مطلقاً وإن اشترطت فيها جهة الضرورة كان الأولى أن تكون الجهة جزأ من المحمول لا جهة داخلة على المحمول وذلك لأن المحمول وذلك لأن المحمول في ذلك لا يكون وحده محمولاً بل مع زوائد وتلك الزوائد مع المحمول لا تعقل كشيء واحد ما لم تكن فيها الجهة على أنها كالبعض منها وأما في المقدمة الضرورية فإن المحمول مستقل بنفسه في أن يقصد حمله والجهة لا تفعل فيه شيئاً بل في الربط فيكون المحمول هو بذاته كمعنى واحد والجهة داخلة عليه المتلازمات التي يقوم بعضها مقام بعض من هذه طبقات فطبقة هي هكذا واجب أن يوجد ممتنع أن لا يوجد ليس بممكن بالمعنى العام أن لا يوجد الصفحة : 19 ونقايض هذه متعاكسة أيضاً مثل قولنا ليس بواجب أن يوجد ليس بممتنع أن لا يوجد ممكن أن لا يوجد العامي لا الخاصي وطبقة أخرى وهي هكذا واجب أن لا يوجد ممتنع أن يوجد ليس بممكن أن يوجد بالمعنى العامي لا الخاصي وكذلك نقايضها مثل ليس بواجب أن لا يوجد ليس بممتنع أن يوجد ممكن أن يوجد بالمعنى العامي وطبقة من الممكن الخاصي الحقيقي ولا ينعكس فيها إلا شيئان فقط ممكن أن يكون وممكن أن لا يكون ونقيضاهما متعاكسان ولا يلزمهما من سائر الجهات شيء لزوماً معاكساً وأما الممكن أن يكون بالمعنى العامي فلا يلزمه ممكن أن لا يكون على ما أوضحناه قبل وأما اللوازم التي لا تنعكس فإن واجباً أن يوجد يلزمه ليس بممتنع أن يوجد وما في طبقته مثل ليس بواجب أن لا يوجد وممكن أن يوجد يلزمه ليس بممتنع أن يوجد وما في طبقته مثل ليس بواجب أن لا يوجد وممكن أن يوجد العامي وليس بممكن أن يوجد الخاصي لأنه واجب لا ممكن وليس بممكن أن لا يوجد الخاصي لأنه ممتنع أن لا يوجد الخاصي لأنه واجب لا ممكن وليس بممكن أن لا يوجد الخاصي لأنه ممتنع أن لا يوجد لا ممكن حقيقي أن لا يوجد - وكذلك الممتنع أن يوجد يلزمه سلب الواجب أن يوجد وما في طيقته وسلب الممكنين الحقيقين أعني المعدول والمحصل والممكن أن يكون الحقيقي يلزمه ممكن أن يكون العامي وما في طبقته وممكن أن لا يكون العامي وما في طبقته ويتوصل من هذا إلى باق ما بقي. الصفحة : 20 فصل في المقدمة والحد المقدمة قول يوجب شيئاً لشيء أو يسلب شيئاً عن شيء وجعل جزء قياس والحد هو ما تنحل إليه المقدمة من جهة ما هي مقدمة وإذا انحل الرباط فلا محالة أنه لا يبقى إلا موضوع ومحمول. فصل في المقول على الكل وأما المقدمة التي فيها مقول على الكل فهي التي ليس شيء مما يقال عليه الموضوع إلا ويقال عليه المحمول والسلب بحسبه وكل مقدمة - إما مطلقة - وإما ضرورية - وإما ممكنة. فصل في المطلقات المطلقة فيها رأيان رأي " ثاوفرسطس " ثم " ثامسطيوس " وغيره ورأي الاسكندر وعدة من المحصلين أما الأول فهو أنها هي التي لم تذكر فيها جهة ضرورة للحكم أو إمكان للحكم بل أطلق إطلاقاً فيجوز أن يكون الحكم موجوداً بالضرورة ويجوز أن يكون الحكم موجوداً لا بالضرورة أي لا دائماً وليس يبعد أن يكون هذا رأي الفيلسوف في المطلقة على أن الفيلسوف يجوز أن تكون كليتان موجبة وسالبة مطلقتين صادقتين كقولك على فرس نائم ولا شيء مما هو فرس بنائم وأن ينقل الحكم الكلي الموجب المطلق إلى الحكم الكلي السالب المطلق وأصحاب هذا الرأي يرون أن ذلك جائز وليس واجب لأن الفيلسوف قد يورد أيضاً في المطلقات أمثلة لا يجوز فيها ذلك بل هي ضرورية دائماً وأما أصحاب الرأي الثاني ومنهم الاسكندر وعدة من المحصلين من المتأخرين ممن هو أشدهم تحصيلاً فيرون أن هذا النقل واجب في المطلق هو الذي لا ضرورة في حكمه إلا على إحدى الجهات الأربعة المذكورة بعد الجهتين الأوليتين فكأن المطلق عند هؤلاء ما يكون الحكم فيه موجوداً بل وقتاماً وذلك الوقت أما ما دام الموضوع موصوفاً بما وصف به كقولك كل أبيض فهو ذو لون مفرق للبصر - أو ما دام المحمول محكوماً به أوفى وقت معين ضروري كالكسوف للقمر والكون في الرحم لكل إنسان أو في وقت ضروري ولكن غير معين كالتنفس للحيوان وليس يجب أن يكون هذا الوقت وقتاً واحداً يشترك فيه الجميع معاً بل وقتاماً لكل واحد يخصه وليس يبعد أن يكون هذا الرأي رأي الفيلسوف ونحن لا نشتغل بتفصيل أحد الرأيين " الرأي المثامسوطي والرأي الاسكندري " على الآخر بل تعتبر أحكام المطلق بالوجهين جميعاً ويظهر لك ذلك إذا فصلنا المحصورات المطلقة فقولنا كل " ب ا " بالاطلاق معناه الصفحة : 21 أن كل واحد مما يوصف عند العقل أو الوجود بأنه " ب " سواء كان يوصف بأنه " ب " دائماً أو يوصف بأنه " ب " وقتاماً بعد أن لا يكون " ب " فذلك الشيء يوصف بأنه " ا " لا ندري متى هو أعندما يوصف بأنه " ب " أو في وقت آخر ودائماً - أولاً دائماً هذا على رأي ثافرسطس وأما الرأي الثاني فلا يخالف الرأي الأول من جهة الموضوع فلا شك أن قولنا كل متحرك معناه كل ما يوصف بأنه متحرك ويوضع له كان دائماً أو وقتاً ما فإن معنى المتحرك في الشيئين واحد ويختلف بمدة الثبات - والمدة أمر عارض للمعنى غير مقوم للمعنى لكنهم يخالفون في جانب المحمول لأن الأولين أخذوا الحكم بالمحمول أعم ما يمكن أن يفهم منه من غير شرط دوام أولا دوام البتة وهؤلاء خصصوه بشرط اللادوام فيكون معنى قولنا كل " ب ا " عندهم أن كل ما يوصف " بب " كيف وصف به بالضرورة أو بغير الضرورة - فذلك الشيء موصوف بأنه " ا " لا بالضرورة بل وقتاماً على ما قيل - وكذلك قولنا لا شيء من " با " على الاطلاق معناه أنه لا شيء مما يوصف بأنه " ب " كيف وصف به إلا ويسلب عنه " ا " إما لا ندري كيف ومتى وإما سلبا في وقت ما والجزئيتان تعرفهما من الكليتين. فصل في الضروريات قولنا كل " ب ا " بالضرورة معناه أن كل واحد مما يوصف عند العقل بأنه " ب " دائماً أو غير دائم فذلك الشيء دائماً ما دام عين ذاته موجودة يوصف بأنه " ا " كقولك كل متحرك جسم بالضرورة وقولنا بالضرورة لا شيء من " ب ا " معناه أنه ليس شيء مما يوصف بأنه " ب " كيفما وصف به بضرورة أو وجود غير ضروري إلا ويسلب عنه دائماً " ا " في كل وقت ذاته فيه موجودة وأنت تعرف الجزئيتين من الكليتين إلا في شيء واحد وهو أن الجزئي لا يجعله دوام السلب والايجاب ضرورياً بل دواماً لا تستحقه طبيعته فإنه يمكن أن يكون بعض الناس مسلوباً عنه الكتابة أو موجبة له ما دامت ذاته موجودة ولكنه باتفاق ليس باستحقاق ولا كذلك في الكليات فإنها ما لم تستحق دوام السلب أو الايجاب لم تكن القضية موثوقاً بصدقها بل لا تكون صادقة ألبتة فإن الصدق هو بالمطابقة - وهذه المطابقة لا تتحقق إلا فيما يجب الدوام له بل نحن لا نحكم في قضية محمولها ممكن وزمانها مستقبل بأنها صادقة أو كاذبة ما لم تطابق الوجود ولم تخالفه. الصفحة : 22 فصل في الممكنات أما الممكن فهو الذي حكمه من سلب أو إيجاب غير ضروري وإذا فرض موجوداً لم يعرض منه محال فمعنى قولنا كل " ب ا " بالامكان أن كل واحد مما يوصف بأنه " ب " كيف كان فإن إيجاب " ا " عليه غير ضروري وإذا فرض هذا الايجاب حاصلاً لم يعرض منه محال وعلى هذا القياس فاعرف السالبة الكلية والجزئيتين: وفرق بين قولنا بالضرورة ليس وبي قولنا ليس بالضرورة فالأول سالبة ضرورية والثاني سالبة الضرورة لكنه قد يظن أن قولنا ليس بالضرورة يلزمه يمكن أن لا ولا يميزون في ذلك بين العامي والخاصي وإنما يلزمه يمكن أن لا بالمعنى المتعارف عند العامة دون المصطلح عليه عند الخاصة - وكذلك فرق قولنا بالإمكان ليس وقولنا ليس بالامكان فالأول سالبة ممكنة والثاني سالبة الامكان لكنه يظن أن سالبة الامكان كقولنا ليس بممكن يلزمه بالضرورة لا وذلك إنما يلزمه إذا كان الممكن بالمعنى العامي دون الخاصي وأما الممكن الخاصي فإذا سلب وجب أن يلزمه ضرورة ولكن لا لوجود دون عدم ولا لعدم دون وجود فإن ما ليس بممكن حقيقي فهو إما ضروري الوجود وإما ضروري اللاوجود وليس يتعين أحدهما بعينه وجهل جماعة من المنطقيين بهذه الأحوال واختلافها أوقعهم في خطأ كبير استمروا عليه في أحكام ذوات الجهة الصفحة : 23 فصل في القضيتين المتقابلتين والقضيتان المتقابلتان هما اللتان تختلفان بالسلب والايجاب وموضوعهما ومحمولهما واحد في المعنى والاضافة والقوة والفعل والجزء والكل والمكان والزمان والشرط حتى إن كان هناك أب فكان لزيد ولم يكن ههنا لعمرو أو كان هناك أب بالقوة ولم يكن ههنا بالفعل أو كان ههنا أسود الكل أو أسود من بعض آخر أو كان هناك شيء في زمان ماض ولم يكن ههنا في زمان حاضر أو مستقبل أو غير ذلك الزمان بعينه أو كان هناك مثلاً أنه متحرك على الأرض ولم يكن ههنا أنه متحرك على الفلك لم يحصل التقابل فصل في التناقض والقضيتان المتقابلتان بالناقض هما اللتان يتقابلان بالايجاب والسلب تقابلاً يجب عنه لذاته أن يكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة وإنما يكون كذلك إذا تمت فيهما شرائط التقابل التي في المخصوصات وفي المحصورات زيادة أن يكون إحداهما كلية والأخرى جزئية فإن كانتا كليتين وتسميان متضادتين كذبتا جميعاً في حمل الممكن كقولنا كل إنسان كاتب وليس ولا واحد من الناس بكاتب - وإن كانتا جزئيتين وتسميان الداخلتين تحت التضاد صدقتا جميعاً في ذلك الحمل بعينه كقولنا بعض الناس كاتب وليس بعض الناس بكاتب والمخصوصات ليس في تناقضها شرط غير تقابلها وفي حمل الممكن المستقبل لا يتعين الصدق والكذب في أحد طرفي التقابل وإن كان لا يخرج منهما كقولك زيد يمشي - زيد ليس يمشي فلو كان أحد هذين في الوقت صدقا والآخر كذبا من حيث نفس القولين كان أحد الأمرين يكون لا محالة والآخر لا يكون فيكون الأمر واجباً لا ممكناً وارتفع الاختبار والاستعداد وبطلت طبيعة الممكن جملة الصفحة : 24 فصل في عكس المطلقات العكس هو تصبير الموضوع محمولاً والمحمول موضوعاً مع بقاء السلب والايجاب بحالة والصدق والكذب بحالة - والمشهور أن السالبة الكلية المطلقة تنعكس مثل نفسها فإنا إذا قلنا لا شيء من " ب ا " صدق لا شيء من " ا ب " وإلا فليكذب لا شيء من " ا ب " وليصدق نقيضه وهو أن بعض " ا ب " ولنفرض ذلك البعض شيئاً معيناً وليكن " ج " فيكون ذلك الشيء الذي هو " ج ا " و " ب " فيكون ذلك الباء " ا " وكان لا شيء من " ب ا " هذا خلف - والحق في هذا هو أنه لا يصح هذا العكس في كل ما يعد في المطلقات بل في مطلقة ليس شرط صحة الحلق الضرورة فيها زماناً مختلفاً في الأشخاص بل معنى غير الزمان ومآل ذلك أن يكون الشرط الذي يصح معه الحلق جهة الضرورة شرط ما دام الموضوع موصوفاً بما وضع معه مثل قولنا كل متنقل متغير فإنك إن ألحقت به جهة الضرورة وجب أن تقول بلسانك أو في نفسك ما دام موصوفاً بأنه منتقل وربما لم يصدق أن تقول ما دام موجود الذات ففي مثل هذه المطلقات يلزم هذا العكس وفي مثلها إذا صدق لا شيء كذب بعض وإذا صدق بعض كذب لا شيء من غير اشتراط زمان بعينه بل مطلقاً وأمثال هذه هي المستعملات في العلوم وإن كانت أخص من الواجب عن نفس اللفظ فإن لم تكن هكذا فليس يجب أن تنعكس الكلية السالبة المطلقة مثل الأمثلة التي يوردها المعلم الأول مما السلب فيه في زمان ما كقولنا لا شيء من الحيوان بمتحرك بالارادة أي في وقت سكونه - وكقولنا لا شيء من الحيوان بنائم فإنه يأخذ هذه وأمثالها سوالب مطلقة - فهذه لا تنعكس ألبتة أما الموجبة الكلية فلا شك أنها لا تنعكس كلية موجبة فليس إذا صدق قولنا إن كل إنسان متحرك يصدق أن كل متحرك إنسان ولكن تنعكس جزئية موجبة أما البيان المشهور والمستمر على الشرط المذكور له فهو أنه إذا كان كل " ب ا " فبعض " ا ب " وإلا فلاشيء من " ا ب " فلا شيء من " ب ا " وكان كل " ب ا " هذا خلف وأما البيان الحقيقي الذي يجري في كل مادة فبالافتراض وهو أنه إذا كان كل " ب ا " فنفرض شيئاً بعينه هو " ب " وهو " ا " وليكن ذلك الشيء " ج فج ب وا " فألف ما هو " ب " وهو " ج " ثم المشهور أن هذا العكس مطلق ويجب أن يكون مطلقاً على المعنى الأعم الذي لا يمتنع أن يكون ضرورياً مثل قولنا كل حيوان متحرك حركة بالارادة وجودا وكل أو بعض المتحرك بالارادة حيوان ضرورة وأما على الرأي الثاني فليس يجب أن يكون عكس المطلق مطلقاً لما أوضحناه والجزئية الموجبة المطلقة تنعكس الصفحة : 25 مثل نفسها وبيانها المشور والحقيقي على مثال بيان الموجبة الكلية ومثال ذلك بعض الناس كاتب وبعض الكاتب انسان - والسالبة الجزئية المطلقة لا تنعكس فليس إذا صح قولنا ليس كل إنسان كاتباً وصدق يجب أن يصدق ليس بعض الكاتب بانسان. فصل في عكس الضروريات والسالبة الكلية الضرورية تنعكس مثل نفسها سالبة كلية فإنه إذا كان بالضرورة لا شيء من " ب ا " فبالضرورة لا شيء من " ا ب " وإلا فيمكن أن يكون ألف ما " ب " وليكن ذلك " ج " حتى يكون في وقت ما صار " ا " صار " ب " فيكون هو " ب و ا " فيكون ذلك الباء " ا " هذا محال والكلية الموجبة الضرورية تنعكس جزئية موجبة بمثل البيان الذي سلف في المطلقة لكنه في المشهور يجب أن يكون عكسه ضرورياً لأنه لو كان مطلقاً لكان عكسه وهو داخل في الأصل الأول مطلقاً فكان بعض " ب ا " مطلقاً وكان الكل بالضرورة - وأما في الحقيقة فليس يجب أن يكون عكس المطلق مطلقاً لا ضرورة فيه ولذلك لا يلزم هذا البيان ولكن الصحيح أن عكس الضروري ربما كان مطلقاً كقولك بالضرورة كل كاتب إنسان ثم تقول بعض الناس كاتب وذلك لا بالضرورة التي إياها تريد بل إن كان ولا بد فبضرورة أخرى تصح على كل ممكن مثل أن بعض الناس كاتب ما دام كاتباً ولسنا نقصد من الضرورة مثل هذا والجزئية الموجبة الضرورية بيانها مثل بيان الكلية وأما الجزئية السالبة الضرورية فلا تنعكس لأنك تقول بالضرورة ليس كل حيوان إنساناً ولا تقول بالضرورة ليس كل إنسان بحيوان. الصفحة : 26 فصل في عكس الممكنات وأما الكلية السالبة الممكنة الحقيقية فإنها لا تنعكس مثل نفسها فإنك تقول ممكن أن لا يكون أحد من الناس كاتباً ولا تقول ممكن أن لا يكون أحد من الكاتب إنساناً ولكنه قد يظن في المشهور أنها تنعكس جزئية والسبب في ذلك أن قولنا يمكن أن لا يكون شيء من " ب ا " يصدق معه قولنا يمكن أن يكون كل " ب ا " وهو ينعكس إلى أنه يمكن أن يكون بعض " ا ب " كما نذكره بعد ثم ظنوا أن هذا العكس يلزمه يمكن أن لا يكون بعض " ا ب " ونحن سنبين أن هذا العكس ممكن بالمعنى العامي لا الخاصي فلا يلزمه النقل إلى السلب وأما الحق فيمتنع عكس هذه المقدمة فإنك إذا قلت يمكن أن لا يكون أحد من الناس كاتباً فليس لك أن تقول يمكن أن لا يكون كل أو بعض الكتاب إنساناً ولا تلتفت إلى ما يتكلفون وأما الكلية الموجبة الممكنة فالمشهور أنها تنعكس جزئية موجبة ممكنة حقيقية فإنه إذا كان كل " ب ا " بالامكان فبعض " ا ب " بالامكان الحقيقي وإلا فبالضرورة لا شيء من " ا ب " فبالضرورة لا شيء " من ب ا " هذا محال وأما الحق فيوجب أنه ليس إذا كذب بعض " ا ب " بالامكان الحقيقي وجب بالضرورة لا شيء من " ا ب " بل ربما كان بالضرورة كل أو بعض " ا ب " على ما قلنا وإنما يجب أن يصدق إذا كذب قولنا بعض " ا ب " بالامكان العامي لكن الحق أن عكس الممكن الحقيقي الموجب ممكن عامي يجوز أن يكون ضرورياً ويجوز أن يكون ممكناً حقيقياً وأما الجزئية الموجبة الممكنة فإن حال عكسها في المشهور والتحقيق كحال الكلية الموجبة الممكنة والبيان ذلك البيان بعينه وأما الجزئية السالبة الممكنة فيظن أنها تنعكس مثل نفسها للسبب المذكور في الكلية السالبة إلا أن الحق يمنع عكسها بمثل ما بيناه في الكلية. الصفحة : 27 فصل في القياس القياس قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها لا بالعرض قول آخر غيرها اضطراراً ومعنى لزم أنه يحصل التصديق به ويستفاد لازماً للتصديق بتلك المقدمات وشكلها حتى إن كان فصل في القياس الكامل وغير الكامل القياس الكامل هو القياس الذي يكون لزوم ما يلزم عنه بيناً عن وضعه فلا يحتاج إلى أن نبين أن ذلك لازم عنه والغير الكامل هو الذي يلزم عنه شيء ولكن لا يكون بيناً في أول الأمر أن ذلك يلزم عنه بل إذا أريد أن نبين ذلك نبين بشيء آخر لكنه غير خارج من جملة ما قيل بل إما نقيض ما قبل أو عكسه أو تعيين شيء منه وافتراضه على كل ما نوضح. فصل في القياس الاقتراني والاستثنائي القياس إما أن يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولاً فيه بالفعل بوجه ما بل بالقوة - ويسمى قياساً اقترانياً كقولك كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث فكل جسم محدث وإما أن يكون ما يلزمه هو أو نقيضه مقولاً فيه بالفعل ويسمى قياساً استثنائياً كقولك إن كانت النفس لها فعل بذاتها فهي قائمة بذاتها لكن لها فعل بذاتها فهي قائمة بذاتها. الصفحة : 28 فصل في أجزاء القياسات الاقترانية وأشكالها كل قياس اقتراني فإنما يكون عن مقدمتين تشتركان في حد وتفترقان في حدين فتكون الحدود ثلاثة ومن شأن المشترك فيه أن يزول عن الوسط ويربط ما بين الحدين الآخرين فيكون ذلك هو اللازم مثل قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث فكل جسم محدث والحدود الثلاثة جسم ومؤلف ومحدث والمؤلف مكرر متوسط والجسم والمحدث لم يتكررا واللازم هو مجتمع منهما فالمتكرر يسمى حداً أوسط والباقيان يسميان الطرفين والرأسين والطرف الذي نريد أن يصير محمول اللازم يسمى الطرف الأكبر والذي نريد أن يصير موضوع اللازم يسمى الطرف الأصغر والمقدمة التي فيها الطرف الأكبر تسمى الكبرى والتي فيها الطرف الأصغر تسمى الصغرى وتأليف صغرى وكبرى يسمى قرينة وهيئة الاقتران تسمى شكلاً والقرينة التي يلزم عنها لذاتها قول آخر يسمى قياساً " وسولوجسموس " واللازم ما دام لم يلزم بعد بل يساق إليه القياس يسمى مطلوباً فإذا لزم سمي نتيجة والحد الأوسط إن كان محمولاً في مقدمة وموضوعاً في الأخرى سمي ذلك الاقتران شكلاً أولاً وإن كان محمولاً فيهما يسمى شكلاً ثانياً وإن كان موضوعاً فيهما يسمى شكلاً ثالثاً وتشترك الأشكال كلها في أنه لا قياس عن جزئيتين وتشترك ما خلا الكائنة عن الممكنات في أنه لا قياس عن سالبتين ولا عن صغرى سالبة كبراها جزئية والنتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكم أعني الكلية والجزئية وفي الكيف أعني الايجاب والسلب ثم يخص كل شكل شرائط. فالشكل الأول إنما ينتج فيه ما كان كبراه كلاً وصغراه موجباً فيكون لا محالة قرائنه أربعاً " الضرب الأول " من كليتين موجبتين ينتج كلية موجبة مثاله كل " ج ب " وكل " ب ا " فهو قياس كامل على أن كل " ج ا " وكقولك كل جسم مؤلف وكل مؤلف محدث فكل جسم محدث " والضرب الثاني " من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ينتج كلية سالبة مثاله كل " ج ب " ولا شيء من " ب ا " فهو القياس الكامل على أنه لا شيء من " ج ا " وكقولك كل جسم مؤلف ولا شيء مما هو مؤلف بقديم ينتج أنه لا شيء من الأجسام بقديم " والضرب الثالث " من موجبتين والصغرى جزئية ينتج جزئية موجبة كقولك بعض " ج ب " وكل " ب ا " فهذا قياس كامل على أن بعض " ج ا " ومثاله قول القائل بعض الفصول الابعاد وكل بعد كم فبعض الفصول كم " والضرب الرابع " من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ينتج سالبة جزئية كقولك بعض " ج الصفحة : 29 ب " ولا شيء مما هو " ب ا " ينتج ليس كل " ج ا " مثاله بعض الفصول الكم ولا شيء مما هو كم بكيف فلا كل فصل بكيف وسائر الاقترانات التي لك أن تعرفها بالعدد بعد هذه الأربعة لا تنتج شيئاً بعينه بل إذا صدق جمع طرفيها على الايجاب في مادة وجدت مادة أخرى إنما يصدق فيها جمع الطرفين على السلب ويكون الاقتران واحداً بعينه ثم قد علمت أن الشكل الأول ينتج جميع المطالب المحصورة الأربع وما لم يكن فيه جزئي فلا ينتج جزئياً. وأما الشكل الثاني فالمشهور فيه أنه مهما كانت الكبرى فيه كلية واحدى المقدمتين مخالفة للأخرى في الكيف كان منتجاً ولو من المطلقات وأما الحق فيوجب أن السالبة المطلقة إذا لم تكن بالشرط المذكور بحيث ينعكس كليها على نفسه في المذهب الحق لم يلزم في الشكل الثاني من المطلقتين نتيجة كما لا يلزم من الممكنتين فيه على ما نبين فيهما والذي يكون بحيث يلزم عنه نتيجة فقد علم آنفاً أن قياساته غير كاملة فالضرب الأول من كليتين والكبرى سالبة مثل قولك كل " ج ب " ولا شيء من " ا ب " فنقول إنه ينتج لا شيء من " ج ا " لأنا أخذنا السالبة الكلية المطلقة بحيث تنعكس فيصير ولا شيء من " ب ا " وكان كل " ج ب " فلا شيء من " ج ا " بحكم الشكل الأول وقد تبين بالخلف وهو أنه إن لم يصدق قولنا لا شيء من " ج ا " كان بعض " ج ا " على ما فرضنا من أن الكلية السالبة تكذب معها الجزئية الموجبة للشرط المتقدم فإذا كان بعض " ج ا " ولا شيء من " ا ب " بحكم الكبرى كان لا كل " ج ب " وكان كل " ج ب " بحكم الصغرى هذا محال والضرب الثاني من كليتين والصغرى منهما سالبة مثل قولك لا شيء من " ج ب " وكل " ا ب " فلا شيء من " ج ا " ولنعكس الصغرى ونقول كل " ا ب " ولا شيء من " ب ج " ينتج لا شيء من " ا ج " وينعكس إلى لا شيء من " ج ا " وللبيان بالخلف نقول إنه إن كان بعض " ج ا " وكل " ا ب " فبعض " ج ب " هذا خلف والضرب الثالث من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ينتج جزئية سالبة مثاله بعض " ج ب " ولا شيء من " ا ب " فليس كل " ج ا " يتبين بعكس الكبرى وبالخلف أيضاً لأنه إن كان كل " ج ا " ولا شيء من " ا ب " فلا شيء من " ج ب " وكان بعض " ج ب " هذا خلف والضرب الرابع من جزئية سالبة صغرى وكلية موجبة كبرى تنتج جزئية سالبة مثل قولك ليس كل " ج ب " وكل " ا ب " فليس كل " ج ا " ولا يتبين بالعكس لأن الصغرى سالبة جزئية لا تنعكس والكبرى تنعكس جزئية وإذا أضيفت إلى الصغرى كانتا جزئيتين ولا ينتجان بل يجب أن نأخذ الافتراض بدل العكس ههنا بأن نفترض البعض الذي هو الصفحة : 30 " ج " وليس " ب " " د " فيكون لا شيء من " د ب " وكل " ا ب " فلا شيء من " د ا " ثم نقول بعض " ج د " ولا شيء من " د ا " فليس كل " ج ا " ويتبين أيضاً بالخلف أنه إن كان كل " ج ا " وكل " ا ب " فكل " ج ب " وكان ليس كل " ج ب " فهذه هي الضروب المنتجة وما بعدها عقيم للسبب المذكور في مثلها من الشكل الأول. فصل في الشكل الثالث من المطلقات وأما الشكل الثالث من المطلقات فإن شرائطه في الانتاج أن تكون الصغرى موجبة ثم لا بد من كلية في كل شكل فتكون قرائنه ستة الأولى من كليتين موجبتين ينتج جزئية موجبة كقولك كل " ب ج " وكل " ب ا " فبعض " ج ا " يتبين بعكس الصغرى ورد القرينة إلى ثالث الأول وبالخلف لأنه إن كان لا شيء من " ج ا " وكل " ب ج " فلا شيء من " ب ا " هذا خلف والثانية من كليتين والكبرى سالبة ينتج سالبة جزئية وتبين بعكس الصغرى أو بالخلف والثالثة من جزئية موجبة صغرى وكلية موجبة كبرى ينتج جزئية موجبة كالضرب الأول وعلى نحو بيانه والرابعة من صغرى موجبة كلية وكبرى موجبة جزئية ينتج جزئية موجبة مثالها كل " ب ج " وبعض " ب ا " ينتج بعض " ج ا " ويتبين بأن تعكس الكبرى وتجعلها صغرى وتقرن بها الكبرى فنتج بعض " ا ج " ثم تنعكس فبعض " ج ا " فهذا بالعكس الثاني يصح إن كانت النتيجة مطلقة على الرأي الأول - وأما إن كانت مطلقة على الرأي الثاني فلا يتبين بهذا العكس فإنه لا يجب أن يكون عكس المطلقة بالرأي الثاني مطلقة به بل مطلقة بالرأي الأول - بل بالافتراض على ما سنبينه في مواضع أخر: وقد تبين أن هذا الضرب منتج بطريق الخلف أيضاً الخامسة من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى تنتج جزئية سالبة ولا يمكن أن نتبين بالعكس بمثل ما قلناه في رابع الثاني ولكن بالافتراض فليكن البعض الذي هو " ب " وليس " ا د " فيكون كل " ب ج " وبعض " ب د " فبعض " ج د " ولا شيء من " د ا " فليس كل " ج ا " وقد تبين أيضاً بالخلف لأنه إن لم يكن كذلك بل كان كل " ج ا " وكل " ب ج " فكل " ب ا " وكان ليس كل " ب ا " هذا خلف والسادسة من صغرى جزئية موجبة وكبرى كلية سالبة يتبين بعكس الصغرى وبالخلف أن النتيجة جزئية سالبة - فهذه الضروب هي المنتجة وما بعدها عقيمة: وقد تبين لك أن هذا الشكل لا ينتج مطلوباً كلياً وإنما ينتج الجزئي وإن لم تكن فيه مقدمة جزئية. الصفحة : 31 فصل في التأليف من الضروريات أما الشكل الأول من الضروريتين فلا يخالف المطلقين في الانتاج وفي الكمال إلا بجهة الضرورة في المقدمات والنتيجة وأما الشكلان الآخران منهما فلا يخالفان أيضاً نظيرهما من المطلقات في الانتاج وفي تصحيح الانتاج بالرد إلى الأول إلا في شيئين أحدهما الجهة الثاني أن رابع الثاني وخامس الثالث كانا إنما يتبينان في المطلقتين بالافتراض والخلف - وههنا قد يتعذر ذلك فإنا إن رفعنا الضروري السالب وجب أن نضع الموجب الذي يقابله ممكناً عامياً لا حقيقياً فإذا قرناه بالمقدمة الأخرى ليتبين الخلف كان الاقتران من ممكن عامي ومن ضروري ونحن لم نعرف بعد أن هذا الاقتران ماذا ينتج ولا أن وضعنا الممكن كالموجود نفع ذلك أيضاً فإنا لم نعرف بعد هذا الاختلاط الذي من وجودي ومن ضروري فكيف نعرف ما عرض من ذلك فأما إذا استعملنا الافتراض فإن أحد قياسي الافتراض قد يكون من ضروريتين وأما القياس الثاني فيكون من وجودية وضرورية وذلك مجهول وأنت تعلم أن كل افتراض فإنما يتم بقياسين قياس من الشكل بعينه وقياس من الشكل الأول ولكن إذا تركنا هذا المأخذ فرجعنا إلى الأمور أنفسها يحق لنا أن نعلم أن الاخنلاط من وجودي صغرى وضروري كبرى في الشكل الاول وإن لم ينبه عليه بعد معنا هو قياس كامل لا يحتاج أن ندل على أنه منتج لأن الشكل الأول بين الأنتاج فليس قياساً غير كامل حتى نحتاج أن ندل على أنه منتج فحينئذ نجد سبيلاً إلى استعمال وجهي الخلف والافتراض في هذا البيان فلنبين بهما. الصفحة : 32 فصل في اختلاط المطلق والضروري في الشكل الأول أن الحق في اختلاط المطلق والضروري في الشكل الأول هو على ما يراه المعلم الأول أن العبرة بالكبرى فإن كانت مطلة فالنتيجة مطلقة مثلها وإن كانت ضرورية فالنتيجة مثلها أما في المطلة فلا شك فيه وأما في الضرورية فلأن قولنا كل " ب ا " بالضرورة - أو بالضرورة لا شيء من " ب ا " معناه أن كل واحد مما يوصف " بب " ويوضع " لب " ويكون " ب " وقتاً ما بالضرورة أولا بالضرورة دائماً أو لا دائماً فذلك الشيء موصوف دائماً في كل وقت بأنه " ا " أو غير موصوف ولا في وقت البتة بأنه " ا " فيكون " ج " الموصوفة " بب " كيف وصفت به داخلة في هذا الحكم وههنا شيء يجب أن يعلم وهو أنه إذا كانت الكبرى مطلقة ووقت إطلاقها ما دام ذات الموضوع موصوفاً بما وصف به فالنتيجة تكون ضرورية لأن " ج ب " دائماً وقد وضع أن " ب " ما دام " ب " فهو " ا " فج دائماً " ا " فههنا قد تكون النتيجة ضرورية والكبرى مطلقة. فصل في اختلاطهما في الشكل الثاني وأما الشكل الثاني فإن الظاهر والمشهور هو أن العبرة للسالبة التي تصير كبرى الأول بعكس أو افتراض وأن النتيجة تابعة لجهتها بناء على أن السالبة المطلقة تنعكس مثل نفسها من كل وجه وقد قلنا في ذلك ما قلنا فالحق يوجب فيها ما لا يجب أن نستحي منه وهو أن النتيجة دائماً ضرورية فأما إن كانت المطلقة بحيث تصدق ضرورية فلا خفاء به وإن كانت بحيث تكذب ضرورية فلأن " ج " و " ا " لما اختلفا في أن أحدهما موضوع " لب " دائماً بالضرورة ويجب أن نقتصر على هذا القدر من البيان اعتماداً على فهم المتعلم وإذا لم يقتنع بهذا القدر فلرجع إلى الكتب الكبيرة التي استقصينا فيها هذا الباب وغيره بمقدار الطاقة ولنا أن نبين من هذا البيان بعينه أن هذا الاختلاط ينتج وإن كان من سالبتين أو موجبتين في هذا الشكل وتكون النتيجة سالبة ضرورية وذلك لأن المطلق الذي يكون حقيقياً صرفاً فسلبه وإيجابه بمنزلة واحدة ثم إذا اختلف نسبة المحمول إلى الطرفين في الدوام واللادوام وإن اتفقت في الايجاب والسلب كان بينهما خلاف ضروري. الصفحة : 33 فصل في اختلاطهما في الشكل الثالث وأما الشكل الثالث فإن المشهور من حاله أن المقدمتين إذا كانتا كليتين موجبتين فأيتهما كانت ضرورية فالنتيجة ضرورية لأن لك أن تعكس المطلقة منهما وتجعلهما صغرى الأول فتنتج ضرورياً فإن احتجت إلى عكس إن كان عكس الضروري في المشهور ضرورياً ولكن قد منع الحق هذا العكس وفرغنا منه والحق أن النتيجة تتبع الكبرى فإن كانت الكبرى من الكليتين سالبة فلا خلاف في أن الاعتبار بها وإن كانتا جزئية وكلية فالمشهور في هذا الشكل والثاني أن النتيجة لا تكون ضرورية في حال والحق يوجب أن العبرة للكبرى وإن كانت جزئية وتبين بالافتراض فلنبين ذلك - والكبرى جزئية سالبة ضرورية فنقول إن النتيجة ضرورية ولنفرض البعض من " البا " الذي ليس " ا د " فبالضرورة لا شيء من " د ا " فبالضرورة بعض " ج " ليس " ا " وهكذا يتبين إذا جعلت الكبرى جزئية موجبة ضرورية. فصل في التأليف من الممكنتين في الشكل الأول أما القياس من ممكنتين في الشكل الأول فمثل القياس من مطلقتين فيه في كل شيء إلا إذا كانت الصغرى ممكنة سالبة فإنه يكون منه قياس ولكن غير كامل وتبين بردها إلى الموجبة فإن الممكنة السالبة في قوة الموجبة فتنتج موجبة ثم تنتقل تلك الموجبة إلى السالبة فالشرط المراعى في الانتاج ههنا هو في الكم أعني كلية الكبرى لا الكيف حتى أنه لا بأس فيه بالانتاج عن سالبتين. الصفحة : 34 فصل في اختلاط الممكن والمطلق في الشكل الأول أما اختلاط الممكن والمطلق في الشكل الأول فلا شك أن الكبرى إذا كانت ممكنة فالنتيجة مثلها لأن " ج " موضوعة " لب " و " ب " موضوعة لألف و " ا " محمولة عليها بالامكان فتكون الألف محمولة على الجيم كذلك بالامكان وأما إن كانت مطلقة صرفة لا ضرورة فيها البتة فلا خلاف أنها إن كانت موجبة فالنتيجة ممكنة حقيقية وذلك لأنا إن وضعنا أن النتيجة الممكنة الحقيقية كاذبة كان الصادق إما ضرورة إيجاب وإما ضرورة سلب فلنضع أولاً ضرورة السلب ولنجعل الصغرى الممكنة مطلقة موجودة وإن كذبنا ولكن يكون كذبنا غير محال فنقول بالضرورة ليس بعض " ج ا " وكل " ج ب " فبالضرورة ليس بعض " ب ا " وكان كل " ج ا " بالامكان هذا كذب محال والقياس منتج واحدى المقدمتين كذب غير محال فلا يلزم منه محال لأن الكذب الغير المحال ممكن في وقت ما أن يوجد ويوجد لا محالة حينئذ ما يلزمه معه لأنه إن كان يوجد هو دون ما يلزمه فليس ذلك لازماً له وإذا كان يوجد في حال فليس بكذب محال فالكذب الغير المحال لا يلزم منه محال فبقي أن يكون لزومه بسبب الضرورية السالبة فهي كاذبة ولنجعل أيضاً الضرورية إيجابية وقد بينا نحن أن النتيجة ضرورية أيضاً فنقول بعض " ج ا " بالضرورة وكل " ج ب " بالوجود الناشئ من الفرض الجائز فينتج بعض " ب ا " بالضرورة هذا خلف فإذاً النتيجة ممكنة حقيقية إلا أن تكون الكبرى مطلقة على الرأي الأول فحينئذ قد تنتج مطلقة على ذلك الرأي لأنا سنبين أن الكبرى الضرورية مع الصغرى الممكنة تنتج ضرورية فتكون تارة تنتج ضرورية وتارة تنتج غير ضرورية فيكون اللازم هو المطلق الذي يعمهما وأما إذا كانت الكبرى سالبة مطلقة فالمشهور أن النتيجة ممكنة عامة تارة - وتارة تكون ممكنة حقيقية وقد تنتج أيضاً ضرورية كقولنا كل إنسان يمكن أن يتفكر بالضرورة ولا شيء مما يتفكر بغراب فبالضرورة لا شيء من الناس بغراب وأما في التحقيق فإن هذا أيضاً إنما يكون إذا كانت المطلقة على حسب الرأي الأول وأما إن كانت مطلقة صرفة لم تنتج إلا ممكنة حقيقية وبنحو من ذلك البيان بعينه الذي قيل حيث كانت المطلقة موجبة لأنه إن لم يكن قولنا لا ضرورة في أن يكون أو لا يكون " ج ا " صادقاً فليكن ضرورة كون أو لا كون ونعمل ما عملناه هناك وأما المثال الذي أورد في المشهور فإنه لا الصفحة : 35 فصل في اختلاط الممكن والضروري في الشكل الأول أما اختلاط الممكن والضروري في الشكل الأول فإن كانت الكبرى ممكنة فلا شك أن النتيجة ممكنة لأن " ج " موضوعة " لب " و " ب " موضوعة لألف فيكون ألف محمولة على الجيم بالامكان - وأما إن كانت ضرورية فالمشهور أنها إن كانت موجبة فالنتيجة ممكنة حقيقية وإلا فليس يمكن أن يكون كل " ج ا " فإذاً بالضرورة ليس بعض " ج ا " وكانت بالضرورة كل " ب ا " فبالضرورة ليس بعض " ج ب " وكان ممكناً أن يكون كله " ب " هذا خلف وأما في التحقيق فليس الخلف بخلف فإن نقيض تلك النتيجة ليس بممكن عامي حتى يلزمه بالضرورة لا والحقيقة توجب أن النتيجة ضرورية لأنا إن وضعنا أن كل " ج ا " بالامكان الحقيقي وكان كل " ج ب " بالامكان الحقيقي أنتج على ما نبنيه بعد أن بعض " ب ا " بالامكان الحقيقي فأمكن أن لا كون " ا " وهو بالضرورة " ا " هذا خلف - ولنبين هذا بوجه آخر أقرب إلى الأفهام فنققول إنه إذا كان كل " ب ا " بالضرورة أي كل ما يقال له " ب " فذلك الشيء دائماً هو " ا " فج إذا قيل له " ب " كان دائماً " ا " لا ما دام ذات " ج " الموصوفة بأنها " ب " موجودة فإذا صار " ج " ما " ب " فإنه كون " ا " قبل كونه " باء " وكذلك بعد كونه وبعد زوال " ب " عنه والمثال لتقرير هذا قولنا كل إنسان يمكن أن يتحرك وكل متحرك جسم بالضرورة فكل إنسان جسم بالضرورة وأما إذا كانت الكبرى سالبة ضرورية فالمشهور أنه ينتج ممكنة عامية فتارة تصح ممكنة حقيقية وتارة تصح مطلقة والحق أن النتيجة ضرورية دائماً لما بيناه. الصفحة : 36 فصل في الممكنتين في الشكل الثاني لا قياس في الشكل الثاني عن ممكنتين فإنه يمكن أن تكون طبيعتان تحمل إحداهما على الأخرى كالحيوان على الإنسان ثم يسلب عن إحداهما شيء بالامكان ويوجب على الآخر ويمكن أن يكون كذلك طبيعتان مختلفتان كالانسان والفرس وليكن الحد الأوسط ف جميع ذلك الحركة ولا يمكن أن يبين بالعكس لأن هذه الممكنة لا تنعكس ولا يمكن أن يبين بالخلف لأن القياسات التي يطرد فيها الخلف مختلفة بالضروريات التي لم تعلم بعد وإذا علمت لم تنتج شيئاً يناقض المقدمات تعرفه بالتجربة. فصل في اختلاط الممكن والمطلق في الشكل الثاني وأما اختلاط الممكن والمطلق في الشكل الثاني فالمشهور أن السالبة إذا كانت مطلقة كلية يمكن عكسها وقيل إن كانت جزئية ويمكن الافتراض فيها فإنه يمكن اختلاطها مع الممكنة في قياس وتنتج نتيجة ممكنة عامة على ما قيل في الشكل الأول والا لم تنتج والحق إنه لا قياس من ممكنة ومطلقة في الشكل الثاني إلا أن لا تؤخذ المطلقة إلا حيث تصح ضرورية فحينئذ يكون اختلاطاً آخر في الحقيقة ويبين لك هذا بما قلناه في الاختلاط من الممكنتين والاختلاط من المطلقتين ف هذا الشكل ومن أمثلة ذلك كل إنسان متحرك بالامكان ولا حيوان واحد بمتحرك مطلقاً كما يستعمله المعلم الأول " فإنه لا ينتج ". الصفحة : 37 فصل في اختلاط الممكن والضروري في الشكل الثاني وأما اختلاط الممكن والضروري في الشكل الثاني فالمشهور أن لا يفرق بينه وبين الاختلاط الأول إلا في حال تضعيف النتيجة كما فرق في الشكل الأول وأما الحق فهو أن النتيجة دائماً ضرورية سالبة ولو عن سالبتين أو عن موجبتين أو كيف ما كان بعد أن تكون الكبرى كلية - وبيان ذلك بمثل بيان اختلاط المطلق والضروري في هذا الشكل. فصل في اختلاط الممكنتين في الشكل الثالث وأما الممكنتان في الشكل الثالث فقد يكون منهما قياس إذا كانت إحداهما كلية وإن كانت الصغرى سالبة وتنتج دائماً ممكنة حقيقية - وبيان ذلك إما فيما يرجع إلى الأول بعكس واحد فبالعكس وإما فما يرجع إلى الأول بعكس ولكن تحتاج في انتاج المطلوب إلى عكس ثان أو فيما لا يرجع إلى الأول بالعكس أصلاً فبالافتراض لأن عكس النتيجة الأولى وإن كانت تكون ممكنة فإنها تكون ممكنة عامية ولا يلزم من ذلك أن لا تكون ضرورية. فصل في اختلاط الممكن والمطلق في الشكل الثالث وأما اختلاط الممكن والمطلق في الشكل الثالث فالمشهور أنهما إذا كانتا موجبتين فالنتيجة ممكنة حقيقية لا محالة لأنك لا يمكنك أن تجعل المطلقة صغرى فتنتج الممكنة ولو بعكس ثان وأما إن كانت إحداهما سالبة والمطلقة موجبة فحكمها حكم الموجبتين لأن السالبة الممكنة موجبة في القوة فلا تغير من انتاج الممكن شيئا وإن كانت السالبة مطلقة فلا تكون في الأول إلا كبرى فتنتج ممكنة عامة فربما كانت حقيقية وربما كانت ضرورية وأما الحق فهو أن النتائج كلها ممكنة فإن كانت المطلقة صرفة فممكنة حقيقية وإن كانت غير صرفة فممكنة عامية ويبين ذلك إما بعكس واحد وإما بافتراض فيما سوى ذلك. الصفحة : 38 فصل في اختلاط الممكن والضروري في الشكل الثالث وأما اختلاط الممكن والضروري في الشكل الثالث فالمشهور أنه على ما قيل في الاختلاط الأول إلا في حال تضعيف النتيجة وأما الحقيقي من الرأي فيوجب أن النتيجة تتبع الكبرى وتبين ذلك في إحدى العكس بالعكس وفي غير احدى العكس بالافتراض. فصل في القضايا الشرطية قد قلنا في القياسات الحملية مطلقة ومنوعة ومتفقة الجهات ومختلفة وبقي علينا أن نذكر القياسات التي تنتج مطلوبات شرطية بالاقتران فإن الشرطيات قد تطلب كما تطلب الحمليات ولنذكر أولاً فصول تعين في تحقيق المقدمات الشرطية فنقول ليس الايجاب والسلب إنما هما الحمل فقط بل وفي الاتصال والانفصال فإنه كما أن الدلالة على وجود الحمل إيجاب في الحمل كذلك الدلالة على وجود الاتصال إيجاب في المتصل كقولنا إن كان كذا كان كذا والدلالة على وجود الانفصال إيجاب في المنفصل كقولنا إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا وكما أن الدلالة على رفع وجود الحمل سلب في الحمل كذلك الدلالة على رفع الاتصال كقولنا ليس إذا كان كذا كان كذا أو رفع الانفصال كقولنا ليس إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا سلب في المنفصل والمتصل وكل سلب فهو إبطال الايجاب ورفعه والايجاب والسلب في الاتصال والانفصال قد يكون محصوراً كلياً أو جزئياً وقد يكون مهملاً فإنك إذا قلت إذا كان كذا كان كذا - وإما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا وإذا قلت ليس إذا كان كذا كان كذا أو ليس إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا فقد أهملت وأما إذا قلت كلما كان كذا كان كذا أو دائماً إما أن يكون كذا أو يكون كذا فقد حصرت حصراً كلياً موجباً وإن قلت ليس البتة إذا كان كذا كان كذا أو ليس البتة إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا فقد حصرت حصراً كلياً سالباً وإن قلت قد يكون إذا كان كذا كان كذا أو قد لا يكون إما كذا وإما كذا فقد حصرت حصراً جزئياً موجباً وإن قلت قد لا يكون إذا كذا كان كذا أو ليس كلما كان كذا كان كذا أو قلت قد لا يكون إما كذا وإما كذا أو ليس دائماً إما كذا وإما كذا فقد حصرت حصراً سالباً جزئياً والجزء الأول من كل شرطي الذي يقرن به حرف الشرط وينتظر جوابه يمى مقدماً والثاني يسمى تالياً وكل واحد منهما في نفسه قضية: ثم قد يكون كل واحد منهما حملية وقد تكون شرطية متصلة ومنفصلة وقد تكون محصورة ومهملة وسالبة وموجبة وليس سلب الشرطية وإيجابها وحصرها وإهمالها تابعاً للمقدم الصفحة : 39 والتالي بل للشرط فإنك إذا قلت إذا كان ليس " ا ب " فليس " بج " فالمقدمة موجبة وإن كان المقدم والتالي سالبتين وإنما كانت موجبة لأنك أوجبت الاتصال وعلى هذا فقس في غيره. فصل في المقدمة الشرطية الواحدة والكثيرة والمقدم في الشرطي المتصل قد يكون قضايا كثيرة ومع ذلك فقد تكون المقدمة واحدة كقولك إذا كان كذا وكان كذا وكان كذا وكان كذا وكان كذا فحينئذ يكون كذا - وأما إذا كان التالي قضايا كثيرة فإن المقدمة المتصلة لا تكون واحدة كقولنا إذا كان كذا فيكون كذا ويكون كذا ويكون كذا فإن هذه ثلاث مقدمات فإن كل واحد مما ذكر في التالي تال بنفسه كما نقول زيد هو حيوان وأبيض وضحاك - فهذه ثلاث مقدمات أو ثلاث قضايا حملية. فصل في الشرطيات المحرفة وقد تستعمل مقدمات متصلة ومنفصلة محرفة عن ظاهرها مثل قولك لا يكون " ج د " ويكون " ا ب " معناه إن كان " ا ب " فلا يكون " ج د " ومثل قولك لا يكون " ج د " أو يكون " ا ب " فهو كقولك إما أن لا يكون " ج د " وإما أن يكون " ا ب " فهذا القدر كاف للذكي في تفهم المقدمات الشرطية فلنشرع في ذكر اقتراناتها. الصفحة : 40 فصل في القياسات الاقترانية من المتصلات أما الاقتران الكائن من المتصلات فإما أن يكون بأن يجعل مقدم إحداهما تالي الأخرى أو يشتركان في التالي أو يشتركان في المقدم وذلك على قياس الاشكال الحملية والشرائط فيها واحدة والنتيجة شرطية تحصل من اجتماع المقدم والتالي اللذين هما كالطرفين إما كلية وإما جزئية وإما سالبة وإما موجبة على قياس ما قيل في الاقترانات الحملية. فصل في القياسات الاقترانية من المنفصلات وأما الاقترانات من المنفصلات فلا يمكن أن تكون في جزء تام بل تكون في جزء غير تام وهو جزء تالي أو مقدم ويكون حينئذ على هذا القياس إما أن يكون هذا العدد زوجاً وإما أن يكون هذا العدد فرداً ونأخذ الزوج حداً أوسط ونضعه لأجزاء الانفصال في المنفصلة الثانية فنقول وكل زوج إما زوج الزوج وإما زوج الفرد وإما زوج الزوج والفرد ثم تترك في النتيجة الأوسط وتأخذ هكذا فكل عدد إما فرد وإما زوج الزوج وإما زوج الفرد وإما زوج الزوج والقرد فهذا هو المثال وأما شرائط الانتاج فيجب أن تكون الصغرى وهي مثل المنفصلة الأولى موجبة سواء كانت جزئية أو كلية ويكون الجزء المشترك فيه موجباً فيها والانفصال في الكبرى كلياً وعليك أن تعد قرائنه وقد يرد على غير هذا الشكل إلا أن ذكره بالمبسوطات من الكتب أولى فإنه أبعد من الطباع - وبالجملة ليعلم أنا إنما نورد من الاقترانات الشرطية كل ما أنتاجه لائح عن قرب ومناسب للطبايع في الاستعمال وأما ما دق عن ذلك فذكره في كتاب الشفاء وفي كتاب اللواحق وأما الاقتران من شرطي متصل وحملي على أن الحملي يشارك تالي المتصل والحملي مكان الكبرى ليذهب المشترك فيه وتبقى النتيجة من المقدم ومن جزئي التالي والحملي اللذين هما كالطرفين في حدودهما مثاله إن كان " ا ب " فكل " ج د " وكل " د ه " ينتج فإن كان " ا ب " فكل " ج ه " فإن كان الأوسط موضوع الحملي محمول في التالي على حسب ما ذكرناه ومثلناه فإنا نسميه الشكل الأول: وشريطته في الانتاج أن المتصلة إن كانت موجبة فيجب أن يكون الحال بين التالي والحملي كالحال بين مقدمتي الحمليات في الشكل الأول وتكون نتيجتهما شرطية مقدمها مقدم المتصل وتاليها ما تكون نتيجة التالي والحملي لو انفردا - ومثاله إن كان " ا ب " فكل " ج د " وكل " د ه " فينتج إن كان " ا ب " فكل " ج ه " وأما إن كانت المتصلة سالبة فالتأليف منها من جملة ما لم نذكره في هذا الباب وعليك أن تعد قرائنه وأما الذي نسميه بالشكل الثاني من هذا الصفحة : 41 الباب فهو إذا كانت النسبة بين التالي والحملي الكبرى كنسبة مقدمتي الشكل الثاني في الحمليات مثل أن نقول إن كان " ا ب " فكل " ج د " ثم نقول لا شيء من " ا د " وإن كانت المتصلة موجبة فالشرط كما قيل في الحمليات والنتيجة على ما قلناه مع السالبة وإن كانت المتصلة سالبة فله حكم آخر يذكر في غير مثل هذا الكتاب - وأما القرائن فعدها أنت بنفسك وأما الذي نسميه بالشكل الثالث في هذا الباب فذلك إذا كانت النسبة بينهما على ما في الثالث من الحمليات فإن كانت المتصلة موجبة فالشرط كما في الحمليات وإن كانت المتصلة سالبة فحكمه مذكور في الكتب المبسوطة وأما القرائن فعدها أنت بنفسك فإن جعلت في مثل هذا الاقتران الحملي مكان الصغرى حدثت أشكال ثلاثة على تلك الصفة " فالشكل الأول " إن كان المتصل موجباً فالشرط فيه كالشرط في الحمليات وإن كان سالباً فحكمه مذكور في كتب أخرى ومثاله كل " ج ب " وإذا كان " د ه " فكل " ب ا " فإذا كان " د ه " فكل " ج ا " " الشكل الثاني منه " أما إن كان المتصل موجباً فالشرط كما كان في الثاني من الحمليات وإن كان سالباً فحكمه في كتب أخرى " وأما الشكل الثالث " فلا يفارق في شريطته ما قيل في ثالث الحمليات إن كانت المتصلة موجبة وأما هذه الاقترانات بعينها من جانب المقدم بأن يكون الاشتراك بين الحملي ومقدم الشرطية فهي أقل استعمالاً في العلوم والأولى أن نذكر حالها في الكتب المبسوطة وقد يقع بين المنفصل وبين الحملي الواحد اقتران والطبيعي منه أن تكون الحملية هي الصغرى وتكون موجبة ومحمولها موضوع في الانفصال كله وتكون الشرطية كلية وعلى قياس الشكل الأول كقولك كل كثير معدود وكل معدود إما زوج وإما فرد فكل كثير إما زوج وإما فرد ويكون تأليفها أربعة وقد يقع بين منفصل صغرى وحمليات كبرى وتكون الحمليات بعدد أجزاء الانفصال ويكون هناك اشتراك لكل حملي مع أجزاء الانفصال في جزء وتكون جميع أجزاء المنفصل مشتركة في حد هو الموضوع وحينئذ إما أن يكون على سبيل تأليف الشكل الأول ويسمى الاستقراء التام كقولك كل متحرك إما أن يكون حيواناً وإما أن يكون نباتاً وإما أن يكون جماداً وكل حيوان جسم وكل نبات جسم وكل جماد جسم: ويجب أن تكون المنفصلة وأجزاؤها موجبة والحمليات كليات وقد تكون على سبيل الشكل الثاني والشرط بين أجزائه وأجزاء الحمليات هو الشرط الكائن بين حمليتين في الشكل الثاني ولا يكون على سبيل الشكل الثالث وقد يقع بين متصل ومنفصل - أما في جزء تام فينبغي أن تكون المتصلة صغرى والمنفصلة كبرى والمنفصلة موجبة واحداهما لا محالة كلية الصفحة : 42 وما لم تكونا كليتين لم تكن النتيجة كلية فيجوز أن يقال إنه ينتج متصلة ويجوز أن يقال أنه ينتج منفصلة مثالها إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإما أن يكون النهار موجوداً - وإما أن يكون الليل موجوداً ينتج على وجهين إما متصلة هكذا وإن كانت الشمس طالعة فليس الليل بموجود أو منفصلة هكذا إما أن تكون الشمس طالعة وإما أن يكون الليل موجوداً وأنت تعرف ضروبه وإما في جزء غير تام فيجب في الطبيعي منه أن يكون محمول التالي موضوعاً في أجزاء الانفصال والتالي كلياً موجباً ينتج الانفصال على الباقي من التالي وتكون النتيجة متصلة منفصلة التالي مثاله إن كان هذا الشيء كثير فهو ذو عدد وكل ذي عدد فإما زوج وإما فرد ينتج أنه لو كان هذا الشيء كثير فهو إما زوج وإما فرد وأنت تعرف ضروبه كل اقتران أمكن بين حملية وشرطية فإن مثله يمكن بين متصل وبين تلك الشرطية إذا كان الجزء الشرطي متصلاً مثل المتصل فيشاركه في مقدم أو تالي ويجب أن تقنع ههنا بما نورده - وأما الاستقصاء فتجده في الكتب البسيطة. فصل في القياس الاستثنائي القياس الاستثنائي مؤلف من مقدمتين إحداهما شرطية والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها ويجوز أن تكون حملية وشرطية وهي التي تسمى المستثناة فالمستثناة يلزمها النتيجة والشرطية الموضوعة تدل على اللزوم أو العناد والاستثناء من قياس فيه الشرطية متصلة إما أن يكون من المقدم فيجب أن يكون المستثني عين المقدم لينتج عين التالي كقولنا إن كان زيد مشي فهو يحرك قدميه لكنه يمشي فهو يحرك إذاً قدميه وإن كان من التالي فيجب أن يكون نقيضه لينتج نقيض المقدم كقولك لكنه ليس يحرك رجليه ينتج فإذاً ليس يمشي واستثناء نقيض المتقدم وعين التالي لا ينتج شيئاً يتبين ذلك لك بالاعتبار وأما إذا كانت الشرطية منفصلة فإن كانت ذات جزئين فقط موجبتين فأيهما استثنيت عينه أنتج نقيض الباقي وأيهما استثنيت نقيضه أنتج عين الباقي مثاله هذا العدد إما زوج وإما فرد ولكنه زوج فليس بفرد ولكنه فرد فليس بزوج ولكنه ليس بزوج فهو فرد ولكنه ليس بفرد فهو زوج وإن كان أحد الجزئين أو كلاهما سالباً لم ينتج إلا باستثناء النقيض كقولك إما أن لا يكون هذا الشخص حيواناً وإما أن لا يكون نباتاً لكنه حيوان فليس بنبات لكنه نبات فليس بحيوان - وكذلك إما أن يكون عبد الله في البحر وإما ألا يغرق فإنما ينتج هذا أيضاً باستثناء النقيض وستعلم أن استثناء العين لا يفيد في شيء من ذلك وإن الصفحة : 43 كانت المنفصلة ذات أجزاء كثيرة متناهية فأيها استثنيت نقيضه أنتج البواقي على انفصالها وأيها استثنيت نقيضه أنتج البواقي على انفصالها وأيها استثنيت عينه أنتج نقيض البواقي ولا ينتج لك عين واحدة منها إلا استثناء نقيض الجميع غيره وأما إذا كانت الأجزاء بلا نهاية فلا يفيد استعماله مثل أن تجعل محمولات الأجزاء الألوان الغير المتناهية أو شيء مما أشبه ذلك. فصل في القياسات المركبة وأما القياسات المركبة فقد تكون استثنائيات وقد تكون اقترانيات وليس يقال تركيب القياس لما يكون المطلوب والنتيجة في كل قياس شيئاً واحداً بل ذلك يسمى تكثير القياس وإنما تركيب القياس أن تكون القياسات المجموعة إذا حللت إلى أفرادها كان ما ينتج كل واحد منها شيئاً آخر إلا أن نتائج بعضها مقدمات لبعض وقد اختصرت وربما لم يصرح بها فيكون القياس القريب من المطلوب الأول قياساً من مقدمتين وإنما دخلت القياسات لتبيين المقدمتين وربما اختلط بها استقراء أو تمثيل أو غير ذلك - وسنذكر الاستقراء والتمثيل وتركيب القياس قد يكون موصولاً وهو أن لا تطوى فيه النتائج بل تذكر مرة بالفعل نتيجة ومرة مقدمة كقولك كل " ج ب " وكل " ب ه " فكل " ج ه " وكل " ه د " فكل " ج د " والقياس الذي زاده المحدثون في الشرطيات الاستثنائية هو قياس مركب وأخذوه على أنه مفرد كقولك إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود وإن كان النهار موجود فالأعشى يبصر والشمس طالعة فإذا الأعشى يبصر وههنا قد طويت نتيجة هي بالقوة استثناء لمقدم المقدمة الأولى كأنه قال لكن الشمس طالعة قلزم منه نتيجة وهي قوله فالنهار موجود وتلك النتيجة تلزم من هذه النتيجة الصفحة : 44 فصل في اكتساب المقدمات وأما اكتساب المقدمات فذلك بأن تضع حدى الشيء المطلوب من القياس وتأخذ خاص كل واحد منهما وحده وما يلحق كل واحد منهما من الأجناس وأجناسها وفصولها والفصول الخاصة به والعوارض اللازمة وغير اللازمة وترتقي في ذلك وتستكثر ما أمكنك وتطلب أيضاً ما يحمل عليه كل واحد منهما وتطلب ما لا يحمل على كل واحد منهما وتضع كل جملة على حدة ففي الايجاب الكلي تنظر أنه هل في جملة ما يحمل على الموضوع شيء هو من جملة ما يوضع للمحمول وفي السلب الكلي تنظر هل تجد في لواحق أحد الطرفين ما لا يلحق الآخر وفي الايجاب الجزئي تنظر هل في ملحوقات أحد الطرفين ما هو ملحوق الآخر أو في لواحقه لا لكله ما يلحقه الآخر وفي السلب الجزئي تنظر هل في ملحوقات أحد الحدين ما لا يلحقه الآخر أو في لواحق بعض أحد الطرفين ما لا يلحقه الآخر فصل في تحليل القياس وتحليل القياس هو أن تميز المطلوب وتنظر في القول المنتج له هل تجد فيه شيئاً يشاركه فإن وجدت فانظر هل هو محموله أو موضوعه فإذا وجدت فقد وجدت الصغرى أو الكبرى ووجدت الأوسط ثم انظر إلى أن المطلوب بأي شكل يبين فضم إلى الأوسط الطرف الثاني من المطلوب على هيئة ذلك الشكل وذلك الضرب فإن أمكنك ذلك فقد وجدت المقدمتين بالفعل وتم لك الشكل وراع أن كان هناك تركيب فتدرج من نتيجة إلى نتيجة قبلها حتى تبلغ القياسات الأولى وربما كان اللفظ في النتيجة غير الذي في المقدمة فاشتغل بالمعنى ولا تلتفت إلى اختلاف اللفظ عند اتفاق المعنى وربما كان في أحدهما اسم وفي الآخر اسم آخر أو كان في الآخر قول فيجب أن تراعى جميع ذلك وتراعى الفرق بين العدول والسلب فلا تأخذ الموجبة المعدولة على أنها سالبة. الصفحة : 45 فصل في استقرار النتائج التابعة للمطلوب الأول كل نتيجة فإنها تستتبع عكسها وعكس نقيضها وجزئيتها وعكس جزئيتها إن كان لها عكس وتحتها جزئي وكل قياس فإنه يستتبع الحكم بالأكبر على جميع موضوعات الأصغر استتباعاً كأنه بالظن هو بعينها كما يستتبع الحكم بالأكبر على جميع ما يشارك الأصغر في الدخول تحت الأوسط - وهذا إذا كان في الشكل الأول. فصل في النتائج الصادقة من مقدمات كاذبة وقد تنتج المقدمات الكاذبة نتيجة صادقة فمن الحق أنه إذا كان القياس صحيح التأليف صادق المقدمات وجب أن تكون النتيجة صادقة ولكن ليس إذا استثنى نقيض المقدم فقيل لكنه كاذب المقدمات أو فاسد التأليف أنتج نقيض التالي وهو أنه يجب أن لا ينتج نتيجة صادقة ومثل هذا أنك إذا قلت كل إنسان حجر وكل حجر حيوان أنتج أن كل إنسان حيوان - وهذا صدق ولكن الكذب إما أن يكون في مقدمة جزئية وإما ان يكون في مقدمة كلية وإذا كان في مقدمة كلية فإما أن يكون الكذب في الكل حتى يكون ضد المقدمة صادقاً وإما أن يكون في الجزء حتى لا يكون ضد المقدمة صادقاً بل نقيضها مثال الأول كل إنسان حجر ومثال الثاني كل إنسان كاتب فإن كان الكاذب في الشكل الأول مقدمة واحدة هي الكبرى وكانت كاذبة بالكلية لم يمكن أن ينتج صادقة - وذلك لأن نتيجتها إن كانت صادقة ثم وضع ضدها كبرى أنتج القياس مقابل تلك النتيجة صادقاً وهذا محال وأما إن كانت كاذبة بالجزء فلا يمنع ذلك انتاج الصدق وأما إذا كانت الصغرى كاذبة أو كلتاهما كاذبتين أو في شكل آخر فقد ينتج الصدق عن الكذب كيف كان ويجب أن تستخرج أنت ذلك بنفسك. الصفحة : 46 فصل في قياس الدور وأما قياس الدور فهو أن تأخذ النتيجة وعكس إحدى المقدمتين فتنتج المقدمة الثانية وإنما يمكن هذا إذا كانت الحدود في المقدمات متعاكسة متساوية تنعكس بلا تغيير الكمية وذلك في الموجبة مثل أن نقول كل إنسان متفكر وكل متفكر ضحاك فكل إنسان ضحاك ثم نقول كل إنسان ضحاك وكل ضحاك متفكر فكل إنسان متفكر وأيضاً كل متفكر ضحاك وكل ضحاك إنسان فكل متفكر إنسان وأيضاً كل متفكر إنسان وكل إنسان ضحاك فكل متفكر ضحاك وأيضاً كل ضحاك إنسان وكل إنسان متفكر فكل ضحاك متفكر وأيضاً كل ضحاك متفكر وكل متفكر إنسان فكل ضحاك إنسان وعلى هذا القياس وأما إن كانت المقدمة سالبة وأريد استنتاج موجبة بقياس الدور فلا يمكن إلا أن يكون المسلوب خاص السلب عن الموضوع فلا يسلب عن غيره كما يكون في الإيجاب الموجب خاص الايجاب على الموضوع فلا يوجب على غيره كقولك لا شيء من الجواهر بعرض فتعكسه وتقول وما ليس بعرض فهو جوهر وإذا أمكن في السلب هذا العكس أمكن الدور بعد نقل النتيجة السالبة إلى المعدولة مثل قولك كل إنسان جوهر ولا شيء من الجواهر بعرض فلا شيء من الناس بعرض ثم تقول بعد أن تنتقل هذه النتيجة السالبة من السلب إلى العدول كل إنسان فهو ليس بعرض وما ليس بعرض فهو جوهر فكل إنسان جوهر ثم عليك أن تتعرف أن الدور لكل مطلوب وفي كل شكل كيف يكون. الصفحة : 47 فصل في عكس القياس وأما عكس القياس فهو أن يؤخذ مقابل النتيجة بالضد أو النقيض ويضاف إلة إحدى المقدمتين فينتج مقابل المقدمة الأخرى ويستعمل احتيالاً في الجدل لمنع القياس بتغيير اسم بعض حدود النتيجة لئلا يفطن إلى وجه الاحتيال مثلاً إن كان القياس أن كل " ج ب " وكل " ب ا " فأنتج كل " ج ا " قلت لا شيء من " ج ا " وكل " ج ب " فلا كل " ب ا " فقد أبطلت الكبرى أو قلت لا شيء من " ج ا " وكل " ب ا " فلا شيء من " ج ب " فقد أبطلت الصغرى فيجب أن تمتحن هذا في كل شكل وكل ضرب وتعرف أن المقابلة هي باعتبار الضد أو النقيض. فصل في قياس الخلف قياس الخلف هو الذي تبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه فيكون هو بالحقيقة مركباً من قياس استثنائي مثاله إن لم يكن كل " ا ب " فليس كل " ا ب " وكل " ج ب " فهذا قياس اقتراني من شرطية متصلة وحملية وينتج إن لم يكن كل " ا ب " فليس كل " ا ج " ثم تجعل النتيجة مقدمة وتستثني نقيض تاليها فتقول إن لم يكن كل " ا ب " فلس كل " ا ج " لكن كل " ا ج " وهو نقيض التالي ينتج نقيض المقدم وهو أن كل " ا ب " وهذا هو صورة قياس الخلف وصورة استتباعه بالشرطيات وإن كان أكثر الناس يتحيرون في تحليله وقياس الخلف مشابه لعكس القياس لأنه يؤخذ فيه نقيض مطلوب ما ويقرن به مقدمة فينتج أبطال مسلم فلو أن إنساناً أخذ نقيض تالي نتيجة قياس الخلف مع المقدمة المسلمة لأنتج المطلوب بالاستقامة كما لو قال كل " ا ج " وكل " ج ب " لأنتج كل " ا ب " وكل قياس خلف إذا عكس صار مستقيماً ويفترق قياس الخلف وعكس القياس بأن عكس القياس هو بعد قياس معمول وأما قياس الخلف فهو مبتدأ وإن كان بالقوة عكساً لقياس الاستقامة فانظر الآن أن كل مطلوب ما نقيضه وكيف يمكن أن يقرن به مقدمة لينتج محالاً وفي أي شكل يمكن ذلك. الصفحة : 48 فصل في القياس الذي من مقدمات متقابلة والقياس الذي من مقدمات متقابلة هو قياس مؤلف من مقدمتين مشتركتين في الحدود مختلفتين بالكيف ولكن إنما يروج بأن يبدل الاسم في بعض الحدود حتى لا يفطن لكذبه فلا يقال فيه مثلاً بعد قولهم إن الانسان ضاحك الانسان ليس بضاحك ولكن يقولون بعد قولهم إن الانسان ضاحك أن البشر ليس بضاحك ونتيجة هذا القياس هو أن الشيء ليس نفسه مثل أن الانسان ليس ببشر وإنما يستعمله المغالطون على سبيل التبكيت وربما استعمل على سبيل الجدل إذا كان الخصم يتناقض في مأخذه بأن يتسلم منه مقدمة ثم يتسلم منه مقدمات أخرى تنتج نقيض تلك المسلمة فتؤخذ النتيجة ونقيضها الأول المسلم ويعمل قياس من متقابلتين ينتج أن الشيء ليس هو إياه. فصل في المصادرة على المطلوب الأول المصادرة على المطلوب الأول هو أن يجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد به إنتاجه كمن يقول إن كل إنسان بشر وكل بشر ضحاك فكل إنسان ضحاك والكبرى ههنا والنتيجة شيء واحد ولكن أبدل الاسم احتيالاً ليوهم المخالفة فأي مقدمة جعلت هي النتيجة بتبديل اسم ما فالمقدمة الأخرى تكون طرفاها معنى واحداً ذا اسمين مترادفين كما قلنا إن الانسان بشر وهو كقولك إن الانسان انسان - هذا إذا كانت المصادرة على المطلوب الأول بقياس واحد - وأما في الأكثر فإنما يقع في قياسات متركبة متتالية بأن يكون المطلوب تبين بمقدمة تلك المقدمة إنما أنتجت بقياس بعض مقدماته المطلوب نفسه وكلما كان أبعد كان من القبول أقرب ثم تأمل أنت كيف يمكن في كل شكل. الصفحة : 49 فصل في بيان أن الشيء كيف يعلم ويجهل معاً الانسان الواحد قد يعلم الشيء بعلم لا يخصه بل يعمه وغيره ويجهله فيما يخصه فلا يعلمه البتة أو يعتقد في خاصته رأياً أو ظناً باطلاً وهو لا يشعر مثل أن يكون الانسان يعلم أن كل اثنين هو عدد زوج ولا يعلم أن الاثنين اللذين في يد زيد هو زوج أو ليس بزوج وربما ظنه فرداً لأنه لا يعلمه اثنين أو عند ما يعلمه اثنين ليس يخطر بباله أن كل اثنين زوج وهذا الجهل لا تناقض فيه مع ذلك العلم لأنه إنما علم أن كل شيء يكون اثنين فهو علم زوج " ولم يعلم أن كل اثنين بالفعل وأنه زوج " ومهما علم أن هذا الشيء اثنان علم حينئذ أنه زوج بعلمه الاول الكلي فيكون هذا علماً كلياً فلا يناقضه الجهل الجزئي وقد يمكن أن يعلم الشيء بالقوة ويجهله بالفعل بأن يكون إنما يعلم المقدمة الكبرى الكلية أو يعلمها مع الصغرى أيضاً ولا يعلم النتيجة وذلك لأن العلم بهما شيء غير العلم بالنتيجة ولكنه علة للعلم بالنتيجة وليس علة كيف اتفق بل إذا اقترنا بالفعل عند الذهن وأما إذا كانا معلومين على الافتراق ولم يقترنا بعد أو لم يخطر بالبال معاً موجهين نحو النتيجة فليسا علة بالفعل ولا يلزم معلولهما وهو العلم بالنتيجة بالفعل مثل أن يكون إنساناً يعلم أن كل بغلة عاقر علماً على حدة ويعلم أيضاً أن هذا الحيوان بغلة ويراه منتفخ البطن فيظن أنه حامل ولو اقترن عنه العلمان معاً لما كان يظن هذا الظن وقد يمكن أن يتناقض الفكر والوهم فإن الوهم تبع للحس فكل شيء خالف المحسوس فإن الوهم إما أن يمنع وجوده وإما أن يجعل وجوده على نحو وجود المحسوسات فلهذا ما كنا نعقل أن الكل متناه لا إلى ملاء ولا إلى خلاء ولكننا لا نتصور في أنفسنا أبداً إلا ملاء أو خلاء بعد ملاء بلا نهاية ونعقل أن للكل مبدأ غير مشار إليه ولا له مكان ولا هو في جهة لكن الوهم يوجب وجوده على أحد هذه الأحوال ولا يكاد يمكنه التخلص منها. الاستقراء هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي إما كلها وهو الاستقراء التام وإما أكثرها وهو الاستقراء المشهور فكأنه يحكم بالأكبر على الواسطة لوجود الأكبر في الأصغر ومثاله أن كل حيوان طويل العمر فهو قليل المرارة لأن كل حيوان طويل العمر فهو مثل إنسان أو فرس أو ثور والانسان والفرس والثور قليل المرارة ومن عادتهم أن لا يذكروه على هذا النظم بل يقتصرون على ما هو كالصغرى أو ما هو كالكبرى. الصفحة : 50 فصل في التمثيل وأما التمثيل فهو الحكم على شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين أو أشياء أخر معينة على أن ذلك الحكم كلي على المعنى المتشابه فيه فيكون المحكوم عليه هو المطلوب والمنقول منه الحكم هو المثال والمعنى المتشابه فيه هو الجامع والحكم هو المحكوم به على المطلوب المنقول من المثال مثاله إن العالم محدث لأنه جسم مؤلف فشابه البناء والبناء محدث فالعالم محدث فههنا عالم وبناء وجسمية ومحدث. فصل في الضمير الضمير هو قياس طويت مقدمته الكبرى إما لظهورها والاستغناء عنها كما جرت العادة في التعاليم كقولك خطا " ا ب و ا ج " خرجا من المركز إلى المحيط " وكل خطين خرجا الخ " إنهما متساويان وقد حذفت الكبرى وإما لا خفاء كذب الكبرى إذا صرح بها كلية كقول الخطابي هذا الانسان مخاطب العدو فهو إذاً خائن مسلم للثغر ولو قال وكل مخاطب للعدو فهو خائن لشعر بما يناقض به قوله ولم يسلم. فصل في الرأي الرأي مقدمة كلية محمودة مسوقة في أن كذا كائن أو غير كائن موجود أو غير موجود صواب فعله أو غير صواب وتؤخذ دائماً في الخطابة مهملة وإذا عمل منها قياس ففي الأغلب يصرح وتؤخذ دائماً في الحطابة مهملة وإذا عمل منها قياس ففي الأغلب يصرح بتلك المقدمة على أنها كبرى وتطوي الصغرى كقولك الحساد يعادون والأصدقاء ينصحون " ويكون القياس هكذا هؤلاء حساد والحساد يعادون فهؤلاء يعادون - أو هؤلاء أصدقاء الأصدقاء ينصحون فهؤلاء ينصحون ". الصفحة : 51 فصل في الدليل الدليل في هذا الموضع قياس إضماري حده الأوسط واحد إذا وجد للأصغر تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائماً كيف كان ذلك التبع ويكون على نظام الشكل الأول لو صرح بمقدمتيه - ومثاله قولك هذه المرأة ذات لبن " وكل ذات لبن قد ولدت " فهي إذاً قد ولدت وربما سمى هذا القياس نفسه دليلاً وربما سمى به الحد الأوسط. فصل في العلاقة وأما العلاقة فإنها قياس إضماري حده الأوسط إما أعم من الطرفين معاً حتى لو صرح بمقدمتيه كان المنتج منه من موجبتين في الشكل الثاني كقولك هذه المرأة مصفارة فهي إذاً حبلى وإما أخص من الطرفين حتى لو صرح بمقدمتيه كان من الشكل الثالث كقولك إن الشجعان ظلمة لأن الحجاج كان شجاعاً وظالماً. فصل في القياس الفراسي وأما القياس الفراسي فإنه شبيه بالدليل من وجه وبالتمثيل من وجه والحد الأوسط فيه هيئة بدنية توجد للإنسان المتفرس فيه ولحيوان آخر غير ناطق ويكون من شأن تلك الهيئة أن تتبع مزاجاً يتبعه خلق فإنه إذا سلم أن الهيئات البدنية تتبع الأمزجة والمواد وتتبع تلك الأمزجة أخلاق ما فتكون الأمزجة والمواد علة للهيئة وللخلق: والهيئة والخلق تابعان لها في البدن أحدهما معلول للآخر في النفس وتكون حدوده أربعة كحدود التمثيل مثل زيد والاسد وعظم الأعالي الموجودة لهما والشجاعة الموجودة للأسد مسلمة لزيد بالحجة بعد أن تتبعت أصناف الحيوان المشاركة للأسد في الأخلاق فوجد أن كل ما يشاركه في الشجاعة يشاركه في الهيئة وإن خالفه كثير في خلق آخر كالكرم المنسوب إليه الذي يخالف فيه النمر ويشاركه في عظم الصدر والشجاعة وما لا يشاركه في الشجاعة لا يشاركه في هذه وإن شاركه في خلق آخر كالكرم فيقال إن فلاناً عريض الصدر شجاع لأن الأسد عريض الصدر وشجاع. البرهان الصفحة : 52 فصل في التصور والتصديق كل علم فإنه إما تصور لمعنى ما أو تصديق وربما كان تصور بلا تصديق مثل من يتصور القائل إن الخلاء موجود ولا يصدق به ومثل ما يتصور معنى الانسان وليس له فيه ولا في شيء من المفردات تصديق ولا تكذيب وكل تصديق وتصور فإما مكتسب يبحث ما - وإما واقع ابتداء والذي يكتسب به التصديق هو القياس وما يشبهه من الأمور التي ذكرناها والذي يكتسب به التصور فهو الحد وما يشبهه من الأمور التي سنذكرها وللقياس أجزاء مصدق بها ومتصورة وللحد أجزاء متصورة وليس يذهب ذلك إلى غير نهاية حتى تكون تلك النهاية ولكن الأمور تنتهي إلى مصدقات بها ومتصورات بلا واسطة ولنعد المصدق بها بلا واسطة. فصل في المحسوسات المحسوسات هي أمور أوقع التصديق بها الحس كقولك الثلج أبيض وكقولك إن الشمس نيرة. فصل في المجربات المجربات هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس وذلك أنه إذا تكرر في إحساسنا وجود شيء لشيء مثل الاسهال للسقمونيا والحركات المرصودة للسماويات تكرر ذلك منا في الذكر وإذا تكرر منا ذلك في الذكر حدثت لنا منه تجربة بسبب قياس اقترن بالذكر وهو أنه لو كان هذا الأمر كالاسهال مثلاً عن السقمونيا اتفاقياً عرضياً لا عن مقتضى طبيعته لكان لا يكون في أكثر الأمر من غير اختلاف حتى أنه إذا لم يوجد ذلك استندرت النفس الواقعة فطلبت سبباً لما عرض من أنه لم يوجد وإذا اجتمع هذا الاحساس وهذا الذكر مع هذا القياس أذعنت النفس بسبب ذلك التصديق بأن السقمونيا من شأنها إذا شربت أن تسهل صاحبها. الصفحة : 53 فصل في المتواترات المتواترات هي الأمور المصدق بها من قيل تواتر الأخبار التي يصح في مثلها المواطأة على الكذب لغرض من الأغراض كضرورة تصديقنا بوجود الأمصار والبلدان الموجودة وإن لم نشاهدها. فصل في المقبولات المقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول إما لأمر سماوي يختص به أو لرأي وفكر قوي تميز به مثل اعتقادنا أموراً قبلناها عن أئمة الشرائع عليهم السلام " قبل أن يتحققها بالبرهان أو شبهه ". فصل في الوهميات الوهميات هي آراء أوجب اعتقادها قوة الوهم التابعة للحس مصروفة إلى حكم المحسوسات لأن قوة الوهم لا يتصور فيه خلافها: ومثال ذلك اعتقاد الكل من الدهماء " ما لم يصرفوا عنه قسراً " إن الكل ينتهي إلى خلاء أو أن يكون الملاء غير متناه ومثل تصديق الأوهام الفطرية كلها بأن كل موجود فيجب أن يكون متحيزاً في جهة - وهذان المثالان من الوهميات الكاذبة وقد يكون منها صادقة يتبعها العقل مثل أنه كما لا يمكن أن يتوهم جسمان في مكان واحد فكذلك لا يوجد ولا يعقل جسم واحد في وقت واحد في مكانين والوهميات قوية جداً عند الذهن والباطل منها إنما يبطل بالعقل ومع بطلانه لا يزول عن الوهم - ولذلك لا تتميز في بادئ الأمر عن الأوليات العقلية ومشابهاتها لأنا إذا رجعنا إلى شهادة الفطرة رأينا الفطرة تشهد بها شهادتها بالعقليات ومعنى الفطرة أن يتوهم الانسان نفسه حصل في الدنيا دفعة وهو بالغ عاقل لكنه لم يسمع رأياً ولم يعتقد مذهباً ولم يعاشر أمة ولم يعرف سياسة لكنه شاهد المحسوسات وأخذ منها الخيالات ثم يعرض على ذهنه شيئاً ويتشكك فيه فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به وإن لم يمكنه الشك فهو ما توجبه الفطرة وليس كل ما توجبه فطرة الإنسان بصادق بل كثير منها كاذب إنما الصادق فطرة القوة التي تسمى عقلاً وأما فطرة الذهن بالجملة فربما كان كاذباً وإنما يكون هذا الكذب في الأمور التي ليست بمحسوسة بالذات إما هي مثل مبادئ المحسوسات كالهيولى والصورة بل العكس والباري تعالى أو هي أعم من المحسوسات كالوحدة والكثرة والتناهي واللاتناهي والعلة والمعلول وما أشبه ذلك فإن العقل لما كان يبتدئ من مقدمات الصفحة : 54 يساعده عليها الوهم ولا يناقض في شيء منها ولا ينازع ثم إذا انتهى إلى نتائج مضادة لمقتضى فطرة الوهم أخذ الوهم حينئذ في الامتناع عن تسليم الحق اللازم فيعلم أن هذه الفطرة فاسدة وأن السبب فيه أن هذه جبلة قوة لا تتصور شيئاً إلا على نحو المحسوس - وهذا مثل مساعدة الوهم العقل في جميع المقدمات التي أنتجت أن من الموجودات ما ليس له وضع ولا هو في مكان ثم امتناعه عن التصديق بوجود هذا الشيء ففطرة الوهم في المحسوسات وفي الخواص التي لها من جهة ما هي محسوسة صادقة يتبعها العقل بل هو آلة للعقل في المحسوسات وأما فطرتها في الأمور التي ليست بمحسوسة لتصرفها إلى وجود محسوس فهي فطرة كاذبة. فصل في الذائعات وأما الذائعات فهي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إما شهادة الكل مثل أن العدل جميل وإما شهادة الأكثر وإما شهادة العلماء أو شهادة أكثرهم أو الأفاضل منهم فيما لا يخالف فيه الجمهور وليست الذائعات من جهة ما هي هي بما يقع التصديق بها في الفطرة فإن ما كان من الذائعات ليس بأولى عقلي ولا وهمي فإنها غير فطرية ولكنها متقررة عند الأنفس لأن العادة تستمر عليها منذ الصبا وفي الموضوعات الاتفاقية وربما دعا إليها محبة التسالم والاصلاح المضطر إليهما الانسان أو شيء من الاخلاق الانسانية مثل الحياء والاستئناس أو سنن قديمة بقيت ولم تنسخ أو الاستقراء الكثير أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق بين أن يكون حقاً صرفاً أو باطلاً صرفاً فلا يفطن لذلك الشرط ويؤخذ على الاطلاق وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الذائع والفطري فاعرض قولك العدل جميل والكذب قبيح على الفطرة التي عرفنا حالها قبل هذا الفصل وتكلف الشك فيهما تجد الشك متأتياً فيهما وغير متأت في أن الكل أعظم من الجزء وهو حق أولى - وفي أن الكل ينتهي عند شيء خارج خلا أو ملأ وهو فطري وهمي والأوليات والوهميات أيضاً ذائعة. وربما عرض من الأسباب ما زيف الوهميات فأخرجها عن الذائعات وأما الذائعات المحمودة في بادئ الرأي الغير المتعقب فهي آراء إذا عرضت على الأذهان العامية الغير الفطنة أو الفطنة الغافلة عرضاً بغتة أذعنت لها وإذا تعقبت لم تكن محمودة كقول القائل يجب أن تنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً وليس الشيء الواحد ذائعاً في البادي بالقياس إلى كل سامع بل إلى نفس نفس. الصفحة : 55 فصل في المظنونات والمظنونات هي آراء يقع التصديق بها لا على الثبات بل يخطر إمكان نقيضها بالبال ولكن الذهن يكون إليها أميل. فإن لم يخطر إمكان نقيضها بالبال وكان إذا عرض نقيضه على الذهن لم يقبله الذهن ولم يمكنه فليس بمظنون صرف بل هو معتقد فإن قيل له مظنون فباشتراك الاسم وكأنه إنما يقال ذلك لمعتقد غير حق أو غير واجب الحقية وما كان من المعتقدات غير حق أو غير واجب القبول وكان لا يخطر نقيضه بالبال لكنه إذا تكلف اخطاره بالبال لم يجب حينئذ أن يحمد ويقبل وعاد شنعاً أو مشكوكاً فيه بحسب الشهرة فهو الذائع في البادي وبذلك ينفصل عن المظنون. فصل في المخيلات المخيلات هي مقدمات ليست تقال ليصدق بها بل لتخيل شيئاً على أنه شيء آخر وعلى سبيل المحاكاة ويتبعه في الأكثر تنفير للنفس عن شيء أو ترغيبها فيه وبالجملة قبض أو بسط مثل تشبيهنا العسل بالمرة فينفر عنه الطبع وكتشبيهنا التهور بالشجاعة أو الجبن بالاحتياط فيرغب فيه الطبع. الصفحة : 56 فصل في الأوليات الأوليات هي قضايا ومقدمات تحدث في الانسان من جهة قوته العقلية من غير سبب يوجب التصديق بها إلا ذواتها. والمعنى الجاعل لها قضية وهو القوة المفكرة الجامعة بين البسايط على سبيل إيجاب أو سلب فإذا حدثت البسائط من المعاني بمعونة الحس والخيال أو بوجه آخر في الانسان ثم الفتها المفكرة الجامعة وجب أن يصدق بها الذهن ابتداء بلا علة أخرى ومن غير أن يشعر أن هذا مما استفيد في الحال بل يظن الانسان أنه دائماً كان عالماً به ومن غير أن تكون الفطرة الوهمية تستدعي إليها على ما بيناه ومثال ذلك أن الكل أعظم من الجزء وهذا غير مستفاد من حس ولا استقراء ولا شيء آخر نعم قد يمكن أن يفيده الحس تصوراً للكل وللأعظم وللجزء وأما التصديق بهذه القضية فهو من جبلته وما كان من الوهميات صادقاً على ما أوضحنا فهو في هذه الجملة واعلم أن الحس إنما يدرك الجزئيات الشخصية والذكر والخيال ما يحفظان ما يؤديه الحس على شخصيته أما الخيال فيحفظ الصورة. وأما الذكر فيحفظ المعنى المأخوذ منه وإذا تنكر الحس كان ذكراً وإذا تكرر الذكر كان تجربة وقد قيل في الحسيات والتجربيات ما فيه كفاية في مثل هذا الكتاب والفكر العقلي ينال الكليات متجردة والحس والخيال والذكر تنال الجزئيات فإن الحس لا ينال الانسان المقول على كثيرين - وكذلك الخيال فإنك أي صورة أحضرتها في التخيل أو في الحس الجسماني لم يمكنك أن تشرك فيها سائر الصور الجزئية الشخصية لأن ما يرتسم في الحس أو الخيال يكون مع عوارض من الكم والكيف والأين والوضع غير ضرورية في الانسانية ولا مساوية لها فالكليات والتصديقات والتصورات الواقعة فيها غير ضرورية في الانسانية ولا مساوية لها فالكليات والتصديقات والتصورات الواقعة فيها غير مدركة بالحس ولا بالتخيل ولا أيضاً عللها حدس أو تجربة لكنهما معاونان للعقل أما من جهة التصور فلأن الحس يعرض على الخيال أموراً مختلطة والخيال يعرضها على العقل ثم العقل يفعل فيها التمييز والتجزئة ويأخذ كل واحد من المعاني مفرداً ويرتب الأخص والأعم والذاتي والعرضي فترتسم حينئذ في العقل المعاني الأولى للمتصورات ثم يركب منها الحدود - فإما من جهة التصديق فقد يعينه الحس فقد يعينه الحس والخيال من طريق التجربة أو الحدس وقد يعينه بالاستقراء والفرق بين الاستقراء والتجربة معلوم واستعانته به من طريق الاستقراء إما على سبيل الاحتجاج وإما على سبيل التنبيه كمن يستقري جزئيات أمور أحكامها بينه الصدق إلا أن الصفحة : 57 بالنفس عنها غفلة وقد يعين على سبيل العرض بأن يعين أولاً في اعطاء المتصورات ثم المتصورات تأتلف بإيجاب وسلب فيلوح للعقل ما يجب أن يصدق به بذاته ويلوح له القياس فيما يجب أن يكتسب به من التصديق. فصل في البرهان البرهان قياس مؤلف من يقينيات لانتاج يقين واليقينيات إما الأوليات وما جمع معها وإما التجريبيات وإما المتواترات وإما المحسوسات وقد فهمناها وأما الذائعات والمقبولات والمظنونات فخارجة عن هذه الجملة. هو برهان اللم وبرهان الان أما برهان اللم فهو الذي ليس إنما يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق بها فقط حتى تكون فائدته أن تعتقد أن القول لم يجب التصديق به بل يعطيك أيضاً مع ذلك علة اجتماع طرفي النتيجة في الوجود فتعلم أن الأمر لم هو في نفسه كذا فيكون الحد الأوسط فيه علة لتصديقك بالنتيجة وعلة لوجود النتيجة لأنه علة للحد الأكبر إما على الاطلاق كقولك هذه الخشبة مثلاً أحالها شيء قوى الحرارة وكل شيء أحاله شيء قوى الحرارة فهو محترق - فهذه الخشبة محترقة وإما لا على الاطلاق بل علة لوجود للأصغر مثل أن يكون الحد الأوسط نوعاً ما وله جنس أو فصل أو خاصة فنحمل ذلك الحد عليه أولاً ونحمل عليه ما وضع تحته مثل قولك كل شكل متساوي الساقين فهو مثلث وكل مثلث فإن زواياه الثلاث مساوية لقائمتين. الصفحة : 58 فصل في برهان الآن وأما برهان الآن فهو الذي إنما يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق فيعتقد أن القول لم يجب التصديق به ولا يعطيك أن الأمر في نفسه لم هو كذلك لأن الحد الأوسط فيه ليس هو علة للأكبر في ذاته بوجه ولا علة لوجود الحد الأكبر في الأصغر وربما كان معلولاً له كقولنا هذه الخشبة محترقة فإذا قد أحالها شيء حار والاحتراق معلول لوجود الحد الأكبر في الأصغر وما كان هكذا فليسم دليلاً. فصل في مطلب هل مطلب هل هو ما يطلب به أن يتعرف الايجاب أو السلب وبالجملة التصديق وهو إما مطلب هل مطلقاً كقولك هل الله موجود وهل الخلاء موجود وإنما يطلب به أن يتعرف بهذا المطلب حال الشيء في الوجود المطلق أو العدم المطلق وأما مطلب هل مقيداً كقولنا هل الله خالق الشر وهل الجسم محدث وإنما يطلب به أن يتعرف هل الشيء موجود على حال ما أو ليس. فصل في مطلب ما مطلب ما هو ما يطلب به التصو وهو إما بحسب الاسم كقول القائل ما الخلاء ومعناه ما المراد باسم الخلاء - وهذا يتقدم كل مطلب وإما بحسب الذات كقولك ما الانسان في وجوده وهذا يطلب به أن يتعرف حقيقة الذات ويتقدمه الهل المطلق. الصفحة : 59 فصل في مطلب لم مطلب لم ما يطلب به أن يتعرف العلة لجواب هل وهو إما أن يطلب به علة التصديق فقطفصل في معنى الأي وأما مطلب الأي فهو داخل بالقوة في الهل المقيد وإنما يطلب التمييز إما بالصفات الذاتية وإما بالخواص. فصل في الأمور التي يلتئم منها أمر البراهين ثلاثة موضوعات ومسائل ومقدمات هي المبادئ والموضوعات يبرهن فيها والمسائل يبرهن عليها والمقدمات يبرهن بها. فلنتكلم أولاً في المقدمات. فصل في مقدمات البراهين مقدمات البراهين تكون صادقة يقينية ذاتية لا بد أن تنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل كلية وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما فتكون أكثرية وأن تكون عللاً لوجود النتيجة وأن تكون مناسبة لها. فصل في الحمل الذاتي الحمل الذاتي يقال على وجهين فإنه إما أن يكون المحمول مأخوذاً في حد الموضوع مثل الحيوان في حد الانسان وإما أن يكون المحمول مأخوذاً في حده الموضوع أو جنساً مثل الفطوسة التي يؤخذ في حدها الأنف والمثلث الذي يؤخذ في حده السطح أو موضوع معروضة كمفرق البصر الذي يؤخذ في حده الجسم والجسم موضوع الأبيض الذي هو معروض لذلك العارض وإنما كان هذا ذاتياً لأنه خاص لموضوع الصناعة أو لشيء في موضوع الصناعة التي الشيء من جملتها فهو يتبع الشيء أو موضوع صناعته من حيث هو ولا يكون دخيلاً عليه غريباً عنه. الصفحة : 60 فصل في المقدمة الأولية المقدمة الأولية يقال لها أولية من وجهين " أحدهما " من جهة أن التصديق بها حاصل في أول العقل مثل أن الكل أعظم من الجزء " والثاني " من جهة أن الايجاب فيها أو السلب لا يقال على ما هو أعم من الموضوع قولاً كلياً أما الايجاب فمثل قولك إن كل مثلث فزواياه مساوية لقائمتين فإن هذا إلا يحمل على ما هو أعم من المثلث حملاً كلياً كالشكل وأما ما هو أخص من المثلث مثل متساوي الساقين فقد يبطل ويبقى ما هو أعم منه كالمثلث ولا يبطل كون الزوايا مثل قائمتين وإذا بطل المثلث لم يبق لما هو أعم من المثلث كالشكل هذا المعنى فإذا ما بقي المثلث محمولاً على شيء وجد هذا المعنى في ذلك الشيء سواء بقي ما هو أخص منه أو لم يبق فإذا ارتفع المثلث المحمول على شيء ارتفع هذا المعنى عن ذلك الشيء وإن بقي له ما هو أعم من المثلث والأولى قد تكون أعم كالجنس وقد يكون مساوياً ولا يكون أخص. فصل في المقول على الكل المقول على الكل ههنا غير الذي كان في كتاب القياس فإن معنى المقول على الكل هو أن يقال على كل واحد واحد في كل زمان ما دام موصوفاً بما وضع معه لأن كليات البرهان ضرورية لا تتغير والكلي ههنا أزيد شريطة فإنه يحتاج أن يكون مقولاً على كل واحد في كل زمان ومع ذلك يكون قولاً أولياً وشخصية الموضوع في الوجود لا تمنع كلية الحكم إذا كان الموضوع في نفس تصوره قد يمكن أن يحمل على الكثيرين وإن عاق عائق غير معناه كالشمس لا كزيد والضروري ههنا غير الضروري الذي كان في كتاب القياس فإنه يعني ههنا بالضروري ما كان المحمول دائماً للموضوع ما دام موصوفاً بما وضع معه وإن كان لا ما دام موجوداً بل ما دام موصوفاً بما وضع معه مثل قولنا كل أبيض فهو بالضرورة ذو لون مفرق للبصر لا ما دام ذاته موجوداً بل ما دام أبيض. الصفحة : 61 فصل في المناسب المناسب للعلم هو أن لا تكون المقدمات فيه من علم غريب كمن يستعمل مقدمات الهندسة في الطب بل يكون من ذلك العلم بعينه أو من علم يناسبه لأن المحمولات يجب أن تكون ذاتية والذاتي يكون من ذلك العلم بعينه أو من علم يشاركه في موضوعه بنوع ما على ما نوضح ولأن المقدمات البرهانية علة النتيجة والعلة مناسبة للمعلول بوجه ما - فلهذا إذا قال الطبيب إن الجرح المستدير لا يندمل إلا أبطأ من المزاوي لأن الدائرة أوسع الأشكال لم يكن برهن من الطب. فصل في الموضوعات وأما الموضوعات فهي الأمور التي توضع في العلوم وتطلب أعراضها الذاتية مثل المقدار للهندسة ومثل العدد للحساب ومثل الجسم من جهة ما يتحرك ويسكن للعلم الطبيعي ومثل الموجود والواحد للعلم الآلهي ولكل منها أعراض ذاتية تخصه مثل المنطق والأصم للمقادير ومثل الشكل لها ومثل الزوج والفرد للعدد ومثل الاستحالة والنمو والذبول وغير ذلك للجسم الطبيعي ومثل القوة والفعل والتمام والنقصان والحدوث والقدم وما أشبهها للموجود وقد يكون الموضوع واحداً مثل الجسم الطبيعي وقد يكون أموراً كثيرة متجانسة أو متناسبة مثل الخط والسطح والجسم للهندسة. وأما المسائل البرهانية فهي القضايا الخاصة بعلم علم المشكوك فيها المطلوب برهانها وموضوعاتها - أما موضوع العلم نفسه كقولنا كل مقدار إما مشارك وإما مباين وأما موضوعه مع عرض ذاتي له كقولنا كل مقدار وسط في النسبة فهو ضلع ما يحيط به الطرفان وأما نوع من موضوعه مثل قولك إن كل خط يمكن أن ينقسم بنصفين وأما نوع من موضوعه مع عرض كقولنا كل خط قام على خط يمكن أن ينقسم بنصفين وأما نوع من موضوعه مع عرض كقولنا كل خط قام على خط فإن الزاويتين كذا وأما عرض ذاتي له مثل قولنا كل مثلث فإن زواياه كذا وأما المحمول فلا يجوز أن يكون للموضوع ذاتياً بمعنى الداخل في حد الموضوع لأن وجود هذا للموضوع بين بنفسه اللهم إلا في حالين " أحدهما " أن يكون الموضوع متخيلاً بعد وإنما يعرف بأمور خارجة عنه أو بالاسم فقط وذاته لم تتحقق بعد مثل طلبنا أنه هل النفس جوهر أم لا لأنا إنما نكون حينئذ قد عرفنا من النفس الاسم وفعلاً ما ولم نعرف بعد ذاتها فالموضوع بالحقيقة عارض ذاتي للنفس وهو الفاعل لذلك الفعل كالمحرك والمدرك مثل الأبيض للثلج الصفحة : 62 والمطلوب جنس للمعروض له وهو غير مقوم لماهية ذلك العارض تقويم المحمولات الذاتية " والحالة الثانية " أن يكون البرهان ليس يراد به التصديق مع العلة أعني الآن واللم معاً بل العلة وحدها مثل أنه إذا كنا نعلم أن الانسان جوهر ويكون الجوهر ليس له أولياً فنريد أن نعلم العلة فنقول لأنه جسم ولكن الذاتي بالمعنى الثاني هو المطلوب في المسائل البرهانية وأما في المقدمات فلا يجوز أن تتفق المقدمتان في الحمل الذاتي بحسب المعنى الأول حتى يكونا معاً ذاتيتين بذلك الاعتبار وإلا كان الأكبر ذاتياً للأصغر بذلك المعنى وقد بينا أن هذا غير مطلوب إلا بالحالتين المذكورتين ويجوز أن تكون المقدمتان جميعاً ذاتيتين بالمعنى الثاني ويجوز أن تكون الصغرى ذاتية بالمعنى الأول والكبرى بالمعنى الثاني وبالعكس. فصل في الأصول التي تعلم أولاً قبل البراهين الأصول التي تعلم أولاً قبل البراهين ثلاثة حدود وأوضاع ومقدمات فالحدود تفيد تصور ما لا يكون بين التصور من موضوعات الصناعة ومن عوارض الصناعة مثل أن النقطة طرف لا جزء له والخط طول لا عرض له والسطح كذا ومثل أن المثلث شكل يحيط به كذا وليست تفيد تصديقاً البتة ولا فيها إيجاب ولا سلب وأما الأوضاع فهي المقدمات التي ليست بينة في نفسها ولكن المتعلم يراود على تسليمها وبيانها إما في علم آخر وإما بعد حين في ذلك العلم بعينه مثل ما نقول في أوائل الهندسة أن لنا أن نصل بين كل نقطتين بخط مستقيم ولنا أن نعمل دائرة على كل نقطة وبقدر كل بعد بل مثل أن الخطين إذا وقع عليهما خط مستقيم فكانت الزاويتان اللتان من جهة واحدة أقل من قائمتين فإن الخطين يلتقيان من تلك الجهة فما كان من الأوضاع يتسلمه المتعلم من غير أن يكون في نفسه له عناد سمي أصلاً موضوعاً على الاطلاق وما كان يتسلمه مسامحاً وفي نفسه له عناد يسمى مصادرة. الصفحة : 63 فصل في المقدمات وأما المقدمات فمثل إن المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية فمنها خاصة بالعلم مثل قولنا كل مقدار إما مشارك وإما مباين ومنها عامية مثل أن كل شيء يصدق عليه إما الايجاب وإما السلب والعامات تخصص في العلوم فلا يقال في الهندسة أن كل شيء إما مساو وإما غير مساو بل كل مقدار وربما خصص في الحالتين جميعاً كقولهم كل مقدار إما منطق وإما أصم. فصل في اختلاف العلوم واشتراكها في الموضوعات العلوم إما متباينة وإما متناسبة والمباينة هي التي موضوعاتها لا تشترك في الذات ولا في الجنس مثل علم العدد والعلم الطبيعي والمتناسبة إما متساوية في المرتبة وإما بعضها في بعض وإما بعضها تحت بعض فأما المتساوية في المرتبة فمثل الهندسة والعدد فإن موضوعيهما متجانسان لأن المقدار والعدد نوعا الكم ومثل العلم الطبيعي وعلم النجوم فإن موضوعيهما شيء واحد وهو جرم العالم ولكن النظرين مختلفان - فهذا ينظر من جهة ما يتحرك ويسكن ويمتزج ويفترق وما أشبه ذلك ويحوم أكثره حوم الكيف وذلك ينظر فيه من جهة ما يتكمم هو وعوارضه ولذلك كثيراً ما يشتركان في المسائل لكن أحدهما يعطي برهان اللم والآخر يعطي برهان الآن أو أحدهما يعطي برهاناً عن علة فاعلية والآخر عن علة صورية وأما المختلفة في المرتبة وبعضها في بعض فمثل المخروطات في الهندسة لأن المخروطات تنظر في نوع من موضوع الهندسة وأما المختلفة في المرتبة وبعضها تحت بعض فلا يخلو إما أن يكون العالي ليس موضوعه بالحقيقة جنساً لموضوع السافل بل هو كالجنس لعمومه وان كان لا على نحو عموم الجنس ولو كان على نحو عموم الجنس لم يمتنع أن يكون السافل نوعاً منه كالمخروطات من الهندسة وهذا مثل العلوم الجزئية تحت الفلسفة الأولى التي موضوعها الموجود المطلق بما هو موجود مطلق وإما أن يكون العالي جنساً لموضوع الأسفل ولكن لم يؤخذ الأسفل من جهة ما هو نوع الأعلى مطلقاً بل قرن به عرض ما وأخذ مع ذلك العرض موضوعاً ونظر في أعراضه الذاتية من جهة ما هو كذلك وهذا كالنظر في الأكر المتحركة تحت علم الهندسة ومثل النظر في المناظر لأن موضوعات المناظر خطوط عرض لها أن فرضت متصلة بحدقة قد نفذت في مشف فاتصلت بأطراف جسم: وربما كان الموضوع من علم والعرض من علم لكن لن البحث عنه يكون من جهة ما له ذلك العرض الذي هو له غريب ولموضوع آخر ذاتي مثل الموسيقى الذي موضوعه النغم وهو من الصفحة : 64 عوارض العلم الطبيعي وإنما يبحث الموسيقي عن النغم من جهة ما فيها عارض غريب هو ذاتي لموضوع آخر أعني المناسبة العددية فهو لذلك تحت العدد لا تحت العلم الطبيعي. فصل في تعاون العلوم تعاون العلوم هو أن يؤخذ ما هو مسئلة في علم مقدمة في علم آخر فالعلم الذي فيه المسئلة معين للعلم الذي فيه المقدمة وهذا على وجوه ثلاثة " أحدها " أن يكون أحد العلمين تحت الآخر فيستفيد العلم السافل مباديه من العالي مثل الموسيقى من العدد والطب من الطبيعي والعلوم كلها من الفلسفة الأولى وإما أن يكون العلمان متشاركين في الموضوع كالطبيعي والنجومي في جرم الكل فأحدهما ينظر في جوهر الموضوع يفيد الآخر المبادئ مثل استفادة المنجم من الطبيعي أن الحركة الفلكية يجب أن تكون مستديرة وإما أن يكون العلمان متشاركان في الجنس وأحدهما ينظر في نوع بسيط كالحساب والآخر في نوع أكثر تركيباً كالهندسة فإن الناظر في الأبسط يفيد الآخر مبادئ كما يفيد العدد الهندسة مثل ما في عاشرة أوقليدس. فصل في نقل البرهان نقل البرهان قد يقال لأخذ المبدء على نحو ما ذكرناه وقد يقال كما يبرهن على المخروط البصري في المناظر ببرهان هندسي لوجود المخروط عن الاضافة إلى البصر لكان عليه ذلك البرهان بعينه وذلك لأن الحد الأوسط يكون من العلم الآخر والحد الأصغر يكون من ذلك العلم. الصفحة : 65 فصل في اشتراك العلوم في المسائل اشتراك العلوم في المسائل تارة يقع على ما قلناه وتارة يقع بين علم عال وبين علم سافل وكل واحد منهما يعطي برهان لم مثل أن يكون بعض العلل في العلم العالي مثل العلل المفارقة للأجسام الطبيعية وبعضها في العلم السافل مثل العلل المقارنة لها كالهيولى والصورة فإذا أعطى البرهان من العلل المقارنة كان من العلم السافل وإن أعطى من المفارقة كان من العلم العالي. فصل في أنه ليس على الفاسدات برهان البرهان يعطي اليقين الدائم وليس في شيء من الفاسدات عقد دائم لأن المقدمات الصغرى في القياسات على الفاسدات لا تكون دائمة الصدق فلا تكون برهانية فبين أنه لا برهان عليها ولا حد فإنا سنوضح أن البرهان والحد متشاركان في الأجزاء فما لا برهان عليه فلا حد له وكيف يكون له حد وإنما يتميز بالعوارض الغير المقومة فأما المقومات فمشتركة لها. الممكنات إما أكثرية وإما اتفاقية أما الممكنات الأكثرية فلها لا محالة علل أكثرية إذا جعلت حدوداً وسطى أوقعت علماً وظناً مكتسباً غالباً أما العلم فبإمكانها الأكثري وذلك يقين وأما الظن فبأنها تكون لأن الأمر إذا صح أن له علة أكثرية توقع كونه وهذا مثل نبات الشعر على الذقن عند البلوغ لعلة استحصاف البشرة ومتانة النجار ففي الأكثريات ضرورة ما من وجه فلذلك يتميز وجودها عن وجود نقايضها وقد عرف ذلك في الكتب المفصلة. الصفحة : 66 فصل في الاتفاقيات وأما الاتفاقيات فقد يمكن أن يبرهن على أنها اتفاقية وإنها داخلة في جملة الامكان ولا برهان عليها من جهة أنها تكون أو لا تكون البتة وإلا لترجع ذلك الطرف وصار أكثرياً. فصل في الأشياء الثلاثة الأشياء التي عليها مبنى البراهين ثلاثة الموضوعات والمطلوبات والمبادي فأما الموضوعات فيجب أن تعطى حدودها وماهيتها إن كانت خفية الحدود كالنقطة والوحدة ويتسلم وجودها تسليم مقدمة هي مبدأ أو أصل موضوع أو مصادرة وأما المطلوبات فهي العوارض الذاتية فإن كانت خفية الحدود أعطى حدودها مثل الأصم والمنطق وما أشبه ذلك وأما وجودها للموضوعات فيؤخذ إلى مرتبته في البيان البرهاني وأما المبادي فيجب أن تتسلم تسليماً وتوضع وضعاً من جهة الهل. فصل في اختلاف برهان الآن واللم اختلاف برهان الآن واللم في علم واحد يمكن على وجهين " أحدهما " أن يكون أحد القياسين قد أعطى علة بعيدة وقد بقي بعدها اللم فيكون إعطاء اللم لم يستكمل بعد وقد يكون هذا في المطلوب الموجب كمن يضع العلة في أن فلاناً حم أنه انسد مسامه إلا أنه عفن خلطه ويكون في السالب كمن يضع العلة في جواب من يسأله إن الحائط لم يتنفس إنه ليس بحيوان لا أنه ليس بذي رئة وهو الجواب الصواب فإن وجود الرئة علة معاكسة للتنفس وسلبها يسلب التنفس " والوجه الثاني " أن يكون أحد القياسين فيه علة دون الآخر وذلك مثل قياس من يقول أن الكواكب الثابتة بعيدة جداً لأنها تلمع وكل بعيد يلمع فهو بعيد جداً ثم نقول أن المتحيرات قريبة وكل قريب جداً فإنه لا يلمع فالمتحيرات لا تلمع. الصفحة : 67 فصل في أن الحد لا يكتسب من البرهان ولا القسمة ولا حد ضد المحدود ولا الاستقراء لا يمكن اكتساب الحد بالبرهان لأنه لابد حينئذ من حد أوسط مساو للطرفين لأن الحد والمحدود متساويان وذلك الأوسط لا يخلو إما أن يكون حداً آخر أو يكون رسماً أو خاصة أما الحد الآخر فإن السؤال في اكتسابه ثابت فإن اكتسب بحد ثالث فالأمر ذاهب إلى غير النهاية وإن اكتسب بالحد الأول فذلك دور وإن اكتسب بوجه آخر غير البرهان فلم يكتسب به هذا الحد على أنه لا يجوز أن يكون لشيء واحد حدان تامان على ما سنوضح بعد: وإن كانت الواسطة غير حد فكيف صار ما ليس بحد أعرف وجوداً للمحدود من الأمر الذاتي المقوم له وهو الحد حتى يكتسب به وأيضاً فهل يكون الحد إنما حمل في الكبرى على الوسط على أنه محمول مطلق أو حمل على أنه حد له فإن حمل على الأوسط على أنه محمول مطلق أنتج أنه محمول على الأصغر فقط ولم يعرف من ذلك أن له حد ولم يكن إلى ذلك القياس حاجة فإنا قد بينا أن حمل الحد وأجزائه على المحدود مما لا يحتاج فيه إلى برهان وأن حمل على أنه حد للأوسط فهو كاذب فإنه ليس حد النوع هو بعينه حد خاصته فليس حد الانسان هو بعينه حد الضحاك إلا أن يقول قائل إنه حمل على الأوسط بأنه حد لموضوعه أي أن ما هو موضوع للأوسط فهذا حده فإن هذا أيضاً كاذب فإن الباكي والخجل وسائر الخواص والفصول المساوية لها تحمل عليها الخاصة وليس حد النوع حداً لها فإن قيل إنه يحمل على الأوسط على أنه حد ما هو موضوع للأوسط وضعاً حقيقياً وضع النوع لخواصه فيكون قد أخذ المطلوب في بيان نفسه فإنه لو كان هذا معلوماً لما احتيج إلى البرهان والحد لا يكتسب بالقسمة فإن القسمة تضع أقساماً ولا تحمل من الأقسام شيئاً بعينه إلا أن يوضع وضعاً من غير أن يكون للقسمة فيه مدخل وإما استثناء نقيض قسم ليبقى القسم الداخل في الحد فهو إبانة الشيء بما هو مثله أو أخفى منه فإنك إذا قلت لكن ليس الانسان غير ناطق فهو إذا ناطق فلم تكن أخذت في الاستثناء شيئاً أعرف من النتيجة وأيضاً فإن الحد لا يكتسب من حد الضد فليس لكل محدود ضد ولا أيضاً حد أحد الضدين أولى بذلك من حد الضد الآخر وأيضاً فإن الاستقراء لا يفيد علماً كلياً فكيف يفيد الحد ولأنك إن استقريت أن الحد حد لكل شخص حتى تجعله حداً للنوع فقد كذبت وإن قلت أن الحد محمول على كل شخص من غير زيادة فليس يوجب هذا أن يكون حداً للنوع وإن قلت الصفحة : 68 أن الحد حد لنوع كل واحد من تلك الأشخاص فقد صادرت على المطلوب الأول فلم يبق إذاً للاستقراء وجه. فصل في طريق اكتساب الحد لكن الحد يقتنص بالتركيب وذلك بأن يعمد إلى الأشخاص التي لا تنقسم وتنظر من أي جنس هي من العشرة التي سنذكرها فتأخذ جميع المحمولات المقومة لها التي في ذلك الجنس أو في الشيء الذي يقوم لها كالجنس فتجمع العدة منها بعد أن تعرف أيها أول لها مثل الحس فإنه أولاً للحيوان ثم النطق وأيضاً مثل الجسم فإنه أولاً للحيوان ثم الناطق وتتحرى أن لا يكون في المجموع شيء مكرر ونحن لا نشعر كما نقول جسم ذو نفس حساس ثم نقول معها حيوان فيكون الحيوان مكرراً تارة بالتفصيل والحد وتارة بالاجمال والتسمية فإذا جمعنا هذه المحمولات ووجدنا منها شيئاً مساوياً للمحدود من وجهين اثنين فهو الحد - أما أحد الوجهين فالمساواة في الحمل أعني أن يكون كل ما يحمل عليه المحدود يحمل عليه هذا القول وكل ما يحمل عليه هذا القول يحمل عليه المحدود والثاني المساواة في المعنى وهو أن لا يكون دالاً على كمال حقيقة ذاته لا يشذ منه عنه شيء فإن كثيراً مما يميز الذات يكون قد أخل ببعض الأجناس أو ببعض الفصول فيكون مساوياً في الحمل ولا يكون مساوياً في المعنى كقولك في حد الانسان أنه جسم ناطق مايت مثلاً فإن هذا ليس بحد حقيقي بل هو ناقص لأن الجنس القريب غير موضوع فيه وكقولك في حد الحيوان إنه جسم ذو نفس حساس من غير أن تقول ومتحرك بالإرادة فإن هذا مساو في الحمل وناقص في المعنى ولا تلتفت في الحد إلى أن يكون وجيزاً بل لا يتم الحد حداً بأن يميز على الايجاز ما لم يوضع فيه الجنس القريب باسمه أو بحده إن لم يوجد له اسم فيكون اشتمل على الماهية المشتركة ثم يؤتى بعده بجميع الفصول الذاتية وإن كانت ألفاً وكان بواحد منها كفاية في التمييز فإنك إذا تركت بعض الفصول فقد تركت بعض الذات والحد عنوان للذات وبيان له فيجب أن يقوم الحد في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة بتمامها فحينئذ يعرض أن يتميز أيضاً المحدود والحكماء لا يطلبون في الحدود التمييز وإن لحقها التمييز بل يطلبون تحقق ذات الشيء وماهيته - ولذلك فلا حد بالحقيقة لما لا وجود له إنما ذلك قول يشرح الاسم - ولذلك ما حد الفيلسوف الحد بأنه قول دال على الماهية ولم يقل قول وجيز مميز كما هو من عادة المحدثين أن يقولوه ولهذا ما ذم تحديد من أخذ في تحديد الشيء العنصر وحده فقط كالطبيعيين في تحديدهم الغضب أنه الصفحة : 69 غليان دم القلب أو الصورة فقط كالجدليين في تحديدهم الغضب بأنه شهوة الانتقام لا لأنهما لم يميزا بل لأنهما لم يوفيا كمال الماهية بل قد أمر ن يحد من كليهما مجموعين وأن لا يخل بذكر سبب ذاتي في التحديد فعلى هذا يجب أن تقتنص الحدود للأنواع وأما الأجناس فأن تؤخذ الفصول التي تخص الأنواع وتحذف فما يبقى إن كان اسماً مفرداً فصل باعتبار المحمولات وإن كان مؤلفاً فهو المطلوب. فصل في إعانة القسمة في التحديد والقسمة أيضاً معينة في الحد إذا كانت بالذاتيات فكانت القسمة الأعم قسمة من طريق ما هو هو فإن قسمة الحيوان إلى ذي رجلين وكثير الأرجل ليست قسمة له من طريق ما هو حيوان بل له من طريق ما هو ماش فإنه لكونه ماشياً استعد لهذه القسمة لا لكونه حيواناً فإن طبيعة الحيوان لا تنقسم بهذه الانقسامات ما لم يتحصل لها طبيعة المشي فلو كان الحيوان غير ماش لم يستعد لهذه القسمة البتة وإذا فعلت هذا حفظت الترتيب ويجب أن تراعي شرطاً ثالثاً وهو أن لا تقف في الوسط بل تقسم وتقسم حتى ينتهي إلى الذاتيات التي إذا قسمتها وقعت القسمة بغرضيات أو أشخاص فإن القسمة من الجواهر إذا انتهت إلى الانسان وقفت ولم تنقسم بعده بالذاتيات وبعد ذلك إما أن ينقسم الشيء إلى الأشخاص أو إلى فصول عرضية كالكاتب والأمي والمحترف والغاصب وغير ذلك. الصفحة : 70 فصل في الأجناس العشرة وأما هذه الأجناس العشرة فمنها " الجوهر " وهو كل ما وجود ذاته ليس في موضوع أي في محل قريب قد قام بنفسه دونه الفعل لا بتقويمه - ومنها " الكم " وهو الشيء الذي يقبل لذاته المساواة واللامساوات والتجزيء وهو إما أن يكون متصلاً إذ يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحد به كالنقطة للخط وإما أن يكون منفصلاً لا يوجد لأجزائه ذلك بالقوة ولا بالفعل كالعدد والمتصل قد يكون ذا وضع وقد يكون عديم الوضع وذو الوضع هو الذي يوجد لأجزائه اتصال وثبات وإمكان أن يشار إلى كل واحد منها أين هو من الآخر. فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة وهو الخط ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو السطح ومنه ما يقبله في ثلاث جهات قائم بعضها على بعض وهو الجسم والمكان أيضاً ذو وضع لأنه السطح الباطن من الحاوي وأما الزمان فهو مقدار للحركة إلا أنه ليس له وضع إذ لا توجد أجزاؤه معاً وإن كان له اتصال إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف هو الآن وأما العدد فهو بالحقيقة الكم المنفصل ومن المقولات العشر " الاضافة " وهو المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر وليس له وجود غيره مثل الأبوة بالقياس إلى البنوة لا كالأب فإن له وجوداً يخصه كالانسانية " وأما الكيف " فهو كل هيئةقارة في جسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج ولا نسبة واقعة في أجزائه ولا لجملته اعتبار يكون به ذا جزء مثل البياض والسواد وهو إما أن يكون مختصاً بالكم من جهة ما هو كم كالتربيع بالسطح والاستقامة بالخط والفردية بالعدد وإما أن لا يكون مختصاً به وغير المختص به إما أن يكون محسوساً ينفعل عنه الحواس ويوجد بانفعاله الممتزجات فالراسخ منه مثل صفرة الذهب وحلاوة العسل تسمى كيفيات انفعاليات وسريع الزوال منه وإن كان كيفيه بالحقيقة فلا تسمى كيفية بل انفعالات لسرعة استبدالها مثل حمرة الخجل وصفرة الوجل ومنها ما لا تكون محسوسة - وهذا إما أن يكون استعدادات إنما تتصور في النفس بالقياس إلى كمالات فإن كان استعداداً للمقاومة وإباء للانفعال سمي قوة طبيعية كالمصحاحية والصلابة وإن كان استعداداً لسرعة الإذعان والانفعال سمي لا قوة طبيعية مثل الممراضية واللين وإما أن يكون في أنفسها كمالات لا يتصور أنها استعدادات لكمالات أخرى ويكون مع ذلك غير محسوسة بذاتها فما كان منها فما كان منها ثابتاً سمي ملكة مثل العلم والصحة وما كان سريع الزوال سمي حالاً مثل غضب الحليم ومرض المصحاح وفرق بين الصحة الصفحة : 71 والمصحاحية فإن المصحاح قد لا يكون صحيحاً والممراض قد يكون صحيحاً ومن جملة العشرة " ألأين " وهو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه ككون زيد في السوق " ومتى " وهو كون الجوهر في زمانه الذي يكون فيه مثل كون هذا الأمر أمس " والوضع " وهو كون الجسم بحيث تكون لأجزائه بعضها إلى بعض في الانحراف والموازاة بالقياس إلى الجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان مثل القيام والقعود وهو في المعنيين غير الوضع المذكور في باب الكم " والملك " ولست أحصله ويشبه أن يكون كون الجوهر في جوهر آخر يشمله وينتقل بانتقاله مثل التلبس والتسلح " والفعل " وهو نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه غير قار الذات بل لا يزال يتجدد ويتصرم فصل في مشاركات الحد والبرهان إنا كما لا نطلب العلة بلم إلا بعد مطلب هل كذلك لا نطلب الحقيقة بما إلا بعد هل وعن كل واحد منهما جواب لكن الحقيقي من الجواب عن لم هو الجواب بالعلة الذاتية فيتفق هذان المطلبان في أمرين في كون كل منهما إنما يكون بعد هل وفي الجواب إذا كان الجواب عن لم بالجواب الحقيقي فإن العلة الذاتية مقومة للشيء فهي إذاً داخلة في الحد وفي جواب ما هو فيتفق إذاً الداخل في الجوابين - مثاله لم انكسف القمر فنقول لأنه توسط بينه وبين الشمس الأرض فانمحى نوره ثم نقول ما كسوف القمر فنقول هو انمحاء نور القمر لتوسط الأرض لكن هذا الحد الكامل للكسوف لا يكون عند التحقيق حداً واحداً في البرهان بل حدين أي لا يكون جزءاً من مقدمة في البرهان بل جزئين فالذي يحمل منهما على الموضوع في البرهان أو لا وهو الحد الأوسط يكون في الحد محمولاً بعد الأول والذي يحمل في البرهان ثانياً يكون في الحد محمولاً أولاً لأنك تقول في البرهان إن القمر قد توسط الأرض بينه وبين الشمس وكل مستضيء من الشمس يتوسط بينهما الأرض ينمحى ضوءه فينتج إن القمر يمحى ضوءه ثم نقول والمنمحى ضوءه منكسف فالقمر إذاً منكسف فأولاً حملت التوسط ثم الانمحاء وفي الحد التام تورد أولاً الانمحاء ثم التوسط لأنك تقول إن انكساف القمر هو انمحاء ضوئه لتوسط الأرض بينه وبين الشمس فإن جعلت كل واحد من توسط الأرض وانمحاء الضوء حداً على حده واتفق إذاً إن كان مميزاً فكان حداً ما وإن لم يكن تاماً سمي الذي يكون منهما الحد الأوسط في القياس حداً هو مبدأ برهان كما نقول في مثال آخر أن الرعد صوت انطفاء النار في الغمام أو الغضب شهوة الانتقام ويسمى الذي يكون منهما حداً أكبر حداً هو نتيجة برهان كقولك إن الكسوف انمحاء ضوء القمر والغضب غليان الصفحة : 72 دم القلب - فهذا إنما يتفق إذا كان بعض أجزاء الحد التام علة للجزء الآخر فإن اقتصر على العلة كتوسط الأرض كان الحد يسمى مبدأ برهان وإن اقتصر على المعلول كانمحاء كان الحد يسمى نتيجة برهان والحد التام مجموعهما مع الجنس. فصل في أقسام معنى الحد والحد يقال بالتشكيك على خمسة أشياء فمن ذلك الحد الشارح لمعنى الاسم ولا يعتبر فيه وجود الشيء فإن كان في وجود الشيء شك أخذ الحد أولاً على أنه شارح للاسم كتحديد المثلث المتساوي الاضلاع في افتتاح كتاب أوقليدس فإذا صح للشيء وجود علم حينئذ أن الحد لم يكن بحسب الاسم فقط ويقال حد لما كان بحسب الذات فمنه ما هو نتيجة برهان ومنه ما هو مبدأ برهان ومنه حد تام مجتمع منهما ومنه ما هو حد لأمور لا علل لها ولا أسباب أو أسبابها وعللها غير داخلة في جوهرها مثل تحديد النقطة والوحدة والحد وما أشبه ذلك فإن حدودها لا بحسب الاسم فقط ولا مبدأ برهان ولا نتيجة برهان ولا مركب منهما. فصل في أقسام العلل وبيان دخولها في الحد والبرهان يقال علة للفاعل ومبدأ الحركة مثل النجار للكرسي والأب للصبي ويقال علة للمادة وما يحتاج الشيء إلى أن يكون حتى يقبل ماهيته مثل الخشب ودم الطمث ويقال علة للصورة وكل شيء مكون فإنه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكون الشيء ويقال علة للغاية والشيء الذي لأجله مثل الكن للبيت وكل واحدة من هذه إما قريبة كالعفونة للحمى وإما بعيدة كالسدة وإما بالقوة وإما بالفعل وإما خاصة كالبناء للبيت وإما عامة كالصانع له وإما بالذات مثل السقمونيا يسخن بذاته وإما بالعرض مثل السقمونيا يبرد لأنه يزيد المسخن أو شرب الماء البارد يسخن لأنه يجمع المسخن وإنما يجب أن يعطى في البراهين العلة التي بالذات الخاصة القريبة التي بالفعل حتى ينقطع سؤال اللم وإلا فهو بعد ثابت والعلل الأربع قد تقع حدوداً وسطى في البراهين لانتاج قضايا محمولاتها أعراض ذاتية والعلة بالفعل هي ما تستلزم وجود المعلول بالفعل كالصورة والغاية وأما العلة الفاعلية والقابلية فلا يجب من وضعهما وضع المعلول وإيجابه ما لم يقرن بذلك ما يدل على صيرورتها علة بالفعل مثل اقتران انفعال الأفيون عن الحرارة الغريزية التي في الأبدان بالقوة المبردة التي فيه حينئذ يجب عن قوته التبريد وذلك في كثير من المواد ولكن كثير من الأمور الطبيعية يلزم عن اقتران موادها بفواعلها أن يوجد المعلول ضرورة بل هذا في كلها وفي كثير منها لا يوجد الصفحة : 73 مادتها على الطباع التي يجب إلا ويوجد الكائن كنطفة الانسان وكأنه لا فرق بين القسمين - وهذه الضرورة لا تمنع أن تكون لغاية كما سنوضح في العلوم فلا يمتنع إذاً استعمال الغاية في براهينها وفي براهين ما لم تكن هكذا من الكائنات الغير الطبيعية لا مانع البتة عن استعمال الغاية بل لابد منها بحيث يكون المعلول إنما يجب باجتماع الفاعل والقابل معاً فإن الواحد منهما لا يكفي حداً أوسط ما لم يجتمعا فإنا نقول مثلاً لم كانت الأسنان الطواحن عريضة فنقول لأن المادة كانت تامة الاستعداد لذلك ونقول أيضاً الأضراس أريد منها الطحن وكل ما يراد منه الطحن يعرض وأما الصورة المادية فلا يحتاج إلى شرط في إدخالها حداً أوسط وكأن الغاية في أكثر الأمر تفيد اللم المجرد دون الان وقد يجتمع في الشيء علل فوق واحدة وحتى الأربعة كلها وقد يكون لبعض الأشياء بعض العلل دون بعض فلذلك لا يدخل في حدود التعليمات ولا براهينها علة مادية فقد قلنا في العلل وأما دخولها في البراهين وأما دخولها في الحدود فكما أوضحنا من أن العلل الذاتية مقومة وإذا كان للشيء علة مساوية أو أعم وكانت ذاتية فدخولها ظاهر وأما العلل التي هي أخص من الشيء مثل إن للحمى عللاً كالعفونة وكالحركة العنيفة للروح أو اشتغال من غير عفونة. وللصوت أيضاً انطفاء نار وانكسار قمقمة وقرع بعصا وما أشبه ذلك فليس شيء منها يدخل في الحد ويدخل في البرهان وأما في الحد فيطلب الشيء الجامع لها إن وجد مثل القرع المقاوم لجميع ذلك فيكون هو العلة التي تدخل في الحدود - وأما العلل الخاصية فلحدود أنواع الشيء مثل انطفاء النار لحد الرعد لا الصوت المطلق. وقد يحد الشيء بجميع علله الأربع إن كانت له وكانت ذاتية كمن يحد القدوم بأنه آلة صناعية من حديد شكلها كذا ليقطع به الخشب نحتاً فالآلة جنس والصناعية تدل على المبدأ الفاعل والشكل على الصورة والنحت على الغاية والحديد على المادة: وفي هذه الأبواب كلام طويل لا يليق بالمختصرات الصفحة : 74 فصل في دفع توهم الدور المحال من ترتب في الطبيعة يوهم ذلك واعلم أن في الكائنات أموراً بعضها علل لبعض في الدور - فكذلك القياسات التي تكون منها تدور دوراً مثل إنه لم كانت السحابة فقيل لأنه كان بخار فقيل لم كان بخار فقيل لأن الأرض كانت ندية وفعل فيها الحر فقيل لم كانت الأرض ندية فقيل لأنه كان مطر. ثم قيل لم كان مطر فقيل لأنه كان سحاب فينتج من هذا أنه كان سحاب لأنه كان سحاب ومن أوساطه أنه كان سحاب وإن كان هناك وسائط أخرى ولكن لا فرق في البرهان الدوري بين أن يكون حد قد وقع مكرراً بلا واسطة بين طرفي تكراره - أوقع مكرراً بين طرفي تكراره وسائط ولكن المثال الذي أوردناه ليس في الحقيقة دوراً لأن السحاب الواقع حد أكبر والسحاب الواقع حداً أوسط ليس واحداً بالذات بل بالنوع وليس هذا مما يجعل القياس دوراً لأن الدوري هو أن يؤخذ الشيء في بيان نفسه لا أن يؤخذ مساويه في النوع في بيانه وهو غيره بالذات فصل في كيفية دخول العلل الخاصة في البرهان العلل التي هي أخص من المعلول وتكون حدوداً وسطى في البرهان وهو مثل كون السحاب عن تكاثف الهواء بالبرد وعن انعقاد البخار والزلزلة عن حدوث ريح أو انحطاط أعالي وهدة أو اندفاع سيل في باطن الأرض والرعد عن ريح وعن انطفاء دخان ناري والحمى عن عفونة وعن حرارة روح بلا عفونة فقد يمكن أن تجتمع لهذه العلل الخاصية معنى عام يكون محمولاً عليها فيكون لذلك أقرب من المعلول ويكون علته المساوية له وقد لا يجتمع لا أنه يذهب الأمر في ذلك إلى غير نهاية لكنه يقف عند عام لا واسطة بينه وبين تلك الخواص ومعلوم أنه لا يمكن حينئذ أن توجد علة مساوية للحد الأكبر فما كان من العلل الخاصية لا يوجد بينها وبين الحد الأكبر وبين ما هو أعم منها مساو للأكبر فلا يمكن أن تجعل حدوداً وسطى إلا لموضوعات لها أخص أيضاً من الأكبر فلا تكون علل وجود الأكبر على الاطلاق بل علل وجوده للأصغر الأخص فإن الحمى المطلقة ليست معلولة للعفونة بل حمى هذا الانسان أو حمى أصحاب الغب وكذلك النوع ليس علة وجود الجنس مطلقاً بل لما هو تحت النوع من شخص أو نوع دونه وما كان يوجد له معنى عام فإن حمل الأكبر على الحدود الوسطى التي هي أخص لا يكون أولاً ولكن بتوسط العام مثل أن هذه الشجرة ينتثر ورقها وهي تينة وأخرى وهي خروع وأخرى وهي كرم وتكون العلة الصفحة : 75 لانتثار الورق فيها جمود رطوبتها وانفشاشها ولكن ليس لهذه الوسطيات الخاصية التي هي تينة وخروع وكرم أولاً ولكن العريض الورق والتينة والكرمة والخروع عريضة الأوراق بلا واسطة وأما أنها تجمد رطوبتها أو تنفش رطوبتها فليس لأنها تينة أو خروع أو كرمة بلا واسطة بل لأنها عريضة الورق وهي تنتثر ورقها لا لأنها تلك ولا لعرض الورق ولكن لانفشاش الرطوبة وجمودها فقد بان أين ينعكس الحد الأوسط الذي هو العلة على الأكبر المعلول وأين لا ينعكس. الظن الحق هو رأي في شيء أنه كذا ويمكن أن لا يكون كذا والعلم اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا وبواسطة توجبه والشيء كذلك وقد يقال لتصور الماهية بتحديد والعقل اعتقاد بأن الشيء كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعاً بلا واسطة كاعتقاد المبادئ الأولى للبراهين وقد يقال لتصور الماهية بذاتها بلا تحديدها كتصور المبادئ الأولى للحد والذهن قوة للنفس معدة نحو اكتساب العلم والذكاء قوة استعداد للحدس والحدس حركة إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب أو أصابه الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط وبالجملة سرعة الانتقال من معلوم إلى مجهول كمن يرى تشكل استنارة القمر عند أحوال قربه وبعده عن الشمس فيحدس أنه يستنير من الشمس. الصفحة : 76 فصل في بيان وجوه الغلط في الأقوال الشارحة وههنا مواضع يجب أن يراعى الاحتراز منها في الحدود فتعرف حتى لا يقع بإغفالها سهو فمن ذلك ما يقع في جانب الجنس ومنه ما يقع في جانب الفصل ومنه ما هو مشترك - وهذا المشترك هو أيضاً مشترك للحد الناقص والرسم فمن الخطأ في الجنس أن يوضع الفصل مكانه كقول القائل إن العشق إفراط المحبة وإنما هو المحبة المفرطة ومن ذلك أن توضع المادة مكان الجنس كقولهم للكرسي أنه خشب يجلس عليه - وللسيف أنه حديد يقطع به فإن هذين الحدين قد أخذ فيهما المادة مكان الجنس ومن ذلك أن يؤخذ الهيولى التي عدمت وليست الآن موجودة مكان الجنس كقولهم للرماد إنه خشب محترق وهو ليس الآن خشب بل كان خشباً - ومن ذلك أخذهم الجزء مكان الجنس في حد الكل كقولهم إن العشرة خمسة وخمسة وأورد في التعليم الأول لهذا مثال آخر وهو قولهم إن الحيوان جسم ذو نفس: وفي تحقيق ذلك بحث دقيق ومن ذلك أن توضع الملكة مكان القوة والقوة مكان الملكة - وذلك في الأجناس المقدمة في أجزاء الحدود كقولهم إن العفيف هو الذي يقوى على اجتناب اللذات الشهوانية إذ الفاجر يقوى أيضاً ولا يفعل فقد وضع إذاً القوة مكان الملكة لاشتباه الملكة بالقوة لأن الملكة قوة ثابتة وكقولهم إن القادر على الظلم هو الذي من شأنه وطباعه النزوع إلى انتزاع ما ليس له من يد غيره فقد وضع الملكة مكان القوة لأن القادر على الظلم قد يكون عادلاً ولا يظلم ولا تكون طباعه هكذا ومن ذلك أن تأخذ اسماً مستعاراً أو مشتبهاً كقول القائل إن الفهم موافقه وإن النفس عدد ومن ذلك أن تضع شيئاً من اللوازم مكان الأجناس كالواحد والموجود ومن ذلك أن تضع النوع شيئاً من اللوازم مكان الأجناس كالواحد والموجود ومن ذلك أن تضع النوع مكان الجنس كقولك إن الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشر وأما من جهة الفصل فأن تأخذ اللوازم مكان الذاتيات وأن تأخذ الجنس مكان الفصل وأن تحسب الانفعالات فصولاً والانفعالات إذا اشتدت بطل الشيء والفصول إذا اشتدت ثبت الشيء وقوي وأن تأخذ الأعراض فصولاً للجواهر وأن تأخذ فصول الكيف غير الكيف وفصول المضاف غير المضاف لا ما إليه الاضافة وأما القوانين المشتركة فمثل أن تعرف الشيء بما هو أخفى كمن حد النار بأنها جسم شبيه بالنفس والنفس أخفى من النار ومثل أن يحد الشيء بما هو مساوله في المعرفة أو متأخر عنه في المعرفة: مثال المساوي له في المعرفة قولهم إن العدد كثرة من الآحاد والعدد والكثرة شيء واحد - فهذا قد أخذ نفس الصفحة : 77 الشيء في حده ومن هذا الباب أن تأخذ الضد في حد الضد كقولهم للزوج عدد يزيد على الفرد بواحد ثم يقولون الفرد عدد ينقص عن الزوج بواحد وكذلك إذا أخذ المضاف في حد المضاف إليه كما فعل " فرفوريوس " إذ حسب أنه يجب أن يأخذ الجنس في حد النوع والنوع في حد الجنس ولم يدر ما في ذلك من الغلط وما في ظنه ذلك من السهو وما عن الاضطرار إلى ذلك من المندوحة وما في تفهم حقيقة الحد الذي استعمله على الوجه الواجب من البعد عن اعتراض ما أورده من الشبهة وأما المتقابلات بحسب السلب والعدم فلابد من أن يؤخذ الموجب والملكة في حديهما من غير عكس وأما الذي يأخذ المتأخر في حد الشيء فكقولكم الشمس كوكب يطلع نهاراً ثم النهار لا يمكن أن يحد إلا بطلوع الشمس لأنه زمان طلوع الشمس وكذلك التحديد المشهور للكمية بأنها قابلة للمساواة وغير المساواة وللكيفية بأنها قابلة للمشابهة وغير المشابهة - فهذا وما أشبهه من المعاني الصارفة عن الاصابة في الحدود. فصل في إبانة المواضع المغلطة للباحث نقول إن أفعال السوفسطائية إما في القياس المطلوب به انتاج الشيء وإما في أشياء خارجة عن القياس مثل تخجيل الخصم وترذيل قوله والاستهزاء به وقطع كلامه والاغراب عليه في اللغة واستعمال ما لا مدخل له في المطلوب وما يجري مجرى ذلك وهي عشرة ولا حاجة لنا إلى ذكرها وأما اللواتي في القياس المطلوب به انتاج الشيء فإنا نذكرها. الصفحة : 78 فصل في المغلطات في القياس إن هذه المغلطات إما تقع في اللفظ وإما تقع في المعنى وإما أن تقع في صورة القياس وإما أن تقع في مادته وإما أن تكون غلطاً وإما ان تكون مغالطة ونحن نعلم أنه إذا ترتبت الأقاويل القياسية ترتيباً على شكل من الأشكال وكان هناك أجزاء أولى متمايزة أعني المقدمات الحدود وأجزاء ثواني متمايزة وكان الضرب من الشكل منتجاً والمقدمات صادقة وغير النتيجة وأعرف منها أن ما يلزم عنه يلزم لزوماً حقاً فإذا القول الذي لا يلزم عنه الحق أعني القياس السوفسطائي إما أن لا يكون ترتيبه بحسب شكل من الأشكال أو لا يكون بحسب ضرب منتج أو لا تكون هناك الأجزاء الاول أو الأجزاء الثواني متمايزة وإما أن لا تكون المقدمات صادقة وإما أن لا تكون غير المطلوب وإما أن لا تكون أعرف منه فأما الأول فهو إما أن لا يكون تأليفه من أقاويل جازمة أو يكون من جازم واحد فقط أو يكون من جوازم فوق واحد إلا أنها عادمة للاشتراك التأليفي - وذلك على وجهين إما ان يكون عدمها للاشتراك في الحقيقة والظاهر جميعاً وإما ان يكون في الحقيقة فقط ولها في الظاهر اشتراك فإن كان لها في الظاهر اشتراك فهناك لفظ يفهم منه معان فوق واحدة فيكون إما بحسب بساطته وإما بحسب تركيبه وإذا كان بحسب بساطته فإما أن يكون لفظاً مشتركاً وهو الواقع على عدة معان ليس بعضها أحق به من بعض كالعين الواقع على ينبوع الماء وعلى آلة البصر والدينار ومن جملة ذلك ما قد يسمى لفظاً مشككاً وهو المتناول الشيء وضده كالحليل والناهل وإما أن يكون لفظاً مشابهاً وهو الواقع على عدة متشابهة الصور مختلفة في الحقيقة لا يكاد يوقف على تخالفها كالناطق الواقع على الانسان. والفلك والملك والحي الواقع على الآلة والانسان والنبات وكل ما له نمو وحركة في جوهره. وإما لفظاً منقولاً وهو الواقع على عدة بمعان عدة ولكن وقوعه على أحدها أقدم على أن المتأخر مسمى به على الحقيقة كلفظة المنافق والفاسق والكافر ولفظة الصوم والصلاة - وإما لفظاً مستعاراً وهو الذي أخذ للشيء من غيره من غير أن ينقل في اللغة فجعل اسما له على الحقيقة وإن كان في الحال يراد به معناه كقول القائل إن الأرض أم للبشر وأما لفظاً مجازاً وهو الذي يطلق في الظاهر على الشيء والمطلق به عليه في الحقيقة غيره كقول القائل سل القرية أي أهلها وربما كان اللفظ المشترك ليس للاشتراك هذه الأحوال في جوهره بل في صيغته وأحواله كاللفظ المشترك بين الفاعل والمفعول والذكر والأنثى وما جرى مجراه ولهذا ظن بعض ضعفاء الظن أن الهيولى الصفحة : 79 الأولى قد يستحق أن يقال إنها تفعل فعلاً ما لأنها قابلة للتأثير والقبول فعل وأما الذي يكون بحسب التركيب فقد يكون لاستناد حروف النسق إلى أشياء مختلفة كقول القائل كل ما علمه الحكيم فهو كما علم فإن المعطوف بالفاء هو ههنا ينعطف على كل ما وعلى الحكيم وبحسبه يختلف المعنى: وقد يكون لتغيير الترتيب الواجب ويكون لمواضع الوقف والابتداء وقد يكون لاشتباه حروف النسق أنفسها ودلالتها على معاني عدة في النسق - ولهذا قد يصدق الشيء مجتمعاً فيظن أنه قد يصدق مفترقاً فيقال إن الخمسة زوج وفرد معاً إذ هم ثلاثة واثنان فينتقل الوهم إلى أن الخمسة زوج والخمسة أيضاً فرد والسبب فيه اشتباه دلالة الواو فإنه قد يدل على جمع الأجزاء وقد يدل على جمع الصفات ويصدق الشيء مفترقاً ولا يصدق مجتمعاً كقول القائل زيد طبيب ويكون جاهلاً في الطب: وزيد بصير ويكون كذلك في الخياطة فإذا قيل زيد بصير طبيب لفهم الغلط لاشتباه الحال بين اشتراك البصر في الطب بحسب هذا اللفظ وبين انفراده بنعت زيد. وأما السبب الثاني وهو عدم التمايز في أجزاء القول القياسي فإنه لا يتهيأ فيما تكون الأجزاء الاولى فيه بسايط بل فيما يكون فيه ألفاظاً مركبة: ثم ينقسم قسمين. فإما أن يكون أجزاء المحمول والموضوع متمايزة في الوضع ولكن غير متمايزة في الاتساق وإما أن لا تكون متمايزة في الوضع فيكون هناك شيء هو من الموضوع فيوهم أنه من المحمول أو من المحمول فيوهم أنه من الموضوع. مثال المتمايز في الوضع دون الانساق قول القائل كل ما علمه الفيلسوف فهو كما علمه. والفيلسوف يعلم الحجر فهو إذاً حجر: ومثال الغير المتمايز في الوضع قول القائل الانسان بما هو إنسان إما أن يكون أبيض أو لا يكون أبيض فقوله بما هو إنسان يشكك أهو جزء من الموضوع أو من المحمول فلا يبعد أن يقع من هذا وأمثاله مغالطات يصعب حلها وقد تعرض هذه المغالطة في جميع أنحاء التركيب المتشابه وأما الكذب في المقدمات فلا محالة أن الطبع إذا أذعن للكاذب فإنما يذعن بسبب ما ولأن له نسبة إلى الصدق في حال ومن بلغ إلى أن يصدق بأي شيء اتفق بلا سبب فقد انخلعت عنه الغريزة البشرية فإذا ذلك السبب إما لفظه وإما معناه والذي في اللفظ فيظهر مما سنذكره وذلك مثل اشتراك معنيين في لفظ يوهم التساوي بينهما في كل حكم ومثل اشتراك لفظتين في معنى وافتراقهما في معنى معتبر في اللفظ فإنه إذا كان كذلك أوهم ذلك أن الحكم في اللفظتين واحد ورما كان لاحدى اللفظتين زيادة معنى يتغير به الحكم ومثال هذا الخمر والسلافة فإن معنى واحداً قد اشترك فيه هذان الاسمان ثم للسلافة زيادة معنى وأما الصفحة : 80 الذي من جهة المعنى فلا يخلو إما أن يكون الكاذب كاذباً بالكل وهو الذي لا يصدق الحكم فيه فلا يخلو إما أن يكون الكاذب كاذباً في الجزء وهو أن يكون الحكم فيه يصدق على شيء من موضوعه ولا في حال من الأحوال ولا في وقت من الأوقات وإما أن يكون كاذباً في الجزء وهو أن يكون الحكم فيه يصدق على شيء من الموضوع أو في وقت أو حال فإن كان كاذباً في الكل فينبغي أن يكون له شركة مع الصادق في المعنى - وذلك المعنى قد يكون جنساً أو فصلاً أو اتفاقاً في عرض أو اتفاقاً في مساواة النسبة وأنت تعلم أنه قد تكون شركة عامة فيما سوى الفصل والجنس فإنه قد يكون المشترك فيه عارضاً كلياً للموضوعين وقد يكون كلياً لأحدهما وفي بعض الآخر وقد يكون في بعض كل واحد منهما والذي لا يصدق لا في الكل فإما أن يكون في بعض الموضوع فقط أو يكون في كل واحد من الموضوع ولكن في وقت دون وقت أو يكون في كل وقت ولكن بشريطة لا على الاطلاق أو يكون على الاطلاق ولكن بشريطة ما وتلك الشريطة إما تأليف في القول أو غير التأليف في القول فإن لم يكن التأليف فيه فإما أن يكون إفراداً فيه وإما غير إفراد فيه وإن كان أيضاً عارضاً لبعض الموضوع فإما طبيعي وإما اتفاقي: وجميع هذا لايهام العكس فإنه إذا اتفق أن رأى سيالاً أصفر وكان مراً أعني المرة ثم اتفق أن رأى سيالاً أصفر غيرها ظن أنه مر وربما كان حلواً كالعسل وسبب ذلك أنه إذا وجدت المرة مرة ظن أن كل سيال أصفر مرة إذا كانت المرة سيالة صفراء وأما الذي يكون من جهة أن المقدمات ليست غير النتيجة فهو البيان الذي يكون بالمصادرة على المطلوب الأول في المستقيم والمصادرة على نقيض المطلوب في الخلف: وقد أشير إلى ذلك فيما قد سلف وأما الذي يكون من جهة أن المقدمات ليست بأعرف من النتيجة فيكون بالأشياء التي تساوي النتيجة في المعرفة والجهالة بها أو بالأشياء التي يتأخر عنها في المعرفة ويكون سبيلها سبيل القياس الدوري وقد أشير إلى ذلك فيما سلف ويجتمع من جملة هذا أن جميع أسباب المغالطة في القياس إما لفظي وإما معنوي واللفظي إما اشتراك في جوهر اللفظ المفرد أو اشتراك في هيئته وشكله أو اشتراك يقع بحسب التركيب لا بحسب لفظ مفرد أو لأجل صادق مركباً وقد فصل فظن صادقاً أو لأجل صادق تفاريق وقد ركبت فظن صادقاً وأما المعنوي فإما أن يكون بالعرض وإما من جهة سوء اعتبار شروط الصدق في الحمل وإما لعقم القرينة وإما لإيهام عكس اللوازم وإما للمصادرة على المطلوب الأول وإما لأخذ ما ليس بعلة علة وإما لجمع المسائل في مسألة فلا يميز المطلوب الصفحة : 81 واحداً بعينه وقد اقتصرنا لك من علم المنطق على هذا القدر وقد عرفناك طريق نيل الصواب وهو القياس البرهاني والحد الحقيقي وطريق التحرز من الخطأ وهو مما عرفناك من المواضع التي يغلط فيها في المقاييس والحدود ولم نطول المنطق بذكر الأمور الخارجة عن هذين الغرضين وإن كانت لا تخلو عن نفع وهي مثل المواضع الجدلية وآلاتها واستعمالها ومثل المقاييس الخطابية ومواردها وكيفية التصرف فيها ومثل الأقاويل الشعرية ومواردها وأغراضها فإن أحببت أن تطلع على ذلك فاطلبه من كتابنا الذي يسمى بالشفاء. تم قسم المنطق من كتاب النجاة ويليه القسم الثاني وهو الطبيعيات القسم الثاني في الطبيعيات بسم الله الرحمن الرحيم المقالة الأولى من طبيعيات كتاب النجاة نريد أن نحصر جوامع العلم الطبيعي والعلم الطبيعي صناعة نظرية وكل صناعة نظرية فلها موضوع من الموجودات أو الوهميات فيه ينظر ذلك العلم وفي لواحقه فالعلم الطبيعي موضوع فيه ينظر وفي لواحقه وموضوعه الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغيير وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات وبعض موضوعات العلوم لها مباد وأوائل بها توجد وموضوع العلم الطبيعي من تلك الجملة وللعلوم أيضاً مباد وأوائل من جهة ما يبرهن عليها وهي المقدمات التي تبرهن ذلك العلم ولا تتبرهن فيها إما لبيانها وإما لعلوها عن أن تتبرهن في ذلك العلم بل إنما تتبرهن في علم آخر والعلم الطبيعي من تلك الجملة وليس ولا على واحد من أصحاب العلوم الجزئية إثبات مبادي موضوع علمه ولا إثبات صحة المقدمات التي يبرهن بها ذلك العلم بل بيان مبادي العلوم الجزئية على صاحب العلم الكلي وهو العلم الآلهي والعلم الناظر فيما بعد الطبيعة وموضوعه الموجود المطلق والمطلوب فيه المبادئ العامة واللواحق العامة فلنضع المبادئ الكلية للعلم الطبيعي الذي هو واحد من العلوم الجزئية وضعاً. الصفحة : 82 فصل في المبادئ التي يتقلدها الطبيعي ويبرهن عليها الناظر في العلم الآلهي نقول إن الأجسام الطبيعية مركبة من مادة هي محل وصورة هي حالة فيه ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال والعام لها كلها من الصور الأقطار الثلاثة إذ كل واحد من الأجسام يمكن أن تفرض فيه امتداداً أولاً وامتداداً ثانياً مقاطعاً له على زاوية قائمة وامتداداً ثالثاً مقاطعاً للامتدادين على زاوية قائمة والزاوية القائمة هي التي تحدث من تقاطع بعد قائم على بعد ليس ميله إلى إحدى الجهتين أكثر من ميله إلى الأخرى - فلهذا معنى كون الجسم ذا أقطار ثلاثة وإن كان في نفسه شيئاً واحداً والأقطار التي تكون في الجسم لا تقوم في غير تلك المادة الموضوعة لها بطباعها والمادة أيضاً لا تتعرى عن البعد الذي فيه نفرض هذه الأقطار وتلك المادة لا يؤخذ في حدها لا هذا البعد ولا هذه الأقطار على أنه جزء من وجودها بل هي خارجة عن ذات المادة وإن كانت حالت فيها مقارنة وليس للمادة بذاتها مقدار وقطر وإذا ليس لها ذلك بذاتها بل هي مستعدة لقبوله فلا عجب أن تكون مادة واحدة تقبل حجماً فما فوقه وما دونه وتنتقل من حجم إلى حجم وهذا جائز في الوجود. وفي مادة الجسم الطبيعي صور أخر غير الصور الجسمية فلها صور مناسبة لباب الكيف ولباب الاين ولغير ذلك وإذا كان الأمر على هذا فللأجسام الطبيعية إذا أخذت على الإطلاق من المبادئ المقارنة مبدآن فقط أحدهما " المادة " والآخر " الصورة" ولواحق الأجسام الطبيعية هي الأعراض العارضة من المقولات التسع وفرق بين الصور وبين الأعراض فإن الصور تحل مادة غير متقومة الذات على طبيعة نوعها والأعراض تحل الجسم الطبيعي الذي تقوم بالمادة والصورة وحصل نوقه والأعراض بعد الحادة بالطبع والصورة قبل المادة بالعلية والمادة والصورة قبل العرض بالطبع والعلية والمبدأ المفارق للطبيعيات ليس هو سبباً للطبيعيات فقط بل ولمبدأيها المذكورين وهو يستبقي المادة بالصورة ويستبقي بهما الأجسام الطبيعية فإذا هو مفارق الذات للطبيعيات فليس للطبيعي بحث عن أحواله كما لا بحث له عن كثير من أحوال المبدأين المقارنين وللأجسام الطبيعية عن المبدأ المفارق استبقاء لذواتها واستبقاء لكمالاتها وكمالاتها إما كمالات أول وهي التي إذا ارتفعت بطل ما هي له كمالات وإما كمالات ثانية لا يؤدي ارتفاعها إلى بطلان الشيء الذي هي له كمالات بل يؤدي إلى ارتفاع صلاح حالاته والمبدأ المفارق يستبقي هذه الكمالات الثانية لا الصفحة : 83 بذاته بل بتوسط وضع قوى في الأجسام هي كمالات أول ومبادئ عنها تصدر هذه الكمالات الثانية: ومن الكمالات الثانية للأجسام الطبيعية أفعالها وبهذه القوى تحصل أيضاً أفعالها وليس شيء من الأجسام الموجودة يتحرك أو يسكن بنفسه أو يتشكل أو يفعل شيئاً غير ذلك وليس ذلك له عن جسم آخر أو قوة فائضة عن جسم فليس يصدر عنه شيء إلا وفيه قوة من هذه القوى المذكورة عنها يصدر ذلك وكل ما يصدر عنه من الأفعال - وهذه القوى التي قد غرزت في الأجسام على أقسام ثلاثة فمنها قوى سارية في الأجسام تحفظ عليها كمالاتها من أشكالها ومواضعها الطبيعية وأفاعيلها وإذا زالت عن مواضعها الطبيعية وأشكالها وأحوالها أعادتها إليها وثبتتها عليها مانعة من الحالة الغير الملائمة إياها بلا معرفة وروية وقصد اختياري بل تسخير - وهذه القوى تسمى طبيعية وهي مبدأ بالذات لحركاتها بالذات وسكوناتها بالذات ولسائر كمالاتها التي لها بذاتها وليس شيء من الأجسام الطبيعية بخال عن هذه القوة والنوع الثاني قوى تفعل في الأجسام أفعالها من تحريك أو تسكين وحفظ نوع وغيرها من الكمالات يتوسط آلات ووجوه مختلفة فبعضها يفعل ذلك دائماً من اختبار ولا معرفة فيكون نفساً نباتية ولبعضها القدرة على الفعل وتركه وادراك الملائم والمنافي فيكون نفساً حيوانية ولبعضها الاحاطة بحقائق الموجودات على سبيل الفكرة والبحث فيكون نفساً إنسانية والنفس بالجملة كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة ومن النوع الثالث قوى تفعل مثل هذا الفعل لا بآلات - ولا بأنحاء متفرقة بل بإرادة متجهة إلى سنة واحدة لا تتعداها وتسمى نفساً فلكية - وهذه القوى المذكورة أيضاً هي صور الأجسام الطبيعية والصور التي في المادة منها صور ليس من شأنها أن تخلو منها موادها ومنها صور من شأنها أن تخلو عنها موادها - وهذه إذا زايلتها منها واحدة وجب أن تخلفها غيرها إذا قيل إن هذه المادة لا تتعرى عن الصورة فحينئذ يكون كوناً الذي الثانية صورته وفساداً للذي كانت الأولى صورته ومثل هذا التبدل في الأعراض ليس بكون وفساد بل هو استحالة أو نمو أو نقله أو غير ذلك وكل ما كان بعد لم يكن فلا بد له من مادة موضوعة يوجد فيها أو عنها أو معها وهذا في الكائنات الطبيعية محسوس مشاهد ولابد له من عدم يتقدمه لأن ما يتقدمه عدم فهو أزلي ولابد من صورة له حصلت في المادة في الحال وإلا فالمادة كما كانت ولا كون فإذاً المبادئ المقارنة للطبيعيات الكائنة ثلاث صور ومادة وعدم وكون العدم مبدأ هو لأنه لابد منه للكائن من حيث هو كائن وله عن الكائن بد وهو مبدأ الصفحة : 84 بالعرض لأن بارتفاعه يكون الكائن لا بوجوده وقسط الصورة في الوجود أوفر من قسط المادة لأنها علتها المعطية لها الوجود ويليها الهيولى ووجودها بالصورة - وأما العدم فليس هو بذات موجود على الاطلاق ولا معدومة على الاطلاق بل هو ارتفاع الذات الموجودة بالقوة وليس أي عدم اتفق مبدأ للكائن بل العدم المقارن لقوة كونه أي لا مكان كونه ولهذا ليس العدم الذي في الصوفة مبدأ لكون السيف البتة بل العدم الذي في الحديد فإنه لا يتأتى تكون سيف من صوفة ويتأتى عن الحديد والمادة إذا كان فيها هذا العدم فهو هيولى وإذا كانت فيها الصورة فهي موضوع فكأنها هيولى للصورة المعدومة التي بالقوة وموضوع للصورة الموجودة التي بالفعل وللأشياء الكائنة سببان خارجان أيضاً بالذات وهما الفاعل والغاية والغاية هي التي لأجلها توجد وقوم يعدون الآلات من جملة الأسباب والمثل أيضاً وليسا هما في الأشياء الطبيعية بالنحو الذي يدعيه القوم وجميع الأشياء الطبيعية تنساق في الكون إلى غاية وخير وليس يكون شيء منها جزافاً ولا اتفاقاً إلا في الندرة بل لها ترتيب حكمي وليس فيها شيء معطل لا فائدة فيه وليس يكون عن المبدأ الأول المباين فيها فعل قسري ولا خلاف لما توجبه القوة المجبولة فيها منه إلا على سبيل التأدي والتولد - فهذه هي الأصول الموضوعة الكلية في علم الطبيعيين ويتكفل بتصحيح ما ينبغي أن يصحح منها العلم الآلهي. الصفحة : 85 فصل في تجوهر الأجسام وللناس في الأجسام الطبيعية من جهة تجزيها أقاويل كثيرة فقائل يقول إن الأجسام الطبيعية تتجزأ بالفعل والقوة تجزأ متناهياً وهي مركبة من أجزاء غير متناهية من أجزاء لا تتجزأ إليها تنتهي القسمة وقائل يقول إن الأجسام الطبيعية لها أجزاء وكلها موجودة فيها بالفعل وقائل إن الأجسام الطبيعية منها أجسام مركبة من أجسام إما متشابهة الصورة كالسريرة وإما مختلفتها كبدن الحيوان ومنها أجسام مفردة والأجسام المركبة لها أجزاء موجودة بالفعل متناهية وهي تلك الأجسام المفردة التي منها تركبت وأما الأجسام المفردة فليس لها في الحال جزء بالفعل وفي قوتها أن تتجزئ أجزاء غير متناهية كل واحد منها أصغر من الآخر وليس تنتهي قسمتها البتة إلى جزء لا يتجزئ وما وجد في كلا القسمين من الأجزاء فهو متناه والتجزئ إما بتفريق الاتصال وإما باختصاص العرض ببعض منه يميزه حلولاً - وإما عرض غير مضاف كالبياض - وإما عرض مضاف كالمماسة والموازاة - وإما بالتوهم وإذا لم يمكن أحد هذه الثلاثة فالجسم المفرد لا جزء له بالفعل والرأيان الأولان باطلان فأما رأي الذين أثبتوا للأجسام أجزاء متناهية منها تتركب ويوجد كل واحد منها غير متجز فبطلانه بما أقول وهو أن كل جزء مس جزأ فقد شغله بالمس وكل ما شغل شيئاً بالمس فإما أن لا يدع فراغاً عن شغله بجهة أو يدع فكل جزء مس جزء فإما أن يدع فراغاً عن شغله أو لا يدع ولكن إن كان يتأتى أن يماسه آخر غير المماس الأول فقد ترك إذاً فراغاً عن شغله وكل ما كان كذلك فممسوسه متجزئ الذات - فإذاً كل جزء مس جزأ بهذه الصفة فممسوسه متجزئ الذات فإذاً كل ما لا يتجزئ لا يتماس إلا على سبيل التداخل وكل ما لا يتماس إلا على التداخل فلا يتأتى أن يتركب منه شيء أعظم منه بل جسم - فإذا الأجزاء الغير المتجزأة لا يتأتى أن يتركب عنها مقدار ولا جسم - وأيضاً لنفرض جزأين غير متجزئين وضعا على جزأين غير متجزئين وبينهما جزء غير متجزأ إن أمكن فنقول إن كل شيئين يصح على كل واحد منهما الحركة وليس ولا واحد منهما غير قابل للحركة ولا يمنع أحدهما الآخر عن الحركة إلا على سبيل التصادم والتمانع وليس بينهما تنافر للآخر عن الحركة إليه حتى يتصادما والجزآن المفروضان فرضاً كذلك فليس إذاً بمحال أن يتحركا معاً حتى يلتقيا متصادمين فلنفرض أنهما تحركا وتصادما فإما أن يلتقيا على الجزء الأوسط - وإما أن يلتقيا على أحد الطرفين ولا يجوز أن يلتقيا على أحد الطرفين لأنه إن التقيا عند أحد الطرفين فيكون الصفحة : 86 أحدهما لم يتحرك فإذا يلتقيان على الجزء الأوسط فإذا يصير الأوسط متجزئاً لأن كل واحد منهما يكون قد قطع بعضه وقد قيل إنه غير متجز وهذا خلف ولا يبعد أن يبين من هذا أن الجزأين الثابتين متجزئان أيضاً وذلك أيضاً خلف وعلى هذا براهين كثيرة من جهات أخر ومن جهة تركيب المربعات منها لمساوات الأقطار والأضلاع ومن جهة المسامتات فإنه من المعلوم أن كل شيء له سمت مع شيء آخر وإن كان بواسطة ثالث كما للشمس مع الحد المشترك بينها وبين الظل بوساطة ذى الظل فإنه إذا تحرك زال سمته وكانت مسامتته مع شيء آخر فيجب إذاً إذا تحركت الشمس جزأ أن يكون قد زال سمتها من قبل ذلك جزأ فيجب أن يكون ما يسامته الشمس دائراً على جسم صغير مساوياً لمدار الشمس ولم يكن " مدار الشمس " أعظم وأن تكون حركة الظل مثل حركة الشمس وأن وضع ما يزول بالسمت من حركة جزء واحد " من الشمس " أقل من جزء فقد انقسم وأما مناقضه الرأي الثاني فهو أن ذلك يمنع الحركة إذ من المحال أن يقطع المتحرك مسافة ذات أجزاء إلا وقد تعدى أنصافها وسائر أجزائها فلنفرض متحركاً ومسافة فنقول إن كان أجزاء المسافة غير متناهية فلها نصف ولنصفها نصف وكذلك إلى غير النهاية بالفعل وإن كان كذلك فقد يقطع المتحرك في زمان متناهي الطرفين أنصافاً غير متناهية في أزمان متناهية لكن التالي محال فالمقدم محال فإذا كانت المسافة متناهية الأجزاء علم منها أن الأجسام متناهية الأجزاء وههنا براهين أخر منها أنه لا كثرة إلا والواحد فيها موجود فإن كانت كثرة موجودة بالفعل فالواحد بالفعل موجود فيها والواحد بالفعل غير متجز بالفعل فإذا للجسم ذى الكثرة أجزاء أولى غير متجزئة فإذا أخذ منها متناهية أمكن أن يركب وإذا أمكن أن يركب لم يخل إما أن يزداد حجماً فيمكن حينئذ أن يحدث عنها جسم وإذا أمكن أن يحدث عنها جسم كان جسماً من أجزاء متناهية بالفعل ولم يكن كل جسم مركباً من أجزاء غير متناهية فإذا ليس وجود الجسم المفرد هو من اجزاء فيه متناهية بالفعل غير متجزئة ولا من أجزاء فيه غير متناهية فإذا ليس للجسم المفرد بالفعل جزء إلا ويحتمل التجزئ فإذاً إما أن ينتهي في التجزئ في الآخرة فيكون مركباً من أجزاء لا تتجزئ لكن التالي كذب فالمقدم كذب - وإما أن لا يتناهى في التجزئ البتة وذلك هو المطلوب. المقالة الثانية من الطبيعيات: في لواحق الأجسام الطبيعية الصفحة : 87 أعني الحركة - والسكون - والزمان - والمكان - والخلا والتناهي - واللاتناهي والتماس - والالتحام - والاتصال - والتتالي. فصل في الحركة الحركة تقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيرا يسيرا على سبيل اتجاه نحو شيء والوصول بها إليه هو بالقوة لا بالفعل فيجب من هذا القول أن تكون الحركة مفارقة لحال لا محالة ويجب أن تكون تلك الحال تقبل التنقص والتزيد لأن ما خرج عنه يسيراً يسيراً على سبيل اتجاه نحو شيء فهو باق ما لم ينقض الخروج عنه البتة جملة وإلا فالخروج عنه يكون دفعة وكل ما كان كذلك فإما أن يتشابه الحال فيه في أي وقت من الخروج عنه فرض أولاً يتشابه لكن لا يجوز أن يتشابه لأنه لو تشابه لما كان عنه خروج البتة فإذاً كل ما خرج عنه يسيراً يسيراً فهو باق غير متشابه لحال في نفسه عند الخروج عنه وما كان كذلك فهو قابل للتنقص والتزيد مثل البياض والسواد والحرارة والبرودة والطول والقصر والقرب والبعد وكبر الحجم وصغره ولذلك قيل إن الحركة " هي فعل وكمال أول للشيء الذي بالقوة من جهة المعنى الذي هو له بالقوة " فإن الجسم الذي هو في مكان ما بالفعل وفي مكان آخر بالقوة ما دام في المكان الاول ساكناً فهو بالقوة متحرك وبالقوة واصل وإذا تحرك حصل فيه كمال وفعل أول وبه يتوصل إلى كمال وفعل ثان هو الوصول لكنه ما دام له هذا الكمال فهو بعد بالقوة في المعنى الذي هو الغرض بالحركة وهو الوصول فالحركة كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة فإن الحركة له من حيث هو بالقوة في مكان يقصده لا من جهة ما هو بالفعل إنسان أو نحاس وإذا كان كذلك فالحركة وجودها في زمان بين القوة المحضة والفعل المحض وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولاً قاراً مستكملاً وقد ظهر أن كل حركة ففي أمر يقبل التنقص والتزيد وليس شيء من الجواهر كذلك فإذا لا شيء من الحركات في الجوهر فإذا كون الجواهر وفسادها ليس بحركة بل هو أمر يكون دفعة واحدة وأما الكمية فلأنها تقبل التنقص والتزيد فخليق أن يكون فها حركة كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف الذي لا يزول فيه اتصال الجسم فإنها من جهة ما يتزايد بها الجسم أو يتناقص فهي من هذه الجملة عندنا أعني جملة الحركة في الكمية وقد توجد الحركة في الكيفيات فيما يقبل التنقص والاشتداد كالتبيض والتسود وأما في المضاف فلأن المضاف أبدا عارض لمقولة من البواقي فهو تابع لها في قبول التنقص والتزيد فإذا أضيفت إليه حركة فلذلك بالحقيقة لتلك المقولة " فأما الاين " فإن وجود الصفحة : 88 الحركة فيه ظاهر جداً " وأما متى " فإن وجوده للجسم بتوسط الحركة فكيف تكون فيه الحركة فإن كل حركة كما نبين تكون في متى فلو كان فيه حركة لكان لمتى متى آخر - وهذا خلف " وأما الوضع " فإن فيه حركة على رأينا خاصة كحركة الجسم المستدير على نفسه فإنه لو توهم المكان المطيف به معدوماً لما امتنع كونه متحركاً والمتحرك بالحركة التي تكون في المكان لو توهم المكان المطيف به معدوماً لامتنع كونه متحركاً فإذاً ليس المتحرك بالاستدارة على نفسه متحركاً بالحركة التي تكون في المكان فظاهر أنه ليس بمتحرك في شيء آخر غير الوضع فليس إذاً متحركاً إلا في الوضع ولا تتعجبن من قولنا إنه لو توهم المكان المطيف به معدوماً لما امتنع كونه متحركاً فإن لهذا من الموجودات مثالاً وهو الجرم الأقصى وأكثر الناس لا يرون وراءه جسماً يطيف به وذلك هو الحق ولا يعوقهم ذلك عن توهمه متحركاً وكيف وهو متحرك أبداً - ولأن الجسم المتحرك بالاستدارة على نفسه إذا فرض في مكان فإما أن يباين كليته كلية المكان أو تلزم كليته المكان ويباين أجزاؤه أجزاء مكانه لكن ليس تتحرك كليته عن المكان لأن كليته لا تباين المكان وما لم يباين مكانه فليس بمتحرك في المكان فإذاً كليته تلزم المكان وتباين أجزائه إلى أجزاء المكان وكل جسم باين أجزاؤه أجزاء مكانه فقد اختلفت نسب أجزائه إلى أجزاء مكانه وكل ما اختلفت نسب أجزائه إلى أجزاء مكانه فقد تبدل وضعه - فهذا الجسم قد تبدل وضعه بحركته المستديرة وليس ههنا تبدل حال غير هذا فليس ههنا تبدل غير الوضع والوضع يقبل التنقص والاشتداد فيقال انصب وانكس " وأما الملك " فإن تبدل الحال فيه تبدلاً أولا في الاين فإذا لا حركة فيه بالذات بل بالعرض وأما مقولة أن يفعل فلقائل أن يقول إنه قد يتهئأ أن ينسلخ الشيء عن أنصافه بالفعل يسيراً يسيراً لا من جهة تنقص قبول الموضوع لتمام الفعل على هيئة واحدة بل من جهة هيئته ولكن ذلك أما لأن القوة إن كان فعله بالطبع جعلت تخور يسيراً يسيراً وأما لأن العزيمة أن كان فعله بالارادة جعلت تنفسخ يسيراً يسيراً وأما لأن الآلة والارادة أن كان فعله بهما جميعاً جعلت تكل يسيراً يسيراً وفي جميع ذلك يكون تبدل الحال أولاً في القوة أو العزيمة أو الآلة ويتبعه في الفعل وإذا كان ذلك كذلك كانت الحركة في قوة الفاعل أو عزيمته أو الآلة أولا وفي الفعل بالعرض ليس فيه بالذات على أن الحركة إن كانت خروجاً عن هيئة قارة وليس شيء من الأفعال كذلك فإذا لا حركة بالذات إلا في الكم. والكيف. والأين. والوضع فالحركة هي ما يتصور من حال الجسم لخروجه عن هيئة قارة يسيراً يسيراً وهو خروج عن القوة إلى الفعل ممتداً الصفحة : 89 لا دفعة بل الحركة كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه وكمه وكيفه ووضعه قبل ذلك ولا بعده: والسكون هو عدم هذه الصورة فيما من شأنه أن يوجد فيه ومثل هذا العدم يصح أن يعطي رسماً من الوجود لأن ما هو معدوم بالاطلاق ليس بموجود مطلقاً فلا يتأتى أن يكون له وجود في شيء آخر البتة والجسم الذي ليس فيه حركة وهو بالقوة متحرك لو لم يكن له هذا الوصف الذي يصير به الجسم متميزاً من غيره لخاصة تكون له لكان له لذاته ولو كان لذاته لما باينه ولكنه يباينه إذا تحرك فإذا هذا الوصف له بمعنى ما فإذا هذا العدم له معنى ما فإذا هذا العدم له معنى ما فإذا لعدم الحركة فيما من شأنه أن يتحرك مفهوم في ذاته غير نفس الجسم وإنما العدم الذي لا يحتاج الشيء في أن يوصف به إلى غير ذاته فهو ما لا ينضاف إلى وجوده وإمكانه كعدم القرنين في الانسان وهو السلب في العقل والقول وأما عدم المشي فيه فهو حالة مقابلة للمشي توجد عند ارتفاع علة المشي وجوداً ما بنحو من الأنحاء وله علة بنحو وهو بعينه علة الوجود ولكن عند ارتفاعه فإنه إذا حضر فعل الوجود وإذا غاب فعل ذلك العدم فهو علة بالعرض لذلك العدم فالعدم إذاً معلول بالعرض فهو إذاً يصح أن يوضع موجوداً بالعرض وهذا العدم ليس هو لا شيء على الاطلاق بل لا شيئية شيء ما في شيء ما معين بحال ما معينة وهو كونه بالقوة. الصفحة : 90 فصل في أن لكل متحرك علة محركة غيره نقول إن كل حركة توجد في الجسم فإنما توجد لعلة محركة لأنه لو كان الجسم يتحرك بذاته وتوجد فيه الحركة بما هو جسم فإما أن يكون لأنه جسم فقط وإما أن يكون لأنه جسم ما ولو كان لأنه جسم فقط لكان كل جسم متحركاً وإن كان لأنه جسم ما فتكون علة الحركة الخاصية التي لتلك الجسمية وتلك الخاصية معنى زائد على الهيولى الجسمية والصورة الجسمية وهي قوة أو صورة أخرى غير ذلك فتكون الجسمية تجعل فيه الحركة عن وجود تلك الخاصية فيه فيكون مبدأ الحركة تلك الخاصية ومبدأ قبول الحركة هو الجسم لا محالة - وأيضاً كل حركة تعرض موجودة في الشيء منسوبة إلى قطعة مسافة أو كيفية أو غير ذلك فإنها في الحال تعدم من حيث هي كذلك ووجود الحركة إنما يتحصل بأن يكون كذلك وليس شيء مما يوجد للشيء بذاته يعدم عنه أو يعدم عنه ما يتعلق بكونه فإذا ليس شيء من الحركات يوجد للشيء بذاته فإذا كل حركة فلها علة محركة وهذه العلة المحركة ينبغي أن يضاف إليها التحريك وحدها ولا يجوز أن يقال أن الجسم يحرك نفسه بها لأنه لو كان الجسم يحرك نفسه بها لكان نفسه يتحرك عن نفسه بها ليصير محركاً بحركة واحدة ولو كان كذلك لكان شيء واحد فاعلاً وموضوعاً لفعل واحد وهذا محال على ما وضعناه في المبادئ والمقدمات فإذا الفعل مضاف إلى العلة وحدها - وهذه العلة المحركة إما أن تكون موجودة في الجسم فيسمى متحركاً بذاته - وإما أن لا تكون موجودة في الجسم بل خارجة عنه فيسمى متحركاً لا بذاته والمتحرك بذاته إما أن تكون العلة الموجودة فيه يصح عنها أن تحرك تارة وأن لا تحرك أخرى فيسمى متحركاً بالاختبار وإما أن لا يصح عنها أن لا تحرك ويسمى متحركاً بالطبع والمتحرك بالطبع إما أن يكون بالتسخير فتحركه علته بلا إرادة ويسمى متحركاً بالطبيعة - وإما أن يكون بإرادة وقصد ويسمى متحركاً بالنفس الفلكية. الصفحة : 91 فصل في أنه لا يجوز أن يتحرك الشيء بالطبيعة وهو على حالته الطبيعية وفي أنه ليس شيء من الحركات بالطبيعة ملائماً لذاتها كل ما اقتضته طبيعة الشيء لذاته فليس يمكن أن يفارقه إلا والطبيعة قد فسدت وكل جزء من الحركة يفرض للحركة بانقسام زمان أو مسافة فقد يمكن أن يفارق والطبيعة لم تبطل فكل حركة تتعين في الجسم فإنها يمكن أن تفارق والطبيعة لم تبطل فليس شيء من الحركات مقتضى طبيعة الشيء المتحرك فإذا إن وجدت الطبيعة مقتضية للحركة فإنها ليست على حالتها الطبيعية وإنما تتحرك لتعود إلى الحالة الطبيعية مقتضية للحركة فإنها ليست على حالتها الطبيعية وإنما تتحرك لتعود إلى الحالة الطبيعية وتبلغها فإذا بلغتها ارتفع الموجب للحركة وامتنع أن يتحرك فيكون مقدار الحركة على مقدار البعد من الحالة الطبيعية الملائمة التي فورقت بالقسر وكل حركة بالطبيعة فهي هرب بالطبع عن حال وكل ما كان كذلك فهو عن حالة غير ملائمة فإذاً كل حركة بالطبيعة فعن حالة غير ملائمة - وهذه الحركة ينبغي أن تكون مستقيمة إن كانت في المكان لأن هذه الحركة لميل طبيعي وكل ميل طبيعي فعلى أقرب مسافة وكلما كان على أقرب مسافة فهو على خط مستقيم - فهذه الحركة على خط مستقيم فإذا الحركة المكانية المستديرة كالتي تكون على مركز خارج عنها ليست عن الطبيعة - وكذلك الحركة الوضعية وكيف تكون الحركة الوضعية بالطبيعة وقد ثبت أن كل حركة بالطبيعة فإنها تهرب من الطبيعة عن حالة غير طبيعية والطبيعة لا تفعل بالاختيار بل إنما تفعل أفاعيلها بالتسخير والطبع فلا تتفتن حركاتها وأفاعيلها فلنضع الحركة الوضعية بالطبيعة فيكون للهرب الطبيعي عن الوضع الغير الطبيعي وكل ما كان للهرب الطبيعي عن شيء غير طبيعي فإنه لا يكون فيه قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقه بالهرب فإذا الحركة المستديرة الوضعية الطبيعية لا يكون فيها قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقته وهذا كذب والذي أوجبه وضعنا الحركة الوضعية طبيعية فهي إذاً غير طبيعية فهي إذاً عن اختيار أو إرادة وبهذا يبرهن أيضاً على الحركة المكانية المستديرة أنها ليست طبيعية فيتبين أن كل حركة مستديرة ليست عن قاسر فمبدؤها نفسي أي قوة محركة بالاختيار أو الارادة. الصفحة : 92 فصل في أنه لا يمكن أن تكون حركة مكانية غير متجزئة على ما يراه القائلون بجزء غير متجزء ولا في غاية السرعة ولا في غاية البطء إن أمكن وجود حركة غير متجزئة أمكن وجود مسافة غير متجزئة ووجود مسافة مركبة من أجزاء لا تتجرى والتالي محال كما قد تبين فالمقدم محال وإذا كانت الحركة مطابقة للمسافة والمسافة تتجزئ إلى غير النهاية فالحركة لا تنتهي في التجزئة ونقول إن الحركة إن كانت مؤلفة من حركات لا تتجزأ لم يجز أن تكون حركة أسرع من حركة إن كانت مؤلفة من حركات لا تتجزأ لم يجز أن تكون حركة أسرع من حركة وأبطأ من حركة إلا والأسرع أقل سكنات والأبطأ أكثر سكنات وإلا فليقطع جرم ما في وقت ما بحركة غير متجزئة مسافة ما فتلك المسافة إن كانت متجزئة فالحركة عليها متجزئة وقد فرضت غير متجزئة وإن كانت غير متجزئة فالأبطأ يقطع في ذلك الزمان إما مثلها وإما أكثر منها فإن قطع مثلها فليس أبطأ وإن قطع أكثر منها فهو أسرع وإن قطع أقل فقد تجزأت المسافة وهذا كله خلف لكن من الظاهر أن الحركة تكون أسرع من حركة وأبطأ لا بسبب السكنات فنحن نعلم أن السهم في نفوذه والطائر في طيرانه إن كانت حركاته مركبة من حركات لا تتجزى وهي في أنفسها لا أسرع منها لم يخل إما أن تكون مركبة منها بلا تخلل سكنات أو تكون بتخلل سكنات قليلة جداً بالقياس إلى الحركات فإن كان لا بتخلل السكنات فيجب أن تكون حركة السهم والطائر مساوية لحركة الشمس المشرقية أو أسرع منها وهذا محال وإن كان يتخلل السكنات وهي أقل من الحركات فيجب أن يكون فضل حركة الشمس عليها أقل من الضعف لكن ليس بينهما نسبة يعتد بها فإذا ليس حركات لا تتجزئ ولا في غاية السرعة وليست السرعة والابطاء بسبب تخلل السكنات بل قد يكونان في نفس الحركة وهي متصلة لشدتها وضعفها. الصفحة : 93 فصل في الحركة الواحدة الحركة قد تكون واحدة بالجنس وقد تكون واحدة بالنوع وقد تكون واحدة بالشخص والحركة الواحدة في الجنس هي التي تقع في مقولة واحدة أو في جنس واحد من الأجناس التي تحت تلك المقولة مثل النمو والذبول فإنهما واحد بالجنس أي في الكم ومثل التسخين والتبيض فإنهما واحد بالجنس أي في الكيف والتسخين والتبريد واحد بالجنس الأقرب لأنهما في الكيفية الانفعالية والحركة الواحدة في النوع هي التي إن كانت ذات جهة مفروضة كانت في نوع واحد عن جهة واحدة وإلى جهة واحدة وفي زمان ما ومثل تبييض ما يتبيض وتسخين ما يتسخن - وكذلك الصعود للمتصعد والتسفل للمتسفل ويقال حركة واحدة بالشخص وهي التي تكون مع ذلك كله عن متحرك واحد بالشخص في زمان واحد ويكون وحدة هذه الحركة الشخصية هي بوجود الاتصال فيها والحركات المتفقة في النوع لا تتضاد - وهذا بين بنفسه. فصل في تضايف الحركات الحركات المتضايفة يعني بها التي يجوز أن يقال لبعضها أسرع من بعض أو أبطأ أو مساوية في السرعة ولما كان الأسرع هو الذي يقطع شيئاً مساوياً لما يقطعه الآخر في زمان أقصر أو الذي يقطع في زمان سواء أزيد مما يقطعه الآخر والمساوي في السرعة هو الذي يقطع في زمان أزيد مما يقطعه الآخر والمساوي في السرعة هو الذي يقطع في مثل الزمان مثل ما قطع الشيء فيجب أن تكون الأشياء التي فيها الحركة من شأنها أن يقال لها أن بعضها مساو لبعض وأزيد وأنقص إما مطلقاً مثل خط لخط وارتفاع لارتفاع وبياض لبياض وإما غير مطلق وذلك الذي هو غير مطلق هو على وجهين إما أن يكون في القوة مطلقاً مثل المثلث للمربع فإن في قوة بعض المثلثات أن يقطع سطحه أجزاء ثم ينهدم منها مربع - وأما في القوة بحسب الوهم مثل القوس للمستقيم فإنه لا يجوز أن يكون قوس مساوياً لمستقيم البتة بالفعل إذا المساوي هو الذي ينطبق على الشيء فلا يفضل عليه ولكنه في القوة الوهمية قد يتوهم مساوياً له لأنه يمكن أن يتوهم المستدير مستقيماً والمستقيم مستديراً هذا - وأما أن يكون لا بالقوة ولا بالفعل ولكن يخيل أن نسبة شيء إلى شيء ما مثل نسبته إلى مقابله مثل بياض وسواد كل واحد منهما في الغاية أو شدة كل واحد منهما الزائدة على المتوسطة مناسبة لشدة الآخر فكان بعد شدته أو نقصه من أحد الطرفين كبعد الآخر عن مقابله فالحركات المتضايفة في الحقيقة هي التي من القسم الأول المطلق وهي التي نوع ما الصفحة : 94 فيه الحركة فيهما جميعاً واحد ثم القسم الثاني وأما القسم الثالث والرابع فمجازيان وأبعدهما الرابع. فصل في تضاد الحركات فنقول أولاً إن الضدين هما اللذان موضوعهما واحد وهما ذاتان يستحيل أن يجتمعا فيه ولا يستحيل أن يتعاقبا عليه وبينهما غاية الخلاف وبعد ذلك فنقول أن تضاد المتحركين لا يوجب بين الحركات تضاداً وليس تضاد الحركات هو أن المتحركين متضادان فإنه قد تتحرك أشياء متضادة حركة واحدة بالنوع كما قد يتحرك حار وبارد حركة واحدة بالنوع ولو كان تضاد الحركات لأنها عن متحركات متضادة لما كان شيء من الأضداد يتحرك حركة واحدة فإن تضاد المتحركين ليس هو الموجب لتضاد الحركتين وأيضاً لو كان تضاد الحركتين لأجل تضاد المتحركين بأن يكون حقيقة تضادهما هو تضاد المتحركين لكان كل حركتين متضادتين عن ضدين وذلك كذب لأن بعض الأشياء يوجد هو بعينه متحركاً حركتين متضادتين لوجود حد التضاد لهما وذلك كمشيء واحد يبيض مرة ويسود أخرى ويعلو تارة ويسفل أخرى فليس إذاً تعلق حقيقة التضاد في الحركات المتضادة بتضاد المتحركات ولا أيضاً بالزمان لأن الحركات كلها تتفق في نوع الزمان فإذا قلنا ليس شيء من زماني حركتين مختلفتين بمختلفتين وكلما تتضاد به الحركتان مختلفتان لزم أن الزمان لا تتضاد به الحركات فتبين أن الزمان لا يوجب البتة تضاداً في الحركات ولا يكون به التضاد في الحركات ولا أيضاً تضاد الحركات هو لتضاد ما فيه التحرك لأنه قد توجد حركتان متضادتان تسلكان مسافة واحدة أو طريقاً واحداً بين كيفيتين متضادتين بل تضاد الحركات هو بتضاد الأطراف والجهات إذ كانت الحركات إنما تختلف إما في جهاتها وإما في هيئة ما فيه تتحرك وإما في المحرك لها والمتحرك بها أو الزمان فإذا ثبت هذا فنقول إن الحركة المستقيمة لا تضاد الحركة المستديرة المكانية لأنهما لا يتضادان في الجهات وكل حركتين متضادتين فهما متضادتان بالجهات وإنما قلنا أن الحركات المستقيمة لا تضاد المستديرة في الجهات لأن المستديرة لا جهة فيها بالفعل لأنها لا نهاية لها بالفعل لأنها متصل واحد ثم أن فرض جهتان وطرفان مشتركان للمستقيم والمستدير كان توجه المستدير لأنها لا تختلف في النهايات وكل حركتين متضادتين فمختلفتان في النهايات بل متضادتان ولكن قد يمكن أن يتوهم تخالف المأخذ فيها تضاداً وذلك غير حق لأنه إذا فرض في المدار مأخذ جهتين مختلفتين كان معناه أن إحدى الصفحة : 95 الجهتين هي من نقطة إلى أخرى والأخرى من الأخرى إلى الأولى ولكن أيهما أخذ الاتجاه في الحركة عليه من نقطة إلى أخرى كان ذلك الاتجاه في الحركة في باقي المدار يفعل خلاف ما فعل في الأول والحركتان اللتان يفعلان أحدهما في مدار ما اتجاهاً من نقطة إلى أخرى وتفعل الأخرى في ذلك المدار اتجاهاً من النقطة الأخرى إلى الأولى فإن كل واحد منهما يفعل بعد ذلك في ذلك الاتجاه بعينه ما فعلت الأخرى ولكن يقع فعل كل واحد منهما المشابه لفعل الآخر في جزئين مختلفين من المدار وكل واحد ونهما مشابه فعله فعل الآخر ولكن مختلفان باختلاف جزئي المدار ليس اختلافهما إلا بالعدد فقط وكل اختلاف موجب للتضاد فليس هو اختلاف قرن بالعدد فقط فإذاً اختلاف جزئي المدار ليس اختلافاً يوجب للتضاد وليس ههنا إلا هذا الاختلاف فليس إذاً اختلاف هذه الجهات موجباً للتضاد فإذا أن أمكن أن تتضاد الحركتان المكانيتان فهما المستقيمتان فبين أنهما الآخذتان في خط واحد المختلفتان في المبدأين والجهتين فضد الهابطة الصاعدة وضد المتيامنة المتياسرة وهذا التضاد غير متعلق بنفس الطرفين بأن يتعينا بل بجهتيهما ولو كان تعين الطرفين موجبه لما كان تضاد إلا عند موافاة النقط الغائبة ولو كان كذلك لما كان التضاد إلا عند انتهاء الحركات ولو كان كذلك لما كان بين الحركات الموجودة ولكن بين الحركات تضاد موجود كما نبين فإذا ليس التضاد بينهما للوصول إلى النهايات المتضادة بل للاتجاه اليها وإما بيان أن في الحركات الموجودة تضاداً موجوداً فلأنه قد توجد حركتان لا تجتمعان معاً وهما مستقيمتان ويتأتى أن يتعاقبا على الموضوع وكلاهما ذاتان ثم قد يوجد فيهما ما يتخالف خلافاً لا يمكن أن يكون بين حركتين خلاف فوقه وهما المتخالفتان في الاتجاه إلى ضدين عن ضدين ومنهما ما يتخالف خلافاً ليس بالغاية وهما المتخالفتان في الاتجاه لا على ذلك الوجه وكل شيئين على الصفة الأولى فمتضادتان فإذا في الحركات المستقيمة تضاد - وهذا برهان يدل على الحد أيضاً ولنختم ههنا القول في الحركات المتضادة ولننقل ما مثلناه في الحركات المستقيمة إلى غيرها. قد بينا أنا نعني بالسكون عدم الحركة فيما عدم الحركة فيما من شأنه أن يتحرك فيكون التقابل بينهما أعني الحركة والسكون تقابل العدم والملكة فيكون السكون المطلق مقابلاً للحركة المطلقة والسكون المعين مقابلاً للحركة المعينة فقد قالوا إن السكون في المكان المعين عدم الحركة فيه للشيء الذي يتأتى أن يتحرك فيه بأن يفارق ذلك السكون وليس عدم أية حركة اتفقت الصفحة : 96 بسكون فإنه لو كان عدم أي حركة اتفقت سكوناً لكان أيضاً عدم حركة تتوهم للجسم في مكان خارج سكوناً حتى لو كان متحركاً لا في ذلك المكان كان ساكناً فإذا ليس أي عدم اتفق هو السكون بل للعدم المقابل وهو السكون في المكان الذي يتأتى فيه الحركة والحركة في المكان بعينه مفارقة للمكان بعينه وكل مفارقة للمكان فبالحركة عنه لا بالحركة إليه فإذا السكون في المكان المقابل إنما يقابل الحركة عنه لا الحركة إليه بل ربما كان هذا السكون استكمالاً لها وفي هذا كلام يليق بالمبسوطات. القول في الزمان كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة وأخرى معها على مقدارها من السرعة وابتدأتا معاً فإنهما يقطعان المسافة معاً وإن ابتدأت أحداهما ولم تبتدئ الأخرى ولكن انتهيتا معاً فإن إحداهما تقطع دون ما تقطع الأولى وإن ابتدأ مع السريع بطيء واتفقتا في الأخذ والترك وجد البطيء قد قطع أقل والسريع قد قطع أكثر وإذا كان ذلك كذلك كان بين أخذ السريع الأول وتركه إمكان قطع مسافة معينة وأقل منها ببطء معين وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة فيكون هذا الامكان طابق جزأً من الأول ولم يطابق جزأ متقضياً وكان من شأن هذا الامكان التقضي لأنه لو ثبت للحركات بحال واحدة لكان يقطع المتفقات في السرعة أي وقت ابتدأت وتركت مسافة واحدة بعينها ولما كان إمكان أقل من إمكان وإذا كان ذلك كذلك وجد في هذا الامكان زيادة ونقصان يتعينان وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الامكان ذا مقدار يطابق الحركة وفيه تقع الحركة بأجزائها التي لها من المسافة فإذا ههنا مقدار للحركات مطابق لها وكل ما طابق الحركات فهو متصل ومتقضي الاتصال متجدده فإذا هذا المقدار متصل ومقتضي الاتصال متجدده فإن هذا المقدار مدة أي متصل على سبيل التقضي وهذا المقدار وجوده في مادة لأنه يوجد منه جزء بعد جزء وكلما كان كذلك فكل جزء يفرض منه حادث وكل حادث ففي مادة كما قيل في المبادئ أو عن مادة وليس هذا عن مادة لأن مجموع المادة والصورة لا يحدثان حدوثاً أولياً بل الهيئة والصورة فهو إذاً مقدار في مادة وكل مقدار يوجد في مادة وموضوع فإما أن يكون مقداراً للمادة أو لهيئة فيها ولكن ليس هذا المقدار للمادة لأنه لو كان مقداراً للمادة بذاتها لكان بزيادتها زيادة المادة ولو كان كذلك لكان كل ما هو أسرع أكبر وأعظم والتالي باطل فالمقدم باطل فإذاً هو مقدار للهيئة الصفحة : 97 وكل هيئة إما قارة وإما غير قارة فهو إذاً إما مقدار هيئة قارة أو هيئة غير قارة لكن ليس مقدار هيئة قارة فإن كل هيئة قارة فرض لها مقدار فإما أن تكون مع تمام مقدارها في المادة أو لا تكون ولكن ليست تكون هذه الهيئة مع تمام مقدارها في المادة لأن كل هيئة هكذا فإنه يظهر في المادة زيادة بزيادتها ونقصان بنقصانها وليست الحركة كذلك وأيضاً لا تكون بتمام مقدارها في المادة لأنها تبقى مع الزيادة خارجة عن المادة وليس شيء من هيئات المواد كذلك - فهذا محال فإذا ليس هذا المقدار مقدار هيئة قارة فهو إذاً مقدار هيئة غير قارة وهو الحركة - ولهذا لا يتصور الزمان إلا مع الحركة ومتى لم يحس بحركة لم يحس بزمان مثل ما قيل في قصة أصحاب الكهف - وهذا المقدار غير مقدار الجسم لما قيل وغير مقدار المسافة لأنه لو كان مقدار المسافة لكان سلوكه وسلوك هذا المقدار واحداً ولو كان كذلك لكانت الحركات المتفقة في مسافة واحدة واحدة بعينها في السرعة والبطء ولم تكن الحركات المختلفة في السرعة والبطء تقطع في هذا المقدار مسافات مختلفة كما قيل وليس هو نفس السرعة والبطء لأنه قد يتساوى سريعان وبطيئان في السرعة والبطء ويختلفان في هذا المقدار كما تعلم فإذا هو مقدار خارج عن هذه وهو بحيث لو فرضت الحركة معدومة أصلاً لم ينازع في أن موجودها كان يقدر أن يخلق حركة أو حركات قبل الأولى تنتهي مع بداية الأولى ولها مقدار وأنه لم يمكن أن يخلق معها مطابقاً لها في المبدأ والمنتهى ما هو أعظم منها مع إمكان خلق ما هو أعظم منها وينتهي معها بلا شريطة وإذا كان كذلك عرف إمكان وقوع حركتين مختلفتين في العدم فكان هناك إمكانيات فلا يخلوا ما أن يكونا معاً أو لاحدهما تقدم لكن ليسا معاً لأنهما لو كانا معاً لكانت الحركتان العظمى والصغرى يمكن أن يقعا معً وذلك محال فإذا أحدهما يكون قد تقدم والآخر لحقه فطابق بعضاً منه وكل شيئين هذه صورتهما فهما مقداران فإذا الامكان المقدر ومقداره واحد عند عدم الأشياء كلها وهما كما قيل من الأشياء التي في موضوع وعن وجود الحركة فيه وكلما كان كذلك وجد مع وجوده الموضوع والحركة وقد فرضا معدومين هذا خلف فإذا الزمان ليس محدثاً حدوثاً زمانياً بل حدوث ابداع لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة بل بالذات ولو كان له مبدأ زماني لكان حدوثه بعد ما لم يكن أي بعد زمان متقدم فكان بعداً لقبل غير موجود معه فكان بعد قبل وقبل بعد فكان له قبل غير ذات الموجود عند وجوده وكل ما كان كذلك فليس هو أول قبل وكل ما ليس أول قبل فليس مبدأ للزمان كله فالزمان مبدع أي تقدمه باريه فقط الصفحة : 98 ومعنى المحدث الزماني أنه لم يكن ثم كان ومعنى لم يكن أنه كان حال هو فيه معدوماً وذلك الحال أمر قد وجد وتقضى فإنه إن كان معنى لم يكن عدماً لا في وقت معين ماض بل عدم بالقياس إلى لا وجود فإن القديم أيضاً ليس هو موجوداً في اللاوجود بل هو في كثير من الموجودات غير موجود مثل أنه غير موجود في الحركة ولا في الاستحالة ولا في التغيير وليس أنه غير موجود في شيء وأنه غير موجود شيئاً واحداً كما أنه ليس معنى أنه ليس في شيء وأنه ليس شيئاً واحداً فإذا الزمان غير محدث حدوثاً زمانياً والحركة كذلك وسنبين انه ليس كل حركة كذلك بل المستديرة فقط وضعية كانت أو مكانية فإذا هوية هذا المقدار الذي للحركة هي أنه لحركة مستديرة وبها تعلقه الذاتي ولو كان تعلقه الذاتي الذي بالهيئة الغير القارة في المادة كما نبين إنما هو بما كان هيئة غير قارة وكانت غير المستديرة لعدمت في زمان وذلك كما بان محال - فإذاً الزمان مقدار للحركة المستديرة من جهة المتقدم والمتأخر لا من جهة المسافة والحركة متصلة فالزمان متصل لأنه يطابق المتصل وكل ما طابق المتصل فهو متصل فإذاً الزمان يتهيأ أن ينقسم بالتوهم لأن كل متصل كذلك فإذا قسم ثبتت له في الوهم نهايات ونحن نسميها آنات وكما أنه قد يمكن أن تتقدر هيئات قارة في المادة كثيرة العدد بمقدار واحد ما وكذلك قد يمكن أن تتقدر هيئات غير قارة كثيرة العدد بمقدار واحد غير قار أعني بزمان واحد فيكون ذلك الزمان أولاً لشيء منها وثانياً لها في تقدرها به بالمطابقة وتكون تلك الحركة علة لتقدير سائر الحركات ومحركها علة لها ولمقدارها ولتقدر سائر الحركات وليس كل ما وجد مع الزمان فهو فيه فإنا موجودون مع البرة الواحدة ولسنا فيها بل الشيء الموجود في الزمان أما أولاً فأقسامه وهو الماضي والمستقبل وأطرافه وهي الآنات وأما ثانياً فالحركات وأما ثالثاً فالمتحركات فإن المتحركات في الحركة والحركة في الزمان فتكون المتحركات بوجه ما في الزمان وكون الآن فيه ككون الوحدة في العدد وكون الماضي والمستقبل فيه ككون أقسام العدد في العدد وكون المتحركات فيه ككون المعدودات في العدد فما هو خارج عن هذه الجملة فليس في زمان بل إذا قوبل مع الزمان واعتبر به فكان له ثبات مطابق لثبات الزمان وما فيه وسميت تلك الاضافة وذلك الاعتبار دهراً له فيكون الدهر هو المحيط بالزمان وكما أن كل متصل من المقادير الموجودة قد يفصل فيقع عليه العدد فلا عجب لو فصل الزمان بالتوهم فجعل أياماً وساعات بل سنين وشهوراً فذلك إما بمراد المتوهم وإما باعتبار مطابقة عدد الحركات له. الصفحة : 99 فصل في المكان يقال مكان لشيء يكون فيه الجسم فيكون محيطاً به ويقال مكان لشيء يعتمد عليه الجسم فيستقر عليه والمكان الذي يتكلم فيه الطبيعيون هو الأول وهو حاو للمتمكن مفارق له عند الحركة ومساو له لأنهم يقولون لا يتأتى أن يوجد جسمان في مكان واحد فإذا كان كذلك فينبغي أن يكون خارجاً عن ذات المتمكن لأن كل شيء يكون في ذات المتحرك فلا يفارقه المتحرك عند الحركة: وقد قيل إن كل مكان مباين للمتحرك عند الحركة فإذاً ليس المكان شيئاً في المتمكن وكل هيولى وكل صورة فهو في المتمكن فليس إذاً المكان بهيولى ولا صورة ولا الابعاد التي يدعى أنها مجردة عن المادة بمكان الجسم المتمكن لا مع امتناع خلوها كما يراه بعضهم ولا مع جواز خلوها كما يظنه مثبتو الخلاء وأقول أولاً أنه إن فرض خلاء خال فليس هو لا شيئاً محضاً بل هو ذات وكم وجوهر لأن كل خلاء خال يفرض فقد يوجد خلاء آخر أقل منه وأكثر ويوجد متجزئاً في ذاته المعدوم واللاشيء ليس يوجد هكذا فليس الخلاء لاشيئاً وأيضاً كل ما كان كذلك فهو كم فالخلاء كم وكل كم فإما منفصل وإما متصل والخلاء ليس بمنفصل لأن كل منفصل فإما أن يكون الانفصال عرض له أو يكون لذاته منفصلاً وكل ما عرض له الانفصال فهو متصل بالطبع وإن كان منفصلاً لذاته فهو عديم الحد المشترك بين أجزائه وكل ما كان كذلك فكل واحد من أجزائه لا ينقسم وكلما كان كذلك فليس يمكن أن يقبل في ذاته متصل الأجزاء فإذا الخلاء ليس بمنفصل الذات فهو إذاً متصل الذات كيف لا وقد يفرض مطابقاً للملاء في مقداره وكلما كان كذلك فهو مطابق لمتصل وكلما طابق المتصل فهو متصل فالخلاء إذاً متصل وأيضاً الخلاء ثابت الذات متصل الأجزاء منحازها في جهات وكلما كان كذلك فهو كم ذو وضع فالخلاء كم ذو وضع وأيضاً الخلاء يوجد في خاصية البعد وقبول الانقسام الوهمي من أي جانب وأي امتداد كان في الجهات كلها وكلما كان كذلك فهو ذو أبعاد ثلاث فالخلاء ذو أبعاد ثلاث وذو وضع وكأنه جسم تعليمي مفارق للمادة فنقول أن كون الخلاء كما ذا وضع وأبعاد ثلاث إما أن يكون له لذاته أو لشيء الخلاء حل فيه أو لشيء هو حل في الخلاء وهو مقدار موضوعه الخلاء ولا يجوز أن يكون لشيء حل في الخلاء لأنه يكون ذا مقدار غير الخلاء وكلما كان كذلك فهو ملاء فذلك الشيء ملاء فيكون الخلاء حل في الملاء وهذا باطل محال لأنه يلزم أن يكون الخلاء ملاء ولا أيضاً لشيء حل في الخلاء فقدره فيكون ذلك المقدار في محل لا يفارقه الصفحة : 100 ويكون مجموعهما جسماً ويكون الخلاء مادة وجزء من حقيقة الملاء وهذا كله محال وأيضاً الخلاء حين إذ إما أن يكون هو الموضوع لذلك المقدار فإذا رفع المقدار في التوهم كان الخلاء وحده بلا مقدار ولا مكان لمطابقة الأجسام فيكون حينئذ الخلاء وحده ليس خلاء وحده وإن بقي متقدراً في نفسه فهو مقدار بنفسه لا لمقدار حله وإن الخلاء مجموع مادة ومقدار فالخلاء جسم وهذا محال فبين أنه يجب أن يكون الخلاء إن كان موجوداً ومقداراً أن يكون مقداراً لذاته وكل ما هو مقدار لذاته لا يخلو من نفسه إما أن يكون لذاته أو متصلاً لهيئة جعلته متصلاً ولكن ليس متصلاً لهيئة جعلته متصلاً لأن ما كان كذلك فكميته بغيره وليس شيء ما هو مقدار بذاته كميته بغيره فإذاً ليس شيء مما هو مقدار بذاته كذلك فإذاً كل ما هو مقدار بذاته فهو متصل بذاته وكل متصل بذاته فإنه لا ينفصل ما دام ذاته موجوداً فإذاً كل مقدار بذاته فإنه لا ينفصل ما دام ذاته موجوداً فإذاً إذا وجد انفصال فإما أن يكون الانفصال حل فيه وذلك محال أو يكون حل في مادة قارنته وعدم ذاته عند حلوله فيه وهو الباقي وكذلك نقول في السطح والخط والجسم الذي من الكم وكلما كان معه مادة يعرض لها الانفصال بعد وجود الاتصال فيه فهو مقدار في مادة فإذاً حيث وجد الانفصال فهناك مادة فالخلاء إن وجد فيه انفصال فله مادة فهو إذاً جسم طبيعي وإن فرض أن الخلاء يعدم عند ورود الانفصال عليه فعلى ماذا ورد الانفصال لأن الشيء لا يرد على المعدوم ولا يرده المعدوم ولا يعارض هذا بالمقدار الجسماني وأنه ينفصل لأنا سنبين في موضعه أن ذلك الانفصال اعدام لذلك المقدار وأنه يحل محله وليس هو يقابل له وإنما عرض للمادة ونقول الآن أن الخلاء ليس له مادة وكل قابل للانفصال فله مادة فإذاً الخلاء لا ينفصل ونقول من رأس أيضاً أن امتناع تداخل بعدين بين جسمين بأن يكون مثلاً مكعب ويفرض آخر مساو له ثم يتداخلان وهما ثابتا الذات حتى يستغرق كل واحد منهما الآخر من غير تفكك أمر محال مشاهد اللهم إلا أن نفرض إحداهما معدوماً ويخلفه الآخر في حيزه فإما أن يكون امتناع التداخل واقعاً بين المادتين من الجسمين أو يكون بين البعدين أو يكون بين البعد والمادة أو يكون بين كل واحد منهما مع كل واحد منهما فأقول أنه لا تمانع بين المادتين لأنهما إن تمانعا فإما تمانعا لذاتيهما أولاً جل تمانع البعدين فإن كان لأجل تمانع البعدين فالبعدان هما المتمانعان عن التداخل بالطباع لا المادتان فإن تمانعا لذاتهما لا لأجل البعدين فذلك محال لأنه قد يأتي أن يوجد جسم متصل هو واحد بالفعل وذو مادة واحدة بالفعل فينفصل فيصير لا الصفحة : 101 محالة ذا مادتين ثم يتصل فتصير المادتان واحدة وإلا فهما اثنان مختصان بذاتين قائمتين وإذا كان كذلك كان لكل واحد منهما مقدار مفارق لمقدار آخر منفصل الذات عنه فلم يكن متصلاً وقد فرض متصلاً فإذاً لا يمتنع تصير المادتين واحدة بلا تمايز في الوضع إلا من جهة أبعادهما لا من جهة ذاتيهما وكل شيئين اتحدا لا تمايز بينهما في الوضع بل وضعهما واحد وتلاقى ذاتهما بنفسيهما لا بمقدار لهما فإنه بنفسيهما لا يبقى لهما شيء غير متلاق فإذاً ما لم يكن كذلك فمقداره يمنعه والمقدار هو المانع عن ذلك لا طبيعة المادة إنما كلامنا في طبيعيتهما فإذاً المادتان بما هما مادتان لا يتمانعان عن الملاقاة بالأسر فإنا لا نعني بالتداخل الذي بمعنى السلب بل الذي يعني العدول وهو وجوب الانحياز والتفرد بالحيز وهذا المعنى غير مقول بالذات على ما ليس له في ذاته حيز فمن المستحيل أن يقال أن المادتين يمتنع عليهما أن لا يتميزا بالحيز وليستا بمتحيزتين بذاتيهما أو أن يقال فمن المستحيل أن يقال أن المادتين يتميزان بالحيز وليستا بمتحيزتين بل الصواب لا يمتنع عليهما التداخل بهذا المعنى إذ لا تميزان بالحيز وهذا النظر هو نظر في ذاتيهما فإذاً التمانع عسى أن يكون بين ذات المادة والبعد وهذا أيضاً محال لأن المادة ذاتها تلاقي البعد وتتقدر به ويسري كليته في كليتها فهي إذاً إما أن تمانع بذاتها لمداخلة البعد وقد قيل لا تمانع أو تمانع بسبب البعد الذي فيها فإن مانعت ببعدها فبعدها هو السبب فإذاً إن مانعت مانعت بذاتها ولكن ذلك محال فإذاً ليس التمانع بين الأبعاد والمواد فبقي إذاً أن التمانع إنما هو بين الأبعاد وليس ذلك لأجل المادتين ولا لأجل البعد والمادة فإذاً ذلك لأجل طباع البعدين فإذاً طباع الأبعاد تأبى التداخل وتوجب المقاومة والتنحي عن نفوذ المندفعات فيها إن قويت على الاندفاع ولأن البعد إذاً داخل بعداً غيره فإما أن يكونا جميعاً موجودين أو يكونا كلاهما معدومين أو يكون إحداهما موجوداً والآخر معدوماً فإن كانا كلاهما موجودين فهما أزيد من الواحد كل - ما هو أزيد من آخر وهو عظيم فهو أعظم منه فمجموع البعدين المتداخلين أعظم من الواحد وإن كان البعد هو الامتداد فكيف يكون امتدادان في امتداد واحد في جهة واحدة وبماذا يتغايران حتى يكون إحداهما داخلاً والآخر مدخولاً فيه وإن عدما جميعاً فليس إذاً مداخلة وإن وجد إحداهما وعدم الآخر فليس أيضاً مداخلة ولا قابل ولا مقبول بل إما المتمكن موجود لا في أبعاد الخلاء وإما الخلاء موجود ولا متمكن فيه وكلا هذين محال فإن المتمكن لا يعدمه التمكن ولا المكان يعدمه المتمكن فبين من هذا الأصول أن الخلاء لا حركة فيه لأنه إذا تحرك فيه شيء فإما الصفحة : 102 أن يداخل بعده بعده وقد قيل إن ذلك محال وإما أن يتحرك بأن يغلبه إذا مانعه بالنفوذ فيه وقد قيل إن ذلك محال أيضاً فإذاً لا حركة في الخلاء وكذلك لا سكون فيه وأقول لا وجود للخلاء ولا لمقدار ليس في مادة لأنه إما أن يكون متناهياً وإما أن يكون غير متناه لكنه لا وجود لمقدار غير متناه وسيرد عليك استقصاء بيانه من بعده وقد يمكننا أن نوضح ذلك بمعالجة بيان فنقول لتكن حركة مستديرة في خلاء غير متناه إن أمكن أن يكون خلاء غير متناه وليكن الجسم المتحرك مثل كرة " ا ب ج د " المتحركة على مركزها ولنتوهم في الخلاء الغير متناه خط " ط ح " وليكن " ه ج " من المركز إلى جهة من المحيط لا يلاقي خط " ط ح " من جهة " ح " وإن أخرج بغير نهاية لكن الكرة إذا دارت صار هذا الخط بحيث يقاطعه ويجري عليه وينفصل عنه فيكون الالتقاء والانفصال بمسامتة نقطتين لا محالة وليكونا " ك " و " ل " ولكن نقطة " م " تسامت قبل نقطة " ك " ونقطة " ك " أول نقطة تسامت - هذا خلف لكن الحركة المستديرة موجودة في الخلاء ليس بلا نهاية والخلاء إن وجد كان مقداراً متناهياً وكل مقدار متناه فهو مشكل فإذاً الخلاء مشكل ويكون شكله له إن وجد إما بما هو مقدار لسبب آخر ولكن لا يجوز أن يوجد شكل للمقدار بما هو مقدار وإلا لكان كل مقدارين على شكل واحد أي مقدارين كانا فإذاً بسبب ما يتشكل وذلك السبب إما قوة في طبيعة أو قوة قسرية عن خارج فإن كانت قوة طبيعية فإما أن يكون طباع المقدار يقتضي أن يكون له مثل تلك القوة أو لا يقتضي فإن كان يقتضي فكل المقادير شكلها واحد فإذاً تلك القوة ليس يقتضيها ذاته وكل ما كان كذلك أمكن أن يرفع عن الشيء فتلك القوة يمكن ظان يرفع عن المقدار المفارق أعني الخلاء فنترك ذلك الشكل ولكن لا يأتي أن يبقى بلا شكل فإذاً يأخذ شكلاً لا محالة فيكون قد تمدد واندفع عن هيئة إلى أخرى: وكلما كان كذلك فهو قابل للانفصال: وقد قيل ليس كذلك فإذاً الخلاء ليس شكله بقوة طبيعية فيه فهو إذاً عن خارج فهو إذاُ قابل للتمدد والتقطيع: وقد قيل ليس كذلك هذا خلف فإذاً ليس له شكل أصلاً: وقد قيل أن له شكلاً ضرورة وهذا خلف والذي أوجبه وضعنا وجود الخلاء فإذاً الخلاء غير موجود أصلاً وهو كإسمه كما قال المعلم الأول ولنرجع الآن ونقول قد اتضح كل الاتضاح أن المكان لا هو هيولي الشيء ولا صورته وإنه لا خلاء البتة فإذاً المكان شيء غير ذلك وهو شيء فيه الجسم فإما أن يكون على سبيل التداخل وإما ظان يكون على سبيل الاحاطة وقد اتضح مما ذكرنا إمتناع التداخل فإذاً أقول من قال إن المكان هو الأبعاد التي بين غايات الجسم المحيط قول الصفحة : 103 كاذب جداً وإنه ليس بين الغايات شيء غير أبعاد المتمكن فإذاً ذلك على سبيل الاحاطة: وقد قيل أن المكان مساو فإما أن يكون مساوياً لجسم المتمكن وقد قيل أنه محال وإما أن يكون مساوياً لسطحه وهو الصواب ومساوي السطح فالمكان هو السطح المساوي للسطح المتمكن وهو نهاية الحاوي المماسة لناهية المحوى - وهذا هو المكان الحقيقي وإما المكان الغير حقيقي فهو الجسم المحيط وليكن هذا غاية كلامنا في المكان. فصل في النهاية واللانهاية أقول إنه لا يتأتى أن يكون كم متصل موجود الذات ذو وضع غير متناه ولا أيضاً عدد مترتب الذات موجود معاً غير متناه وأعني بمترتب الذات أن يكون بعضه أقدم من بعض بالطبع في ذاته ولنبرهن أنه لا يتأتى أن يوجد مقدار ذو وضع غير متناه لأنه إما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف فإن كان غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم فيؤخذ ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيء على حدة وبانفراده شيئاً على حدة ثم نطبق بين الطرفين المتناهيين في التوهم فلا يخلو إما أن يكونا بحيث يمتدان معاً متطابقين في الامتداد فيكون الزائد والناقص متساويان - وهذا محال وإما أن يمتد بل يقتصر عنه فيكون متناهياً والفضل أيضاً كان متناهياً فيكون المجموع متناهياً فالكل متناه - وإما إذا كان غير متناه من جميع الأطراف فلا يبعدان يفرض فيه مقطع تتلاقى عليه الاجزاء ويكون طرفاً ونهاية ويكون الكلام في الأجزاء أو الجزئين كالكلام في الأول وبهذا يتأتى البرهان على أن العدد المترتب الذات الموجود بالفعل متناه وأن ما لا يتناهى بهذا الوجه هو الذي إذا وجد ففرض أنه يحتمل زيادة ونقصاناً وجب أن يلزم ذلك محال - وأما إذا كانت الأجزاء لا تتناهى وليست معاً وكانت في الماضي والمستقبل فغير ممتع وجودها واحداً قبل الآخر أو بعده لا معاً أو كانت ذات عدد غير مترتب في الوضع ولا الطبع فلا مانع عن وجوده معاً. ولا برهان على امتناعه بل على وجوده برهان - أما من القسم الأول فإن الزمان قد ثبت كذلك والحركة كذلك وأما من القسم الثاني فيثبت لنا ضرب من الملائكة والشياطين لا نهاية لها في العدد كما سيلوح لك الحال فيه وجميع هذا يحتمل الزيادة عليه ولا يفيدا احتماله إياها جواز الانطباق ولا ما لا ترتيب له في الوضع أو الطبع فلن يحتمل الانطباق وما لا وجود له معاً فهو فيه أبعد - وأما السبيل التي يسلكها الناس في نفي اللانهاية في الماضي فكأنها إما من ذائعات محمودة وإما من مقدمات سوفسطائية الصفحة : 104 وليس شيء منها ببرهاني والأشياء التي يمتنع فيها وجود الغير المتناهي بالفعل فليس يمتنع فيها من جميع الوجوه فإنا نقول أن العدد لا يتناهى والحركات لا تتناهى بل لها ضرب من الوجود وهو الوجود بالقوة لا القوة التي تخرج بالفعل بل القوة بمعنى أن الإعداد تأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة ليس وراءها مزاد ولنزد هذا بياناً فنقول أنه يقال أن غير المتناهي إما بالقوة أو بالفعل وإما في الوجود وإما في التناهي والذي بحسب الوجود إما أن تعتبر كليته أو يعتبر كل واحد من أجزائه ثم كليته بالقوة ولا بالفعل موجودة وأما كل واحد من أجزائه فإما أن يعتبر أن كل واحد منها يوصف بأنه بالقوة وقتاً معيناً أو كل وقت أو أن الكلية توصف بأن لها دائماً بعضاً موجوداً بالقوة " أو كل واحد يوصف بأنه بالقوة وقتاماً " أما أن كل واحد من المعدومين فيه بحسب وقت معين وجوده بالقوة وليس كل واحد منه موصوف بأنه موجود بالقوة وقتاً ما وليس يصح ذلك بالفعل فهو قول صحيح وإما أن كل واحد يوصف بأنه بالقوة كل وقت فهو ظاهر البطلان وإما أن الكلية له قد يكون منها دائماً شيء بالقوة - فهذا يصح من جهة ويبطل من جهة أما جهة بطلانه فلأنه لا كلية له وأما جهة صحته فلأن الطبيعة المعقولة التي تفرض لها آحاد تحمل عليها يصح أن يقال أن مما يحمل عليه تلك الطبيعة دائماً شيئاً موجوداً بالقوة ولا يجوز أن يخرج إلى الفعل ما لا يبقى بعده منه شيء وأما القسم الآخر أعني أن كل واحد من أجزائه بالقوة وقتاماً فهو واضح الصحة فهذا من جهة الوجود وأما من جهة التناهي فإنه قد يصح أن يقال للأشياء التي في طريق التكون أنها تناهت بالفعل لا بحسب النهاية التي لا نهاية بعدها ولكن بحسب نهاية ما حاصلة بعدها شيء فإنها ليست بحسب النهاية الأخيرة متناهية بالفعل ولا بالقوة ويصح أن يقال إنها غير متناهية بالفعل دائماً لا أنها قد حصل لها كل واحد من أجزاء لا نهاية لها ولكن من جهة أنها دائماً يسلب عنها التناهي إلى النهاية الأخيرة ولكن بحسب النهايات الأخرى التي في القوة بعد النهاية الحاصلة فإنها دائماً توصف أنها بالقوة تتناهى إلى نهاية ما فيكون متناهياً بالقوة دائماً بالقياس إلى ما لم يوجد من النهايات وبالفعل دائماً بالقياس إلى ما وجد ولا بالقوة ولا بالفعل بالقياس إلى نهاية تفرض أخيرة وما لا نهاية له لا يوجد لا بالقوة ولا بالفعل أي لا تكون أشياء عددها أو مقدارها بحيث أي شيء أخذت بقي غيره موجوداً بكليته وما لا نهاية له موجود بالفعل دائماً أي من جهة أنه لم يتناه إلى نهاية ما وليس له نهاية أخيرة فإنه دائماً يوصف الموجود منه بأنه ليس متناهياً بعد إلى نهاية أخرى أو إلى النهاية التي لا نهاية بعدها الصفحة : 105 وما لا نهاية له موجود بالقوة دائماً أي من طبيعته دائماً شيء هو في القوة هذا في المستقبل - فأما وجودها في الماضي فبأنه لم يكن في الماضي لها بدء وأنها كانت واحدة بعد واحدة منذ كانت ولو أخذت تحسبها من الآن لم يقف الحساب عند حد - فهذا هو كفاية القول في التناهي واللاتناهي اللاحقين بكميات الأجسام: وقد يمكن أن يستعان بما أوردناه في إبطال الخلاء الغير المتناهي على امتناع الملاء الغير المتناهي وبأشياء أخرى كثيرة لكن هذا في هذا الموضع كاف - وأما أن صورها غير مقاديرها فينبغي أن يقال فيها قول آخر فنقول ليس شيء من الصور الجسمانية غير المقادير بكم ذاتها وكل تناه ولا تناه فإنما يقال بالذات على ما هو كم بالذات فإذاً ليس يقال ولا على شيء منها تناه ولا لا تناه بالذات ولكنه قد يقالان بوجه من الوجوه على بعض صور الأجسام لأجل نسبة لها إلى ما هو كم بذاته فإنه يقال قوة متناهية وغير متناهية لا لأن القوة ذات كمية في نفسها البتة لكن لأن القوة تختلف في الزيادة والنقصان بالاضافة إلى شدة ظهور الفعل عنها أو إلى عدة ما يظهر عنها أو إلى مدة بقاء الفعل منها وبينها فرق بعيد فإن جل ما يكون زائداً بنوع الشدة يكون ناقصاً بنوع المدة حتى يفعل مثل ما فعل الأضعف في مدة أنقص فإن أي قوة حركت أشد فإن مدة حركتها أقصر وذلك أن المحرك إذا كان أشد قوة بلغ النهاية الموجودة أو المفروضة بأسرع مدة وربما كان الشيء الذي تتفاوت فيه القوى بحسب المدة لا يقبل الزيادة والنقصان فإن تسكين الثقيل في الجو لا يقبل الزيادة والنقصان وتسكين الثقيل في الجو تختلف فيه القوى في الابقاء الزماني فإن الابقاء غير التسكين فبين أن بعض ما تختلف فيه القوى بالابقاء الزماني لا يختلف بالزيادة والنقصان وكل ما تتفاوت القوى فيه بحسب الشدة والضعف فإنه يقبل الزيادة والنقصان - اللهم إلا أن تسمى القوة التي تقوى على مدة أطول أشد فيكون الأشد ههنا باشتراك الاسم إذ كان معنى الأشد في الأول هو الذي يفعل ما يفعله الأضعف بحركة أسرع أي أقصر وفي مدة الثاني ليس هذا بل الذي يقوى على فعل أطول مدة - وأما الذي تتفاوت فيه القوى بحسب العدة فهو غيرهما جميعاً لأن اعتبار المدة هو فيما له ثبات واحد لأن أكثر ما يعتبر فيه اللاتناهي في العدة يتلاشى وليس شيء مما يتلاشى ثابتاً بعينه وأما الفرق بين اللاتناهي في العدة والشدة فذلك ظاهر لا يحتاج إلى إبانة. الصفحة : 106 فصل في عدم إمكان وجود قوة غير متناهية بحسب الشدة فنقول أنه لا يمكن أن تكون قوة غير متناهية بحسب اعتبار الشدة وذلك لأن كل ما يظهر من الأحوال القابلة لهذا فليس يخلو من وجهين إما أن يقبل الزيادة على ما ظهر أو لا يقبل فإن كان لا يقبل فهو النهاية في الشدة وكل نهاية في الشدة ففي متناهى الشدة فإذاً إن لا يقبل فهو متناهى الشدة وإن كان يقبل وهو الباقي فهو متناه يجوز عليه زيادة في آخره وقد فرض غير متناه هذا خلف. فصل في عدم قبول القوة الغير المتناهية بحسب المدة للتجزئ والانقسام ولا بالعرض وأقول لا يمكن أن تكون القوة الغير المتناهية باعتبار المدة قابلة للتجزئ بوجه من الوجوه ولا بالعرض لأن كل قوة تجزأت فإن كان واحد من أجزائها يقوى على شيء والجملة تقوى على مجموع تلك الأشياء وإذا كان كذلك كان كل جزء أضعف وأقل مقوياً عليه من الجملة فإذاً لا يخلو إما أن يكون كل واحد من أجزاء هذه الجملة يقوى على جملة غير متناهية مما يقوى عليه الجملة من وقت معين وهذا محال لأن مقوى الجملة يكون أزيد منه ولا تتأتى الزيادة على غير المتناهى المتسق النظام إلا على الطرف الذي يتناهى إليه أو تكون الأجزاء بعضها يقوى على متناه وبعضها على غير متناه ويكون القول فيها كالقول في الأول وذلك أيضاً محال فإذاً يكون كل واحد من أجزاء الجملة يقوى على متناه وتكون الجملة أيضاً تقوى على متناه - وذلك ما أردناه. الصفحة : 107 فصل في عدم قبول القوة الغير المتناهية بحسب العدة للانقسام والتجزى وكذلك نبين أنه لا يمكن أن يكون لقوة قوية على عدة غير متناهية احتمال التجزئ فإن تلك العدة لا تخلو إما أن يكون كل واحد منها ليس من شأنه أن يقبل الأقل والأنقص مثل تعقلنا أن اثنين واثنين أربعة أو يكون قد يقبل مثل واحد من عدد الحركات فإن الحركة قد تكون أسرع وأبطأ فإذا كان الكل يقوى على عدة غير متناهية من أشياء لا تقبل الأقل والأنقص فبعض الكل إما أن يقوى على شيء من ذلك أو لا يقوى البتة فإن لم يقو لم يكن بعض القوة قوة هذا خلف وإن قوي فإما أن يقوى على آحاد مثل آحاد ما يقوى عليه الكل وهي بعينها غير متناهية أو آحاد كذلك وهي متناهية أو آحاد كل منها أقل من آحاد الكل وهي غير متناهية أو آحاد كل واحد منها أقل من آحاد الكل وهي متناهية والقسم الأول محال لأن البعض يكون مساوياً للكل فيما يقوى عليه إذا فرضا عن ابتداء محدود والقسم الثاني يلزم منه أن تكون الأبعاض تقوى على متناهيات فالجملة أيضاً تقوى على متناه والقسمان الباقيان يوجبان أن يكون كل واحد مما يقوى عليه يقبل الأقل والأزيد وقد قيل أنه لا يقبل فبين أن القوة المذكورة لا تقبل التجزي وكذلك إذا كان الآحاد تقبل الأقل والأكثر كالحركة وعودات حركات الفلك وذلك لأن الكل يجوز أن يخالف الجزء في أن الكل يقوى على تحريك جسم ما والجزء لا يقوى عليه البتة فإنه ليس إذا حرك جماعة ثقلاً ما في مسافة ما في زمن ما فالأقل منهم يحركونه لا محالة في ذلك الزمان وفي أقل من تلك المسافة بل ربما لا يحركونه أصلاً ويجوز أن يخالفه في أن كليهما يقوى على تحريك شيء واحد لكن الكل يحرك أسرع أما القسم الأول فإن البعض من القوة إن لم يقو على أن يحرك ذلك الذي يحركه الكل فقد يقوى على أن يحرك مقداراً أقل منه ثم الكل يمكنه أن يحرك ذلك المقدار الذي يحركه الجزء حركات أسرع فإذا كانت أسرع كانت في مثل الزمان الذي يحرك فيه الجزء يحرك أكثر عدداً فيرجع حينئذ الخلف الذي ذكرناه وهو أن العدد المبتدأ من وقت معين إن صدر عن الجزء كان أقل منه لو صدر عن الكل إذ هو أبطأ فيكون هو البعض الصادر عن الكل وابتداؤهما واحد فإذاً يجب أن ينقص المقوى عليه لا من جهة المبتدأ وما نقص من جهة فهو متناه منها فالذي يصدر عن الجزء متناه من الجهات ويلزم ما قد ذكرنا وتبين منه بيان لك استحالة القسم الثاني وهو أن يشتركا في الفعل ويكون الخلاف في الأشد والأضعف فكل قوة في الصفحة : 108 جسم فإنها تحتمل التجزي حافظة لطبيعتها لأن ما يبطله التجزي فهو إما شكل وإما عدد وليس شيء منهما بقوة فإذاً ليس شيء من القوة الغير متناهية موجوداً في الجسم ولا قوة جسمانية غير متناهية فإذاً القوة التي تحرك الحركة الأولية المستديرة التي لا نهاية لها ليست بقوة جسمانية بل محرك الحركة الأولية غير جسم ومفارق لكل جسم. فصل في الجهات أقول إنه إن كان خلاء فقط أو أبعاد مفروضة في جسم مفروض أو جسم واحد فقط غير متناه فلا يمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود البتة فلا يكون فوق وأسفل ويمين ويسار وخلف وقدام وأقول أولاً أنه لا يمكن أن تكون الجهة ذاهبة إلى غير النهاية لأن كل جهة موجودة فإليها إشارة ولذاتها اختصاص وانفراد عن جهة أخرى وذاتها حينئذ لا تخلو إما أن تكون متجزئة أو غير متجزئة فإن كانت ذاتها متجزئة وجب أن لا تكون بكليتها جهة بل تكون الجهة منها الجزء الأبعد من جزئها عن المشير وبالجملة ما يكون لها امتداد في جهة لا تكون بنفسها جهة فيجب أن تكون ذاتها غير متجزئة لا محالة وإذا كان ذاتها غير متجزئة وكانت موجودة ذات وضع كانت لا محالة حداً أو غاية فكأن ما وراءها ليس منها فتكون كل جهة لها حد ضرورة لا يتجاوز وتكون الجهة باقية فإذاً الجهات كلها محدودة بأطراف ولو فرضنا خلاء غير متناه أو جسماً غير متناه لم يكن له أو فيه بالطبع حد فلم يكون فيه بالطبع جهة وأيضاً إذا اتفق أن يفرض فيه حدود لما أمكن أن تكون مختلفة بالطبع فيكون مثلاُ واحد فوقاً والآخر سفلاً لأن كل طرف وحد يفرض فيه فإنه لا يخالف الآخر إلا بالعدد لأن كلها حدود وأطراف تفرض في طبيعة واحدة وليس واحد منها يختص بشيء يكون لأجله أولى من غيره بالسفلية منه بالفوقية أو من غيره بالفوقية منه بالسفلية وأقول أن الجسم الواحد المتناهى لا يجوز أن يفرض الجهات المتقابلة فيه على أن حدودها في سطحه أو على حدودها في عمقه ولم يجز أن تكون حدودها في سطحه لأن حدودها التي تكون في سطحه لا يخلو إما أن تكون وسطحه كرى أو تكون وسطحه مضلع فإن كان سطحه كريا لم تكن النقط المفروضة فيه متخالفة بالنوع ولا كانت هذه النقطة أولى بأن تكون فوقاً من أخرى بأن تكون سفلاً وكذلك يميناً وشمالاً - وأما إن كان سطحه مضلعاً فليس ذلك على ما نبينه بعد بطبيعي له فإنا سنوضح أن الجسم البسيط شكله الطبيعي كرى والأجسام لا تلزم الأمور الخارجة عن طبعها ومع ذلك فإنه إن كانت الجهات الصفحة : 109 تختلف بحسب تقابل أضلاع السطح أو بحسب تقابل السطوح فالكلام في أن الجهات تكون مختلفة بالعدد لا بالنوع ثابت فإن قال قائل إن الذي على البسيط يخالف الذي على الخط أو الذي على الخط يخالف الذي على النقطة فيكون قد قال ما لا يصغي إليه ولا يقع بسببه بين الجهات غاية الخلاف الذي هو واقع في مثل العلو والسفل وكذلك الحال إن فرضت الحدود في عمقه وإن فرض حد في سطحه وآخر في عمقه وجب ذلك بعينه إلا أن يجعل السطح نفسه حداً وحينئذ يجب أن يجعل الحد الآخر ما يرتسم بإزاء السطح ضرورة لا أي نقطة اتفقت بالغرض في العمق وأن يكون مع ذلك في غاية البعد عنه وهذا هو المركز لا غير خصوصاً إن جعل الجسم على الشكل الطبيعي الذي يخصه وهو الاستدارة فليس يمكن أن يفرض في الوجود جسم واحد ويكون فيه من الجهات غير جهتي المحيط والمركز - وأما إن كانت الأجسام كثيرة فإن كانت متفقة النوع فليس يجوز أن تكون الحدود المفترضة عليها بحيث يوجد فيها حدود الجهات المتضادة وذلك ظاهر وإن كانت مختلفة فليس يمكن أن تكون علة اختلاف الجهات هو اختلافها في النوع - وذلك لأن هذا يوجب أن يكون عدد الجهات على حسب عدد الأجسام المختلفة بالنوع فإن جعل العلة في ذلك لا الاختلاف المطلق ولكن اختلاف ما بعينه فلا يخلو إما أن يكون ذلك الاختلاف مقتصراً على اختلاف تلك الطبيعتين أو يكون مع ذلك مشتملاً على اختلاف الوضعين والاقتصار على اختلاف طبيعتين فأعيانهما لا يجوز أن يكون علة لتضاد الجهات لأن إحدى الجهتين إذا تعينت تعينت الأخرى وكانت على بعد محدود ولم يكن أن تتوهم زائلة عن حدها وإذا كان الشرط مخالفة تينك الطبيعتين دون الوضعين كانت الجهتان الاثنتان متضادتين كيف كان وضع أحدهما من الآخر وبعده منها وكانت الجهة تنتقل بانتقال أحد الجسمين وليس الأمر كذلك بل إذا تعينت إحدى الجهتين تعينت الأخرى في حدها وبعدها ولم تنتقل البتة فبقي أنه يجب أن يكون في جملة الشرط وضع ما محدود وبعد مقدر وليس يمكن أن يكون هذا أيضاً إلا على سبيل المركز والمحيط - وذلك لأن أحد الجرمين إذا فرض له وضع وفرض الآخر بجانب منه غير محيط به لم يكن اختصاصه بذلك الجانب بعينه بالعدد اختصاصاً لطبيعته لا تخلو إما أن تكون تطلب ذلك الجانب بعينه أو تطلب أي جانب يكون بعده من الآخر ذلك البعد ونوعه منه ذلك النوع فإن كانت طبيعته تختص بذلك الجانب وتباين سائر ما يشاركه في النوع فتكون هذه الجهة مباينة لسائر الجوانب لذاتها لا من جهة هذا الجسم لأنها لو كانت من جهة هذا الصفحة : 110 الجسم لكانت بحيث يكون حالها كحالها مع غير هذا الوضع بعينه: وقد فرضنا هذه الجهة متحددة به هذا خلف وإن كان من طبعه ليس يقتضي الاختصاص بذلك الجانب منه كيف لتفق بل أي بعد كان من الجسم الأول مساوياً للبعد الأول فإن كان الجسم الأول محيطاً كان هذا محاطاً ومكانه محاط ذلك الجرم على قياس المركز وأعني بالمركز لا النقطة بعينها بل كل محاط وإن كان غير محيط فالبعد منه كيف كان هو متحدد لا محالة بمحيط بذلك الجسم إذ بينا أن ذلك لا يتحدد بالخلاء وقد فرض هذا غير محيط وعلم أن اختصاصه بذلك من جملة ما له أن يحصل فيه إذ ليس عن طبيعته فهو عن سبب خارج فهو جائز المفارقة لذلك الموضع بعينه وهو يطلبه بالطبع فهو حاصل متميز قبل حصول هذا الجسم فيه: وقد قيل أن الجسم سبب تحدده هذا خلف فهذا غير محدد ذلك البعد وقد فرض محدداً هذا محال فقد بان وصح أنه لا يمكن أن تتحدد الجهات إلا على سبيل المركز والمحيط فإن كان الجسم المحدد محيطاً كفى لتحديد الطرفين لأن الاحاطة تثبت المركز فيثبت غاية البعد منه وغاية القرب منه من غير حاجة إلى جسم آخر وأما إن فرض محاطاً لم يتحدد به وحده الجهات لأن القرب متحدد به - وأما البعد منه فليس يتحدد به بل يتحدد لا محالة بجسم آخر إذ كان لا يجوز أن يتحدد في الخلاء ولا بد على كل حال من وجود جسم محدد للجهات بالاحاطة فيكون ذلك الجسم كافياً في تحديد النهايتين جميعاً من غير حاجة إلى المحاط ويجب أن تكون الأجسام المستقيمة الحركة لا يتأخر عنها وجود الجهات لأمكنتها وحركاتها بل تكون الجهات قد حصلت ثم تحركت بحركاتها فيجب أن يكون الجسم الذي تحددت الجهات بالنسبة إليه جسماً متقدماً على الأجسام المستقيمة الحركة وتكون إحدى الجهات بالطبع غاية القرب منه وتقابلها الجهة الأخرى فتكون غاية العد منه وأن لا تكون الجهات المفروضة في الطبع غير جهتي المحيط والمركز وهما جهتا الفوق والسفل وسائر الجهات لا تكون واجبة في الأجسام بما هي أجسام بل بما هي حيوانات فيتميز فيها جهات القدام الذي إليه الحركة الاختيارية واليمين الذي منه مبدأ القوة والفوق أما بقياس فوق العالم وأما الذي إليه أول حركة النشوة ومقابلاتها الخلف واليسار والسفل والفوق والسفل محدودان بطرفي البعد الذي الأولى به أن يسمى طولاً واليمين واليسار كذلك بما الأولى أن يسمى عرضاً والقدام والخلف كذلك بما الأولى أن يسمى عمقاً. الصفحة : 111 المقالة الثالثة: في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام الأجسام منها بسيطة ومنها مركبة فأما المركبة فتثبت بالمشاهدة وأما البسيطة فتثبت بتوسط المركبة لأن كل مركب قائماً يتركب عن بسائط وللأجسام كلها أحياز ضرورية وهي التي تتباين فصل في أن لكل جسم طبيعي حيزاً طبيعياً فأقول إن لكل جسم حيزاً ومكاناً طبيعياً لأنه إما أن يكون كل مكان له طبيعياً أو يكون كل مكان له منافياً لطبيعته أو يكون كل مكان مكاناً له لا طبيعياً ولا منافياً لطبعه وأعني ههنا بالمكان الحيز والمكان جميعاً أو يكون بعض الأمكنة له بحال وبعضها بخلافة ولا يمكن أن يكون كل مكان له طبيعياً فإنه يلزم منه أن يكون مفارقة كل مكان له خارجة عن طبعه وتوجهه نحو كل مكان توجهاً نحو ملائم بالطبع وليس شيء مما هو توجه نحو الملائم خارجاً عن طبعه هذا خلف وأيضاً فإن الاحياز غير متفقة في استحقاق أن يكون فيها أجرام فإن منها علواً ومنها سفلاً وتوجد في المشاهدة أجسام تتحرك إلى أسفل وأجسام تتحرك إلى العلو فإذاً الجسم إذا استدعى مكاناً من الأمكنة فليس ذلك بما هو جسم إذاً الأجسام تتفق في الجسمية وتختلف في استحقاق الأمكنة فإذاً إنما تستدعيها بقوة فيها والقوة التي فيها إما قوة ذات اختيار وهي إذا رفعت لم يبطل وجود الجسم ولا بطل استدعاء المكان - وإما قوة طبيعية فإذاً استدعاء المكان موجود لكل جسم وإن لم يكن هناك قوة اختيارية وإن كان هناك قوة اختيارية فليس ذلك عنها بل عن قوة طبيعية إذ الجسم إذا استحق أن يكون في مكان معين استحق ذلك ما دام على نوعه وإن اختلفت أغراضه الارادية - وهذه القوة الطبيعية إن كانت واحدة فيه فمقتضاها لذاتها واحد من الأمكنة لا كل مكان وإن كانتا اثنتين متساويتين واختلف اقتضاؤهما للمكان لم يحصل الجسم في مكان واحد منهما وإلا فهو الغالب وإن كان ولابد فإنما يحصل في المكان المتوسط بين مكانيهما لتشابه تجاذب القوتين وهو أيضاً واحد وإن كانت اثنتين متقاومتين فحصوله بالطبع في مكان الأغلب وهو أيضاً واحد وبين من هذا القول أن المكان الطبيعي إن كان فهو واحد فإذاً لا يمكن أن يكون كل مكان طبيعياً له ولا أيضاً يمكن أن يكون كل مكان خارجاً عن الطبع منافياً له فإن هذا الجسم لا يسكن البتة بالطبع وكيف يسكن وكل مكان مناف لطبعه والسكون بالطبع في المكان الطبيعي ولا يتحرك البتة بالطبع وكيف يتحرك والحركة بالطبع تختص بجهة مطلوبة بالطبع وإذا تحرك إليها وحصل عندها إما أن يقف في آخر تلك الحركة إذا انتهت المسافة ولابد الصفحة : 112 من انتهائها فيكون ذلك المكان طبيعياً له أو يعود بالطبع إلى جهة أخرى فتكون تلك الجهة تختص بالطبع وقد كان غيرها يختص بالطبع هذا خلف - فإذاً هذا الجسم لا يتحرك بالطبع ولا يسكن وهذا خلف جداً فإذاً ليس كل مكان منافياً له ولا أيضاً يمكن أن يكون كل مكان لا طبيعياً ولا منافياً له ولا أيضاً يمكن أن يكون أن يكون كل مكان لا طبيعياً ولا منافياً لأنا إذا اعتبرنا الجسم على حالته الطبيعية وقد ارتفع عنها القواسر والعوارض التي تعرض من خارج بل تركناه وهو جسم فقط فحينئذ لا بد له من حيز يختص به ويتحيز إليه لا عن قاسر بل عن نفسه فيكون على كل حال للجسم تحيز في تلك الحالة إلى ذلك الحيز بالطبع وكل ما كان كذلك فهو حيز طبيعي فبين من هذا أن كل جسم فله مكان طبيعي واحد بعينه. فصل في أن لكل جسم طبيعي شكلاً طبيعياً ونقول أيضاً إن لكل جسم طبيعي شكلاً طبيعياً وذلك بين من أن كل جسم متناه وكل متناه يحيط به حد أو حدود وكل ما يحيط به حد أو حدود فهو مشكل فكل جسم مشكل وكل شكل إما طبيعي وإما قسري وإذا ارتفعت القسريات في التوهم بقي الطبيعي وهو للبسيط كرى لأن فعل الطبيعة الواحدة في مادة واحدة متشابه إذ ليس تفعل إلا فعلاً واحداً فلا يمكن أن تفعل في جزء زاوية وفي جزء خطاً مستقيماً أو منحنياً فينبغي إذاً أن تتشابه جميع الأجزاء فيكون الشكل حينئذ كرياً وأما المركبات فتكون أشكالها الطبيعية غير كرية. الصفحة : 113 فصل في أن الأمكنة الأولى هي أمكنة البسائط وأقول إن الأمكنة الأولى للأجسام البسيطة لأن المركبة إذا تركبت لم يخل إما أن تتركب من أجزاء متساوية القوى فيتساوى فيها استحقاق التمكن في أحياز الأجسام البسيطة فلا يكون لها بالطبع شيء من أمكنة البسائط ولا أيضاً لها بالطبع مكان غير تلك الأمكنة لأن الأجزاء كلها تتفق في أن ذلك المكان مكان خارج عن طبعها إذ ليس مكان شيء منها والكل جملة الأجزاء وليس لجملة الأجزاء مكان خارج عن أمكنة الأجزاء إلا مناف وإن لم تكن متساوية القوى فالمكان الطبيعي هو مكان الغالب - وأما إذا كان الجسم مركباً من اسطقسين فقط فيمكن أن يكون الترتيب فيهما من أجزاء ذات قوى متساوية لأنه إذا كان مكاناً بسيطهما متجاورين كان مكانه الطبيعي في الحد المشترك بينهما ولا يمكن أن يتركب من اجزاء متساوية القوى فوق اثنين جسم البتة فإنه إن تحرك إلى جهة مكان من الأمكنة بالطبع فقوة بسيط ذلك المكان فيه غالبة وإن سكن في حيز من الأحياز بالطبع فقوة بسيط ذلك الحيز فيه غالبة ومحال أن لا يتحرك ولا يسكن فإذاً لا يتركب من بسائط فوق اثنتين متساوية القوى شيء - ولهذا زيادة تلخيص مكانه الكتب المبسوطة. الصفحة : 114 فصل في أن العالم واحد وأنه لا يمكن التعدد وأقول إن الأجسام بما هي أجسام لا يمتنع عليها الاتصال فإذاً إن كانت أجسام لا تتصل فلعله لأن صورها صور تتمانع أن تتحد فيكون بينها منافرة في الطبع فإذاً الأجسام البسيطة المتشابهة الصور ليس يمتنع عليها الاتصال أو الانفصال بحسب مقتضى طبائعها وإذا فرضت متصلة تحيزت إلى حيز واحد وصار مكانها واحداً وإذا افترقت وقوتها تلك القوة بعينها فمكانها ذلك المكان بعينه الذي صارت إليه في حال الاتصال إذ قلنا أنه لا يمكن أن يكون لجسم واحد مكانان طبيعيان فإذاً الأجسام المتشابهة الصور والقوى حيزها الطبيعي واحد وجهتها الطبيعية واحدة فبين من هذا أنه لا يكون أرضان في وسطين من عالمين وناران في أفقين محيطين من عالمين فإنه ليس توجد أرض بالطبع إلا في عالم واحد وكذلك النار وسائر الأجرام: وإذا كانت الأمكنة الأولى للأجسام البسيطة وكانت أمكنة البسائط إذا انتهت فهناك تنتهي أمكنة الأجسام كلها وكانت البسيطة إذا كانت على مقتضى طبائعها وأشكالها الطبيعية كانت مستديرة إذ الشكل الطبيعي للبسيط مستدير فيجب أن يكون الكل كرة واحدة ثم إن وجد عالم آخر كان أيضاً مستديراً ووقع بينهما الخلاء ضرورة فيكون فرض الممكن وهو كون الأجسام على مقتضى طبائعها قد لزم منه محال وهو وجود الخلاء ومحال أن يلزم ممكناً محال فبين من هذا أنه لا يمكن أن يكون عالم آخر غير هذا العالم بل العالم واحد ولأنا لسنا في أفقه لأنا نحن في حيز الأجسام التي من شأنها أن تتحرك بالاستقامة فواجب أن يكون أفق العالم حيث الجسم الذي ليس من شأنه أن يتحرك على الاستقامة بل هو الجسم الذي بالقياس إليه تكون جهات الحركات المستقيمة وهذا الجسم يجب أن يكون بسيطاً لأنه لو كان مركباً كانت له أجزاء منها ركب وكانت قابلة للحركة إلى الاجتماع والانفصال وذلك في الاستقامة وكان أيضاً قد تقررت الجهات قبله للبسائط - وهذا كله محال وإذا كان بسيطاً كانت أجزاؤه متشابهة وأجزاء ما يلاقيه وأجزاء مكانه كذلك فلم تكن بعض الأجزاء أولى بأن تختص ببعض أجزاء المكان وبالجملة لم يكن بعض الأوضاع أولى به من بعضها ولم يجب أن يكون شيء منها له طبيعياً فإنه لا يخلو إما أن يتخصص جزء من المتمكن بذلك الجزء بعينه من المكان لطبيعته فقط أو لطبيعته وعارض مخصص مثل اختصاص هذا الجزء من الأرض بهذا الجزء من المكان لأنه حدث هناك فأوجب طبعه الاختصاص به لامتناع حركته عن الحيز الطبيعي أو لأنه كان وقع خارجاً عن حيزه وقوعاً يحاذي به هذا الجزء من الصفحة : 115 المكان فانتقل إليه بعينه لأنه كان أقرب منه وبالجملة أي عارض كان مما يخصصه بهذا الجزء بعينه ويحصله فيه فهذان هما قسما وجه حصول الجزء في جزء من مكانه الطبيعي والقسم الأول باطل لأنه لو كان لطبيعته وحدها ما اختص بهذا الجزء من المكان بعينه فما يشاركه في طبعه يشاركه في هذا المعنى والقسم الثاني كذب إذ قد بان أن هذا الجسم متقدم على الأجسام الكائنة الفاسدة وأنه لا يفارق مكانه الطبيعي حتى يعود إليه وإن كان هذا الجسم من شأنه أن يكون على هذا الوضع لعلة عارضة وأن لا يكون عليه لولا العلة فقد حصل مطلوبنا ومطلوبنا ههنا هو هذا وهو أنه لا يجب ضرورة أن يكون هذا الجسم على هذا الوضع ولا أن لا يكون ولا أيضاً هذا بممتنع فهو أمر ممكن غير ضروري والممكن إذا فرض موجوداً لم يعرض منه محال فليس من المحال أن لا يكون على هذا الوضع ففي طباعه أن يزول عن هذا الوضع أو الأين بالقوة. فصل في اشتمال الفلك على مبدأ حركة مستديرة فنقول أن ما كان في طباعه هذا فيجب أن يكون بالضرورة فيه مبدأ حركة ما مستديرة ونقدم له مقدمة وهي أن كل جسم لا ميل له في طبعه فإنه لا يقبل الحركة عن سبب من خارج وذلك أنه إذا كان في الجسم ميل إلى جهة وحركة إلى خلافها فكلما كانت القوة الميلية التي للجسم في ذاته أشد كان قبوله للتحريك الخارج أبطأ وكلما كانت القوة أضعف كان القبول أشد والتحريك أسرع ويكون نسبة السرعة إلى البطء كنسبة قلة الميل الذي في ذاته إلى كثرته حتى لو توهم الميل ينتقص دائماً لكانت السرعة تزداد دائماً فإذا لم يكن ميل البتة وتحرك عن سبب لم يكن بدمن أن يتحرك في زمان ويكون لذلك الزمان إلى زمان المتحرك عن تلك القوة وقد فرض له ميل ما نسبة ما لأن لكل زمان إلى زمان آخر نسبة ما فإذا فرضنا في التوهم ميلاً نسبته إلى الميل المفروض أولاً في الشدة والضعف نسبة الزمانين. وقع تحرك ذى الميل والذي لا ميل له في زمان واحد فيكون الذي فيه عائق يقاوم القوة المحركة ويكسر فعلها على نسبة شدته وضعفه كالذي لا عائق فيه بل يكون ما فرض فيه ميل هو أضعف ميلاً من الميل المفروض ثانياً يقبل التحريك أشد من الذي لا ميل له هذا خلف فإنه لا يجوز أن يكون المتحرك العادل للميل يتحرك عن قوة محركة حركة تكون كحركته لو كان له ميل بوجه من الوجوه فقد بان وصح أن كل قابل تحريك ففيه مبدأ ميل إلى جهة بالطبع وإذ هذا الجسم قابل للتحريك ففيه مبدأ ميل وليس إلى الاستقامة فهو إلى الاستدارة فهو بالطبع يتحرك على الاستدارة. الصفحة : 116 فصل في إثبات أن الحركة المبدعة واحدة بالعدد ومستديرة ونقول أيضاً إذا ثبتت حركة مبدعة ليس لها ابتداء زماني فليس يمكن أن يكون ثباتها بالنوع لأن ثباتها إن كان بتعاقب الآحاد لم يمتنع أن لا يلحق متصرمها متجددها ويمتنع أن تتصرم مثل هذه الحركة فإذاً تلك الحركة واحدة بالعدد ولا يمكن أن تكون مستقيمة ولا أن تتركب من عدة حركات مستقيمة لأن كل حركة مستقيمة تأخذ في مسافة مستقيمة أو غير مستقيمة فلها طرف ومقطع بالفعل وإذا بلغت القوة المحركة تلك الغاية في الحركة فذلك تأثيرها بل تكون هي قوة واحدة مميلة له موصلة فتكون تلك الامالة والايصال إليه بتلك القوة التي هي ميل أو مبدأ ميل فإن كل حركة تكون بميل وتلك القوة كما توصل تكون موصوفة بأنها فعلت الايصال وتكون موجودة لا محالة وإن كانت لا تسمى عند ذلك ميلاً أو مبدأ ميل فإن كل تأثير يحصل فموجبه حاصل معه وما دام موجوداً لم يحدث ميل آخر فإنها تكون موصلة فقط ويكون الجسم المتحرك بها ساكناً فإذا ابتدأت حركة أخرى يجب أن يحدث ميل آخر وأن يبطل هذا ضرورة والميل من جملة ما يحدث في آن ليس مما يصار إلى أنه لا يحدث إلا في الزمان فإن كان يحدث في آن فيحدث في آن لا يكون فيه الميل الآخر موجوداً فإن كان بينهما زمان كان زمان سكون وإن كان لا زمان تشافع آنان وهذا محال وإن كان أيضاً مما يجوز أن يكون زمانياً وهو أن يحدث الميل الثاني في زمان فالى أن لا يحدث لا يكون سبباً للتحريك فلا تكون حركة فإذاً يجب أن ينتهي ميل هذه الحركة إلى سكون فإذاً كل حركة مستقيمة يعقبها سكون - وكذلك كل حركة في مسافة ذات نهاية معينة ولا تتصل حركتان على التوالي فإذاً ليس شيء من الحركات المستقيمة ولا من المركبة من المستقيمة بتلك الحركة المبدعة فإذاً تلك المبدعة هي المستديرة ولجسم واحد بالعدد. فإذاً هذا الجسم مبدع فمن الأجسام أجسام مبدعة: ومنها أجسام تقبل الكون والفساد بعدها وهذا مشهور ظاهر فينبغي أن يكون أحياز الأجسام الأولية المبدعة متجاورة وأحياز الكائنة الفاسدة متجاورة وذلك لأن الأجسام إذا كان استحقاقها لخصائص أمكنتها بصورها وطبائعها فإذا تناسبت صورها تجاورت أمكنتها وإذا تنافرت تباعدت أمكنتها فإذاً ينبغي أن يكون إحدى جملتي الحيزين لما ذكرنا من جملة العالم بكليتها مطيفة بالأخرى وتكون مشتملة على الأحياز السماوية للأجسام التي يستحقها في العدد وقد يمكن أن يكون جسم واحد بسيط كرى فيه جسمان مختلفان في التمكن كما أن الأرض والقمر في فلك القمر ولكن لا يمكن أن يكون الصفحة : 117 مثل هذا الجسم مبدعاً ومكانا الجسمين فاسدان لأن أحياز الفاسدات جملة لا يتخللها مبدع كما تبين ويمكن أن يكون كلاهما مبدعين - وكذلك لا يمكن أن يكون المحيط فاسداً وكلا المحاطين بالطبع ابداعيان ولا أيضاً أحدهما وحده ابداعي والقوة المحركة للحركة الابداعية غير متناهية فليست إذاً بجسم فهي إذاً مباينة فهي إذاً تحرك بتوسط قوة جسمانية كما قيل في المادي والحركة المستديرة فهي إذن تحرك بتوسط قوى جسمانية هي نفس - فإذاً لتلك النفس تأثير في الحركة من جهة قبول طبيعي من تلك القوة المفارقة وتحرك طاعة وشوقاً انبثا في طبع تلك النفس كطاعة قوة الحديد لقوة المغناطيس وهو اختيار وإرادة لازمة للجوهر. فص في الأجسام المكنونة وأما الأجسام التي تتكون منها الكائنات المركبة فإنها إذا اجتمعت اتحدت بالالتحام وليس ذلك لها بما هي أجسام وإلا فكل جسمين إذا التقيا التحما فإذاً ذلك بقوى تفعل بها بعضها في بعض وينفعل بها بعضها عن بعض وينبغي أن تكون تلك الاجسام في حيزنا هذا لأن العالم واحد وحيز الفاسدات واحد وفي هذا الحيز فاسدات فهو هو - وهذه الأجسام تشترك في مبادئ الكيفيات الملموسة وفي الطباع الموجبة لها وهذه إما أن تكون هي صور الأجسام أو لازمة لصورها ولا تشترك في سائر الكيفيات فإذاً القوى التي تتمايز بها الأجسام البسيطة التي تتركب منها هذه المركبة هي من الكيفيات الملموسة وجميع الكيفيات الملموسة إذا عدت ترجع إلى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهذا سهل الوضوح عند التأمل فإن الصلب واللين واللزج والهش وغير ذلك يرجع إلى الرطوبة واليبوسة والفاتر هو بين الحار والبارد وليس شيء من الكيفيات الملموسة الأولى يفعل بعضها في بعض بالتغير الصادر عنه تغير الأجسام إلا الحرارة والبرودة وذلك لأن القوة التي تغير الجسم فيما قلنا - إما أن تغيره بالخلخلة والتحليل فيؤلم الحاس منه - وإما أن تغيره بالتقبيض والتكثيف فيؤلم الحاس منه والأولى حرارة والثانية برودة ولكن الأجسام يلزمها ضرورة مع هاتين القوتين قوتان انفعاليتان لأن كل جسم بسيط موضوع للمركب فإنه منفعل قابل للتشكيل والتقطيع ولذلك يمكن أن يتركب عنه شيء فإما أن يكون سهل القبول للتفريق والجمع والتشكيل والدفع فتكون كيفية تلك رطوبة وأما أن يكون عسر القبول لذلك فتكون كيفية تلك يبوسة وما كان سهل القبول فهو سهل الترك لأن طباعه معرض للانفعال وما كان عسر القبول فهو أيضاً عسير الترك فبين من هذا أن بسائط الأجسام المركبة تختلف وتتمايز بهذه القوى الأربع ولا الصفحة : 118 يمكن أن يكون شيء منها عديماً لواحدة من القوتين الفاعلتين وواحدة من القوتين المنفعلتين لأن هذه الأجسام من شأنها أن تفترق وتجتمع وإلا لما اتصلت منها أجزاء فحصلت منها المركبات ومن شأنها أن تختلف عليها الأشكال والهيآت فتقبلها وتحفظها والتفريق والجمع لا يتم إلا بقوة جامعة وأخرى مفرقة والتشكيل وحفظه لا يتم إلا بقوة سهلة القبول وأخرى عسرة الترك فإذاً الاسطقسات أربع جسم حار يابس: وآخر حار رطب وآخر بارد رطب: وآخر بارد يابس فصل في الكلام على صور هذه الأجسام وكيفياتها وبيان الفرق بينهما ويجب أن ننظر ونبحث عن هذه الكيفيات هل هي صور لهذه الاجسام وكفصول مقومة لها أو هي لوازم ولواحق والحق أن هذه لوازم لصورها وذلك لأن هذه كما يظهر قد تشتد وتضعف بل قد تبطل بالفعل عنها فيكون مثلاً نار أسخن من نار وماء أبرد من ماء بل ليس بالفعل بارداً - ومع ذلك فإن حقيقة النارية والمائية ثابتة وغير قابلة للتنقص والاشتداد فيجب إذاً أن تكون هذه الكيفيات لوازم وتوابع للصور المقيمة وتلك الصور يلزمها بالطبع هذه الكيفيات أي إذا تركت وطباعها ولم يمانعها من خارج ممانع ظهر منها - في أجرامها حر أو برد ورطوبة أو يبس كما أنها إذا تركت ولم عينها ممانع ظهر منها. أما في المواضع الخارجة عن الطبع فميل وحركة - وأما في مواضعها فسكون وليس بعجب أن تكون صورة واحدة تلحقها تسكين في مكان وتحريك إليه وتأثير بكيف فاعل واستعداد بكيف منفعل فمعنى قولنا إنها باردة بالطبع أي لها قوة تبرد بذاتها إذا لم تمنع إلى أنا إذا عدمنا للقوى أسماء موضوعة اشتققنا لها من أفعالها أسماء كقولنا قوة ناطقة للقوة التي تختص بالانسان - وهذه القوى التي ذكرناها تفعل أولاً في أجسامها هذه الأحوال ثم بتوسطها تفعل في الأجسام الأخرى كما أنها تحدث الحركة في نفس جرمها ثم بتوسطها تحدث تحريك شيء آخر بالدفع وهذه الأجسام إذا كان قد يمكن أن تفارق أجزاؤها كلياتها فيمكن أن يكون لها حركة بسيطة طبيعية وذلك إذا فارقت كلياتها وسكون طبيعي وذلك إذا واصلت كلياتها وأما الجسم المتحرك بالاستدارة فلا يمكن البتة أن يسكن بالطبع لأن الحركة الدائمة لا تنقطع ولا أيضاً يمكن أن يتحرك بالاستقامة بالطبع لأن هذا الجسم لا يمكن أن يفارق موضعه الطبيعي بالكلية ولا بالأجزاء وإلا لم يكن المبدأ الأول في تحديد الجهات الصفحة : 119 ولا أيضاً يحتمل الانفصال والانفكاك وإلا لاحتمل الاندفاع إلى جهات غريبة وكان في طبعه مبدأ حركة مستقيمة كما علمت: فبين من هذا أن هذا الجسم لا يتحرك بغير الاستدارة ولا أيضاً يسكن البتة بوجه من الوجوه فلا يكون إذاً للنفس المحركة له ما دامت موجودة فيه قوة على أن لا تتحرك لأن هذا محال ولا قوة على المحال - فإذاً هذا الجسم متحرك بالطبع وإن لم يكن متحركاً بالطبيعة الساذجة بل بالنفس وهذا الجسم بسيط لا محالة كما قلنا لأنه لو كان متركباً من بسائط لكان غير ممتنع أن يعود إلى ما منه تركب بالافتراق وقد ثبت امتناع الافتراق فيه ولأنه بسيط فهو كرى الشكل ولا يمكن أن يتشكل بالقسر بغير شكله وإلا فهو قابل للدفع وأجزائه لاختلاف الوضع فهو قابل للافتراق وقد قيل ليس كذلك فإذاً شكله واحد. المقالة الرابعة في الاشارة إلى الأجسام الأولى وإشباع القول في قواها قد ثبت أن في حيزنا هذا أجساماً منها تتركب المركبات ولا محالة أن جسم النار من جملتها وذلك لأنه لا يوجد أبسط منه في الحرارة وهو جسم غاية في الحرارة ونظن أنه يابس ويأخذ المكان إلى فوق. فلا يخلو إما أن يكون ذلك لأنه حار فيكون مكان الحار فوق مكان البارد أو يكون لأنه يابس فيكون مكان اليابس فوق مكان الرطب - وهذا القسم يظهر استحالته بالماء والأرض - فإذاً القسم الأول صحيح فإذاً ينبغي أن يليه من تحته الجسم الحار الرطب ثم شاهدنا الماء بارداً بالطبع رطباً ولا يوجد جسم أبسط منه في البرودة والأرض دونه في الحيز فالأرض إذا باردة إذ البارد لا يعلو بالطبع الحار كما تبين والأرض يابسة بلا شك فإذاً الذي يعلو الماء وهو الهواء حار رطب حتى يكون بينه وبين الماء مناسبة ما في طبيعته فيكون بينهما مجاورة في المكان. وكيف لا يكون الهواء رطباً وهو من أقبل الأجسام لحد الرطب فتبقى النار يابسة بالحقيقة كما هي في الظن لكن النار حرها أشد من يبسها والأرض يبسها أشد من بردها والماء برده أشد من رطوبته بل لو ترك وطبعه لكان لقائل أن يقول أنه يجمد وييبس إن لم يسيله جسم حار إلا أنه ليس جموده كجمود الأرض لأن قبوله للتحلل شديد جداً فهو أرطب من الأرض والهواء رطوبته أشد من حرارته وتنتهي الاسطقسات عند النار ومعلوم أنه لا توجد أجسام أبسط في هذه الطبائع وأكثر في هذه الكيفيات من هذه فهي العناصر وإن كانت في الوجود أيضاً قد خالطها غيرها إلا أنا لا نشك أن لها في جوهرها شيئاً هو الغالب في الخلط وإياه نعني الصفحة : 120 بالاسطقس عند النار ومعلوم أن المركب جوهره مركب من جرم لطيف وجرم كثيف به يثبت وإن الكثيف منه يابس منعقد ومنه سيال واليابس الكثيف هو من جوهر الأرض والسيال هو من جوهر الماء وأما اللطيف فمن البين أنه كان بحيث يشتد حره حتى لو انفرد لأحرق كان ناراً وإن كان بحيث يلين حره حينئذ كان هواء وأن اللطيف المشتد حره موجود في العالم مثل الهواء العالي الذي أي دخان وصل إليه أحرقه وحدثت الشهب وكيف لا يكون في غاية السخونة والحركة قد تحيل الهواء محرقاً في الآلات النفخية فكيف الحركة الدائمة الفلكية. فصل في أحياز الأجسام الكائنة والمبدعة وتنتهي المواضع الطبيعية للأجسام القابلة للكون والفساد ببسائطها ومركباتها إذ مكان المركب في حيز البسائط كما تقدم وانتهاؤها يكون عند النار لانتهاء الكون عند النار ولا يمكن أن يوجد خارجاً عنها جسم من طباع هذه الأجرام ولا بالقسر ولا جسم مركب البتة فيتبين أن من حيز فلك القمر يبتدئ الحيز الكلي المشتمل على الأجسام الابداعية التي توجد متحركة على الدور فإذاً من الأرض إلى فلك القمر حيز الأجسام القابلة للكون والفساد ومن فلك القمر إلى آخر العالم حيز الابداعيات الدائمة الحركة ولا حيز خارج الحيزين: وبين من الأصول التي سلفت أن الفلك خارج عن الطبائع الأربع وأنه ليس بخفيف ولا ثقيل بوجه من الوجوه وأنه حي ذو نفس وليس لقائل أن يقول إن من الممكن أن يكون جسم قابل للكون والفساد وليس بأسطقس - فإن الجسم القابل للكون والفساد خالع لصورته لعلة لا محالة مغيرة ملابس لصورة أخرى لامتناع خلو الهيولى عن الصورة كما قيل في المبادئ - وهذه الصورة الأخرى ليس من شأنها أن تلائم الأولى وإلا لما كان اختصاصها بالمادة عقيب ارتفاعها ولا محالة أن هذا الجسم إذا اختلط مع آخر فيه القوى التي هي ضد قوته فتفاعلت أنه يحصل منهما جسم مركب ويكون هو أسطقس المركب وليس لقائل أيضاً أن يقول أن الأرض والماء والهواء - والنار إن وجدت على هذه الطبائع التي أشرنا إليها بالصحة فإنها غير بسيطة وكيف وكل واحد مما يتحرك إلى أحد الأحياز إنما يتحرك بغلبة واحدة منها وكل واحد من المركبات إذا خلص عن حيز واحدة منها رجع إليه وهذا يبين بأدنى تأمل. الصفحة : 121 فصل في فسخ ظنون قيلت في هذا الموضع وربما ظن أن هذه الأجسام لا تستحيل في كيفياتها بل الماء إنما يسخن لأن الحرارة النارية تخالطه من خارج أو لأنها تكون كامنة فيه فتظهرأما الوجه الأول فيظهر بطلانه أن هذه الأشياء تسخن بالمحاكة والحركة ولا يكون هناك نار وردت من خارج فخالطته والانسان يغضب فتسخن جميع أعضائه من غير نار وردت عليه فخالطته وإذا حك جسم جسماً فليس يمكن أن يقال أن ناراً انفصلت من الحاك ودخلت في المحكوك ولا بالعكس لأنه ليس ولا واحد منها يبرد بانفصالها فيسخن الآخر بنفوذها فيه لكنهما يسخنان ظاهراً وباطناً وأما الكمون فليس له معنى البتة لأن الجسم يوجد بارداً في جميع أجزائه الباطنة والظاهرة ثم يسخن في جميعها ولو كانت النار كامنة في جزء منه - ثم ظهرت في جزء آخر لكان الحر موجوداً في ذلك الجزء ثم انتقل عنه وحل في ذلك الجزء مثل البرد الذي كان موجوداً في الجزء المنتقل إليه وليس كذلك - وكذلك الصلب يلين واللين يصلب والعلة فيه هذه العلة أعني الاستحالة لا الكمون ولا المخالطة لوارد خارج: وربما ظن أن هذه الأجسام وإن كانت أسطقسات فإنها ليس من شأنها أن يستحيل بعضها إلى بعض والحق خلاف هذا وقد يمكن أن يتبين ذلك بوجوه شتى إلا أن اعتبار المشاهدات أولى بمثل هذا الموضع وذلك أنا رأينا الماء العذب انعقد حجراً جامداً في زمان غير محسوس وذلك الحجر جوهر أرضي لا محالة إنما يقصر به عن تمام الأرضية اجتماع ماء فيه وأدنى رطوبة ويمكن أن تزال فيعود كلساً وأن نترك الكلس حتى يعود رماداً - وقد يمكن بالحيل أن يحلل الجسم الصلب ماء - وأن تدام عليه الحيلة حتى يصير ماءً زلالاً وإن كانت فيه كيفية ما باقية فلا يبعد على الأيام أن تبطل تلك الكيفية وقد رأينا من حلل أجساماً صلبة بمياه حادة وبحيل أخرى وإذا كان الأمر على هذا فالمادة بين الماء والجوهر الأرضي مشتركة وليس ولا إحدى الصورتين لها ملازمة بل يصح انتقالها من صورة إلى صورة أخرى ثم الهواء قد شاهدناه وهو هواء صحو يغلظ دفعه فيستحيل أكثره أو كله ماءً وبرداً وثلجاً ويسقط على ما تحته ويصحى كرة أخرى في غاية ما يكون الهواء الصحو - ثم لا يلبث ساعة أن يغلظ دفعة أخرى ويستحيل لذلك فيحدث الغيم لا عن بخار البتة يصعد أو يرد من موضع بل عن ضباب ينزل ويتصل بوجه الأرض وهذا في قلل الجبال الباردة ورأينا ذلك يثبت على الدور حتى يجتمع في قليل مدة من الثلج والبرد أمر عظيم كله هواء قد استحال ماء والعين تشاهده وتراه لأنه يكون الصفحة : 122 بحيث البصر يحيط بجملته إذا المكان الفاعل لذلك التبريد في الهواء قليل العرضة وأنت قد تضع الجمد في كوز صفر فتجد في خارجه من الماء المجتمع على سطحه كالقطر شيئاً له قدر صالح ولا يمكن أن ينسب ذلك إلى الرشح لأنه ربما كان ذلك حيث لا يماسه الجمد وكان فوق مكانه ثم لا تجد مثله إذا كان الماء حاراً والكوز مملواً - ثم قد يجتمع مثل ذلك داخل الكوز حيث لا يماسه الجمد وليس ذلك رشحاً البتة وقد يدفن القدح في جمد محفوراً حفراً مهندماً عليه ويشد رأسه فيجتمع فيه ماء كثير وإن وضع في الماء الحار الذي يغلي مدة وشد رأسه لم يجتمع فيه شيء وإذا بطل أن يكون على سبيل الرشح فلا يخلو إما أن يكون على سبيل أن ما يجاور القدح أو الكوز وهو الهواء قد استحال ماء أو أن المياه المنبثة في الهواء انجذبت إلى مشاكلها في البرودة وهذا القسم الثاني محال وذلك أنه ليس في طبيعة الماء أن يتحرك إلا على سبيل الاستقامة إلى السفل - ولو كان يجوز أن يتحرك كيف اتفق لكانت القطرات إذا خلى عنها عند مستنقع ماء عظيم كثير بارد أو عند مجمع جمد كثير أن تميل إليه عن جهتها المستقلة - فإذاً ليس على سبيل الرشح ولا على سبيل الانجذاب فيبقى أن يكون على سبيل استحالة الهواء ماء فتكون إذاً المادة مشتركة فيستحيل الماء أيضاً عند التبخير هواء ثم الهواء قد يستحيل عند التحريك الشديد محرقاً وقد يعمل لذلك آلات حاقنة مع تحريك شديد على صورة المنافخ فيكون ذلك الهواء بحيث يشتعل في الخشب وغيره وليس النار إلا هواء بهذه الصفة فلا يخلو هذا أيضاً إما أن يكون قد استحال ناراً أو تكون النار قد انجذبت إلى حيث هناك حركة وهذا يبطل بمثل ما بطل به انجذاب الماء ثم نحن نشاهد الخشب تمسه نار صغيرة فيشتعل به ثم ينفصل عنه على الاتصال نار بعد نار فإنه ليس شيء من نيران الاشتعال يثبت زماناً البتة بل ينفصل وينطفئ ويتبعه آخر وبعد ذلك فإن الباقي يبقى جمرة تسري النارية في ظاهرها وباطنها ومن المستحيل أن يكون في ذلك الخشب من النار الكامنة ما له ذاك القدر بل النار الباقية التي في الجمرة وحدها لو كانت كامنة في خشبتها لكانت كثيرة فإن من المعلوم أنها بعد الانتشار أضعافها عند الاجتماع والكمون وكان يجب لآلة أن يكون في تكمينها أكثر تسخيناً وأشد إحراقاً وكان قد يوجد في الخشبة لا محالة أقل جزء مثل الجمرة وإذ ليس للكمون وجه ولا أيضاً لظن من لعله يظن أن ناراً كثيرة وردت من خارج فبقي أن يكون على سبيل الاستحالة فيظهر إذاً أن من شأن هذه العناصر أن يكون بعضها من بعض ويفسد بعضها إلى بعض فإنها ما دامت الصفحة : 123 تتغير في الكيفيات نفسها فهي مستحيلة وإذا تغيرت في صورتها فسد ما بطلت صورته وكان ما حدثت صورته وأنها إذا كانت إنما تختص بهذه الصورة باستعداد عرض لها مخصص فقبلت من خارج تلك الصورة على ما وصفنا في المباديء فإذا عرض لها الاستحالة في الكيف واشتد ذلك حدث الاستعداد للصورة التي يناسبها ذلك الكيف وزال الاستعداد الأول فحدثت الصورة الأخرى وبطلت الأولى وإنما حدثت الصورة الأخرى لتخصيص الاستعداد بها عند الاشتداد في الكيفية التي تناسبها لكن الصورة الأخرى تقع إليها الاستحالة دفعة والكيفية تقع إليها الاستحالة في زمان فإنه ليس يمكن أن يتبع اشتداد الكيفيات تغير الصورة التي هي غيرها إلا أن تكون تلك الكيفية تجعل المادة أولى بتلك الصورة لمناسبتها لها - وذلك بأن تزيد في استعدادها فتبطل الأولى وتحدث الصورة الأخرى إما بأن يفسد الاستعداد الأول ثم يتبع الاستعداد الاستكمال من عند الجواد الفائض على الكل الذي يلبس كل استعداد كامل يحصل في طبيعة الأجسام كماله. ومن فساد الظنون ظن من رأى أن النار تتحرك إلى فوق بالقسر والأرض تتحرك إلى أسفل بالقسر وكيف والأعظم يتحرك أسرع خصوصاً ظن من يظن من هؤلاء أن هذا القسر ضغط وأن النار يعلو الهواء والهواء يعلو الماء والماء يعلو الأرض بسبب ضغط الكثيف للطيف من فوق وكيف والاندفاع من الضغط يكون خلاف جهة الضاغط لا نحوه ويكون انضغاط الأعظم أبطأ فبين من هذا غلط من ظن أن الأجسام كلها تهوي إلى أسفل ولكن الأكثف يضغط الألطف. الصفحة : 124 فصل في التخلخل والمكاثف وينبغي أن تعلم أن هذه الأجسام تقبل التكاثف والتخلخل بأن يصير جسم أصغر مما كان من غير وصل جزء عنه أو أكبر مما كان من غير وصل جزء به وذلك بين من القارورة تمص فتكب على الماء فيدخلها الماء فأما أن يكون وقع الخلاء وهو محال وإما أن يكون الجسم الكائن فيها قد خلخله القسر الحامل إياه على تخليه المكان ثم كثفه برد الماء أو تكاثف بطبعه فرجع إلى حجمه الطبيعي عند زوال السبب المخلخل إياه خارجاً عن طبعه وهذه الأزقاق والأواني التي تتصدع عند غليان ما فيها أو تسخينه إما من طبعه وإما من نار توقد عليه لا يخلو إما أن يكون ذلك الانصداع لأجل حركة تعرض لما فيها مكانية قوية من تلقائه - أو الحركة تعرض لها من محرك دافع أو لحركة لها من باب الكم بتخلخل وانبساط لا يسع مثله سطح الوعاء والقسم الأول محال لأن تلك الحركة إما أن تكون فيها إلى جهة واحدة أو إلى الجهات كلها فإن كانت إلى جهة واحدة فإن نقل الإناء وحمله ربما كان أسهل من صدعه فيجب أن تنقل الإناء وتحمله في أكثر الأمر لا أن تصدعه وإن كانت إلى جهات مختلفة فيلزم من ذلك أن تكون طبيعة متشابهة يعرض فيها أن تتحرك حركات بالطبع مختلفة وهذا محال وإن كان إنما يتحرك مثلاً لدافع مثل ما يظن أن النار تدخل الماء المغلي فيصير أكبر حجماً فينصدع الإناء فلا يخلو إما أن يدخل ثقباً خالية وإما أن لا يدخل ثقباً خالياً بل يحدث ثقباً ومنافز فيه وحال أن لا يدخل ثقباً خالياً فإن الخلاء ممتنع - وأيضاً إذا امتلأت الثقب الخالية لم يجب أن يزداد حجم الجسم كله بل وجب أن يكون على ما هو عليه وأما القسم الثاني فلا يخلو إما أن يزيد في الحجم مع مماسة سطح الجسم الذي فيه قبل النفوذ في ثقب مستحدثة فيه أو بعد أن يثقب ويدخل وكلا القسمين باطل - أما مع المماسة فإن نفس المماسة لا توجب زيادة حجم الشيء نعم ربما كان المماس يدفع ويضغط بقوته إلى جهة واحدة مخالفة لجهة حركته ومضطرة إليها - ولا يجب من ذلك أن ينصدع ما يحتوي على المدفوع بل ينتقل على ما بينا على أنه كثيراً ما يعرض ذلك لا بسبب نار واصلة من خارج بل لأن المحوى يسخن من تلقاء نفسه ومحال أن يقال إن الانصداع واقع بزيادة الحجم بسبب المخالطة من النافذ الثاقب فنقول أن هذا القسم أيضاً محال لأنه لا يخلو إما أن تكون الزيادة في الحجم آن الانصداع أو يكون الحجم قد زاد قبله وكلا القسمين محال - أما الأول فلأن كل آن يكون فيه نافذاً يمكن أن يفرض قبله آن آخر كان فيه نافذاً لأن النفوذ مجاورة السطوح بالحركة ويكون له مسافة ما وتلك الصفحة : 125 المسافة منقسمة وفي بعصها قد كان نافذاً أيضاً فقد كان الحجم زائداً قبل أن صدع وهذا محال لوجهين أحدهما لأن الإناء الذي ملأه شيء لا يسع فيه مالئ أكثر منه حتى يثقبه إلى أن يشقه والثاني لأن الحجم إذا صار أكبر كان يشق لأنه أكبر فيجب أن يكون قد شق قبل أن شق - اللهم إلا أن يقال إنه دخل شيء وخرج شيء مثله فيكون الحجم لم يزدد إلى وقت الشق ثم ترجع المسألة من رأس في القدر الذي إذا دخل فيه شيء لم يخرج مثله فقد بطل أن تكون الحركة الصادعة من جهة حركة انتقالية تعرض لما في الاناء من تلقائه وبطل أن يكون لدفع يعرض من دافع وليس يجوز أن تكون إلى جهة واحدة فينتقل الاناء قبل أن يشفه فقد بقي أنه إنما يعرض لانبساطه فيشق بالدفع القوي والتمديد فيكون قد ازداد حجم جسم لا بمداخلة جسم آخر - إما وهو باق بعد على صورته في كليته وإما أن بعض أجزائه استحال إلى صورة أخرى تقتضي كماً أكبر - وإما أن جميعه استحال إلى صورة تقتضي مقداراً أكبر. غير ما للبسائط العنصرية وينبغي أن تعلم أن ههنا برودة وحرارة تفيض من القوى الفلكية خارجة عن العنصريات وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء والأرض والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الاضداد وكيف يفعل ضوء الشمس في العيون العشا ويفعل النبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه أو مساوياً له بل ههنا قوى تفيض من تلك الأجسام في هذه الأجسام إذا تركبت فربما كانت مجانسة وإن لمتكن هذه القوى موجودة في تلك الأجرام أو أشياء أخرى غيرها تجري في إفاضة ذلك مجراها. الصفحة : 126 فصل في بيان آثار للحرارة والبرودة في الأجسام وينبغي أن تعلم أن الحرارة التي من قوى البسائط إذا صادفت مادة مختلطة من رطب ويابس حللت الرطب الذي فيها فازداد الجسم قبولا لحد الرطب حتى إذا أبانته عنه بالتبخير اجتمع فيه اليابس وصلب فيحصل عنها في أول الأمر لين فإذا لان ولاقى البارد ذلك الجسم كثفه فصار تكثيفه أشد مما كان أولاً إذا اليابس فيه الآن أكثر مما كان ثم إذا فنيت الرطوبة بأسرها بقي يابساً لا اجتماع له لأن الاجتماع إنما كان بالنداوة وقد تبخرت وربما سخنت الحرارة من الشيء ظاهره فتبرد باطنه بالتعاقب الجاري بين الطبائع المتضادة وليس معنى هذا التعاقب أن الحرارة والبرودة تنتقل وتتحرك من جزء إلى جزء ولا أنها تشعر بضدها فتهزم عنه - بل إذا استولى ضد على ظاهر الشيء غصبت القوة المسخنة التي فيه أو المبردة بعض المادة المطيفة به المنفعلة عنه فبقي المنفعل أقل مما كان وإذا قل المنفعل اشتد فيه الفعل وقوي وظهر ثم إذا سلمت المادة له كلها انتشر التأثير في الكل فضعف فإذا اتفق أن كان في شيء واحد قوة مسخنة ومبردة فأيهما غلب على الظاهر قوى فعل ضده في الباطن إلا أن يغلب فيغصب جميع المادة ظاهرها وباطنها - وقد يفعل الحقن ضد فعل التبخير مثل إن الحرارة إذا بخرت الجوهر المسخن في الباطن ضعفت الحرارة الباطنة وإن البرودة إذا حقنت الجوهر المسخن في الباطن قويت الحرارة الباطنة ولذلك توجد الأجواف في الصيف أبرد والبرودة ربما خلخلت الشيء بالعرض فتقوى الحرارة في باطن الجسم بالاحتقان ثم تستولي البرودة على المادة أخيراً والبرودة تفعل في جميع ما قلناه ضد فعل الحرارة فيصلب المركب من يابس ورطب أولاً فيمكن حينئذ أن يعرض ما قلنا من تقوى الحرارة باطناً ويمكن أن لا يعرض فيزول التصليب البتة بل لا يزال يشتد - وهذه الكيفيات إذا اجتمعت في المركب فعل بعضها في بعض فحصل من المركب مزاج مخالف لكيفيات البسائط فتكون البسائط فيه لا على ما هي على حد البساطة المفردة عن التركيب بل تكون صورها الذاتية محفوظة غير فاسدة لأن فسادها إلى أضدادها دفعة وأضدادها أيضاً بسيطة وعناصر لا مركبات وكيف لا تكون فيه ثابتة والشيء المركب إنما هو مركب عن أجزاء فيه مختلفة وإلا كان بسيطاً ولا يقبل الأشد والأضعف وأما كيفياتها ولواحقها فتكون قد توسطت ونقصت عما كانت فيه من حد الصرافة والسورة للبساطة. الصفحة : 127 المقالة الخامسة: في المركبات الناقصة والمعادن إن العناصر الأربعة عساها أن لا توجد كلياتها صرفة خالصة بل يكون فيها لا محالة اختلاط ويشبه أن تكون النار أبسطها في موضعها ثم الأرض - أما النار فإن ما يخالطها في حيزها يستحيل إليها لقوتها على الاحاطة - وأما الأرض فإن نفوذ قوى ما يحيط بها في كليتها بأسرها كالقليل بل عسى أن يكون باطنها القريب من المركز يقرب من البساطة ولكن ذلك دون بساطة النار لأن نفوذ القوى الفلكية المسخنة في الأرض جائز - وذلك مما يحدث فيها احالة ما ومع ذلك فإن الأرض لا تقوى على إحالة كل ما يخالطها من الجوهر القريب إلى الأرضية قوة النار على احالة ما يخالطها ثم يشبه أن تكون العناصر طبقات " الطبقة السفلى " هي الأرض القريبة إلى البساطة " والطبقة الثانية " الطين " والطبقة الثالثة " بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البر ثم يحيط بالبر والبحر الهواء البخاري إلا أنه ذو طبقتين إحداهما تصاقب كرة الأرض فتسخن من شعاع الشمس المسخن للأرض المسخنة لما يجاورها وبعضه يبعد عنها فتستولي عليه الطبيعة التي في جوهر المائية وهو البرد - ولهذا تكون أعالي الجبال ومواضع انعقاد السحاب أبرد ثم فوق هاتين الطبقتن طبقة الهواء الذي هو أقرب إلى البساطة ثم فوقه طبقة الهواء الدخاني وذلك أن الدخان أيبس وأسرع حركة وأشبه كيفية بالنار فهو يعلو البخار والهواء إن لم يبرد في الوسط فينزل ريحاً فإن لم يبرد علا وطفا فوق الهواء إلا أنه كما أظن أنه لا يكون محيطاً ولا كثيراً بل يسيراً منتشراً والاكثر يحترق شهباً كما سنذكره بعد ثم فوق هذا كله الطبقة النارية وجميع العناصر الأربعة بطبقاتها طوع الاجرام العالية الفلكية: والكائنات الفاسدات تتولد من تأثير تلك وطاعة هذه والفلك وإن لم يكن حاراً ولا بارداً فإنه قد ينبعث منه في الأجسام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه عليها ويشاهد هذا من إحراق شعاعها المنعكس عن المرايا فإنه لو كان سبب الاحراق حرارة الشمس دون شعاعها لكان كلما هو أقرب إلى العلو أسخن وقد يكون مطرح الشعاع إلى الشيء يحترق وما فوقه لا يحترق - بل يكون في غاية البرد فإذاً سبب الاسخان التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء وربما بلغ من إسخانه أن يعد الهواء لقبول طبيعة النار ويخرجه عن الاستعداد للصورة الهوائية فإذا وقعت القوى الفلكية في العناصر فحركتها وخلطتها حصل من اختلاطها موجودات شتى فمنها أن الفلك إذا هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ودخل من الأجسام الأرضية وأثار شيئاً الصفحة : 128 بين البخار والدخان من الأجسام المائية والأرضية ولأن الأرض والماء يوجدان في أكثر الأحوال متمازجين فليس يوجد بخار بسيط ولا دخان بسيط إلا ندرة وشذوذاً وإنما يسمى التأثير باسم الاغلب والبخار أقل مسافة في صعوده من الدخان لأن الماء إذا سخن كان حاراً رطباً والأجزاء الأرضية إذا سخنت ولطفت كانت حارة يابسة والحار الرطب أقرب إلى طبيعة الهواء والحار اليابس أقرب إلى طبيعة النار واليبس كأنه يوجب زيادة في الحركة إلى جهة فوق وإذا كان البخار حاراً رطباً لم يمكن أن يتجاوز حيز الحار الرطب بل يقصر عنه فإذاً لا يتعدى صعود حيز الهواء بل إذا وافى الطبقة الثانية من الهواء والبخار ومنقطع تأثير الشعاع برد وكثف وأما الدخان فإنه يتعدى حيز الهواء حتى يوافي تخوم النار هذا إذا تأتى أن يتخلصا من جرمي الأرض والماء وأما إذا احتبسا فيهما حدثت أمور وكائنات أخرى غير التي تحدث عن المتخلصين منهما فالدخان إذا وافى حيز النار اشتعل وإذا اشتعل فربما سرى فيه الاشتعال فيرى أن كوكباً يقذف به وربما لم يشتعل بل احترق وثبت فيه الاحتراق فرئيت العلامات الهائلة الحمر والسود وربما اشتعل وكان غليظاً ممتداً فيثبت فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ودارت به النار الدائرة بدوران الفلك وكان ذنباً له وربما كان عريضاً فرأى كأنه لحية للكوكب وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب المذكور فانضغطت مشتعلة - وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف جداً ويرتفع جداً فيتراكم ويكثر مدده في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحاباً والقاطر مطراً ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعاً وينزل كما لو يوافيه برد الليل سريعاً قبل أن يتراكم سحاباً وهذا هو الطل وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحابتنزل ثلجاً وربما جمد البخار الغير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان صقيعاً وربما جمد البخار بعدما استحال قطرات فكان برداً وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب وفي الربيع وهو داخل السحاب وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخله فتكاثف في داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة وربما تكاثف الهواء بنفسه لشدة البرد فاستحال سحاباً واستحال مطراً ثم ربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب وأجزائها صور النيرات وأضواؤها كما يقع في المرايا والجدران الصقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها وبعدها من الرائي وقربها وصفائها وكدورتها واستوائها وتضرسها وكثرتها وقلتها فيرى هالة وقوساً وشموساً وشعلاً: والهالة الصفحة : 129 تحدث عن انعكاس البصر عن الرش المطيف بالنير إلى النير حيث يكون الغمام المتوسط لا يخفى النير ولأن الزوايا تكون متساوية يكون الأجزاء المنعكس عنها الضوء متساوية البعد عن النير فرؤى دائرة كأنها منقطة محورها الخط الواصل بين الناظر وبين النير ولأنها تؤدي الضوء إلى البصر ترى نيرة ولأن ما سواها لا يفعل ذلك يرى غير نير فتتميز دائرة مضيئة نيرة وخصوصاً وما في داخلها ينفذ عنه البصر إلى النير ونوره الغالب على أجزاء الرش يجعله كأنه غير موجود وكأن الغيم هناك هواء شفاف ولأن الناظر في الهالة والغمام بينهما وزوايا العكس مطيفة بالنير فلذلك ترى دائرة - وأما القوس فإن الغمام يكون في خلاف جهة النير فتنعكس الزوايا عن الرش إلى النير لا بين الناظر والنير بل الناظر أقرب إلى النير منه إلى المرآة فتقع الدائرة التي هي كالمنطقة أبعد من الناظر إلى النير فإن كانت الشمس على الأفق كان الخط المار بالناظر والنير على بسيط الأفق وهو المحور فيجب أن يكون سطح الأفق يقسم المنطقة بنصفين فيرى القوس نصف دائرة فإن ارتفعت الشمس انخفض الخط المذكور فصار الظاهر من المنطقة الموهومة أقل من نصف دائرة - وأما تحصيل الألوان على الجهة الشافية فإنه لم يستبن بعد والسحب ربما تفرقت وذابت فصارت ضباباً وربما اندفعت بعد التلطف إلى أسفل فصارت رياحاً وربما هاجت الرياح لاندفاع بعضها من جانب إلى جهة " وربما هاجت لانبساط الهواء بالتخلخل عند جهة واندفاعه إلى أخرى " وأكثر ما يهيج لبرد عطفها مقاومة الحركة الدورية التي تتبع الهواء العالي فانعطفت رياحاً والسموم ما كان من هذا محترقاً وربما كان من جهة مادة الشهب إذا احترقت ونزل رمادها وربما كان لمرورها بالأراضي الحارة - وربما احتبست الأبخرة في داخل الأرض فتميل إلى جهة فتبرد بها فتستحيل ماء فيستمد مدداً متدافعاً فلا تسعه الأرض فتشق فيصعد عيوناً وربما لم تدعها السخونة تكثف فتصير ماء وكثرت عن أن تتحلل وغلظت عن أن تنفذ في مجاري مستحصفة وكانت مجاريها أشد استحصافاً من مجاري أخرى فاجتمعت ولم يمكنها أن تثور خارجة فزلزلت الأرض وأولى بأن يزلزل الدخان الريحي وربما اشتدت الزلزلة فخسفت الأرض وربما حدث في حركتها دوي كما يكون من تموج الهواء في الدنان وربما حدثت الزلزلة من تساقط عوالي وهذه في باطن الأرض فيموج بها الهواء المحتقن فيزلزل الأرض وربما تبع الزلزلة نبوع عيون - وهذه الأبخرة إذا نبعت عيوناً أمدت البحار بصب الأنهار إليها ثم ارتفع من البطائح والبحار والأنهار وبطون الجبال خاصة أبخرة أخرى ثم قطرت ثانياً إليها فقامت بدل ما يتحلل الصفحة : 130 منها على الدور دائماً - وربما احتبست الأبخرة في باطن الأرض فانعقدت وجمدت فحدث منها الجواهر المشفة التي لا تنطرق وأكثرها تكون مختلطة بالمائية وربما انعقد كذلك على ظاهر الأرض لطبيعة الموضع والأدخنة التي تحتبس داخل الأرض ربما اضطرها شدة حركتها وما تتكلفه من شقها الأرض أن تشتعل وتخرج ناراً وربما احتبست في باطن الجبال والكهوف فتولد منها الجواهر الغير القابلة للذوب والأدخنة أيضاً تحتقن في البحار فتملح مياهها لأن الأشياء الأرضية ذات النهوة أي التي عملت فيها الحرارة وما بلغت في الاحالة تكون مرة فإذا خالطت المائية ملحت وقد يتخذ من الرماد والكلس وغيرهما ملح بأن يطبخ في الماء ويصفى ويطبخ حتى ينعقد ملحاً أو يترك فيصير ملحاً - وأما الجواهر البخارية الدخانية المركبة من مادتي الرطوبة واليبوسة فمنها ما يتخلص من الأرض فيكون منها الرياح وإذا تصاعدت فتميز البخار من الدخان إنعقد البخار سحاباً فبرد وتقلقل فيه الدخان طلباً للنفوذ إلى العلو فيحصل من تقلقله فيه ضرب من الرعد وهو صوت رياح عاصفة في سحاب كثيف وربما امتد ذلك التقلقل لكثرة وصول المواد ويكون أعالي السحاب أكثف لأن البرد هناك أشد أو تكون هناك ريح مقاومة تعوقها عن النفوذ فتندفع إلى أسفل وقد أشعلته المحاكة والحركة ناراً فينشق السحاب شعلة كجمر يطفى فيسمع من ذلك ضرب من الرعد وإذا كان قوياً شديداً غليظ المادة كان صاعقة - وربما وجد منفذاً فيه سهل الانشقاق فخرج بلا رعد ولا اشتعال فإن كان المدد كثيراً والمادة كثيفة تولدت منه أنواع الرياح السحابية وربما وقعت سحابة تحت التي تندفع منها الريح فتمنع الريح من النفوذ وتعكسها إلى وراء وتدفعها المواد المندفعة فتنقلب من بين السحابتين مستديرة وربما اشتمل دوره على قطعة من السحاب تحمله في جهة حركتها فيرى كأن تنيناً يجتاز في الجو: وربما اشتمل دوره على بخار مشتعل فيرى ناراً تدور والزوابع العظام تكون من هذا وأكثرها نازلة: وقد تكون الزوابع أيضاً لالتقاء ريحين متقابلتين قويتين تلتقيان فتستديران - ومن هذه ما لا تتخلص بل تحتبس في الأرض فيحدث عنها بحسب اختلاف المواضع والأزمان والمواد جملة من الجواهر القابلة للإذابة والطرق كالذهب والفضة ويكون قبل تصلبه زيبقاً ونفطاً وما جرى مجراهما وانطراقها بكثرة رطوبتها وعصيانها على الجمود التام وذلك لها لاستحالة بعض رطوبتها دهناً فهذه حكاية كون ما يتكون بتصعيد القوى الفلكية المسخنة للأجسام القابلة للتحليل. الصفحة : 131 المقالة السادسة في النفس وقد يتكون من هذه العناصر أكوان أيضاً بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجاً أكثر اعتدالاً أي أقرب إلى الاعتدال من هذه المذكورة وأولها النبات فمنه ما يكون مبزراً يفرز جسماً حاملاً للقوة المولدة ومنه كائن من تلقاء نفسه من غير بزر ولأن النبات يغتذي بذاته فله قوة غاذية ولأن النبات ينمى بذاته فله قوة منمية ولأن من النبات ما يولد المثل ويتولد عن المثل بذاته فله قوة مولدة والقوة المولدة غير الغاذية فإن الفج من الثمار له القوة الغاذية دون المولدة وكذلك القوة المنمية دون المولدة والغذية غير المنمية ألا ترى الهرم من الحيوان فإن له الغاذية وليس له المنمية والغاذية تفعل الغذاء وتورده بدل ما يتحلل والمنمية تزيد في جوهر الأعضاء الأصلية طولاً وعرضاً وعمقاً لا كيف اتفق بل على جهة تبلغ غاية النشو: والمولدة تعطي المادة صورة الشيء وتبين منه جزأ وتحله قوة من سنخه وإذا وجدت المادة - والموضع المتهيء لقبول فعله فعل مثله ومعلوم مما سلف أن جميع الأفعال النباتية والحيوانية والانسانية تكون من قوى زائدة على الجسمية بل وعلى طبيعة المزاج ويلي النبات الحيوان وإنما يحدث عن تركيب في العناصر مزاجه أقرب إلى الاعتدال جداً من الأولين يستعد مزاجه لقبول النفس الحيوانية بعد أن يستوفي درجة النفس النباتية وكلما أمعن في الاعتدال ازداد قبولاً لقوة نفسانية أخرى ألطف من الأولى والنفس كجنس واحد ينقسم بضرب من القسمة إلى ثلاثة أقسام " أحدها " النباتية وهي " كمال أول لجسم آلي " من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه ويزيد فيه بمقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل " والثاني " النفس الحيوانية وهي كمال أول الجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالارادة " والثالث " النفس الانسانية وهي كمال أولي لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الأمور الكلية وللنفس النباتية قوى ثلاث القوة الغاذية وهي القوة التي تحيل جسماً آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه والقوة المنمية وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه في أقطاره طولاً وعرضاً وعمقاً متناسبة للقدر الواجب لتبلغ به كماله في النشو والقوة المولدة وهي القوة التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزأ هو شبيه له بالقوة فتنفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشبه به من التخليق والتمزيج ما يصير شبيهاً به بالفعل. الصفحة : 132 فصل في النفس الحيوانية وللنفس الحيوانية بالقسمة الأولى قوتان محركة ومدركة والمحركة قسمين إما محركة بأنها باعثة - وإما محركة بأنها فاعلة والمحركة على أنها باعثة هي القوة النزوعية والشوقية وهي القوة التي إذا ارتسم في التخيل الذي سنذكره بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي نذكرها على التحريك ولها شعبتان شعبة تسمى قوة شهوانية وهي قوة تبعث على تحريك يقرب به من الأشياء المتخيلة ضرورية أو نافعة طلباً للذة وشعبة تسمى قوة غضبية وهي قوة تبعث على تحريك يدفع به الشيء المتخيل ضاراً أو مفسداً طلباً للغلبة وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ أو ترخيها أو تمددها طولاً فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين فإن منها قوة تدرك من خارج ومنها قوة تدرك من داخل والمدركة من خارج هو الحواس الخمسة أو الثمانية " فمنها البصر " وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة " ومنها السمع " وهي قوة مرتبة في العصب المفروق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاط العنف يحدث منه تموج فاعل للصوت يتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموجه بشكل نفسه ويماس أمواجه بتلك الحركة تلك العصبة فيسمع " ومنها الشم " وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي يدرك ما يؤدي إليه الهواء المستنشق من الرائحة المخالطة لبخار الريح أو المنطبع فيه بالاستحالة من جرم ذي رائحة " ومنها الذوق " وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك الطعوم المتحللة من الاجرام المماسة له المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتستحيل إليه " ومنها اللمس " وهي قوة منبثقة في جلد البدن كله ولحمه فاشية فيه والأعصاب تدرك ما تماسه ويؤثر فيها بالمضادة ويغيره في المزاج أو الهيئة ويشبه أن تكون هذه القوة لا نوعاً واحداً بل جنساً لأربع قوى منبثة معاً في الجلد كله " الواحدة " حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد " والثانية " حاكمة من التضاد الذي بين اليابس والرطب " والثالثة " حاكة من التضاد الذي بين الصلب واللين " والرابعة " حاكمة في التضاد الذي بين الخشن والأملس إلا أن اجتماعها معاً في آلة واحدة يوهم تأحدها في الصفحة : 133 الذات: والمحسوسات كلها تتأدى صورها إلى آلات الحس وتنطبع فيها فتدركها القوة الحاسة وهذا اللمس والذوق والشم كالظاهر وأما البصر فقد ظن به خلاف هذا فإن قوماً ظنوا أن البصر قد يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون ذلك أبصاراً وفي أكثر الأمر يسمون ذلك الخارج شعاعاً وأما المحققون فيقولون أن البصر إذا كان بينه وبين المبصر شفاف بالفعل وهو جسم لا لون له متوسط بينه وبين البصر تأدى شبح ذلك الجسم ذى اللون الواقع عليه الضوء إلى الحدقة فأدركه البصر - وهذا التأدي شبيه بتأدي الألوان بتوسط الضوء إذا انعكس الضوء من شيء ذى لون فيصبغ بلونه جسماً آخر وإن كان بينهما فرق بل هو أشبه بما يتخيل في المرآة ومما يدل على بطلان الرأي الأول أن ذلك الخارج إما أن يكون جسماً أو لا يكون جسماً فإن لم يكن جسماً فالحكم بالحركة والانتقال عليه باطل إلا على المجاز بأن يكون في البصر قوة تحيل ما يلاقيه من الهواء وغيره إلى كيفية ما فيقال أن تلك الكيفية خرجت من البصر ومحال أن يكون جسماً وذلك لأنه إما أن يخرج واتصاله ثابت فيلاقي كرة الثوابت فيكون قد خرج من البصر في صغره جسم مخروط وعظمه هذا العظم ويكون مع ذلك قد ضغط الهواء ودفعه والأفلاك كلها ودفعها أو نفذ في خلاء وكلا الوجهين ظاهر البطلان أو يكون قد انفصل وتشظى وتفرق فيجب من ذلك أن يكون الحيوان يحس بشيء منفصل عنه متشظي متفرق وأن يحس بالمواضع التي يقع عليها ذاك الشعاع دون ما لا يقع فيحس من الجسم بتفاريق نقطية ويفوته الغالب منه وإما أن يكون هذا الجسم يتصل ويحد بالهواء والفلك حتى تصير الجملة كعضو واحد للحيوان فتكون جملة ذلك حساساً وهذه الاحالة أيضاً عجيبة ويجب إذا تزاحمت الأبصار أن تكون هذه الاحالة أقوى فيكون الواحد إذا اجتمع مع الجماعة أشد ابصاراً منه إذا كان وحده فإن الكثير أشد إحالة من المنفرد بذاته ثم هذا الجسم الخارج لا محالة إما أن يكون بسيطاً وإما أن يكون مركباً وعلى مزاج خاص وحركته لا تخلو إما أن تكون بالإرادة أو تكون بالطبيعة ونحن نعلم أن ذلك ليس بحركة إرادية إختيارية وإن كان فتح الأجفان وغلقها إرادتين فبقي أن يكون طبيعياً والطبيعي البسيط يكون إلى جهة لا إلى جهات شتى والمركب يتحرك بحسب الغالب إلى جهة واحدة لا إلى جهات شتى وليس كذلك حال هذه الحركة عندهم ثم إن كان المحسوس يرى من جهة القاعدة المماسة من المخروط لا من جهة الزاوية فيجب أن يكون المحسوس البعيد يحس شكله وعظمه كما يحس لونه إذا كان الحاس يلاقيه ويشتمل عليه – وأما الصفحة : 134 إذا أحس من جهة الزاوية أعني الفصل المشترك بين الجليدية وبين المخروط المتوهم كان كلما كان الشيء أبعد كانت أصغر وكان الفصل المشترك أصغر وكان الشبح المنطبع فيه أصغر فيرى أصغر وربما كانت الزوايا بحيث تفوت الحس فلا يرى - وأما القسم الثاني فهو أن يكون الخارج لا جسماً بل عارضاً أو كيفية فيجب أن يكون كلما كان الناس أكثر أن تكون هذه الاحالة والاستحالة أقوى ويعرض المحال الذي ذكرنا ثم يكون الهواء حينئذ إما مؤدياً وإما حساساً ثم فإن كان مؤدياً غير حساس فالاحساس كما نقوله هو عند الحدقة لا من خارج وإن كان الحساس هو الهواء عرض المحال الذي ذكرنا أيضاً ووجب إذا كان ريح أو اضطراب في الهواء أن تضطرب الأبصار بتجدد الاستحالة وتجدد الحاس شيئاً بعد شيء - كما إذا عدا الانسان في هواء ساكن فإنه حينئذ تضطرب عليه الأبصار للأشياء الدقيقة فإذاً ليس الأبصار بخروج شيء منا إلى المحسوس فهو إذاً بورود شيء من المحسوس علينا وإذ ليس ذلك جسمه فهو إذاً شبحه ولولا أن الحق هذا الرأي لكان خلقة العين على طبقاتها ورطوباتها وشكل كل واحدة منها وهيئته معطلة. وأما القوى المدركة من باطن فبعضها قوى تدرك صور المحسوسات وبعضها قوى تدرك معاني المحسوسات. ومن المدركات ما يدرك ويفعل معاً ومنها ما يدرك ولا يفعل ومنها ما يدرك إدراكاً أولياً ومنها ما يدرك إدراكاً ثانياً والفرق بين ادراك الصورة وإدراك المعنى أن الصورة هو الشيء الذي تدركه النفس الباطنة والحس الظاهر معاً لكن الحس الظاهر يدركه أولاً ويؤديه إلى النفس إدراك الشاة لصورة الذئب أعني شكله وهيئته ولونه فإن نفس الشاة الباطنة تدركها ويدركها أولاً حسها الظاهر وأما المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس من المحسوس من غير أن يدركه الحس الظاهر أولاً مثل إدراك الشاة معنى المضاد في الذئب وهو المعنى الموجب لخوفها إياه وهربها عنه من غير أن يكون الحس يدرك ذلك البتة فالذي يدرك من الذئب أولاً بالحس ثم القوى الباطنة هو الصورة والذي تدركه القوى الباطنة دون الحس فهو المعنى والفرق بين الإدراك مع الفعل والإدراك لا مع الفعل أن من شأن أفعال بعض القوى الباطنة أن تركب بعض الصورة والمعاني المدركة مع بعض وتفصله عن بعض فيكون لها إدراك وفعل أيضاً فيما أدركت وأما الإدراك لا مع الفعل فأن يكون الصورة أو المعنى يرتسم في الشيء فقط من غير أن يفعل فيه تصرفاً البتة والفرق بين الإدراك الأول والإدراك الثاني - أن الإدراك الأول هو أن الصفحة : 135 يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشيء من نفسه والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها له من جهة شيء آخر أداها إليه فمن القوى المدركة الباطنة الحيوانية قوة فنطاسيا أي الحس المشترك وهي قوة مرتبة في أول التجويف المقدم من الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبقة في الحواس الخمس متأدية إليه منها ثم الخيال والمصورة وهي قوة مرتبة أيضاً في آخر التجويف المقدم من الدماغ حفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس الجزئية الخمس وتبقى فيه بعد غيبة المحسوسات واعلم أن القوة التي بها القبول غير القوة التي بها الحفظ فاعتبر ذلك في الماء فإن له قوة قبول النقش وليس له قوة حفظه ثم القوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية ومفكرة بالقياس إلى النفس الانسانية وهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار ثم القوة الوهمية وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب منه وأن الولد معطوف عليه ثم القوة الحافظة الذاكرة وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية ونسبة تلك القوة الحافظة إلى القوة الوهمية كنسبة القوة التي تسمى خيالاً إلى الحس ونسبة تلك القوة إلى المعاني كنسبة هذه القوة إلى الصور المحسوسة - فهذه هي قوى النفس الحيوانية ومن الحيوان ما يكون له الحواس الخمس كلها ومنه ما له بعضها دون بعض - أما الذوق واللمس فضروري أن يخلق كل حيوان ولكن من الحيوان ما لا يشم ومنه ما لا يسمع ومنه ما لا يبصر. الصفحة : 136 فصل في النفس الناطقة وأما النفس الناطقة الانسانسة فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عاملة وقوة عالمة وكل واحدة من القوتين تسمى عقلاً باشتراك الاسم فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الانسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالرؤية على مقتضى آراء تخصها اصلاحية ولها اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة واعتبار بالقياس إلى نفسها وقياسها إلى القوة الحيوانية النزوعية أن تحدث فيها هيئات تخص الانسان تتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال مثل الخجل والحياء والضحك والبكاء وما أشبه ذلك وقياسها إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة واستنباط الصناعات الانسانية وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة مثل أن الكذب قبيح والظلم قبيح وما أشبه ذلك من المقدمات المبينة الانفصال عن العقلية المحضة في كتب المنطق - وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة الأخرى التي نذكرها حتى لا تنفعل عنها البتة بل تنفعل هي عنها وتكون مقموعة دونها لئلا يحدس فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية وهي التي تسمى أخلاقاً رذيلية بل أن تكون غير منفعلة البتة وغير منقادة بل متسلطة فيكون لها أخلاق فضيلية وقد يجوز أن تنسب الأخلاق إلى القوى البدنية أيضاً ولكن إن كانت هي الغالبة تكون لها هيئة فعلية ولهذه هيئة انفعالية فيكون شيء واحد يحدث منه خلق في هذا وخلق في ذلك وإن كانت هي المغلوبة يكون لها هيئة انفعالية ولهذه هيئة فعلية غير غريبة أو يكون الخلق واحداً وله نسبتان وإنما كانت الأخلاق عند التحقيق لهذه القوة لأن النفس الانسانية كما يظهر من بعد جوهر واحد وله نسبة وقياس إلى جنبتين جنبة هي تحته وجنبة هي فوقه وله بحسب كل جنبة قوة بها تنتظم العلاقة بينه وبين تلك الجنبة فهذه القوة العاملة هي القوة التي لها بالقياس إلى الجنبة التي دونها وهو البدن وسياسته وأما القوة النظرية فهي القوة التي له بالقياس إلى الجنبة التي فوقه لينفعل ويستفيد منه ويقبل عنه وكأن للنفس منا وجهين وجه إلى البدن ويجب أن يكون هذا الوجه غير قابل البتة أثراً من جنس مقتصى طبيعة البدن ووجه إلى المبادئ العالية ويجب أن يكون هذا الوجه دائم القبول عما هناك والتأثير منه هذا. وأما القوة النظرية فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة فإن كانت مجردة الصفحة : 137 بذاتها فذاك وإن لم تكن فإنها تصيرها مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء وسنوضح هذا بعد وهذه القوة النظرية لها إلى هذه الصور نسب وذلك لأن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئاً قد يكون بالقوة قابلاً له وقد يكون بالفعل والقوة تقال على ثلاث معان بالتقديم والتأخير فيقال قوة للاستعداد المطلق الذي لا يكون خرج منه إلى الفعل شيء ولا أيضاً حصل ما به يخرج - وهذه كقوة الطفل على الكتابة ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا كان لم يحصل للشيء إلا ما يمكنه به أن يتوصل إلى اكتساب الفعل بلا واسطة كقوة الصبي الذي ترعرع وعرف القلم والدواة وبسائط الحروف على الكتابة ويقال قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة وحدت مع الآلة أيضاً كمال الاستعداد بأن يكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى الاكتساب بل بكيفية أن يقصد فقط كقوة الكاتب المستكمل للصناعة إذا كان لا يكتب والقوة الأولى تسمى قوة مطلقة وهيولانية والقوة الثانية تسمة قوة ممكنة والقوة الثالثة تسمى ملكة وربما سميت الثانية ملكة والثالثة كمال قوة. فالقوة النظرية إذاً تارة تكون نسبتها إلى الصورة المجردة التي ذكرناها نسبة ما بالقوة المطلقة حتى تكون هذه القوة للنفس التي لم تقبل بعد شيئاً من الكمال الذي يحسبها. وحينئذ تسمى عقلاً هيولانياً. وهذه القوة التي تسمى عقلاً هيولانياً موجودة لكل شخص من النوع. وإنما سميت هيولانية تشبيهاً بالهيولى الأولى التي ليست هي بذاتها ذات صورة من الصور وهي موضوعة لكل صورة: وتارة نسبة ما بالقوة الممكنة. وهي أن تكون القوة الهيولانية قد حصل فيها من الكمالات المعقولات الأولى التي يتوصل منها وبها إلى المعقولات الثانية. وأعني بالمعقولات الأولى المقدمات التي يقع بها التصديق لا باكتساب ولا بأن يشعر المصدق بها أنه كان يجوز له أن يخلو عن التصديق بها وقتاً البتة مثل إعتقادنا بأن الكل أعظم من الجزء وأن الأشياء المساوية شيء واحد متساوية فما دام إنما يحصل فيه من العقل هذا القدر بعد فإنه يسمى عقلاً بالملكة. ويجوز أن يسمى هذا عقلاً بالفعل بالقياس إلى الأولى لأن تلك ليس لها أن تعقل شيئاً بالفعل - وأما هذه فإنها تعقل إذا أخذت تقيس بالفعل. وتارة تكون له نسبة ما بالقوة الكمالية وهذا أن يكون حصل فيها أيضاً الصورة المعقولة الأولية إلا أنه ليس يطالعها ويرجع إليها بالفعل بل كأنها عنده مخزونة فمتى شاء طالع تلك الصورة بالفعل فعقلها وعقل أنه عقلها ويسمى عقلاً بالفعل لأنه عقل ويعقل متى شاء بلا تكلف واكتساب. وإن كان يجوز أن تسمى عقلاً بالقوة بالقياس إلى ما بعده. وتارة تكون لها نسبة ما بالفعل الصفحة : 138 المطلق وهو أن تكون الصورة المعقولة حاضرة فيه وهو يطالعها ويعقلها بالفعل ويعقل أنه يعقلها بالفعل فيكون حينئذ عقلاً مستفاداً لأنه سيتضح لنا أن العقل بالقوة إنما يخرج إلى الفعل بسبب عقل هو دائماً بالفعل. وأنه إذا اتصل به العقل بالقوة نوعاً من الاتصال انطبع منه بالفعل فيه نوع من الصور تكون مستفادة من خارج - فهذه أيضاً مراتب القوى التي تسمى عقولاً نظرية وعند العقل المستفاد يتم الجنس الحيواني والنوع الانساني منه وهناك تكون القوة الانسانية تشبهت بالمبادئ الأولية للوجود كله. فصل في طرق اكتساب النفس الناطقة للعلوم واعلم أن التعلم سواء حصل من غير المتعلم أو حصل من نفس المتعلم متفاوت فإن من المتعلمين من يكون أقرب إلى التصور ولأن استعداده الذي قبل الاستعداد الذي ذكرناه أقوى فإن كان ذلك الانسان مستعداً للاستكمال فيما بينه وبين نفسه سمي هذا الاستعداد القوي حدساً - وهذا الاستعداد قد يشتد في بعض الناس حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كبير شيء وإلى تخريج وتعليم بل يكون شديد الاستعداد لذلك كأن الاستعداد الثاني حاصل له. بل كأنه يعرف كل شيء من نفسه - وهذه الدرجة أعلى درجات هذا الاستعداد. ويجب أن تسمى هذه الحال من العقل الهيولاني عقلاً قدسياً وهو من جنس العقل بالملكة إلا أنه رفيع جداً ليس مما يشترك فيه الناس كلهم ولا يبعد أن تفيض هذه الأفعال المنسوبة إلى الروح القدسي لقوتها واستعلائها فيضاناً على المتخيلة أيضاً فتحاكيها المتخيلة أيضاً بأمثلة محسوسة ومسموعة من الكلام على النحو الذي سلفت الإشارة إليه. ومما يحقق هذه أن من المعلوم الظاهر أن الأمور المعقولة التي يتوصل إلى اكتسابها إنما تكتسب بحصول الحد الأوسط في القياس - وهذا الحد الأوسط قد يحصل ضربين من الحصول فتارة يحصل بالحدس والحدس فعل للذهن يستنبط به بذاته الحد الأوسط والذكاء قوة الحدس وتارة يحصل بالتعليم ومبادئ التعليم الحدس فإن الأشياء تنتهي لا محالة إلى حدوس استنبطها أرباب تلك الحدوس ثم أدوها إلى المتعلمين - فجائز أن يقع للإنسان بنفسه الحدس وأن ينعقد في ذهنه القياس بلا معلم وهذا مما يتفاوت بالكم والكيف أما في الكم فلأن بعض الناس يكون أكثر عدد حدس للحدود الوسطى وأما في الكيف فلأن بعض الناس أسرع زمان حدس - ولأن هذا التفاوت ليس منحصراً في حد بل يقبل الزيادة والنقصان دائماً وينتهي في طرف النقصان إلى من لا حدس له البتة فيجب أن ينتهي أيضاً الصفحة : 139 في طرف الزيادة إلى من له حدس في كل المطلوبات أو أكثرها أو إلى من له حدس في أسرع وقت وأقصره فيمكن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس بشدة الصفاء وشدة الاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتعل حدساً أعني قبولاً لا لهام العقل الفعال في كل شيء فترتسم فيه الصور التي في العقل الفعال من كل شيء إما دفعة وإما قريباً من دفعة إرتساماً لا تقليدياً بل بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى فإن التقليديات في الأمور التي إنما تعرف بأسبابها ليست بيقينية عقلية - وهذا ضرب من النبوة بل أعلى قوى النبوة والأولى أن تسمى هذه القوة قوة قدسية وهي أعلى مراتب القوى الانسانية. فصل في ترتيب القوى من حيث الرئاسة والخدمة فاعتبر الآن وانظر إلى هذه القوى كيف يرأس بعضها بعضاً وكيف يخدم بعضها بعضاً فإنك تجد العقل المستفاد بل العقل القدسي رئيساً يخدمه الكل وهو الغاية القصوى ثم العقل بالفعل يخدمه العقل بالملكة والعقل الهيولاني بما فيه من الاستعداد يخدم العقل بالملكة ثم العقل العملي يخدم جميع هذه لأن العلاقة البدنية كما سيتضح لأجل تكميل العقل النظري وتزكيته والعقل العملي هو مدير تلك العلاقة ثم العقل العملي يخدمه الوهم والوهم يخدمه قوتان قوة قبله وقوة بعده فالقوة التي بعده هي القوة التي تحفظ ما أداه والقوة التي قبله هي حميع القوى الحيوانية ثم المتخيلة تخدمها قوتان مختلفتا المأخذ فالقوة النزوعية تخدمها بالأئتمار لأنها تبعثها على التحريك والقوة الخيالية تخدمها بقبول التركيب والتفصيل في صورها ثم أن هذين رئيسان لطائفتين - أما القوة الخيالية فيخدمها فنطاسيا وفنطاسيا تخدمها الحواس الخمس - وأما القوة النزوعية فيخدمها الشهوة والغضب والشهوة والغضب تخدمهما القوة المحركة المنبثة في العضل وإلى ههنا تنتهي القوى الحيوانية - ثم القوى الحيوانية بالجملة النباتية وأولها وأرأسها المولدة ثم الثانية تخدم المولدة ثم الغاذية تخدمهما جميعاً ثم تخدمهما جميعاً - ثم القوى الطبيعية الأربع تخدم هذه فالهاضمة تخدمها من جهة والماسكة من جهة والجاذبة من جهة والدافعة من جهة وتخدم جميعها الكيفيات الأربع لكن الحرارة تخدمها البرودة ويخدم كليهما اليبوسة والرطوبة وههنا آخر درجات القوى. الصفحة : 140 فصل في الفرق بين إدراك الحس وإدراك التخيل وإدراك الوهم وإدراك العقل ويشبه أن يكون كل إدراك إنما أخذ صورة المدرك فإن كان المادي فهو أخذ صورة مجردة عن المادة فقط تجريداً ما لأن أصناف التجريد مختلفة ومراتبها متفاوتة فإن الصورة المادية تعرض لها بسبب المادة أحوال وأمور ليست هي لها بذاتها من جهة ما هي تلك الصورة فتارة يكون النزع نزعاً للعلائق كلها أو بعضها وتارة يكون النزع نزعاً كاملاً بأن تجرد عن المادة وعن اللواحق التي لها من جهة المادة مثاله أن الصورة الانسانية والماهية الانسانية طبيعة لا محال يشترك فيها أشخاص النوع كلهم بالسوية وهي بحدها شيء واحد وقد عرض لها أن وجدت في هذا الشخص وذلك الشخص فتكثرت وليس لها ذلك من جهة طبيعتها الانسانية ولو كانت طبيعة الانسانية يجب فيها التكثر لما كان يوجد إنسان محمولاً على واحد بالعدد ولو كانت الانسانية يجب فيها التكثر لما كان يوجد إنسان محمولاً على واحد بالعدد ولو كانت الانسانية موجودة لزيد لأجل أنها إنسانيتة لما كانت لعمرو فإذاً إحدى العوارض التي تعرض للصورة الانسانية من جهة المادة هو التكثر والانقسام ويعرض لها أيضاً غير هذه العوارض وهي أنها إذا كانت في مادة ما حصلت بقدر من الكم والكيف والأين والوضع - وجميع هذه أمور غريبة عن طباعها وذلك لأنه لو كان لأجل الانسانية كونها على هذا الحد أو حد آخر من الكم والكيف والأين والوضع لكان يجب أن يكون كل إنسان مشاركاً للآخر في تلك المعاني ولو كان لأجل الانسانية كونها على حد آخر وجهة أخرى من الكم والكيف والأين والوضع لكان كل واحد من الناس يجب أن يشترك فيها فإذاً الصورة الانسانية بذاتها غير مستوجبة أن يلحقها شيء من هذه اللواحق. فهذه اللواحق عارضة لها من جهة المادة ضرورة لأن المادة التي تقارنها تكون قد لحقتها هذه اللواحق فالحس يأخذ الصورة عن المادة مع هذه اللواحق ومع وقوع نسبة بينهما وبين المادة وإذا زالت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ وذلك لأنه لا ينزع الصورة عن المادة مجردة من جميع لواحقها ولا يمكنه أن يستثبت تلك الصورة وإن غابت المادة فيكون كأنه لم ينزع الصورة عن المادة نزعاً محكماً بل يحتاج إلى وجود المادة أيضاً في أن تكون تلك الصورة موجودة له. وأما الخيال فإنه يبرئ الصورة المنزوعة عن المادة تبرئة أشد وذلك بأخذها عن المادة بحيث لا يحتاج في وجودها فيه إلى وجود مادة لأن المادة وإن غابت أو بطلت فإن الصورة تكون ثابتة الوجود في الخيال إلا الصفحة : 141 أنها لا تكون مجردة عن اللواحق المادية فالحس لم يجردها عن المادة تجريداً تاماً ولا جردها عن لواحق المادة - وأما الخيال فإنه قد جردها عن المادة تجريداً تاماً ولكنه لم يجردها البتة عن لواحق المادة لأن الصورة في الخيال هي على حسب الصور المحسوسة وعلى تقدير ما وتكييف ما ووضع ما. وليس يمكن في الخيال البتة أن يتخيل صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع فإن الانسان المتخيل يكون كواحد من الناس ويجوز أن يكون أناس موجودين ومتخيلين ليسوا على نحو ما تخيل الخيال ذلك الانسان. وأما الوهم فإنه قد تعدى قليلاً عن هذه المرتبة في التجريد لأنه ينال المعاني التي ليست هي في ذواتها بمادية. وإن عرض لها أن تكون في مادة وذلك لأن الشكل واللون والوضع وما أشبه ذلك أمور لا يمكن أن تكون إلا لمواد جسمانية وأما الخير والشر والموافق والمخالف وما أشبه ذلك فهي أمور في أنفسها غير مادية وقد يعرض لها أن تكون في مادة والدليل على أن هذه الأمور غير مادية أن هذه الأمور لو كانت بالذات مادية لما كان يعقل خير أو شر أو موافق أو مخالف إلا عارضاً لجسم ولكن قد يعقل ذلك فبين أن هذه الأمور هي في أنفسها غير مادية - وقد عرض لها إن كانت مادية - والوهم إنما ينال ويدرك أمثال هذه الأمور فإذاً هي تدرك أموراً غير مادية وتأخذها عن المادة فهذا النزع أشد استقصاء وأقرب إلى البساطة من النزعين الأولين إلا أنه مع ذلك لا يجرد هذه الصورة عن لواحق المادة لأنه يأخذها جزئية وبحسب مادة مادة وبالقياس إليها ومتعلقة بصور محسوسة مكيفة بلواحق المادة ولأنه يأخذها بمشاركة الخيال فيها - وأما القوة التي تكون الصور المستثبتة فيها إما صور موجودات ليست بمادية البتة لا يعرض لها أن تكون مادية أو صور موجودات ليست بمادية ولكن قد ويعرض لها أن تكون مادية أو صور موجودات مادية ولكن مبرأة عن علائق المادة من كل وجه - فبين أنها تدرك الصور بأن تأخذها أخذاً مجرداً عن المادة من كل وجه - أما ما هو متجرد بذاته عن المادة فالأمر فيه ظاهر - وأما ما هو موجود للمادة إما لأن وجوده مادي وإما عارض له ذلك فنزعها عن المادة من كل وجه وعن لواحق المادة معها في أخذها أخذاً مجرداً حتى يكون الانسان الذي يقال على كثيرين فتأخذ الكثيرة طبيعة واحدة وتفرزه عن كل كم وكيف وأين ووضع مادي - ثم تجرده عن ذلك بما يصلح أن يقال على الجميع فبهذا يفتقرق إدراك الحاكم الحسي وإدراك الحاكم الخيالي وإدراك الحاكم الصفحة : 142 فصل في أنه لا شيء من المدرك للجزئي بمجرد ولا من المدرك للكلي بمادي وكل إدراك جزئي فهو آلة جسمانية أما المدرك من الصور الجزئية كما تدركه الحواس الظاهرة وهو المدرك على هيئة غير تامة التجريد والتفريق عن المادة ولا مجردة أصلاً عن علائق المادة فالأمر فيه واضح سهل - وذلك لأن هذه الصور إنما تدرك ما دامت المواد حاضرة موجودة والجسم الحاضر الموجود إنما يكون حاضراً موجوداً عند جسم وليس يكون حاضراً عند ما ليس بجسم فإنه لا نسبة له إلى قوة مجردة من جهة الحضور والغيبة فإن الشيء الذي ليس في مكان لا يكون للشيء المكاني إليه نسبة في الحضور عنده والغيبة عنده بل الحضور لا يقع إلا على وضع وقرب وبعد للحاضر عند المحضور - وهذا لا يمكن إذا كان الحاضر جسماً إلا أن يكون المحضور جسماً أو في جسم وأما المدرك للصور الجزئية على تجريد تام من المادة وعدم تجريد البتة من العلائق كالخيال فهو لا يتخيل إلا أن ترتسم الصورة الخيالية منه في جسم ارتساماً مشتركاً بينه وبين الجسم ولنفرض الصورة المرتسمة في الخيال صورة زيد على شكله وتخطيطه ووضع أعضائه بعضها عن بعض فنقول إن تلك الأجزاء والجهات من أعضائه يجب أن ترتسم في جسم وتختلف جهات تلك الصورة في جهات ذلك الجسم وأجزاؤها في أجزائه ولننقل صورة زيد إلى صورة مربع " ا ب ج د " المحدود المقدار والجهة والكيفية واختلاف الزوايا بالعدد وليكن متصلاً بزاويتي " ا ب " منه مربعان كل واحد منهما مثل الآخر ولكل واحد جهة معينة لكنهما متشابها الصور ويرتسم من الجملة صورة شكل جزئية واحدة بالعدد في الخيال فنقول إن مربع " ا ه ر و " وقع غيرا بالعدد لمربع " ب ح ط ي " ووقع في الخيال منه بجانب اليمين ومتميزاً عنه بالوضع في الخيال فلا يخلو إما أن تكون لصورة المربعية أو تكون لعارض خاص له في المربعية غير صورته أو يكون للمادة التي تنطبع فيها ولا يجوز أن يكون مغايرته له من جهة الصورة المربعية وذلك أنا فرضناهما متشاكلين متشابهين متساويين ولا يجوز أن يكون ذلك لعارض يخصه - أما أولا فلأنا لا نحتاج في تخيله يميناً إلى اعتبار إيقاع عارض فيه ليس في ذلك وأما ثانياً فلأن ذلك العارض إما أن يكون شيئاً فيه نفسه لذاته أو يكون شيئاً له بالقياس إلى ما هو شكله في الموجودات حتى يكون كأنه شكل منزوع عن موجود هو بهذه الحال أو يكون شيئاً له بالقياس إلى القوة القابلة أو يكون شيئاً له بالقياس إلى المادة الحاملة - ولا يجوز أن يكون شيئاً له في نفسه من العوارض التي الصفحة : 143 تخصه لأنه إما أن يكون لازماً أو زائلاً ولا يجوز أن يكون لازماً له بالذات إلا وهو لازم لمشاركه في النوع فإن المربعين وضعا متساويين في النوع فلا يكون لهذا عارض لازم ليس لذلك - وأيضاً فإنه لا يجوز إن كان هو في قوة غير متجزئة أن يعرض له شيء دون الآخر الذي هو مثله ومحلهما واحد غير متجز وهو القوة القابلة ولا يجوز أن يكون زائلاً لأنه يجب إذا زال ذلك الأمر أن يتغير صورته في الخيال والخيال إنما يتخيله هكذا لا بسبب شيء يقرنه به بل يتخيله كذلك كيف كان ولهذا لا يجوز أن يقال إن فرض الفارض جعله بهذا الحال كما يجوز أن يقال في مثله المعقول منه وذلك لأنه لا تبقى المسألة بحالها فيقال كيف أمكن الفارض أن يفرضه بهذا الحال فتميز عن الثاني وما الشيء الذي يعمله به حتى يفرض هذا هكذا وذلك كذلك - وأما في الكلي فهناك حصل ذلك بأمر يقرنه به العقل وهو حد التيامن مع حد القياس وذلك الحد لأمر معقول كلي يصح - وأما لهذا الجزئي فليس يوجد له هذا الحد دون صاحبه إلا لأمر به يستحق زيادة هذا الحد دون صاحبه ولا الخيال يفرضه هكذا بشرط يقرنه به بل يتخيله كذلك دفعة على أنه في نفسه كذلك لا يفرضه فيتخيل هذا يميناً وذاك يساراً إلا بسبب شرط يقترن بذلك أو بهذا - وحد التيامن والتياسر يلحق هناك المربع وهو مربع لم يعرض له شيء آخر لحوق الكلي بالكلي وأما ههنا فما لم يقع له أولاً وضع محدود جزئي فلا يقع تحت الحد ليس الفرض ههنا يجعله بذلك الوضع في الخيال بل وقوع ذلك الوضع الخيالي يجعله بحيث يصدق عليه الفرض والخيال ليس عنده حد البتة لأن الحد كلي فكيف يلحق هو به الحد فقد بطل أن يكون هذا التمييز بسبب تمارض لازم: وغير لازم في ذاته أو مفروض تتقول ولا يجوز أن يكون ذلك بالقياس إلى الشيء الموجود الذي هو خياله وذلك لأنه كثيراً ما يتخيل ما ليس - ولا يكون نسبة البتة إلى ما ليس - وأيضاً فإن وقع لأحد المربعين نسبة إلى جسم وللمربع الآخر نسبة أخرى فليس يجوز أن يقع ومحلهما غير منقسم فليس أحد المربعين الخياليين أولى بأن ينسب لأحد المربعين نسبته إلى جسم وللمربع الآخر نسبة أخرى فليس يجوز أن يقع محملهما غير منقسم فليس أحد المربعين الخياليين أولى بأن ينسب إلى أحد المربعين الموجودين دون الآخر إلا أنه يكون قد وقع هذا في نسبة للحامل إلى الجسم لا يقع الآخر فيها فيها فيكون إذاً محل ذلك غير محل هذا - وتكون القوة منقسمة ولا تنقسم بذاتها بل بانقسام ما هي فيه فتكون جسمانية والصورة مرتسمة في جسم فإذاً ليس يصح أن يفترق المربعان في الخيال لافتراق المربعين الموجودين وبالقياس إليهما فبقي أن يكون ذلك إما بسبب الصفحة : 144 افتراق الجزء من القوة القابلة أو الجزء من الآلة التي بها تفعل القوة وكيف كان فإن الحاصل يبقى أن الإدراك بمادة جسمانية - أما القوة القابلة فلأنها لا تنقسم إلا بانقسام مادتها - وأما الآلة الجسمانية فهي التي إياها نعني فقد اتضح أن الإدراك الخيالي هو أيضاً بجسم ومما يبين ذلك أنا إنما نتخيل الصورة الخيالية كصورة الانسان مثلاً أكبر وأصغر ولا محالة أنها ترتسم وهي أكبر وترتسم وهي أصغر في شيء لا في مثل ذلك الشيء بعينه لأنها إن ارتسمت في مثل ذلك الشيء فالتفاوت في الصغر والكبر إما أن يكون بالقياس إلى المأخوذ عنه الصورة - إما بالقياس إلى الآخذ - وإما بالقياس إلى الصورتين وليس يجوز أن يكون بالقياس إلى المأخوذ عنه - فكثير من الصور الخيالية غير مأخوذ عن شيء البتة ولا يجوز أن يكون بسبب الصورتين في أنفسهما فإنهما لما اتفقا في الحد والماهية واختلفا في الصغر والكبر فليس ذلك لنفسيهما فإذاً ذلك بالقياس إلى الشيء القابل لأن الصورة تارة ترتسم في جزء منه أكبر وتارة في جزء منه أصغر - وأيضاً فإنه ليس يمكننا أن نتخيل السواد والبياض في شبح خيالي واحد معاً - ويمكننا ذلك في جزئين منه ولو كان الجزآن لا يتميزان في الوضع بل كان كلا الخيالين يرتسمان في شيء غير منقسم لكان لا يفترق الأمر بين المعتذر منهما وبين الممكن فإذاً الجزآن متميزان في الوضع - ولما علمت في الخيال فقد علمت في الوهم الذي ما يدركه إنما يدركه متعلقاً بصور جزئية خيالية على ما أوضحنا قبل. الصفحة : 145 فصل في تفصيل الكلام على تجرد الجوهر الذي هو محل المعقولات ثم نقول إن الجوهر الذي هو محل المعقولات ليس بجسم ولا قائم بجسم على أنه فوق فيه أو صورة له بوجه فإنه إن كان محل المعقولات جسماً أو مقداراً من المقادير فإما أن يكون محل الصور فيه طرفاً منه لا ينقسم أو يكون إنما يحل منه شيئاً منقسماً ولنمتحن أولاً أنه هل يمكن أن يكون طرفاً غير منقسم فأقول أن هذا محال وذلك أن النقطة هي نهاية ما لا تميز لها في الوضع عن الخط والمقدار الذي هو منته إليها حتى ينتقش فيها شيء من غير أن يكون ذلك النقش في جزء من ذلك الخط بل كما أن النقطة لا تنفرد بذاتها وإنما هي طرف ذاتي لما هو بالذات مقدار كذلك إنما يجوز أن يقال بوجه ما أنه يحل فيها شيء إذا كان ذلك الشيء حالاً في المقدار الذي هي طرفه فيتقدر بها بالعرض فكما أنه يتقدر بها بالعرض كذلك يتناهى بالعرض مع النقطة ولو كانت النقطة منفردة تقبل شيئاً من الأشياء لكان يتميز لها ذات فكانت النقطة حينئذ ذات جهتين جهة منها تلي الخط الذي تميزت عنه وجهه منها مخالفة لها مقابلة فتكون حينئذ منفصلة عن الخط وللخط نهاية غيرها يلاقيها فتكون تلك النقطة نهاية الخط لا هذه والكلام فيها وفي هذه النقطة واحد ويؤدي هذا إلى أن تكون النقط متشافعة في الخط إما متناهية وإما غير متناهية وهذا أمر قد بان لنا في مواضع أخرى استحالته فقد بان أن النقط لا تتركب بتشافعها وبان أيضاً أن النقطة لا يتم لها وضع خاص ونشير إلى طرف منها فنقول إن النقطتين حينئذ اللتين يطيفان بنقطة واحدة من جنبتيها إما أن تكون النقطة المتوسطة تحجز بينهما فلا يتماسان فيلزم حينئذ في البديهة العقلية الأولية أن يكون كل واحد منهما يختص بشيء من الوسطى تماسه فتنقسم حينئذ الواسطة وهذا محال وإما أن تكون الوسطى لا تحجز المكتنفتين عن التماس فحينئذ تكون الصورة المعقولة حالة في جميع النقط وجميع النقط كنقطة واحدة وقد وضعنا هذه النقطة الواحدة منفصلة عن الخط فللخط من جهة ما ينفصل عنها طرف غيرها به ينفصل عنها فتلك النقطة تكون مباينة لهذه في الوضع وقد وضعت النقط كلها مشتركة في الوضع هذا خلف فقد بطل أن يكون محل المعقولات من الجسم شيئاً غير منقسم فبقي أن يكون محلها من الجسم إلى كان محلها جسماً شيئاً منقسماً فلنفرض صورة معقولة في شيء منقسم فإذا فرضناها في الشيء المنقسم انقساماً ما عرض للصورة أن تنقسم - فحينئذ لا يخلو إما أن يكون الجزآن الصفحة : 146 متشابهين أو غير متشابهين فإن كانا متشابهين فكيف يجتمع منهما ما ليس إياهما - اللهم إلا أن يكون ذلك الشيء شيئاً يحصل فيهما من جهة الزيادة في المقدار أو الزيادة في العدد لا من جهة الصورة فيكون حينئذ للصورة المعقولة شكل ما أو عدد ما وليس صورة معقولة بمشكلة وتصير حينئذ الصورة خيالية لا عقلية وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال أن كل واحد من الجزأين هو بعينه الكل في المعنى لأن الثاني إن كان غير داخل في معنى الكل فيجب أن نضع في الابتدا معنى الكل لهذا الواحد لا لكليهما وإن كان داخلاً في معناه فمن البين الواضح أن الواحد منهما وحده ليس يدل عليه على التمام وإن كانا غير متشابهين فلننظر كيف يمكن أن يكون للصورة المعقولة أجزاء غير متشابهة فإنه ليس يمكن أن تكون الأجزاء الغير المتشابهة إلا أجزاء الحد التي هي الأجناس والفصول ويلزم من هذا محالات منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضاً في القوة قبولاً غير متناه فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالقوة غير متناهية وقد صح أن الأجناس والفصول الذاتية للشيء الواحد ليست في القوة غير متناهية ولأنه ليس يمكن أن يكون توهم القسمة يفيد الجنس والفصل تميزاً بينهما بل ما لا يشك فيه أنه إذا كان هناك جنس وفصل يستحقان تمييزاً في المحل أن ذلك التمييز لا يتوقف على توهم القسمة فيجب أن تكون الأجناس والفصول بالفعل أيضاً غير متناهية - وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشيء الواحد متناهية من كل وجه - ولو كانت غير متناهية بالفعل لما كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعاً على هذه الصورة فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية وأيضاً لتكن القسمة وقعت من جهة فأفرزت من جانب جنساً ومن جانب فصلاً فلو غيرنا القسمة لكان يقع منها في جانب نصف جنس ونصف فصل أو كان ينقلب الجنس إلى مكان الفصل والفصل إلى مكان الجنس فكان فرضنا الوهمي يدور مقام الجنس والفصل فيه وكان يغير كل واحد منهما إلى جهة ما بحسب إرادة من بدن خارج على أن ذلك أيضاً لا يفنى فإنه يمكننا أن نوقع قسماً في قسم وأيضاً ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط منه فإن ههنا معقولات هي أبسط المعقولات ومباد للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ولا هي منقسمة في الكم ولا هي منقسمة في المعنى فإذاً ليس يمكن أن تكون الأجزاء المتوهمة فيه غير متشابهة كل واحد منها هو في المعنى غير الكل وإنما يحصل الكل بالاجتماع فإذا كان ليس يمكن أن تنقسم الصورة المعقولة ولا أن تحل طرفاً من المقادير غير منقسم ولا بد الصفحة : 147 لها من قابل فينا فبين أن محل المعقولات جوهر ليس بجسم ولا أيضاً قوة في جسم فيلحقه ما يلحق الجسم من الانقسام ثم يتبعه سائر المحالات. برهان آخر في المبحث المذكور ولنا أن نبرهن على هذا ببرهان آخر - فنقول إن القوة العقلية هي التي تجرد المعقولات عن الكم المحدود والأين والوضع وسائر ما قيل فيجب أن ننظر في ذات هذه الصورة المجردة عن الوضع كيف هي مجردة عنه هل ذلك التجرد بالقياس إلى الشيء المأخوذ منه أو بالقياس إلى الشيء الآخذ أعني أن هذه الذات المعقولة تتجرد عن الوضع في الوجود الخارجي أو في الوجود المتصور في الجوهر العاقل ومحال أن تكون كذلك في الوجود الخارجي فبقي أن تكون إنما هي مفارقة للوضع والأين عند وجودها في العقل فإذاً إذا وجدت في العقل لم تكن ذات وضع وبحيث تقع إليها إشارة تجزي أو انقسام أو شيء مما أشبه هذا المعنى فلا يمكن أن تكون في جسم - وأيضاً إذا انطبعت الصورة الأحدية الغير المنقسمة التي هي لأشياء غير منقسمة في المعنى في مادة منقسمة ذات جهات فلا يخلو إما أن يكون ولا لشيء من أجزائها " أجزاء المادة " التي تفرض فيها بحسب جهاتها نسبة إلى الشيء المعقول الواحد الذات الغير المنقسم المتجرد عن المادة أو يكون ذلك لكل واحد من أجزائها التي تفرض أو يكون لبعضها دون بعض فإن لم يكن ولا لشيء منها نسبة فليس ولا لكلها لا محالة نسبة وإن كان لبعضها نسبة إليه دون بعض فالبعض الذي لا نسبة له إليه ليس هو من معناه في شيء وإن كان لكل جزء يفرض نسبة ما فإما أن يكون لكل جزء يفرض نسبة إلى الذات بأسرها أو إلى جزء من الذات فإن كان لكل جزء يفرض نسبة إلى الذات بأسرها فليست الأجزاء إذاً أجزاء معنى المعقول بل كل واحد منها معقول في نفسه مفرد بل المعقول كما هو فيكون معقولاً مرات لا نهاية لها بالفعل في آن واحد وإن كان كل جزء له نسبة غير الأخرى إلى الذات فيلزم أن الذات مقسمة في العقل وقد وضعناها غير منقسمة هذا خلف وإن كان نسبة كل واحد إلى شيء من الذات غير ما إليه نسبة الآخر فانقسام الذات أظهر إلا أنه لا يعقل ومن هذا يتبين أن الصور المنطبعة في المادة لا تكون إلا أشباحاً لأمور جزئية منقسمة ولكل جزء منها بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها وأيضاً فإن الشيء المتكثر أيضاً في أجزاء الحد له من جهة التمام وحده وهي مما لا ينقسم فتلك الوحدة بما هي وحدة كيف ترتسم في المنقسم وإلا فيعرض أيضاً ما قلنا في غير المتكثر أجزاء حده - وأيضاً فإنه قد يصح لنا أن المعقولات الصفحة : 148 المفروضة التي من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحداً واحداً منها غير متناهية بالقوة ليس واحد أولى من الآخر - وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسماً ولا قوة في جسم قد برهن على هذا في السماع الطبيعي فلا يجوز إذاً أن تكون الذات القابلة للمعقولات قائمة في جسم البتة ولا عقلها بكائن في جسم ولا بجسم. فصل في إن تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية ونقول إن القوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة ولا أن تعقل أنها عقلت فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة وليس بينهما وبين أنها عقلت آلة لكنها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى آلتها وأنها عقلت فإذاً إنما تعقل بذاتها لا بالآلة وأيضاً لا يخلو إما أن يكون تعقلها آلتها بوجود ذات صورة آلتها إما تلك وإما أخرى مخالفة لها وهي صورتها أيضاً فيها وفي آلتها أو لوجود صورة أخرى غير صورة آلتها تلك فيها وفي آلتها فإن كان لوجود صورة آلتها فصورة آلتها في آلتها وفيها بالشركة دائماً فيجب أن تعقل آلتها التي كانت تعقل لوصول الصورة إليها - وإن كان لوجود صورة غير تلك الصورة فإن المغايرة بين أشياء مشتركة في حد واحد إما لاختلاف المواد وإما لاختلاف ما بين الكلي والجزئي والمجرد عن المادة والموجود في المادة وليس ههنا اختلاف مواد فإن المادة واحدة وليس ههنا اختلاف التجريد والوجود في المادة فإن كليهما في المادة وليس ههنا اختلاف بالخصوص والعموم لأن أحدهما إنما يستفيد الجزئية بسبب المادة الجزئية واللواحق التي تلحقها من جهة المادة التي فيها وهذا المعنى لا يختص بأحدهما دون الآخر ولا يجوز أن يكون لوجود صورة أخرى معقولة غير صورة آلتها - فإن هذه أشد استحالة لأن الصورة المعقولة إذا حلت الجوهر القابل جعلته عاقلاً لما تلك الصورة صورته أو لما تلك الصورة مضافة إليه فتكون صورة المضاف داخلة في هذه الصورة وهذه الصورة المعقولة ليست صورة هذه الآلة ولا أيضاً صورة شيء مضاف إليها بالذات - لأن ذات هذه الآلة جوهر ونحن إنما نأخذ ونعتبر صورة ذاته والجوهر في ذاته غير مضاف إليه فهذا برهان عظيم على أنه لا يجوز أن يدرك المدرك لآلة هي آلته في الادراك ولهذا كان الحس إنما يحس شيئاً خارجاً ولا يحس ذاته ولا آلته ولا إحساسه وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته بل أن تخيل آلته تخيلها لا على نحو يخصها بأنه لا محالة لها دون غيرها إلا أن يكون الحس أورد عليه صورة آلته لو أمكن فيكون حينئذ إنما يحكي الصفحة : 149 خيالاً مأخوذاً من الحس غير مضاف عنده إلى شيء حتى لو لم يكن هو آلته كذلك لم يتخيله. برهان آخر في هذا المبحث وأيضاً مما يشهد لنا بهذا ويقنع فيه أن القوى الدراكة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها من إدامة العمل أن تكل لأجل أن الآلات تكلها إدامة الحركة وتفسد مزاجها الذي هو جوهرها وطبيعتها والأمور القوية الشاقة الادراك توهنها وربما أفسدتها وحتى لا تدرك بعدها إلا ضعف منها لانغماسها في الانفعال عن الشاق كما في الحس فإن المحسوسات الشاقة المتكررة تضعفه وربما أفسدته كالضوء للبصر والرعد الشديد للسمع وعند إدراك القوى لا يقوى على إدراك الضعيف فإن المبصر ضوءً عظيماً لا يبصر معه ولا عقيبه نوراً ضعيفاً والسامع صوتاً عظيماً لا يسمع معه ولا عقيبه صوتاً ضعيفاً ومن ذاق الحلاوة الشديدة لا يحس بعدها بالضعيفة والأمر في القوة العقلية بالعكس فإن أدامتها للتعقل وتصورها للأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول لما بعدها مما هو أضعف منها - فإن عرض لها في بعض الأوقات ملال وكلال فذلك لاستعانة العقل بالخيال المستعمل للآلة التي تكل هي فلا تخدم العقل ولو كان لغير هذا لكان يقع دائماً وفي أكثر برهان ثالث وأيضاً فإن البدن تأخذ أجزاؤه كلها تضعف قواها بعد منتهى النشؤ والوقوف وذلك دون الأربعين أو عند الأربعين وهذه القوة إنما تقوى بعد ذلك في أكثر الأمر ولو كانت من القوى البدنية لكان يجب دائماً في كل حال أن تضعف حينئذ لكن ليس يجب ذلك إلا في أحوال وموافاة عوائق دون جميع الأحوال فليست إذاً من القوى البدنية. الصفحة : 150 سؤال وشرح شاف للإجابة عنه وأما الذي يتوهم من أن النفس تنسى معقولاتها ولا تفعل فعلها مع مرض البدن عند الشيخوخة أن ذلك لها بسبب أن فعلها لا يتم إلا بالبدن - فظن غير ضروري ولاحق - وذلك أنه بعد ما صح لنا أن النفس تعقل بذاتها يجب أن نطلب العلة في هذا العارض المشكك فإن كان يمكن أن يجتمع أن للنفس فعلاً بذاتها وإنها أيضاً تترك فعلها مع مرض البدن ولا تفعل من غير تناقض فليس لهذا الاعتراض إعتبار - فنقول إن النفس لها فعل بالقياس إلى البدن وهو السياسة وفعل بالقياس إلى ذاتها إلى مبادئها وهو التعقل وهما متعاندان متمانعان فإنهما إذا اشتعلت بأحدهما إنصرفت عن الآخر - ويصعب عليها الجمع بين الأمرين - وشواغلها من جهة البدن الاحساس والتخييل والشهوة والغضب والخوف والغم والوجع - وأنت تعلم هذا بأنك إذا أخذت تفكر في المعقول تعطل عليك كل شيء من هذه إلا أن تغلب وتقسر النفس بالرجوع إلى جهتها وأنت تعلم أن الحس يمنع النفس عن التعقل فإن النفس إذا أكبت على المحسوس شغلت عن المعقول من غير أن يكون أصاب آلة العقل أو ذاتها آفة بوجه وتعلم أن السبب في ذلك هو اشتغال النفس بفعل دون فعل فلهذا السبب ما يتعطل أفعال العقل عند المرض ولو كانت الصورة المعقولة قد بطلت وفسدت لأجل الآلة لكان رجوع الآلة إلى حالها يحوج إلى اكتساب من الرأس وليس الأمر كذلك فإنه قد تعود النفس عاقلة لجميع ما عقلته بحاله فقد كان إذا ما كسبته موجوداً معها بنوع ما إلا أنها كانت مشغولة عنه - وليس اختلاف جهتي فعل النفس فقط يوجب في أفعالها التمانع بل تكثر أفعال جهة واحدة قد يوجب هذا بعينه فإن الخوف يشغل عن الجوع - والشهوة تصد عن الغضب والغضب يصرف عن الخوف والسبب في جميع ذلك واحد وهو انصراف النفس بالكلية إلى أمر واحد فإذاً ليس يجب إذا لم يفعل شيء فعله عند اشتغاله بشيء أن لا يكون فاعلاً فعله إلا عند وجود ذلك الشيء - ولنا أن نتوسع في بيان هذا الباب - إلا أن بلوغ الكفاية يسبب الانسياق إلى تكلف ما لا يحتاج إليه فقد ظهر من أصولنا التي قررناها أن النفس ليست منطبعة في البدن ولا قائمة به - فيجب أن يكون سبيل إختصاصها به سبيل مقتضى هيئة فيها جزئية الصفحة : 151 فصل في إعانة القوى الحيوانية للنفس الناطقة ثم نقول إن القوى الحيوانية تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن الحس يورد عليها الجزئيات فيحدث لها من الجزئيات أمور أربعة " أحدها " إنتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعن علائق المادة ولواحقها ومراعاة المشترك فيه والمتبين به والذاتي وجوده والعرضي وجوده فيحدث للنفس من ذلك مبادئ التصور وذلك بمعاونة إستعمالها للخيال والوهم " والثاني " إيقاع النفس مناسبات بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب وإيجاب فما كان التأليف فيها بسلب أو إيجاب بينا بنفسه أخذته وما كان ليس كذلك تركته إلى مصادفة الواسطة " والثالث " تحصيل المقدمات التجريبية وهو أن يوجد بالحس محمولاً لازم الحكم لموضوع لزوم الايجاب أو السلب أو منافياً له أو تالياً موجب الاتصال أو مسلوبه أو موجب العناد أو مسلوبه غير مناف له وليس ذلك في بعض الأحايين دون بعض ولا على المساواة بل دائماً حتى تسكن النفس إلى أن يتبين أن من طبيعة هذا المحمول أن تكون فيه هذه النسبة إلى هذا الموضوع - والتالي أن يلزم هذا المقدم أو ينافيه لذاته لا بالاتفاق فيكون ذلك إعتقاداً حاصلاً من حس وقياس - أما الحس فلأجل مشاهدة ذلك - وأما القياس فلأنه لو كان إتفاقياً لما وجد دائماً أو في أكثر الأمر وهذا كالحكم منا أن السقمونيا مسهل للصفراء بطبيعته لاحساسنا ذلك كثيراً وبقياسنا أنه لو كان لا عن الطبع بل عن الاتفاق لوجد في بعض الأحايين " والرابع " الأخبار التي يقع التصديق بها لشدة التواتر - فالنفس الانسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادئ للتصور ثم إذا حصلتها رجعت إلى ذاتها فإن عرض لها شيء من القوى التي دونها بأن يشتغل به شغلتها عن فعلها أو أضرت بفعلها إذا لم تشغلها فلا تحتاج إليها بعد ذلك في خاص فعلها إلا في أمور تحتاج النفس فيها خاصة إلى أن تعاود القوى الخيالية مرة أخرى لاقتناص مبدأ غير الذي حصل أو معاونه بإحضار خيال - وهذا يقع في الابتداء كثيراً ولا يقع بعده إلا قليلاً وأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الاطلاق وتكون القوى الحسية والخيالية وسائر القوى البدنية صارفة لها عن فعلها - ومثال هذا أن الانسان قد يحتاج إلى ذاته وآلات يتوصل بها إلى مقصد ما فإذا وصل إليه ثم إن عرض من الأسباب ما يحمله على مفارقته صار السبب الموصل بعينه عائقاً - ثم إن البراهين التي أقمناها على أن محل المعقولات أعني النفس الناطقة ليس بجسم ولا هي قوة في جسم فقد كفتنا مؤونة الاستشهاد على صحة قيام الصفحة : 152 النفس بذاتها مستغنية عن البدن إلا أنا نستشهد لذلك أيضاً من فعلها. ونقول إن الأنفس الانسانية متفقة في النوع والمعنى فإن وجدت قبل البدن فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتاً واحدة - ومحال أن تكون ذوات متكثرة وأن تكون ذاتاً واحدة على ما يتبين فمحال أن تكون قد وجدت قبل البدن فنبدأ ببيان إستحالة تكثرها بالعدد - فنقول إن مغايرة الأنفس قبل الأبدان بعضها لبعض إما أن يكون من جهة الماهية والصورة وإما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة متكثرة بالأمكنة التي تشتمل كل مادة على جهة منها والأزمنة التي تختص كل نفس بواحد منها في حدوثها في مادتها - والعلل القاسمة لمادتها وليست متغايرة بالماهية والصورة لأن صورتها واحدة فإذاً إنما تتغاير من جهة قابل الماهية أو المنسوب إليه الماهية بالاختصاص - وهذا هو البدن - وأما قبل البدن فالنفس مجرد ماهية فقط فليس يمكن أن تغاير نفس نفساً بالعدد والماهية لا تقبل إختلافاً ذاتياً وهذا مطلق في كل شيء فإن الأشياء التي ذواتها معان فقط فتكثر نوعياتها إنما هو بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها أو بنسبة ما إليها وإلى أزمنتها فقط - وإذا كانت مجردة أصلاً لم تفترق بما قلنا فمحال أن يكون بينها مغايرة وتكاثر فقد بطل وأن تكون الأنفس قبل دخولها الأبدان متكثرة الذات بالعدد - فأقول ولا يجوز أن تكون واحدة الذات بالعدد لأنه إذا حصل بدنان حصل في البدنين نفسان - فأما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة فيكون الشيء الواحد الذي ليس له عظم وحجم منقسماً بالقوة - وهذا ظاهر البطلان بالأصول المتقررة في الطبيعيات - وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين وهذا لا يحتاج أيضاً إلى كثير تكلف في أبطاله فقد صح إذاً أن النفس تحدث كلما يحدث البدن الصالح لاستعمالها إياه ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ذلك البدن الذي استحق حدوثها من المبادئ الأولية نزاع طبيعي إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحوله والانجذاب إليه يخصها به ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع إلا بواسطته فلابد أنها إذا وجدت متشخصة فإن مبدأ تشخيصها يلحق بها من الهيئات ما تتعين به شخصاً وتلك الهيئات تكون مقتضية لاختصاصها بذلك البدن ومناسبة لصلوح أحدهما للآخر وإن خفي علينا تلك الحال وتلك المناسبة وتكون مبادئ الاستكمال متوقعة لها بواسطته وتزيد فيه بالطبع لا بواسطته وأما بعد مفارقة البدن فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتاً منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها الصفحة : 153 المختلفة لا محالة بأحوالها. فصل في أن النفس لا تموت بموت البدن ولا تقبل الفساد ونقول أنها لا تموت بموت البدن ولا تقبل الفساد أصلاً أما أنها لا تموت بموت البدن فلأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعاً من التعلق وكل متعلق بشيء نوعاً من التعلق فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود - وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتقدم عليه في الوجود الذي هو قبله بالذات لا بالزمان - فإن كان تعلق النفس بالبدن تعلق المكافئ في الوجود وذلك أمر ذاتي له لا عارض فكل واحد منهما مضاف الذات إلى صاحبه فليس لا النفس ولا البدن بجوهر لكنهما جوهران - وإن كان ذلك الأمر عرضياً لا ذاتياً فإن فسد أحدهما بطل العارض الآخر من الاضافة ولم تفسد الذات بفساده وإن كان تعلقه به تعلق المتأخر عنه في الوجود فالبدن علة للنفس في الوجود حينئذ والعلل أربع فإما أن يكون البدن علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود - وإما أن يكون علة قابلية لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم - وإما أن يكون علة صورية - وإما أن يكون علة كمالية ومحال أن يكون علة فاعلية فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئاً وإنما يفعل بقواه ولو كان يفعل بذاته لا بقواه لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل ثم القوى الجسمانية كلها إما أعراض وأما صور مادية ومحال أن تفيد الأعراض أو الصور القائمة بالمواد وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة ووجود جوهر مطلق ومحال أيضاً أن يكون علة قابلية فقد بينا وبرهنا أن النفس ليست منطبعة في البدن بوجه من الوجوه فلا يكون إذاً البدن متصوراً بصورة النفس لا بحسب البساطة ولا على سبيل التركيب بأن يكون أجزاء من أجزاء البدن تتركب وتمتزج تركيباً ومزاجاً ما فتنطبع فيها النفس - ومحال أن يكون علة صورية للنفس أو كمالية فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس فإذاً ليس تعلق النفس بالبدن تعلق معلول بعلة ذاتية - نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس فإنه إذا حدثت مادة بدن يصلح أن يكون آلة النفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية - وحدث عنها ذلك لأن أحداثها بلا سبب مخصص أحداث واحدة دون واحدة محال ومع ذلك يمتنع وقوع الكثرة فيها بالعدد لما قد بيناه ولأنه لابد لكل كائن بعد ما لم يكن من أن تتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله أو تهيؤ لنسبته إليه كما تبين في الصفحة : 154 العلوم الأخرى ولأنه لو كان يجوز أيضاً أن تكون النفس الجزئية تحدث ولم يحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شيء معطل في الطبيعة ولكن إذا حدث التهيؤ للنسبة والاستعداد للآلة يلزم حينئذ أن يحدث من العلل المفارقة شيء هو النفس وليس إذا وجب حدوث شيء مع حدوث شيء يجب أن يبطل مع بطلانه - إنما يكون ذلك إذا كانت ذات الشيء قائمة بذلك الشيء وفيه - وقد تحدث أمور عن أمور وتبطل هذه الأمور وتبقى تلك الأمور إذا كانت ذواتها غير قائمة فيها وخصوصاً إذا كان مفيد الوجود لها شيئاً آخر غير الذي إنما تهيأ أفادة وجودها مع وجوده ومفيد وجود النفس شيء غير جسم كما بينا ولا قوة في جسم بل هو لا محالة جوهر آخر غير جسم فإذا كان وجوده من ذلك الشيء ومن البدن يحصل وقت استحقاقه للوجود فقط فليس له تعلق في نفس الوجود بالبدن ولا البدن علة له إلا بالعرض فلا يجوز إذاً أن يقال إن التعلق بينهما على نحو يوجب أن يكون الجسم متقدماً تقدم العلية بالذات على النفس - وأما القسم الثالث مما كنا ذكرنا في الابتدا وهو أن يكون تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم في الوجود. فأما أن يكون التقدم مع ذلك زمانياً فيستحيل أن يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان. وأما أن يكون التقدم في الذات لا في الزمان لأنه في الزمان لا يفارقه وهذا النحو من التقدم هو أن تكون الذات المتقدمة كلما توجد يلزم أن يستفاد عنها ذات المتأخر في الوجود. وحينئذ لا يوجد هذا المتقدم في الوجود إذا فرض المتأخر قد عدم لا أن فرض عدم المتأخر أوجب عدم المتقدم ولكن لأن المتأخر لا يجوز أن يكون عدم إلا وقد عرض أولاً بالطبع للمتقدم ما أعدمه فحينئذ عدم المتأخر فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم ولكن فرض عدم المتقدم نفسه لأنه إنما افترض المتأخر معدوماً بعد أن عرض للمتقدم أن عدم في نفسه. وإذا كان كذلك فيجب أن يكون السبب المعدم يعرض في جوهر النفس فيفسد معه البدن وأن لا يكون البتة البدن يفسد بسبب يخصه لكن فساد البدن يكون بسبب يخصه من تغير المزاج أو التراكيب فباطل أن تكون النفس تتعلق بالبدن تعلق المتقدم بالذات ثم يفسد البدن البتة بسبب في نفسه فليس إذاً بينهما هذا التعلق. وإذا كان الأمر على هذا فقد بطل أنحاء التعلق كلها وبقي أن لا تعلق للنفس في الوجود بالبدن بل تعلقه في الوجود بالمبادئ الأخر التي لا تستحيل ولا تبطل - وأما أنها لا تقبل الفساد أصلاً - فأقول أن سبباً آخر لا يعدم النفس البتة وذلك أن كل شيء من شأنه أن يفسد بسبب ما ففيه قوة أن يفسد وقبل الفساد فيه فعل أن الصفحة : 155 يبقى ومحال أن يكون من جهة واحدة في شيء واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى بل تهيؤه للفساد ليس لعلة أن يبقى فإن معنى القوة مغاير لمعنى الفعل - وإضافة هذه القوة مغايرة لإضافة هذا الفعل لأن إضافة ذلك إلى الفساد وإضافة هذا إلى البقاء فإذاً لأمرين مختلفين في الشيء يوجد هذان المعنيان - فنقول إن الأشياء المركبة والأشياء البسيطة التي هي قائمة في المركبة يجوز أن يجتمع فيها فعل أن يبقى وقوة أن يفسد - وأما في الأشياء البسيطة المفارقة الذات فلا يجوز أن يجتمع هذان الأمران - وأقول بوجه آخر مطلق أنه لا يجوز أن يجتمع في شيء أحدي الذات هذان المعنيان - وذلك لأن كل شيء يبقى وله قوة أن يفسد فله قوة أيضاً أن يبقى لأن بقاءه ليس بواجب ضروري - وإذا لم يكن واجباً كان ممكناً والإمكان هو طبيعة القوة فإذاً يكون له في جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى لا محالة ليس هو قوة أن يبقى منه وهذا بين - فيكون إذاً فعل أن يبقى منه أمر يعرض للشيء الذي له قوة أن يبقى منه فتلك القوة لا تكون لذات ما بالفعل بل للشيء الذي يعرض لذاته أن يبقى بالفعل لا أنه حقيقة ذاته فيلزم من هذا أن تكون ذاته مركبة من شيء إذا وجد له كان به ذاته موجوداً بالفعل وهو الصورة في كل شيء ومن شيء حصل له هذا الفعل وفي طباعه قوته وهو مادته. فإن كانت النفس بسيطة مطلقة لم تنقسم إلى مادة وصورة - فلم تقبل الفساد وإن كانت مركبة فلنترك المركب ولننظر في الجوهر الذي هو مادته ولنصرف القول إلى نفس مادته ولنتكلم فيها ونقول إن تلك المادة إما أن تنقسم هكذا دائماً ويثبت الكلام دائماً وهذا محال وإما أن لا يبطل الشيء الذي هو الجوهر والسنخ وكلامنا في هذا الشيء الذي هو السنخ والأصل لا في شيء مجتمع منه ومن شيء آخر - فبين أن كل شيء هو بسيط غير مركب أو هو أصل مركب وسنخه فهو غير مجتمع فيه فعل أن يبقى وقوة أن يعدم بالقياس إلى ذاته فإن كانت فيه قوة أن يعدم فمحال أن يكون فيه فعل أن يبقى وإذا كان فيه فعل أن يبقى وأن يوجد فليس فيه قوة أن يعدم - فبين إذا أن جوهر النفس ليس فيه قوة أن يفسد - وأما الكائنات التي تفسد فإن الفاسد منها هو المركب المجتمع وقوة أن تفسد وأن تبقى ليس في المعنى الذي به المركب واحد بل في المادة التي هي بالقوة قابلة كلا الضدين فليس إذاً في الفاسد المركب لا قوة أن يبقى ولا قوة أن يفسد فلم يجتمعا فيه وأما المادة فإما أن تكون باقية لا بقوة تستعد بها للبقاء كما يظن قوم. وإما أن تكون باقية بقوة بها تبقى وليس لها قوة أن تفسد بل قوة أن تفسد لشيء آخر فيها يحدث والبسائط التي في المادة فإن قوة فسادها هو للمادة لا في الصفحة : 156 جوهرها والبرهان الذي يوجب أن كل كائن فاسد من جهة تناهي قوتي البقاء والبطلان إنما يوجب فيما كونه من مادة وصورة ويكون في المادة قوة أن تبقى فيه هذه الصورة وقوة أن تفسد هي فيه مما فقد بان إذاً أن النفس البتة لا تفسد - وإلى هذا سقنا كلامنا - وهذا ما أردناه. فصل في بطلان القول بالتناسخ وقد أوضحنا أن الأنفس إنما حدثت وتكثرت مع تهيؤ الأبدان على أن تهيؤ الأبدان يوجب أن يقتضي وجود النفس لها من العلل المفارقة وظهر من ذلك أن هذا لا يكون على سبيل الاتفاق والبخت حتى يكون ليس وجود النفس الحادثة لاستحقاق هذا المزاج نفساً تدبره حادثة ولكن كان يوجد نفس واتفق أن وجد معه بدن فحينئذ لا يكون للتكثر علة ذاتية البتة بل عرضية: وقد عرفنا أن العلل الذاتية هي أولاً ثم العرضية فإذا كان كذلك فكل بدن يستحق مع حدوث مزاجه حدوث نفس له وليس بدن يستحقه وبدن لا يستحقه إذ أشخاص الأنواع لا تختلف في الأمور التي بها تتقوم - فإذا فرضنا نفساً تناسختها أبدان وكل بدن فإنه ذاته يستحق نفساً تحدث له وتتعلق به فيكون البدن الواحد فيه نفسان معاً - ثم العلاقة بين النفس والبدن ليس هي على سبيل الانطباع فيه كما قلنا بل علاقة الاشتغال به حتى تشعر النفس بذلك البدن وينفعل البدن عن تلك النفس وكل حيوان فإنه يستشعر نفسه نفساً واحدة هي المصرفة والمدبرة فإن كان هناك نفس أخرى لا يشعر الحيوان بها ولا هي بنفسها ولا تشتغل بالبدن فلس لها علاقة مع البدن لأن العلاقة لم تكن إلا بهذا النحو فلا يكون تناسخ بوجه من الوجوه - وبهذا المقدار لمن أراد الاختصار كفاية بعدان فيه كلاماً طويلاً. الصفحة : 157 فصل في وحدة النفس ونقول إن النفس ذات واحدة ولها قوى كثيرة ولو كان قوي النفس لا تجتمع عند ذات واحدة بل يكون للحس مبدأ على حدة وللغضب مبدأ على حدة ولكل واحدة من الأخرى مبدأ على حدة لكان الحس إذا ورد عليه شيء فإما أن نرد ذلك المعنى على الغضب أو الشهوة فتكون القوة التي بها تغضب عن بعضها بحس وتتخيل - فتكون القوة الواحدة تصدر عنها أفعال مختلفة الأجناس - أو يكون قد اجتمع الإحساس والغضب في قوة واحدة فلا يكون إذا تفرقا في قوتين لا مجمع لهما بل لما كانت هذه تشغل بعضها بعضاً ويرد تأثير بعضها على بعض فإما أن يكون كل واحد منها من شأنه أن يستحيل باستحالة الآخر أو يكون شيء واحد هو يجمع هذه القوى - وكلها تؤدي إليه فتقبل عن كلها ما يورده والقسم الأول محال لأن كل قوة فعلها خاص بالشيء الذي قيل إنه قوة له وليس يصلح كل قوة لكل فعل فقوة الغضب بما هي قوة الغضب لا تحس وقوة الحس بما هي قوة الحس لا تغضب فبقي القسم الثاني وهو أنها كلها تؤدي إلى مبدء واحد - فإن قال قائل إن قوة الغضب ليس تنفعل عن الصورة المحسوسة لكن الحس إذا أحس بالمحسوس لزمه إنفعال قوة الغضب بالغضب وإن لم يكن ينفعل بصورة المحسوس - فالجواب عن هذا أن لا محال وذلك أن قوة الغضب إذا انفعلت عن قوة الحس فإما أن ينفعل عنه لأن تأثيرا وصل إليه منه وذلك التأثير هو تأثير ذلك المحسوس فيكون انفعل عن ذلك المحسوس - وكلما انفعل عن المحسوس بما هو محسوس فهو حاس - وأما أن يكون ينفعل عنه لا من جهة ذلك المحسوس فلا يكون الغضب من ذلك المحسوس وقد فرض من ذلك المحسوس هذا خلف وأيضاً فإنا نقول إنا لما أحسسنا بكذا غضبنا ويكون هذا كلاماً حقاً فيكون شيء واحد هو الذي أحس فغضب - وهذا الشيء الواحد إما أن يكون جسم الانسان أو نفسه. فإن كان جسم الانسان فإما أن يكون جملة أعضائه وإما أن يكون بعض أعضائه ولا يصح أن يكون جملة أعضائه فإنه لا يدخل في هذه اليد والرجل ولا يجوز أيضاً أن يكون عضوان من أعضائه هذا أحس وهذا غضب فإنه لا يكون حينئذ شيء واحد أحس فغضب - ولا أيضاً عضو واحد هو عند أصحاب هذا القول موضوع للأمرين جميعاً فعسى أن الحق هو أن قولنا إننا أحسسنا فغضبنا معناه أن شيئاً منا أحس وشيئاً منا غضب لكن مراد القائل إنا أحسسنا فغضبنا ليس أن هذا منا في شيئين بل أن الشيء الذي أدى إليه الحس هذا المعنى عرض له إن غضب - فإما أن يكون الصفحة : 158 هذا القول بهذا المعنى كاذباً. وإما أن يكون الحق هو أن الحاس والذي يغضب شيء واحد لكن هذا القول بين الصدق - فإذا الذي يؤدي إليه الحس محسوسة هو الذي يغضب وكونه بهذه المنزلة وإن كان جسماً فليس له بما هو جسم فهو إذاً له بما هو قوة بها يصلح لاجتماع هذين الأمرين فيه وهذه القوة ليست طبيعية فهي إذاً نفس فإذا ليس موضوع اجتماع هذين الأمرين جملة جسمنا ولا عضوين منا ولا عضواً واحداً بما هو طبيعي فبقي أن يكون المجتمع نفساً بذاتها أو جسماً من جهة ما هو ذو نفس بالحقيقة - فالمجتمع هو النفس ويكون ذلك النفس هو المبدأ لهذه القوى كلها ويجب أن يكون تعلقه بأي عضو يتولد فيه الحياة فمحال أن يحيا عضو بلا تعلق قوة نفسانية به وأن يكون أولى ما يتعلق بالبدن لا هذا المبدأ بل قوة تحدث بعده وإذا كان كذلك فيجب بتعلق هذا المبدأ هو القلب لا محالة وهذا الرأي مخالفة من الفيلسوف لرأي الآلهي " أفلاطون " وفيه موضع شك وهو إنا نجد القوى النباتية تكون في النبات ولا نفس حساسة ولا نفس ناطقة ويكونان معاً في الحيوان ولا نفس ناطقة فإذاً كل واحد منهما قوة أخرى غير متعلقة بالآخر والذي يجب أن يعرف حتى ينحل به هذا الشك أن الأجسام العنصرية يمنعها صرفية التضاد عن قبول الحياة - وكلما أمعنت في هدم صرفية التضاد وردته إلى التوسط الذي لا ضد له جعلت تقرب إلى شبه بالأجسام السماوية فتستحق بذلك القدر لقبول قوة محيية من المبدأ المفارق المدبر ثم إذا ازدادت قرباً من التوسط إزدادت قبولاً للحياة حتى تبلغ الغاية التي لا يمكن أن يكون أقرب منها إلى التوسط وأهدم للطرفين المتضادين فتقبل جوهراً مقارب الشبه من وجه ما للجوهر المفارق كما قبلته الجواهر السماوية واتصلت به فيكون حينئذ ما كان يحدث فيه قبل وجوده يحدث فيه منه ومن هذا الجوهر - ومثال هذا في الطبيعيات أن تتوهم مكان الجوهر المفارق ناراً بل شمساً - ومكان البدن جرماً يتأثر عن النار وليكن كوماً ما وليكن مكان النفس النباتية تسخينها إياه ومكان النفس الحيوانية إنارتها له ومكان النفس الانسانية إشتعالها فيه ناراً - فنقول إن ذلك الجسم المتأثر كالكوم إن كان ليس وضعه من ذلك المؤثر فيه وضعاً يقبل إضاءته وإنارته ويشتعل شيء منه عنه ولكنه يكون وضعاً يقبل تسخينه ولم يقبل غير ذلك فإن كان وضعه وضعاً يقبل تسخينه ومع ذلك فهو مكشوف له أو مستشف أو على نسبة إليه يستنير عنه إستنارة قوية فإنه يسخن عنه ويستضيء معاً فيكون الضوء الواقع فيه منه هو مبدأ أيضاً مع ذلك المفارق لتسخينه فإن الشمس تسخن بالشعاع ثم إن كان الاستعداد أشد وهناك ما من الصفحة : 159 شأنه أن يشتعل عن المؤثر الذي من شأنه أن يحرق بقوته أو شعاعه إشتعل فحدثت الشعلة جرماً شبيهاً بالمفارق من وجه ثم تلك الشعلة أيضاً تكون مع المفارق علة للتنوير والتسخين معاً ولو بقيت وحدها لاستمر التنوير والتسخين ومع هذا فقد كان يمكن أن يوجد التسخين وحده أو التسخين والتنوير وحدهما وليس المتأخر عنهما مبدأ يفيض عنه المتقدم وكان إذا اجتمعت الجملة تصير حينئذ كل ما فرض متأخراً مبدأ أيضاً للمتقدم وفايضاً عنه المتقدم فهكذا فليتصور في القوى النفسانية وقد وضح لنا من ذلك أيضاً أن وجود النفس مع البدن - وليس حدوثها عن جسم بل عن جوهر هو صورة غير جسمية. فصل في الاستدلال بأحوال النفس الناطقة على وجود العقل الفعال وشرحه بوجه ما فنقول إن القوة النظرية في الانسان أيضاً تخرج من القوة إلى الفعل بإنارة جوهر هذا شأنه عليه وذلك لأن الشيء لا يخرج من القوة إلى الفعل إلا بشيء يفيده الفعل لا بذاته وهذا الفعل الذي يفيده إياه هو صورة معقولاته - فإذاً ههنا شيء يفيد النفس ويطبع فيها من جوهر صور المعقولات فذات هذا الشيء لا محالة عنده صور المعقولات وهذا الشيء إذاً بذاته عقل ولو كان بالقوة عقلاً لامتد الأمر إلى غير نهاية وهذا محال أو وقف عند شيء هو بجوهره عقل وكان هو السبب لكل ما هو بالقوة عقل في أن يصير بالفعل عقلاً وكان يكفي وحده سبباً لإخراج العقول من القوة إلى الفعل وهذا الشيء يسمى بالقياس إلى العقول التي بالقوة وتخرج منها إلى الفعل عقلاً فعالاً كما يسمى العقل الهيولاني بالقياس إليه عقلاً منفعلاً أو يسمى الخيال بالقياس إليه عقلاً منفعلاً آخر - ويسمى العقل الكائن فيما بينهما عقلاً مستفاداً ونسبة هذا الشيء إلى أنفسنا التي هي بالقوة عقل وإلى المعقولات التي هي بالقوة معقولات نسبة الشمس إلى أبصارنا التي هي بالقوة رائية وإلى الألوان التي هي بالقوة مرئية فإنها إذا اتصل بالمرئيات بالقوة منها ذلك الأثر وهو الشعاع عادت مرئيات بالفعل وعاد البصر رائياً بالفعل فكذلك هذا العقل الفعال يفيض منه قوة تسيح إلى الأشياء المتخيلة التي هي بالقوة معقولة لتجعلها معقولة بالفعل وتجعل العقل بالقوة عقلاً بالفعل وكما أن الشمس بذاتها مبصرة وسبب لأن تجعل المبصر بالقوة مبصراً بالفعل فكذلك هذا الجوهر هو بذاته معقول وسبب لأن يجعل سائر المعقولات التي هي بالقوة معقولة بالفعل لكن الشيء الذي هو بذاته معقول هو بذاته عقل فإن الشيء الذي هو بذاته معقول هو الصورة الصفحة : 160 المجردة عن المادة وخصوصاً إذا كانت مجردة بذاتها لا بغيرها - وهذا الشيء هو العقل بالفعل تم قسم الطبيعيات ويليه " فهرس الطبيعيات " ثم قسم الآلهيات. القسم الثالث في الإلهيات بسم الله الرحمن الرحيم المقالة الأولى من آلهيات كتاب النجاة نريد أن نحصر جوامع العلم الآلهي فنقول إن كل واحد من علوم الطبيعيات وعلوم الرياضيات فإنما يفحص عن حال بعض الموجودات وكذلك سائر العلوم الجزئية وليس لشيء منها النظر في أحوال الموجود المطلق ولواحقه ومباديه فظاهر أن ههنا علماً باحثاً من أمر الموجود المطلق التي له بذاته ومباديه ولأن الآله تعالى على ما اتفقت عليه الآراء كلها ليس مبدأ لموجود معلول دون وجود معلول آخر بل هو مبدأ للوجود المعلول على الاطلاق فلا محالة أن العلم الآلهي هو هذا العلم فهذا العلم يبحث عن الموجود المطلق وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم فيكون في هذا العلم بيان مبادئ سائر العلوم الجزئية. الصفحة : 161 فصل في مساوقة الواحد للموجود ولما كان كل ما يصح عليه قولنا إنه موجود فيصح أن يقال له واحد حتى أن الكثرة مع بعدها عن طباع الواحد قد يقال لها كثرة واحدة فبين أن لهذا العلم النظر في الواحد ولواحقه بما هو واحد - ولهذا العلم النظر في الكثرة أيضاً ولواحقها. فصل في بيان الأعراض الذاتية والغريبة ولواحق الشيء من جهة ما هو هو ما ليس يحتاج الشيء في لحوقها له إلى أن تلحق شيئاً آخر قبله أو إلى أن يصير شيئاً آخر فتلحقه بعده فإن الذكورة والأنوثة والمصير من موضع إلى موضع بالاختيار هو للحيوان بذاته - وأما التحيز والتمكن والحركة والسكون فذلك له لا بأنه حيوان بل ذلك له بما هو جسم - وأما الحس والتغذي والنطق فهي له بتوسط أنه حيوان ونام وإنسان ومن هذه اللواحق التي تلحق الشيء من جهة ما هو هو ما هو أخص منه ومنها ما ليس أخص منه والتي هي أخص منه فمنها فصول ومنها أعراض - وبالفصول ينقسم الشيء إلى أنواعه وبالأعراض ينقسم إلى اختلاف حالاته " أي إلى أحواله المختلفة ". فصل في بيان أقسام الموجود وأقسام الواحد وانقسام الموجود إلى المقولات يشبه الانقسام بالفصول وإن لم يكن كذلك وانقسامه إلى القوة - والفعل - والواحد - والكثير والقديم - والمحدث - والتام - والناقص - والعلة - والمعلول - وما يجري مجراها يشبه الانقسام بالعوارض فتكون المقولات كأنها أنواع وتلك الأخر كأنها فصول عرضية أو أصناف - وكذلك أيضاً للواحد أشياء تقوم مقام الأنواع وأشياء تقوم مقام الأصناف واللواحق وأنواع الواحد وجه التوسع - الواحد بالجنس - والواحد بالنوع - والواحد بالعرض والواحد بالمشاركة في النسبة والواحد بالعدد - ولواحقه المساواة والمشابهة - والمطابقة - والمجانسة - والمشاكلة - والهوهو - وأنواع الكثير مقابلات لتلك ولواحقه الغيرية والمقابلة واللامشابهة - واللامساواة - واللامجانسة - واللامشاكلة - فينبغي أن نحقق أحوال هذه وحدودها ومباديها وما الذي يعرض لها بالذات - فنقول إن الموجود لا يمكن أن يشرح بغير الاسم لأنه مبدأ أول لكل شرح فلا شرح له بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شيء - وهو ينقسم نحواً من القسمة إلى جوهر وعرض - وإذا أردنا تحقيق الجوهر احتجنا أن نقدم أمامه مقدمات - فنقول إذا اجتمع ذاتان ثم لم تكن ذات كل واحد منهما مجامعة للأخرى بأسرها كالحال في الوتد والحائط فإنهما الصفحة : 162 وإن اجتمعا فداخل الوتد غير مجامع لشيء من الحائط بل إنما يجامعه ببسيطه فقط وإذا لم يكونا كالوتد والحائط بل كان كل واحد منهما يوجد شائعاً بجميع ذاته في الآخر ثم إن كان أحدهما ثابتاً بحاله مع مفارقة الآخر وكان أحدهما مفيداً لمعنى به يصير الجميع موصوفاً بصفة والآخر مستفيداً له فإن الثابت والمستفيد لذلك يسمى محلاً - والآخر يسمى حالاً فيه ثم إذا كان المحل مستغنياً عنه من قوامه عن الحال منه فإنما نسميه موضوعاً له وإن لم يكن مستغنياً عنه لم نسمه موضوعاً بل ربما سميناه هيولى وكل ذات لم يكن في موضوع فهو جوهر وكل ذات قوامها في موضوع فهو عرض. وقد يكون الشيء في المحل ويكون مع ذلك جوهراً أعني لا في موضوع إذا كان المحل القريب الذي هو فيه متقوماً به ليس متقوماً بذاته ثم يكون مع هذا مقوماً له ونسميه صورة. وأما إثباته فقد يأتينا من بعد وكل جوهر ليس في موضوع فلا يخلو إما أن لا يكون في محل أصلاً أو يكون في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل فإن كان في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل فإنا نسميه صورة مادية وإن لم يكن في محل أصلاً فإما أن يكون محلاً بنفسه لا تركيب فيه أو لا يكون فإن كان محلاً بنفسه لا تركيب فيه فإنا نسميه الهيولى المطلقة. وإن لم يكن فإما أن يكون مركباً مثل أجسامنا المركبة من مادة ومن صورة جسمية وإما أن لا يكون ونحن نسميه صورة مفارقة كالعقل والنفس وأما إذا كان الشيء في محل هو موضوع فإنا نسميه عرضاً ومادة الصورة الجسمية لا تخلو عن الصورة الجسمية ولو كانت خلواً عن الأقطار لكانت حينئذ غير ذات كم البتة وكانت غير متجزئة الذات بل متأبية عليه أي ولم يكن في قوتها أن تتجزئ ذاتها حتى تكون جوهراً مفارقاً فما كان يمكن أن يحلها مقدار لأن غير المتجزئ لا الصفحة : 163 فصل في إثبات المادة وبيان ماهية الصورة الجسمية ونزيد هذا المعنى شرحاً فنقول إن الجسم ليس هو جسماً بان فيه بالفعل أبعاداً ثلاثة فإنه ليس يجب أن يكون في كل جسم نقط أو خطوط بالفعل لأنه يمكن أن يكون الجسم جسماً وهو كرة لا قطع فيه بالفعل البتة والخطوط والنقط قطوع وليس يجب أن تكون أبعاد ثلاثة فيه متعينة من أطراف متعينة دون غيرها اللهم إلا أن تعرض مع شرط زائد على الجسم مثل تحرك أو مماسة - وأما السطح فليس هو داخلاً في حد الجسم من حيث هو جسم بل من حيث هو متناه. وليس التناهي داخلاً في ماهية الجسم بل هو من اللواحق التي تلزمه ويصح أن يعقل ماهية الجسم وحقيقته ويستثبت في النفس دون أن يعقل متناهياً بل إنما يعرف بالبرهان والنظر بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة كل واحد منها قائم على الآخر ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة فالذي يفرض أولاً هو الطول والقائم عليه هو العرض والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق وليس يمكن غيره فالجسم من حيث هو هكذا هو جسم وهذا المعنى منه هو صورة الجسمية وأما الأبعاد المتجددة التي تقع فيه فليست صورة له بل هي من باب الكم. وهي لواحق لا مقومات وله صورة جسمانية لا تزول عنه. وله مع ذلك أبعاد يتحدد بها نهاياته وشكله ولا يجب أن يثبت شيء منها له بل مع كل شكل يتجدد عليه يبطل كل بعد متحدد كان فيه وكل مقدار ممتد مفروض كان فيه فإذاً هذا غير الأول لكنه ربما اتفق في بعض الأجسام أن تكون هذه الأبعاد المتجددة لازمة لا تفارق ملازمة أشكالها وكما أن الشكل لاحق فكذلك ما يتجدد به الشكل وكما أن ملازمة الشكل لا يدل على أنه داخل في تحديد جسميته كذلك ملازمة هذه الأبعاد المتحددة والمعنى الأول هو الصورة الجسمية وهو موضوع لصناعة الطبيعيين أو داخل في موضوعها والمعنى الثاني هو الجسم الذي هو من مقولة الكم وهو موضوع لصناعة التعالميين أو داخل في موضوعها وهو عارض للجواهر الجسمانية وليس هو مما يقوم بذاته ولا المعنى الأول أيضاً. فإن ذاك يقوم في مادة وهذا في موضوع أي إن ذلك صورة وهذا عارض. فنقول إن الأبعاد والصورة الجسمية لا بد لها من موضوع أو هيولي تقوم فيه " أما الأبعاد " التي هي من مقولة الكم فأمرها ظاهر فإنها قد توجد وتعدم. والموضوع الموصوف بها ثابت فإنه لا يثبت شيء موجود منها مع تغير الشكل والموضوع واحد. وأما الصورة الجسمية فلأنها إما أن الصفحة : 164 تكون نفس الاتصال أو تكون طبيعة يلزمها الاتصال حتى لا توجد هي إلا والاتصال لازم لها. فإن كانت نفس الاتصال فقد يكون الجسم متصلاً. ثم ينفصل فيكون هناك لا محالة شيء هو بالقوة كلاهما فليس ذات الاتصال بما هو اتصال قابل للانفصال لأن قابل الاتصال لا يعدم عند الانفصال والاتصال يعدم عند الانفصال فإذاً شيء غير الاتصال هو قابل للانفصال وهو بعينه قابل الاتصال فليس الاتصال هو بالقوة قابلاً للانفصال. ولا أيضاً طبيعة يلزمها الاتصال لذاتها. فظاهر أن ههنا جوهراً غير الصورة الجسمية هو الذي يعرض له الانفصال والاتصال معاً وهو مقارن للصورة الجسمية وهو الذي يقبل الاتحاد بصورة الجسمية فيصير جسماً واحداً بما يقومه أو يلزمه من الاتصال الجسماني. فصل في أن الصورة الجسمية مقارنة للمادة في جميع الأجسام عموماً فإذاً الصورة الجسمية بما هي الصورة الجسمية لا تختلف فلا يجوز أن يكون بعضها قائماً في المادة وبعضها غير قائم فيها فإنه من المحال أن تكون طبيعة لا اختلاف فيها من جهة ما هي تلك الطبيعة ويعرض لها اختلاف في نفس وجودها لأن كونها ذلك الواحد متفق وأيضاً فإن وجودها ذلك الواحد لا يخلو إما أن يكون قائماً في مادة أو غير قائم في مادة أو بعضه قائماً فيها وبعضه غير قائم ومحال أن يكون بعضه قائماً فيها وبعضه ليس لأن الاعتبار إنما تناول ذلك الوجود من حيث هو واحد غير مختلف فبقي أن يكون ذلك الواحد إما كله غير قائم فيها أو كله قائم فيها ولكن ليس كله غير قائم فيها فبقي أن يكون كله قائماً فيها. الصفحة : 165 فصل في أن المادة لا تتجرد عن الصورة ونقول أن تلك المادة أيضاً لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتقوم موجودة بالفعل لأنها إن فارقت الصورة الجسمية فلا يخلو إما أن يكون لها وضع وحيز في الوجود الذي لها حينئذ أو لا يكون فإن كان لها وضع وحيز وكان يمكن أن تنقسم فهي لا محالة ذات مقدار وقد فرضت لا مقدار لها هذا خلف وان لم يمكن أن تنقسم ولها وضع فيها لي لا محالة نقطة ويمكن أن ينتهي إليها خط ولا يمكن أن تكون منفردة الذات منحازتها لأن خطاً إذا انتهى إليها لاقاها بنقطة أخرى غيرها ثم إن لاقاها خط آخر لاقاها بنقطة أخرى غيرها ثم لا يخلو إما أن تباين النقطتان عن جنبتيها فتكون المتوسطة " التي تلاقيها إثنتان لا تتلاقيان " تنقسم بينهما وقد فرضت غير منقسمة وإما أن تكون النقطتان تتلاقيان وبتلاقيهما تكون ذاتها سارية في ذات كل واحد منهما وذاتها منحازة عن الخطين فذاتاهما منحازتان منقطعتان عن الخطين فللخطين نقطتان غير الأوليتين هما نهايتاهما وفرضناهما نهايتيهما هذا خلف. فيكون إذاً ذلك الجوهر غير منحاز منفرد بل طرفاً للخط فيكون نقطة لكن النقطة توجد قائمة في جسم وفي مادة لا مادة الجسم - وأما إذا كان هذا الجوهر لا وضع له ولا إشارة بل هو كالجواهر المعقولة لم يخل إما أن يحل فيه المقدار والمحصل دفعة أو يتحرك إليه على الاتصال. فإن حل فيه المقدار دفعة ففي آن انضياف المقدار إليه يكون قد صادفه المقدار حيث إنضاف إليه فيكون لا محالة صادفه وهو في الحيز الذي هو فيه فيكون ذلك الجوهر متحيزاً إلا أنه عساه أن لا يكون محسوساً وقد فرض غير متحيز البتة هذا خلف. ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة مع قبول المقدار لأن المقدار لا يوافيه إلا وهو في حيز مخصوص - وأما إن كان قبوله للمقدار لأن المقدار لا دفعة بل على انبساط وكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات. وكل ما له جهات فهو ذو وضع وحيز فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وقيل لا وضع له ولا حيز هذا خلف والذي أوجب هذا كله فرضنا أنه يفارق الصورة الجسمية فممتنع أن يوجد الفعل بالفعل تقبل الكم وتساويه فبين أن المادة لا تبقى مفارقة بل وجودها وجود قابل لا غير كما أن وجود العرض وجود مقبول لا غير. وأيضاً فإنها لا تخلو إما أن يكون وجودها وجود قابل فتكون دائماً قابلة للشيء وإما أن يكون لها وجود خاص متقوم - ثم تقبل فتكون بوجودها الخاص المتقوم غير ذات كم وقد قامت غير ذات كم فيكون المقدار الجسماني عرض لها وصير ذاتها بحيث لها بالقوة أجزاء: وقد تقومت جوهراً الصفحة : 166 في نفسها غير ذي جزء باعتبار نفسها البتة لعدمها الامتداد في حد نفسها فيكون ما هو متقوم بأنه لا جزء له يعرض له أن يبطل عنه ما يتقوم به بالفعل لورود عارض عليه فتكون حينئذ للمادة منفردة صورة غير عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل - وصورة أخرى عارضة بها تكون غير واحدة بالفعل فيكون بين الأمرين شيء مشترك هو قابل للأمرين من شأنه أن يصير مرة ليس في قوته أن ينقسم ومرة في قوته أن ينقسم أعني القوة القريبة التي لا واسطة لها فلنفرض الآن هذا الجوهر قد صار بالفعل اثنين وكل واحد منهما بالعدد غير الآخر وحكمه أن يفارق الصورة الجسمانية فليفارق كل واحد منهما الصورة الجسمانية فيبقى كل واحد منهما جوهراً واحداً بالقوة والفعل ولنفرضه بعينه لم يقسم إلا أنه أزيل عنه الصورة الجسمانية حتى بقي جوهراً واحداً بالقوة والفعل فلا يخلوا إما أن يكون هذا الذي بقي جوهراً وهو غير جسم بعينه مثل الجزء الذي بقي كذلك أو يخالفه. فإن خالفه فلا يخلو إما أن يكون لأن هذا بقي وذلك عدم أو بالعكس أو كلاهما بقيا - ولكن يختص بهذا كيفية أو صورة لا توجد لذلك أو يختلفان بالمقدار. فإن بقي أحدهما وعدم الآخر والطبيعة واحدة متشابهة وإنما أعدم أحدهما رفع الصورة الجسمانية فيجب أن يعدم ذلك بعينه الآخر وإن اختص بهذا كيفية واحدة والطبيعة واحدة ولم يحدث حالة إلا مفارقة الصورة الجسمانية لم يحدث مع هذه الحالة إلا ما يلزم هذه الحالة فيجب أن يكون حال الآخر كذلك. فإن قيل إن الأولين وهما اثنان يتحدان فيصيران واحداً: فنقول من المحال أن يتحد جوهران لأنهما إن اتحدا وكل واحد منهما موجود فهما اثنان لا واحد وإن اتحدوا أحدهما معدوم والآخر موجود فالمعدوم كيف يتحد بالموجود وإن عدما جميعاً بالاتحاد وحدث شيء ثالث فهما غير متحدين بل فاسدين وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة. وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذى مادة - وأما إن اختلفا في القدر فيجب أن يكونا وليس لهما صورة جسمانية ولهما صورة مقدارية هذا خلف - وأما إن لم يختلفا بوجه من الوجوه فيكون حينئذ حكم الشيء مع غيره وحكمه وحده من كل جهة واحداً هذا خلف. فبقي أن المادة لا تتعرى عن الصورة الجسمية. الصفحة : 167 فصل في إثبات التخلخل والتكاثف ولأن هذا الجوهر إنما صار كما بمقدار حله فليس بكم بذاته فليس يجب أن يختص ذاته بقبول قطر بعينه دون قطر وقدر دون قدر ونسبة ما هو غير متجزى في ذاته بل إنما يتجزى بغيره إلى أي مقدار يجوز وجوده له نسبة واحدة " وإلا فله مقدار في ذاته يطابق ما يساويه دون ما يفضل عليه " وهو في الكل والجزء واحد لأنه محال أن يكون جزء منه يطابق جزأ من المقدار وليس له في ذاته جزء فبين من هذا أنه يمكن أن تصغر المادة بالتكاثف وتكبر بالتخلخل وهذا محسوس بل يجب أن يكون تعين المقدار عليها بسبب يقتضي في الوجود ذلك المقدار وإن لم يتعين لها مقدار لذاتها وذلك السبب لا يخلو إما أن يكون فيها فيكون الكم تابعاً لصورة أخرى في المادة أو يكون لسبب من خارج فإن كان لسبب من خارج فلا يخلو إما أن يوجب السبب ذلك التعين من غير أن يؤثر فيها أثراً آخر يتتبع الكم ذلك الأثر أو يكون ويفعل فيها أثراً آخر - ثم يتبعه الكم فإن كان تابعاً له أفاده بمقدار ما لذلك السبب لا لأن الجسم يختص به لنسبته إلى استعداد معين واحد فتتساوى الأجسام في الأحجام وهذا محال. فإذاً إنما يختلف بحسب إختلاف الاستعدادات وهي تابعة لمعان غير نفس المواد فالكم يتبع لا محالة أثراً ما يوجد في المادة فيرجع الحكم إلى القسم الأول وهذا أيضاً مبدأ للطبيعيات - وأيضاً فإنه يختص لا محالة بحيز من الأحياز. وليس له حيزه الخاص به بما هو جسم - وإلا لكان كل جسم كذلك فهو إذاً لا محالة مختص به لصورة ما في ذاته - وهذا بين فإنه إما أن يكون غير قابل للتشكيلات والتفصيلات كالفلك فيكون لصورة ما صار كذلك لأنه بما هو جسم قابل لها وإما أن يكون قابلهما بسهولة أو بعسر وأياماً كان فهو على إحدى الصور المذكورة في الطبيعيات. فإذاً المادة الجسمية لا توجد مفارقة للصور. فالمادة إذاً إنما تقوم بالفعل بالصورة فإذاً إذا أخذت في التوهم مفارقة لها عدمت والصورة إما صورة لا تفارق المادة وإما صورة تفارقها المادة ولا تخلو المادة عن مثلها: والصورة التي تفارقها المادة إلى عاقب فإن معقبها به يستبقيها بتعقيب تلك الصور فتكون الصورة من جهة واسطة بين المادة والمستبقي والواسطة في التقويم أولى بتقويم ذاته ثم يقوم به غيره - وهي العلة القريبة من المستبقي في البقاء فإن كانت تقوم بالعلة المبقية للمادة بوساطتها فالقوام لها من الأوائل أولاً. وإن كانت قائمة لا بتلك العلة بل بنفسها ثم تقوم المادة بها فذلك أظهر فيها - وأما الصورة التي لا تفارق فلا فضل للمادة عليها في الثبات. ثم المادة إذاً إنما خصصت بها لعلة أفادتها إياها ولو الصفحة : 168 كان لها تلك الصورة لذاتها لكان لكل مادة جسمانية ذلك فإذاً تلك العلة إنما تقيمها بها - ولولا هذه الصورة لكانت إما أن تمسك موجودة بصور أخرى أو تعدم فإذا مفيدها هذه الصورة يقيمها بها كما في الأولى كانت فإذاً الصورة أقدم من الهيولى فلا يجوز أن يقال إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة وإنما تصير بالفعل بالمادة لأن جوهر الصورة وهو الفعل وبالفعل وما بالقوة محله المادة فتكون المادة هي التي يصلح فيها أن يقال لها أنها في نفسها بالقوة تكون موجودة وأنها بالفعل بالصورة والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولى لكن لا تتقوم بها بل بالعلة المفيدة إياها للهيولى. وكيف تتقوم الصورة بالهيولى. وقد بينا أنها علتها والعلة لا تتقوم بالمعلول ولا شيئان اثنان يتقوم أحدهما بالآخر فإن كل واحد منهما يفيد الآخر وجوده وقد بان استحالة هذا - ويبين ذلك الفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه - والصورة لا توجد إلا في هيولى لا أن علة وجودها الهيولى أو كونها في الهيولى كما أن العلة لا توجد إلا مع المعلول لا أن علة وجود العلة هي المعلول أو كونها مع المعلول - بل كما أن العلة إذا كانت علة بالفعل وجد عنها المعلول لأن المعلول يكون معها كذلك الصورة إذا كانت صورة موجودة يلزم عنها أن تقوم شيئاً ذلك الشيء مقارن لذاتها وكأن ما يقوم شيئاً بالفعل ويفيده الوجود منه ما يفيده وهو مباين ومنه ما يفيده وهو ملاق وإن لم يكن جزءاً منه مثل الجوهر للعرض " والمزاجات التي تلزمها " فبين بهذا أن كل صورة توجد في مادة مجسمة فبعلة ما توجد. أما الحادثة فذلك ظاهر فيها - وأما الملازمة للمادة فلأن الهيولى الجسمانية إنما خصصت بها لعلة - وسنبين هذا بأظهر في مواضع أخرى - وجملة هذه مباد للطبيعيات. الصفحة : 169 فصل في ترتيب الموجودات فأولى الأشياء بالوجود هي الجواهر ثم الأعراض والجواهر التي ليست بأجسام أولى الجواهر بالوجود إلا الهيولى لأن هذه الجواهر ثلاثة - هيولى. وصورة. ومفارق لا جسم ولا جزء جسم ولابد من وجوده لأن الجسم وأجزاءه معلولة وينتهي إلى جوهر هو علة غير مقارنة بل مفارقة ألبتة. فأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم ثم الصورة. ثم الجسم - ثم الهيولى - وهي وإن كانت سبباً للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود بل هي محل لنيل الوجود - وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها - ثم العرض وفي كل طبقة من هذه الطبقات جملة موجودات تتفاوت في الوجود - وأما أنواع المقولات فقد شرحنا حالها في المنطقيات بنوع لا يحتمل هذا الموضع زيادة عليه والكم منها ينقسم إلى المتصل وقد أثبتناه في الطبيعيات حيث بينا أن الجسم متصل وليس مركباً من أجزاء متماسة. وإذا صح وجود الجسم وصح تناهيه صح وجود السطح وقطع السطح خط. وقطع الخط نقطة - وإلى المنفصل وهو ظاهر الوجود خفي الحد. ومن حيز الكم المتصل تبتدئ الهندسة ويتشعب دونها التنجيم والمساحة والأثقال والحيل. ومن حيز المنفصل يبتدئ الحساب ثم يتشعب دونه الموسيقى وعلم الزيجات ولا نظر لهذه العلوم الرياضية في ذوات شيء من الجواهر ولا في هذه الكميات من حيث هي في الجواهر. وأما العلم الطبيعي فيبتدئ من حيز الجسم والصورة الغير المفارقة من الموجودات. ويبحث عن أحوالها وهي من باب الكيف - والكم - والأين - والوضع - والفعل - والانفعال وعلم الأخلاق يبتدئ من نوع من أنواع الحال والملكة التي هي من مقولة الكيف وما كان من الأعراض قاراً فهو قبل ما كان منها غير قار وما كان من غير القار وجوده بتوسط قار فهو قبل الذي يوجد منه بتوسط الغير القار والذي يوجد منه بتوسط الغير القار فهو الزمان ومتى فلذلك هو في أقصى مراتب الوجود وأخس أنحائه وليس هو سبباً لشيء البتة. ولا شك أن الاضافات والأوضاع - والفعل - والانفعال - والجدة - والنسبة إلى الزمان والكون في المكان هي أعراض إذ من شأنها أن تكون في موضوع. ويفارقها الموضوع مع امتناع وجودها دونه وإنما يقع الشك في مقولتي الكم والكيف: وقد بينا أن المقادير التي من مقولة الكم أعراض: والزمان قد بين أنه هيئة عارضة والمكان هو سطح لا محالة - وأما العدد فإنه تابع في الحكم للواحد فإن كان الواحد في نفسه جوهراً فالعدد المؤلف منه لا محالة مجموع جواهر فهو جوهر وإن كان الواحد الصفحة : 170 عرضاً فالتثنية وما أشبهها أعراض. والعدد يقال للصورة القارة التي في النفس وحكمها حكم سائر المعقولات ولسنا نقصد قصدها في كونها عرضاً أو غير عرض ويقال للعدد الذي في الأشياء المجتمعة التي كل واحد منها واحد ولجملتها في الوجود لا محالة عدد. فصل في أن الوحدة من لوازم الماهيات لا من مقوماتها لكن طبيعة الواحد من الأعراض اللازمة للأشياء وليس الواحد مقوماً لماهية شيء من الأشياء بل تكون الماهية شيئاً إما إنساناً وإما فرساً أو عقلاً أو نفساً: ثم يكون ذلك موصوفاً بأنه واحد وموجود ولذلك ليس فهمك ماهية شيء من الأشياء وفهمك الواحد يوجب أن يصح لك أنه واحد فالواحدية ليست ذات شيء منها ولا مقومة لذاته بل صفة لازمة لذاته - كما فهمت الفرق بين اللازم والذاتي في المنطق فتكون الواحدية من اللوازم وليست جوهراً لشيء من الجواهر ولذلك المادة يعرض لها الوحدة والتكثر فتكون الوحدة عارضة لها وكذلك الكثرة ولو كانت طبيعة الوحدة طبيعة الجوهر لكان لا يوصف بها إلا الجوهر وليس يجب إن كانت طبيعتها طبيعة العرض أن لا توصف بها الجواهر لأن الجواهر توصف بالأعراض - وأما الأعراض فلا تحمل عليها الجواهر حتى يشتق لها منها الاسم فقد بان بهذه الوجوه الثلاثة التي أحدها كون الوحدة غير ذاتية للجواهر بل لازمة لها - والثاني كون الوحدة معاقبة للكثرة في المادة - والثالث كون الوحدة مقولة على الأعراض أن طبيعة الوحدة طبيعة عرضية - وكذلك طبيعة العدد الذي يتبع الوحدة ويتركب منها. فصل في أن الكيفيات المحسوسة أعراض لا جواهر ويشكل أيضاً الحال من مقولة الكيف فيما كان من باب المحسوسات فيظن البياض والسواد والحرارة والبرودة وما أشبهها جواهر وأنها تخالط الأجسام بكمون وغير كمون أو تتركب منها الأجسام " فلنتكلم في فسخ هذا الرأي فنقول " إن هذه الكيفيات إن كانت جواهر إما أن تكون جواهر جسمانية أو غير جسمانية فإن كانت غير جسمانية فإما أن تكون بحيث يجتمع من تركيبها الأجسام أو لا يجتمع فإن كانت لا تجتمع وهي سارية في الأجسام فإما أن تكون بحيث يصح أن تفارق الجسم الذي هي فيه أولا يصح فإن كان يصح أن تفارق الجسم. فأما أن تنتقل من جسم إلى جسم آخر وتسري فيه ويكون هكذا دائماً أو يصح أن لا تبقى في جسم أصلاًالصفحة : 171 فأما إن كانت جواهر جسمانية فيكون طول وعرض وعمق ليس معنى أنه لون فقد يزول اللون - ويبقى ذلك الطول والعرض والعمق بعينه فإما أن يكون قد كان للون طول وعرض وعمق غير هذا أو يكون لم يكن إلا هذا فإن كان للون مقدار غير هذا فقد دخل بعد في بعد. وقد بينا فساد هذا. وإن كان اللون ليس له مقدار غير هذا فليس لذات اللون مقدار بل يتقدر بما يحله وهذا مما لا يخالفه - وأما إن فرضت غير جسمانية ويجتمع من تركيبها جسم فيكون مالاً قدر له يجتمع منه ماله قدر وقد بان بطلان هذا وإن كانت غير جسمانية وتسري في الأجسام ولا يصح لها قوام دونها فهي أعراض لا جواهر وإن كان يصح لها أن تخالط الجواهر الجسمانية وتسري فيها ثم تنتقل من بعضها إلى بعض ولا تقوم إلا في واحد منها فيجب إذا فسد البياض في جسم أن يوجد في الأجسام المماسة له وكذلك سائر الكيفيات وليس الأمر كذلك بل يفسد ولا يبقى منه أثر البتة فليس إذاً قوامه إنه في الانتقال. وإن كان إذاً فارق الجسم قام بنفسه. فإما أن يقوم وهو تلك الكيفية بعينها فيكون حينئذ بياض في الوجود وليس بمحسوس وكلامنا في البياض بما هو محسوس فإن اسم البياض يقع على اللون الذي من شأنه أن يفعل في البصر تفرقاً فما ليس كذلك ليس ببياض. وإما أن يقوم بنفسه وليس هو تلك الكيفية. فيكون ههنا مشترك من شأنه أن يقارن الأجسام فيصير بياضاً ويفارقها فيصير لا بياضاً - فيكون أولاً البياض بما هو بياض قد فسد لكنه يكون له موضوع تارة يصير بصفة اللون الذي هو البياض وتارة يصير بصفة أخرى فتكون البياضية عارضة لذلك الموضوع. ويكون الموضوع للبياضية هو المفارق لكنا قد بينا أن المفارق المعقول ليس من شأنه أن يقارن الكم ولا أن يحصل في الوضع والتحيز فقد بان واتضح أن هذه الكيفيات ليست جواهر فهي إذاً أعراض. الصفحة : 172 فصل في أقسام العلل وأحوالها والمبدأ يقال لكل ما يكون قد استتم له وجود في نفسه إما عن ذاته وإما عن غيره ثم يحصل عنه وجود شيء آخر ويتقوم به ثم لا يخلو إما أن يكون كالجزء لما هو معلول له أو لا يكون كالجزء - فإن كان كالجزء فإما أن يكون جزأ ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجوداً بالفعل - وهذا هو العنصر فإنك تتوهم العنصر موجوداً ولا يلزم من وجوده بالفعل وحده أن يحصل الشيء بالفعل بل ربما كان بالقوة - وإما أن يجب عن وجوده بالفعل وجود المعلول له بالفعل وهذا هو الصورة - مثال الأول الخشب للسرير - مثال الثاني الشكل والتأليف للسرير. وإن لم يكن كالجزء فإما أن يكون مبايناً أو ملاقياً لذات المعلول. فإن كان ملاقياً فإما أن ينعت المعلول به وهذا هو كالصورة للهيولى - وإما أن ينعت بالمعلول - وهذا هو كالموضوع للعرض وإن كان مبايناً فإما أن يكون الذي منه الوجود وليس الوجود لأجله وهو الفاعل - وإما أن لا يكون منه الوجود بل لأجله الوجود وهو الغاية. فتكون العلل هيولى للمركب وصورة للمركب وموضوعاً للعرض وصورة للهيولى وفاعلاً وغاية ويشترك الهيولى للمركب والموضوع للعرض بأنهما الشيء الذي فيه قوة وجود الشيء وتشترك الصورة للمركب والصورة للهيولى بأنه ما به يكون المعلول موجوداً بالفعل وهو غير مباين والغاية تتأخر في حصول الوجود عن المعلول وتتقدم سائر العلل في الشيئية. ومن البين أن الشيئية غير الوجود في الأعيان فإن المعنى له وجود في الأعيان ووجود في النفس وأمر مشترك فذلك المشترك هو الشيئية. والغاية بما هي شيء فإنها تتقدم سائر العلل وهي علة العلل في أنها علل وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر وإذا لم تكن العلة الفاعلة هي بعينها العلة الغائبة كان الفاعل متأخراً في الشيئية عن الغاية وذلك لأن سائر العلل إنما تصير عللاً بالفعل لأجل الغاية وليست هي لأجل شيء آخر وهي توجد أولاً نوعاً من الوجود فتصير العلل عللاً بالفعل ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية فإن الطبيب يفعل لأجل البرء وصورة البرء هي الصناعة الطبية التي في النفس وهي المحركة لإرادته إلى العمل وإذا كان الفاعل أعلى من الارادة كان نفس ما هو فاعل هو محرك من غير توسط من الارادة التي تحدث عن تحريك الغاية - وأما سائر العلل فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان البتة. والقابل دائماً أخس من المركب والفاعل أشرف لأن القابل مستفيد لا مفيد والفاعل مفيد لا الصفحة : 173 مستفيد. والعلة تكون علة الشيء بالذات مثل الطبيب للعلاج وقد تكون علة بالعرض إما لأنه لمعنى غير الذي وضع صار علة كما يقال إن الكاتب يعالج وذلك لأنه يعالج لا من حيث هو كاتب بل لمعنى آخر غيره. وهو أنه طبيب وإما لأنه بالذات يفعل فعلاً لكنه قد يتبع فعله فعل آخر مثل السقمونيا فإنها تبرد بالعرض لأنها بالذات تستفرغ الصفراء ويلزمه نقصان الحرارة المؤذية. ومثل مزيل الدعامة عن الحائط فإنه علة لسقوط الحائط بالعرض. لأنه لما أزال المانع لزم فعله الفعل الطبيعي وهو انحدار الثقيل بالطبع والعلة قد تكون بالقوة كالنجار قبل أن ينجر. وقد تكون بالفعل كالنجار حين ما ينجر. وقد تكون العلة قريبة مثل العفونة للحمى. وقد تكون بعيدة مثل الأحتقان مع الامتلاء لها وقد تكون جزئية مثل قولنا إن هذا البناء علة لهذا البناء وقد تكون كلية كقولنا البناء علة البناء وقد تكون العلة خاصة كقولنا إن البناء علة للبيت وقد تكون عامة كقولنا إن الصانع علة البيت - واعلم أن العلل القريبة التي لا واسطة بينها وبين الأجسام الطبيعية هي الهيولى والصورة - وأما الفاعل فإنه إما علة للصورة وحدها أو للصورة والمادة ثم يصير بتوسط ما هو علة له منهما علة للمركب. وأما الغاية فإنها علة لكون الفاعل علة الكون الذي هو علة لوجود الصورة التي هي علة لوجود المركب. الصفحة : 174 فصل في إن علة الحاجة إلى الواجب هي الامكان لا الحدوث على ما يتوهمه ضعفاء المتكلمين واعلم أن الفاعل الذي يفيد الشيء وجوداً بعد عدمه يكون مفعوله أمران عدم قد سبق ووجود في الحال. وليس للفاعل في عدمه السابق تأثير بل تأثيره في الوجود الذي للمفعول منه فالمفعول إنما هو مفعول لأجل أن وجوده من غيره لكن عرض إن كان له عدم من ذاته وليس ذلك من تأثير الفاعل. فإذا توهما أن التأثير الذي كان من الفاعل وهو أن وجود الآخر منه لم يعرض بعد عدمه بل ربما كان دائماً كان الفاعل أفعل لأنه أدوم فعلاً " فان لج لاج ". وقال إن الفعل لا يصح إلا بعد عدم المفعول فقد سمع أن العدم للمفعول ليس من الفاعل بل الوجود. والوجود الذي منه في آن ما فلنفرض ذلك متصلاً. فإن أزاغه عن هذا الحق قوله إن الموجود لا يوجده موجد فلتعلم أن المغالطة وقعت في لفظة يوجده فإن عنى أن الموجود لا يستأنف له وجود بعد ما لم يكن فهذا صحيح " وإن عنى أن الموجود لا يكون البتة بحيث ذاته وماهيته لا يقتضي الوجود له بما هو هو بل شيء آخر هو الذي له منه الوجود " فإنا نبين ما فيه من الخطأ - ونقول إن المفعول الذي نقول إن موجداً يوجده لا يخلو إما أن يوصف بأنه موجد له ومفيد لوجوده في حال العدم أو في حال الوجود أم في الحالتين جميعاً ومعلوم أنه ليس موجداً له في حال العدم فبطل أن يكون موجداً له في الحالتين جميعاً فبقي أن يكون موجداً له إذ هو موجود. فيكون الموجد إنما هو موجد للموجود والموجود هو الذي وصف بأنه موجد نعم عسى لا يوصف بأنه يوجد لأن لفظة يوجد توهم وجوداً مستقبلاً ليس في الحال فإن أزيل هذا الايهام صح أن يقال إن الموجد يوجد أي يوصف بأنه موجد وكما أنه في حال ما هو موجود يوصف بأنه يوجد ولفظة يوصف لا يعني بها أنه في الاستقبال يوصف كذلك الحال في لفظة يوجد. ويقال قوة لمبدأ التغير في آخر من حيث أنه آخر - ومبدأ التغير - إما في المنفعل وهو القوة الانفعالية - وإما في الفاعل وهو القوة الفعلية. ويقال قوة لما به يحوز من الشيء فعل أو انفعال ولما به يصير الشيء مقوماً لآخر ولما به يصير الشيء غير متغير وثابتاً فإن المتغير مجلوب للضعف. وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة الماء على قبول الشكل فإن فيه قوة قبول الشكل وليس فيه قوة حفظه. وفي الشمع قوة عليهما جميعاً. وفي الهيولى الأولى قوة الجميع ولكن بتوسط شيء دون شيء وقد يكون في الشيء قوة إنفعالية بحسب الضدين كما أن في الشمع الصفحة : 175 قوة أن يتسخن وأن يتبرد. وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة النار على الاحراق فقط وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين. وقد يكون في الشيء قوة على كل شيء ولكن بتوسط شيء دون شيء. وقد تكون القوة الفعلية على الضدين جميعاً كقوة المختارين منا والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة حصل منها الفعل ضرورة وليس كذلك في غيرها مما يستوي فيها الأضداد وقد تغلط لفظة القوة فيتوهم أن القوة على الفعل هي القوة المقابلة لما بالفعل. والفرق بينهما أن هذه القوة الأولى تبقى موجودة عندما تفعل. والثانية إنما تكون موجودة مع عدم الذي هو بالفعل - وأيضاً فإن القوة الأولى لا يوصف بها إلا المبدأ المحرك والقوة الثانية يوصف بها في أكثر الأمر المنفعل - وأيضاً فإن الفعل الذي بإزاء القوة الأولى هو نسبة إستحالة أو كون أو حركة ما إلى مبدأ لا ينفعل بها. والفعل الذي بإزاء القوة الثانية يوصف بأكمل نحو من الوجوه الحاصل وإن كان إنفعالاً أو حالاً لا فعلاً ولا إنفعالاً. وكل جسم فإنه إذا صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر فإنه يفعل بقوة ما فيه - أما الذي بالارادة والاختيار فذلك ظاهر فيه - وأما الذي ليس بالارادة والاختيار فلأن ذلك الفعل إما أن يصدر عن ذاته أو يصدر عن شيء مباين له جسماني أو عن شيء مباين له غير جسماني فإن صدر عن ذاته وذاته تشارك الأجسام الأخرى في الجسمية وتخالفها في صدور ذلك الفعل عنها. فإذاً في ذاته معنى زائد على الجسمية هو مبدأ صدور هذا الفعل عنها وهذا هو الذي يسمى قوة. وإن كان ذلك عن جسم آخر فيكون هذا الفعل عن هذا الجسم بقسر أو عرض. وقد فرض لا بقسر ولا عرض. وإن كان عن شيء مفارق فلا يخلو - إما أن يكون إختصاص هذا الجسم بقبول هذا التأثير عن ذلك المفارق هو لما هو جسم أو لقوة فيه أو لقوة في ذلك المفارق. فإن كان لما هو جسم فكل جسم يشاركه فيه لكن ليس يشاركه فيه وإن كان لقوة فيه فتلك القوة مبدأ صدور ذلك الفعل عنه وإن كانت لفيض من المفارق - وإن كان لقوة في ذلك المفارق - فإما أن يكون نفس تلك القوة توجب ذلك أو اختصاص إرادة. فإن كان نفس القوة توجب ذلك فلا يخلو إما أن يكون إيجاب ذلك من هذا الجسم بعينه لأجل الأمور المذكورة وقد رجع الكلام من الرأس. وإما أن يكون على سبيل الارادة فلا يخلو إما أن تكون الارادة ميزت هذا الجسم بخاصية يختص بها من سائر الأجسام أو جزافاً فإن كان جزافاً كيف اتفق لم يتم على النظام الأبدي والأكثري فإن الأمور الاتفاقية هي التي ليست دائمة ولا أكثرية لكن الأمور الطبيعية دائمة الصفحة : 176 أو أكثرية وليست باتفاقية. فبقي أن تكون الخاصية يختص بها من سائر الأجسام. وتكون تلك الخاصية في ذاتيتها صدور ذلك الفعل - ثم لا يخلو إما أن يراد ذلك لأن تلك الخاصية توجب ذلك الفعل أو يكون منها في الأكثر أو لا توجب ولا يكون منها في الأكثر فإن كانت توجب فهي مبدأ ذلك وإن لم توجب وكان في الأكثر والذي في الأكثر هو بعينه الذي يوجب لكن له عائق لأن اختصاصه بأن يكون الأمر منه في الأكثر بميل من طبيعته إلى جهته فإن لم يكن فيكون لعائق فيكون أيضاً الأكثري في نفسه موجباً إن لم يكن عائق والموجب هو الذي يسلم له الأمر بلا عائق وإن كان لا يوجبه ولا يكون منه في الأكثر فكونه عنه وعن غيره واحد فاختصاصه به جزاف. وقيل ليس بجزاف - وكذلك إن قيل إن كونه فيه أولى فمعناه صدوره منه أوفق فهو إذاً موجب له أو ميسر لوجوبه والميسر علة إما بالذات وإما بالعرض وإن لم يكون علة أخرى بالذات غيره فليس هو بالعرض لأن الذي بالعرض هو على أحد النحوين المذكورين. فبقي أن تلك الخاصية بنفسها موجبة والخاصية الموجبة تسمى قوة. والرد على المتكلمين وهذه القوة عنها تصدر الأفاعيل الجسمانية كلها من التحيزات إلى أماكنها الطبيعية والتشكلات الطبيعية فقد قيل أنها لا تجوز أن تكون ذات زاوية فلا تكون الا كرة لأن سائر ما لا زاوية له من الأشكال البيضية والمفرطحة يكون فيها اختلاف امتداد عن المركز وتفاوت في الطول والعرض والطبيعة البسيطة لا توجب اختلافاً فإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة التي هي نهاية قطع يحدث أو يتوهم فيها. فالدائرة وهي مبدأ للمهندسين موجودة والخط المستقيم وهو البعد الواصل بين كل نقطتين ظاهر الوجود: وأصحاب الجزء أيضاً يلزمهم وجود الدائرة فإنه إذا فرض الشكل المرئي مستديراً مضرساً فكان موضع منه أخفض من موضع حتى إذا أطبق طرفا خط مستقيم على نقطة تفرض وسطاً وعلى نقطة في المحيط استوت عليه في موضع كان أطول: ثم إذا أطبق على الجزء المركزي وعلى الجزء الذي ينخفض من المحيط كان أقصر فأمكن أن يتمم قصره بجزء أو أجزاء فإن كان زيادة الجزء عليه لا تسويه بل تزيد عليه فهو ينقص عنه بأقل من جزء وإن كان لا يصله به بل يبقى فرجة فليدير في الفرجة هذا التدبير بعينه فإن ذهب الانفراج إلى غير النهاية ففي الفرج إنقسام بلا نهاية - وهذا خلف على مذهبهم وأما على رأي مثبتي الاتصال فوجود الدائرة والخط المنحني يثبت بما أقول - إذا فرض جسم ثقيل ورأسه أعظم قدراً من أصله الصفحة : 177 وركز على بسيط مسطح وهو قائم عليه قياماً مستوياً فمعلوم أنه يمكن أن يثبت إذا لم يكن ميله إلى جهة أكثر من ميله إلى جهة أخرى. فإن أزيل عن الاستقامة إزالة ما واصلة ولنفرض نقطة مماسة لذلك المركز فمن المعلوم أنه يتحرك إلى أسفل ويلقي السطح المسطح فحينئذ لا يخلو إما أن تثبت النقطة في موضعها فيكون كل نقطة تفرضها في رأس ذلك الجسم قد فعلت دائرة - وإما أن يكون مع حركة هذا الطرف وإلى أسفل يتحرك الطرف الآخر إلى فوق فيكون قد فعل كل واحد من الطرفين دائرة مركزهما النقطة المتحددة بين الجزء الصاعد والجزء الهابط. وإما أن تتحرك النقطة المتحيزة على السطح فيفعل الطرف الآخر قطعاً وخطاً منحنياً ولكن الميل إلى المركز هو على المحازاة فمحال أن تتحرك النقطة على السطح لأن تلك الحركة إما أن تكون بالقسر أو بالطبع وليست بالطبع ولا بالقسر لأن ذلك القسر لا يتصور إلا عن الأجزاء التي هي أثقل وتلك ليست تدفعها إلى تلك الجهة بل إن دفعتها على حفظ الاتصال دفعتها إلى خلاف حركتها فقلبتها ليمكن أن تترك العالية منها إذ هي أثقل فيطلب حركة أسرع. والمتوسط أبطأ وهناك اتصال يمنع مثلاً أن ينعطف فيضطر العالي إلى أن يشيل السافل حتى ينحدر. فيكون حينئذ الجسم منقسماً إلى جزئين جزء يميل إلى فوق قسراً وجزء يميل إلى أسفل طبعاً وبينهما حد هو مركز للحركتين. وقد خرج منه خط مستقيم ما فيفعل الدائرة فبين أنه إن لزم عن انحدار الجسم زوال فهو إلى فوق - وإن لم يلزم عنه فوجود الدائرة أصح فإذا ثبتت الدائرة ثبت المنحني لأنه إذا ثبتت الدائرة ثبتت المثلثات والقائم الزاوية أيضاً وثبت جواز دوران أحد ضلعي القائمة على الزاوية فارتسم مخروط فصح قطع فصح منحني. وقد يمكنك أن تثبت الدائرة أيضاً من بيان صحة وضع أي خط فرضت على أي خط فرضت وأنه إذا كان خطان على زاوية ما وعلى أحدهما خط فإنه جائز يصير من حال إلى حال ما حتى ينطبق على الخط الآخر ويعود من ذلك الخط إلى الأول ولا يمكن هذا البتة إلا أن يكون حركة مستديرة وأنت تعرف هذا بالاعتبار. الصفحة : 178 فصل في القديم والحادث يقال قديم للشيء إما بحسب الذات وإما بحسب الزمان فالقديم بحسب الذات هو الذي ليس لذاته مبدأ هي به موجودة: والقديم بحسب الزمان هو الذي لا أول لزمانه. والمحدث أيضاً على وجهين. أحدهما هو الذي لذاته مبدأ هي به موجودة. والآخر هو الذي لزمانه ابتداء وقد كان وقت لم يكن وكانت قبلية هو فيها معدوم وقد بطلت تلك القبلية - ومعنى ذلك كله أنه يوجد زمان هو فيه معدوم وذلك لأن كل ما لزمان وجوده بداية زمانية دون البداية الابداعية فقد سبقه زمان وسبقته مادة قبل وجوده لأنه قد كان لا محالة معدوماً - فإما أن يكون عدمه قبل وجوده أو مع وجوده. والقسم الثاني محال. فيقي أن يكون معدوماً قبل وجوده فلا يخلو إما أن يكون لوجوده قبل أو لا يكون: فإن لم يكون لوجوده قبل قلم يكن معدوماً قبل وجوده وإن كان لوجوده قبل فإما أن يكون ذلك القبل شيئاً معدوماً أو شيئاً موجوداً فإن كان شيئاً معدوماً فلم يكن له قبل موجود كان فيه معدوماً وأيضاً فإن القبل المعدوم موجود مع وجوده فبقي أن القبل الذي كان له شيء موجود وذلك الشيء الموجود ليس الآن موجوداً فهو شيء قد مضى وكان موجوداً - وذلك إما ماهية لذاته وهو الزمان - وإما ماهية لغيره وهو زمانه فيثبت الزمان على كل حال. الصفحة : 179 فصل في أن كل حادث زماني فهو مسبوق بالمادة لا محالة ونقول أنه لا يمكن أن يحدث ما لم يتقدمه وجود القابل وهو المادة ولنبرهن على هذا القول إن كل كائن فيحتاج أن يكون قبل كونه ممكن الوجود في نفسه فإنه إن كان ممتنع الوجود في نفسه لم يكون البتة. وليس إمكان وجوده هو أن الفاعل قادر عليه بل الفاعل لا يقدر عليه إذا لم يكن هو في نفسه ممكناً ألا ترى أنا نقول إن المحال لا قدرة عليه ولكن القدرة هي على ما يمكن أن يكون فلو كان إمكان كون الشيء هو نفس القدرة عليه كان هذا القول كأنا نقول إن القدرة إنما تكون على ما عليه القدرة. والمحال ليس عليه قدرة لأنه ليس عليه قدرة. وما كنا نعرف أن هذا الشيء مقدور عليه أو غير مقدور عليه بنظرنا في نفس الشيء بل بنظرنا في حال قدرة القادر عليه هل له عليه قدرة أم لا. فإن أشكل علينا أنه مقدور عليه أو غير مقدور عليه لم يمكنا أن نعرف ذلك البتة لأنا إن عرفنا ذلك من جهة أن الشيء محال أو ممكن. وكان معنى المحال هو أنه غير مقدور عليه - ومعنى الممكن أنه مقدور عليه كنا عرفنا المجهول بالمجهول. فبين واضح أن معنى كون الشيء ممكناً في نفسه هو غير معنى كونه مقدوراً عليه. وإن كانا بالذات واحداً وكونه مقدوراً عليه لازم لكونه ممكناً في نفسه وكونه ممكناً في نفسه هو باعتبار ذاته وكونه مقدوراً عليه باعتبار إضافته إلى موجده فإذا تقرر هذا فإننا نقول إن كل حادث فإنه قبل حدوثه إما أن يكون في نفسه ممكناً أن يوجد قد سبقه إمكان وجوده فلا يخلو إمكان وجوده من أن يكون معنى معدوماً أو معنى موجوداً ومحال أن يكون معنى معدوماً وإلا فلم يسبقه إمكان وجوده فهو إذاً معنى موجود وكل معنى موجود فإما قائم لا في موضوع أو قائم في موضوع وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافاً. وإمكان الوجود إنما هو ما هو بالاضافة إلى ما هو إمكان وجود له فليس إمكان الوجود جوهراً لا في موضوع فهو إذاً معنى في موضوع وعارض لموضوع ونحن نسمي إمكان الوجود قوة الوجود ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعاً وهيولى ومادة وغير ذلك فإذاً كل حادث فقد تقدمته المادة. الصفحة : 180 فصل في تحقيق معنى الكلي المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالانسان بما هو إنسان شيء وبما هو عام أو خاص أو واحد أو كثير وذلك له بالقوة أو بالفعل شيء آخر فإنه بما هو إنسان فقط بلا شرط آخر البتة شيء ثم العموم شرط زائد على أنه إنسان والخصوص كذلك وأنه واحد كذلك وأنه كثير كذلك وليس ذلك إذا فرضت هذه الأحوال بالفعل فقط بل وإذا فرضت هذه الأحوال أيضاً بالقوة واعتبرت الانسانية بالقوة كان هناك إنسانية واعتبار غير الانسانية مضاف فتكون الانسانية وإضافة ما فالانسانية بما هي إنسانية لا عامة ولا خاصة لا بالقوة أحدهما ولا بالفعل بل يلزمها ذلك وليس إذا كانت الانسانية لا توجد إلا واحدة أو كثيرة تكون الانسانية بما هي إنسانية إما واحدة وإما كثيرة ففرق بين قولنا إن هذا لا يوجد إلا وله أحد الحالين وبين قولنا إن أحد الحالين له بما هو إنسانية وليس يلزم من قولنا إن الانسانية ليست بما هي إنسانية واحدة إن الانسانية بما هي إنسانية كثيرة كما لو فرضنا بدل الانسانية الوجود الذي هو من جهة أعم من الواحد والكثير ولا أيضاً نقيض قولنا إن الانسانية بما هي إنسانية واحدة أن الانسانية بما هي إنسانية كثيرة بل أن الانسانية ليست بما هي انسانية واحدة ولا كثيرة - وإذا كان ذلك كذلك جاز أن توجد لا بما هي إنسانية بل بما هي موجودة واحدة أو كثيرة - وإذا عرفت هذا فقد يقال كلي للانسانية بلا شرط ويقال كلي للانسانية بشرط أنها مقولة بوجه ما من الوجوه المعلومة على كثيرين. والكلي بالاعتبار الأول موجود بالفعل في الأشياء وهو المحمول على كل واحد لا على أنه واحد بالذات ولا على أنه كثير فإن ذلك ليس له بما هو إنسانية وأما الاعتبار الثاني فله جهتان - أحدهما اعتبار القوة في الوجود - والثاني اعتبار القوة إذا صار مضافاً إلى الصورة المعقولة عنها - أما اعتبار القوة في الوجود حتى يكون إنسانية في الوجود وهي بالقوة بعينها محمولة على كل واحد فتنتقل من واحد إلى واحد فتكون لم تفسد ذات الأول بل الخاصة وتكون هي بعينها بالفعل شيء واحد في الوجود محمولاً على كل واحد وقتاً ما فهذا غير موجود فبين ظاهر أن الانسان الذي اكتنفته الأعراض المخصصة بشخص لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وشخص عمرو ويكون بعينه مكتنفاً بأعراض متضادة - وأما اعتبار القوة بالوجه الأخير فموجود فإن الانسانية التي في زيد إذا قيست إلى الصورة المعقولة عنها لم تكن ما يعقل منها أولى بالحمل على زيد منه بالحمل على عمرو ولا تأثيرها في النفس صورة عقلية مأخوذة الصفحة : 181 عنه أولى من الذي في عمرو بل من الجائز أن يكون لو سبق الذي في عمرو إلى العقل لأخذ منه هذه الصورة المعقولة جائز من حالها أن ترتسم في النفس عن أي ذلك سبق إليها. فليس قياسها إلى واحد من تلك أولى من قياسها إلى الآخر بل هي مطابقة للجميع فلا كلي عامي في الوجود بل وجود الكلي عاماً بالفعل إنما هو في العقل وهي الصورة التي في العقل التي نسبتها بالفعل أو بالقوة إلى كل واحد واحدة. والكلي الذي يوجد في القضايا والمقدمات هو القسم الأول وقد أشير إليه في كتب المنطق. فصل في التام والناقص التام هو الذي يوجد له جميع ما من شأنه أن يوجد له والذي ليس شيء مما يمكن أن يوجد له ليس له وذلك إما في كمال الوجود وإما في القوة الفعلية وإما في القوة الانفعالية - وإما في الكمية والناقص مقابله. والقبل يقال بالطبع وهو إذا كان لا يمكن أن يوجد الآخر إلا وهو موجود. ويوجد وليس الآخر موجوداً كالاثنين والواحد ويقال في الزمان وذلك ظاهر ويقال في المرتبة وهو في الاضافة إلى مبدأ محدود وهو إما المبدأ الذي يضاف إليه سائر الأشياء بالقياس إلى تلك الأشياء وإما واحداً من تلك الأشياء هو منها أقرب إليه وهذا قد يكون بالذات كما في الأجناس والأنواع المتتالية وقد يكون بالاتفاق كالذي يقع متقدماً في الصف الأول فيكون أقرب إلى القبلية وقد يكون بالأحرى كتقديم كتاب " ايساغوجي وقاطيغورياس " على المنطق. ويقال قبل في الكمال كقولنا أن أبا بكر قبل عمر في الشرف. ويقال قبل بالعلية فإن للعلة استحقاق الوجود قبل المعلول فإنهما بما هما دانان ليس يلزم فيهما خاصية التقدم والتأخر ولا خاصية المع وبما هما متضايفان علة ومعلول فهما معاً وأيهما كان بالقوة فكلاهما كذلك. وإن كان أحدهما بالفعل فكلاهما كذلك ولكن بما أن أحدهما له الوجود أولا غير مستفاد من الآخر والآخر فإن الوجود له مستفاد من الأول فهو متقدم عليه - وإذا تؤمل حال المتقدم في جميع الأنحاء وجد المتقدم هو الذي له ذلك الوصف حيث ليس الآخر والآخر ليس له إلا وذلك للمذكور أنه أول. والمتأخر مقابل المتقدم في كل واحد وقد يكون ما هو أقدم بالعلية قد يزول ويبقى المعلول بعلة أخرى تقوم مقامه مثل السكون الواحد الذي يثبته شيئان متعاقبان فهو متأخر عنهما في المعلولية وقد يوجد لا مع كل واحد منهما - وكذلك الهيولى مع الصورة - واعلم أنه فرق بين أن يقال إذا رفعت هذا ارتفع هذا وبين الصفحة : 182 أن يقال إن هذا لا يوجد حين لا يوجد ذاك فإن معنى الأول أنه إذا وجب عدم هذا وجب أن يعدم ذلك فعدم هذا علة لعدم ذاك. ومعنى الآخر أنه أي وقت يصدق فيه أن هذا ليس فإنه يصدق فيه أن ذاك ليس ويصح أن يقال إنه إذا لم توجد العلة لم يوجد المعلول وأنه إذا لم يوجد المعلول لم توجد العلة. ولا يصح أن يقال إذا رفع المعلول ارتفعت العلة كما يصح أن يقال إذا ارتفعت العلة ارتفع المعلول بل إذا رفعت العلة ارتفع المعلول وإذا رفع المعلول قد كانت العلة ارتفعت أولاً لعلة أخرى حتى يصح رفع المعلول. لا أن نفس رفع المعلول هو رافع العلة. كما أن نفس رفع العلة هو رافع المعلول. فصل في بيان الحدوث الذاتي واعلم أنه كما أن الشيء قد يكون محدثاً بحسب الزمان فكذلك قد يكون محدثاً بحسب الذات فإن المحدث هو الكائن بعد أن لم يكن فالبعدية كالقبلية قد تكون بالزمان وقد تكون بالذات فإذا كان الشيء له في ذاته أن لا يجب له وجود بل هو باعتبار ذاته وحدها بلا علتها لا يوجد - وإنما يوجد بالعلة والذي بالذات قبل الذي من غير الذات فيكون لكل معلول في ذاته أولاً أنه ليس ثم عن العلة: وثانياً أنه أيس فيكون كل معلول محدثاً أي مستفيد الوجود من غيره بعد ما له في ذاته أن لا يكون موجوداً فيكون كل معلول في ذاته محدثاً. وإن كان مثلاً في جميع الزمان موجوداً مستفيداً لذلك الوجود عن موجد فهو محدث لأن وجوده من بعد لا وجوده بعدية بالذات ومن الجهة التي ذكرناها وليس حدوثه إنما هو في آن من الزمان فقط بل هو محدث في جميع الزمان والدهر ولا يمكن أن يكون حادث بعد ما لم يكن بالزمان إلا وقد تقدمته المادة التي منها حدث. الصفحة : 183 فصل في أنواع الواحد والكثير يقال واحد لما هو غير منقسم من الجهة التي قيل له أنه واحد فمن غير المنقسم ما لا ينقسم في الجنس فيكون واحداً في الجنس ومنه ما لا ينقسم في النوع فيكون واحداً في النوع. ومنه ما لا ينقسم بالعرض العام فيكون واحداً بالعرض كالغراب والفار في السواد. ومنه ما لا ينقسم بالمناسبة فيكون واحداً في المناسبة كما يقال إن نسبة الملك إلى المدينة والعقل إلى النفس واحد. ومنه ما لا ينقسم في الموضوع فيكون واحداً في الموضوع وإن كان كثيراً في الحد - ولهذا يقال إن الذابل والنامي واحد في الموضوع ومنه ما لا ينقسم معناه في العدد أي لا ينقسم إلى أعداد لها معانيه أي ليست بالفعل أعداد لها معانيه فهو واحد بالعدد. ومنه ما لا ينقسم بالحد أي حده ليس لغير وليس له في كمال حقيقة ذاته نظير فهو واحد بالكلية - ولهذا يقال إن الشمس واحدة. والواحد بالعدد إما أن يكون فيه بوجه من الوجوه كثرة بالفعل فيكون واحداً بالتركيب والاجتماع - وإما أن لا يكون وإن لم تكن بالفعل وكانت بالقوة فهو متصل وواحد بالاتصال وإن لم تكن ولا بالقوة فهو واحد بالعدد على الاطلاق. والكثير يكون كثيراً على الاطلاق وهو العدد المقابل للواحد وهو ما وجد فيه واحد وليس بالواحد في الحد من جهة ما هو فيه أي يوجد واحد ليس هو وحده فيه وهذا مبدأ عنه يأخذ الحساب في البحث. وقد يكون الكثير كثيراً بالاضافة وهو الذي يترتب بإزائه القليل. وأقل العدد اثنان والمشابهة اتحاد في الكيفية. والمساواة اتحاد في الكمية. والمجانسة اتحاد في الجنس والمشاكلة اتحاد في النوع. والموازاة اتحاد في وضع الأجزاء. والمطابقة اتحاد في الأطراف. والهوهو اتحاد بين اثنين جعلا اثنين في الوضع فيصير بينهما اتحاد بنوع من الاتحادات الواقعة بين اثنين مما قبل. ويقابل كل واحد منها من باب الكثير الخلاف والتقابل والتضاد. الصفحة : 184 المقالة الثانية من الآلهيات إن الواجب الوجود هو الوجود الذي متى فرض غير موجود عرض منه محال وأن الممكن الوجود هو الضروري الوجود والممكن الوجود هو الذي لا ضرورة فيه بوجه أي لا في وجوده ولا في عدمه - فهذا هو الذي نعنيه في هذا الموضع بممكن الوجود وإن كان قد يعني بممكن الوجود ما هو في القوة ويقال الممكن على كل صحيح الوجود وقد فصل ذلك في المنطق ثم أن الواجب الوجود قد يكون واجباً بذاته وقد لا يكون بذاته - أما الذي هو واجب الوجود بذاته فهو الذي لذاته لا لشيء آخر أي شيء كان يلزم محال من فرض عدمه - وأما الواجب الوجود لا بذاته فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود لا بذاته فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود مثلاً أن الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ولكن عند فرض اثنين واثنين والاحتراق واجب الوجود لا بذاته ولكن عند فرض التقاء القوة الفاعلة بالطبع والقوة المنفعلة بالطبع أعني المحرقة والمحترقة. فصل في أن الواجب بذاته لا يجوز أن يكون واجباً بغيره وأن الواجب بغيره ممكن ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معاً فإنه إن رفع غيره أو لم يعتبر وجوده لم يخل إما أن يبقى وجوب وجوده على حاله فلا يكون وجوب وجوده بغيره - وإما أن لا يبقى وجوب وجوده فلا يكون وجوب وجوده بذاته وكل ما هو واجب الوجود بغيره فإنه ممكن الوجود بذاته لأن ما هو واجب الوجود بغيره فوجوب وجوده تابع لنسبة ما وإضافة: والنسبة والاضافة اعتبارهما غير اعتبار نفس ذات الشيء التي لها نسبة وإضافة: والنسبة والاضافة اعتبارهما غير اعتبار نفس ذات الشيء التي لها نسبة وإضافة: ثم وجوب الوجود إنما يتقرر باعتبار هذه النسبة فاعتبار الذات وحدها لا يخلو إما أن يكون مقتضياً لوجوب الوجود أو مقتضياً لإمكان الوجود أو مقتضياً لامتناع الوجود ولا يجوز أن يكون مقتضياً لامتناع الوجود لأن كل ما امتنع وجوده بذاته لم يوجد ولا بغيره " ولا أن يكون موجوداً معاً وإما أن لا يكون موجوداً معاً فإن لم يكن موجوداً معاً غير المتناهي في زمان واحد ولكن واحد قبل الآخر - ولنؤخر الكلام في هذا " وإما أن يكون موجوداً مقتضياً لوجوب الوجود فقد قلنا إن ما وجب وجوده بذاته استحال وجوب وجوده بغيره فبقي أن يكون باعتبار ذاته ممكن الوجود وباعتبار إيقاع الصفحة : 185 النسبة إلى ذلك الغير واجب الوجود وباعتبار قطع النسبة التي إلى ذلك الغير ممتنع الوجود وذاته بذاته بلا شرط ممكنة الوجود. فقد بان أن كل واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته - وهذا ينعكس فيكون كل ممكن الوجود بذاته فإنه إن حصل وجوده كان واجب الوجود بغيره لأنه لا يخلو إما أن يصح له وجود بالفعل وإما أن لا يصح له وجود بالفعل ومحال أن لا يصح له وجود بالفعل وإلا كان ممتنع الوجود فبقي أن يصح له وجود بالفعل فحينئذ إما أن يجب وجوده وإما أن لا يجب وجوده وما لم يجب وجوده فهو بعد ممكن الوجود لم يتميز وجوده عن عدمه ولا فرق بين هذه الحالة فيه والحالة الأولى لأنه قد كان قبل الوجود ممكن الوجود والآن هو بحاله كما كان فإن وضع أن حالاً تجددت فالسؤال عن تلك الحال ثابت هل هي ممكنة الوجود أو واجبة الوجود فإن كانت ممكنة الوجود فإن تلك الحال كانت قبل أيضاً موجودة على امكانها فلم يتجدد حالة وليست تلك الحالة إلا خروجه إلى الوجود فخروجه إلى الوجود واجب وأيضاً فإن كل ممكن الوجود فإما أن يكون وجوده بذاته أو يكون لسبب ما فإن كان بذاته فذاته واجبة الوجود لا ممكنة الوجود وإن كان بسبب فإما أن يجب وجوده مع وجود السبب وإما أن يبقى على ما كان عليه قبل وجود السبب وهذا محال فيجب إذاً أن يكون وجوده مع وجود السبب فكل ممكن الوجود بذاته فهو إنما يكون واجب الوجود بغيره. وأن كل متلازمين في الوجود متكافئين فيه فلهما علة خارجة عنهما ولا يجوز أن يكون اثنان يحدث منهما واجب وجود واحد ولا أن يكون في واجب الوجود كثرة بوجه من الوجوه ولا يجوز أن يكون شيآن اثنان ليس هذا ذاك ولا ذاك هذا وكل واحد منهما واجب الوجود بذاته وبالآخر فقد بان أن واجب الوجود بذاته لا يكون واجب الوجود بغيره ولا يجوز أن يكون كل واحد منهما واجب الوجود بالآخر حتى يكون " ا " واجب الوجود " بب " لا بذاته " وب " واجب الوجود " بأ " لا بذاته وجملتهما واجب وجود واحد وذلك لأن اعتبارهما ذاتين غير اعتبارهما متضايفين ولكل واحد منهما وجوب وجود لا بذاته فكل واحد منهما ممكن الوجود بذاته ولكل ممكن الوجود بذاته علة في وجوده أقدم منه لأن كل علة أقدم في وجود الذات من المعلول وإن لم يكن في الزمان فلكل واحد منهما في الذات شيء آخر يقوم به أقدم من ذاته وليس ذات أحدهما أقدم من ذات الآخر على ما وصفنا فلهما إذاً علل خارجة عنهما الصفحة : 186 أقدم منهما فليس إذاً وجوب وجود كل واحد منهما مستفاداً من الآخر بل من العلة الخارجة التي أوقعت العلاقة بينهما وأيضاً فإن ما يجب بغيره فوجوده بالذات متأخر عن وجود ذلك الغير ومتوقف عليه: ثم من المستحيل أن تتوقف ذات في أن توجد على ذات توجد بها فكأنها تتوقف في الوجود على وجود نفسها - وبالجملة فإذا كان ذلك الغير يجب به كان هذا أقدم مما هو أقدم منه ومتوقف على ما هو متوقف عليه فوجودهما محال. فصل في بساطة الواجب ونقول أيضاً إن واجب الوجود لا يجوز أن يكون لذاته مبادئ تجتمع فيقوم منها واجب الوجود لا أجزاء الكمية ولا أجزاء الحد والقول سواء كانت كالمادة والصورة أو كانت على وجه آخر بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه فيدل كل واحد منها على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته - وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر ولا ذات المجتمع فإما أن يصح لكل واحد من جزئيه مثلاً وجود منفرد لكنه لا يصح للمجتمع وجود دونها فلا يكون المجتمع واجب الوجود أو يصح ذلك لبعضها ولكنه لا يصح للمجتمع وجود دونه فما لم يصح له من المجتمع والأجزاء الأخرى وجود منفرد فليس واجب الوجود ولم يكن واجب الوجود إلا الذي يصح له وإن كان لا يصح لتلك الأجزاء مفارقة الجملة في الوجود ولا للجملة مفارقة الأجزاء وتعلق وجود كل بالآخر وليس واحد أقدم بالذات فليس شيء منها بواجب الوجود " فقد أوضحت هذا على أن الأجزاء بالذات أقدم من الكل " فتكون العلة الموجبة للوجود توجب أولاً الأجزاء ثم الكل ولا يكون شيء منهما واجب الوجود وليس يمكننا أن نقول إن الكل أقدم بالذات من الأجزاء فهو إما متأخر وإما معاً وكيف كان فليس بواجب الوجود فقد اتضح من هذا أن واجب الوجود ليس بجسم ولا مادة جسم ولا صورة جسم ولا مادة معقولة لصورة معقولة ولا صورة معقولة في مادة معقولة ولا له قسمة لا في الكم ولا في المبادئ ولا في القول فهو واحد من هذه الجهات الثلاث. الصفحة : 187 فصل في أن الواجب تام وليس له حالة منتظرة ونقول إن واجب الوجود بذاته واجب الوجود بجميع جهاته وإلا فإن كان من جهة واجب الوجود ومن جهة ممكن الوجود فكانت تلك الجهة تكون له ولا تكون له ولا تخلو عن ذلك وكل منهما بعلة يتعلق الأمر بها ضرورة فكانت ذاته متعلقة الوجود بعلتي أمرين لا يخلو منهما فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقاً بل مع العلتين سواء كان أحدهما وجوداً والآخر عدماً أو كان كلاهما وجوديين فبين من هذا أن الواجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظر بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له فلا له إرادة منتظرة ولا طبيعة منتظرة ولا علم منتظر ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة. وكل واجب الوجود بذاته فإنه خير محض وكمال محض والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده: والشر لا ذات له بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر فالوجود خيرية وكمال الوجود خيرية الوجود والوجود الذي لا يقارنه عدم لا عدم جوهر ولا عدم شيء للجوهر بل هو دائم بالفعل فهو خير محض والممكن الوجود بذاته ليس خيراً محضاً لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود فذاته بذاته تحتمل العدم وما احتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئاً من الشر والنقص فإذاً ليس الخير المحض إلا الواجب بذاته وقد يقال أيضاً خير لما كان نافعاً ومفيداً لكمالات الأشياء - وسنبين أن الواجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيداً لكل وجود ولكل كمال وجود فهو من هذه الجهة خير أيضاً لا يدخله نقص ولا شر. الصفحة : 188 فصل في أن الواجب حق بكل معاني الحقية وكل واجب الوجود بذاته فهو حق محض لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له فلا حق إذاً أحق من الواجب الوجود. وقد يقال أيضاً حق لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً فلا حق أحق بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقاً ومع صدقه دائماً ومع ذلك دوامه لذاته لا لغيره. لا يقال على كثيرين إذ لا مثل له ولا ضد ولا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته لأن وجود نوعه له بعينه أما أن تقتضيه ذات نوعه أو لا تقتضيه ذات نوعه بل تقتضيه علة فإن كان معنى نوعه له لذات معنى نوعه لم يوجد إلا له وإن كان لعلة فهو معلول ناقص وليس واجب الوجود وكيف يمكن أن تكون الماهية المجردة عن المادة لذاتين والشيئان إنما يكونان اثنين إما بسبب المعنى وإما بسبب الحامل للمعنى وإما بسبب الوضع والمكان أو بسبب الوقت والزمان وبالجملة لعلة من العلل وكل اثنين لا يختلفان بالمعنى فإنما تختلفان بشيء غير المعنى وكل معنى موجود بعينه لكثيرين مختلفين فهو متعلق الذات بشيء مما ذكرناه من العلل ولواحق العلل فليس واجب الوجود وأقول قولاً مرسلاً إن كل ما ليس اختلافه لمعنى ولا يجوز أن يتعلق إلا بذاته فقط فلا يخالف مثله بالعدد فلا يكون إذاً له مثل لأن المثل مخالف بالعدد فبين من هذا أن واجب الوجود لذاته لا ند له ولا مثل ولا ضد لأن الأضداد متفاسدة ومتشاركة في الموضوع وواجب الوجود بريء من المادة. الصفحة : 189 فصل في أنه واحد من وجود شتى وأيضاً فهو تام الوجود لأن نوعه له فقط فليس من نوعه شيء خارج عنه واحد وجوه الواحد أن يكون تاماً فإن الكثير والزائد لا يكونان واحدين فهو واحد من جهة تمامية وجوده وواحد من جهة أن حده له واحد وواحد من جهة أنه لا ينقسم لا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له ولا بأجزاء الحد وواحد من جهة أن لكل شيء وجدة تخصه وبها كمال حقيقته الذاتية وأيضاً هو واحد من جهة أخرى وتلك الجهة هي أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له. فصل في البرهان على أنه لا يجوز أن يكون اثنان واجبي الوجود أي أن الوجود الذي يوصف به ليس هو لغيره وإن لم يكن من جنسه ونوعه. ولا يجوز أن يكون وجوب الوجود مشتركاً فيه ولنبرهن على هذا فنقول إن وجوب الوجود إما أن يكون شيئاً لازماً لماهية تلك الماهية هي التي لها وجوب الوجود كما نقول للشيء إنه مبدأ فتكون لذلك الشيء ذات وماهية ثم يكون معنى المبدأ لازماً لتلك الذات كما أن إمكان الوجود قد يوجد لازماً لشيء له في نفسه معنى مثل أنه جسم أو بياض أو لون ثم هو ممكن الوجود وإمكان الوجود يلزمه ولا يكون داخلاً في حقيقته وإما أن يكون وجوب الوجود هو نفس واجب الوجود ويكون نفس وجوب الوجود طبيعة كلية ذاتية له فنقول أولاً أنه لا يمكن أن يكون وجوب الوجود من المعاني اللازمة لماهية فإن تلك الماهية حينئذ تكون سبباً لوجوب الوجود فيكون وجوب الوجود متعلقاً بسبب فلا يكون وجوب الوجود موجوداً بذاته فإن وجوب الوجود من المعلوم أنه إذا لم يكن داخلاً في ماهية شيء بل كان الشيء كإنسان أو شجرة أو سماء أو غير ذلك مما قد علمت أن الوجود ووجوبه ليس داخلاً في ماهيته كان لازماً له كالخاصية أو العارض العام لا كالجنس والفصل وإذا كان لازماً كان تابعاً غير متقدم والتابع معلول فكان وجوب الوجود معلولاً فلم يكن وجوب وجود بالذات وقد أخذناه بالذات فإن لم يكن وجوب الوجود كاللازم بل كان داخلاً في الماهية أو ماهية فإن كان ماهية عاد إلى أن النوعية واحدة وإن كان داخلاً في الماهية فتلك الماهية إما أن تكون بعينها لكليهما فيكون نوع وجوب الوجود مشتركاً فيه وقد أبطلنا هذا أو يكون لكل ماهية أخرى فإن لم يشتركا في شيء لم يجب أن يكون كل واحد منهما قائماً في موضوع وهو معنى الجوهرية المقول عليهما بالسوية وليس لأحدهما أولاً وللثاني آخراً فلذلك هو الصفحة : 190 جنس لهما فإذا لم يجب ذلك كان أحدهما قائماً في موضوع فيكون ليس واجب الوجود وإن اشتركا في شيء ثم كان لكل واحد منهما بعده معنى على حدة تتم به الماهية ويكون داخلاً فيها فكل واحد منهما منقسم بالقول وقد قيل أن واجب الوجود لا ينقسم بالقول فليس ولا واحد منهما واجب الوجود وإن كان لأحدهما ما يشتركان فيه فقط وللثاني معنى زائد عليه فأما الأول فيفارقه بعدم هذا المعنى ووجود ذلك المعنى المشترك فيه بشرط تجريده عما لغيره وعدمه فيه فيكون الذي لا تجريد له منقسماً في القول غير واجب الوجود ويكون الآخر هو الواجب الوجود وحده ويكون المعنى المشترك فيه لا يوجب وجوب وجود إلا أن يشترك فيه عدم ما سواه من غير أن تكون تلك الأعدام وجودات لأشياء وذواتاً فإنه ليس كل اعدام تكون للأشياء تكون ذواتاً ومعاني زائدة ولو كان كذلك لكان في كل شيء واحد أشياء بلا نهاية موجودة لأن في كل شيء اعدام أشياء بلا نهاية ومع هذا كله فإن كل ما يجب وجوده فليس يجب وجوده بما يشارك به غيره ولا يتم به وحده وجوب ذاته بل إنما يتم وجوده بجميع ما يشارك به غيره وبما يتم به وجود ذاته فالذي يتم به وجوده ويزيد على ما يشارك به غيره فإما أن يكون شرطاً في نفس وجوب الوجود وإما أن لا يكون فإن كان ذلك كله شرطاً في نفس وجوب الوجود وجب أن يوجد لكل واجب الوجود فكل ما يوجد لكل واحدة من الماهية يوجد للأخرى فلا يكون بينهما انفصال البتة بمقوم وقد وضع بينهما اختلاف في هذا النوع هذا خلف وأما إن لم يكن شرطاً في نفس وجوب الوجوب وما ليس بشرط في شيء فالشيء يتم دونه فوجوب الوجود يتم دون ما اختلفا فيه فيكون ما اختلفا فيه عارضين لوجوب الوجود وهما متفقان في ماهية وجوب الوجود ونوعيته واختلفا بالعوارض دون الأنواع هذا خلف فإن جعل الشرط في وجوب الوجود أحد الفصلين لا بعينه فليس أحدهما بعينه شرطاً ولا الآخر بعينه شرط فتساويا في أنه ليس أحدهما بشرط فكيف يكون أحدهما لا بعينه شرطاً " فإن قال قائل " هذا مثل المادة ليست هذه الصورة لها بعينها شرطاً ولا ضدها ولكن أحدهما لا بعينه أو مثل أن اللون لا يتقرر وجوده إلا أن يكون سواداً أو بياضاً لا بعينه ولكن أحدهما فقد ذهب عليه الفرق فيقال له أما المادة فإحدى الصورتين بعينها شرط لها في زمان والأخرى ليست بشرط في ذلك الزمان وفي الزمان الآخر فإن الصورة الأخرى بعينها شرط لها والأولى ليست وكل واحدة منهما في نفسها ممكنة لها إذا أخذت مطلقة بلا شرط والمادة أيضاً ممكنة فإذا وجبت الصفحة : 191 بعلة إحدى الصورتين أوجبت تلك الصورة بعينها وكيفما كان الحال فإن المادة سواء كان أحدهما شرطاً في وجوبها بعينه أو إحداهما لا بعينه فلها شرط في الوجوب غير نفس طبيعتها ولو كان لوجوب الوجود شرط متعلق بشيء خارج عنه لكان ليس وجوب الوجود بالذات وأما اللونية فليست تصير لونية بسواد أو بياض بل هي لونية بأمر يعمهما لكن لا توجد مفردة إلا مع فصل كل واحد منهما فليس ولا واحد من الأمرين للونية بشرط في اللونية ولكنه شرط في الوجود المحض ثم في كل زمان وفي كل مادة فالشرط أحدهما بعينه لا الآخر فهذه اللونية التي بحسب الزمان وبحسب هذه المادة إنما يوجدها فصل السواد وكذلك الأخرى موجدها فصل البياض واللونية المطلقة إما أن يكون ولا واحد منهما شرطاً في وجوده على أنه بعض الشرط ولا شرط تام والشرط التام هو اجتماعهما وبالجملة فإن الشيء الواحد من جهة واحدة يكون شرطه شيئاً واحداً لا أي شيئين اتفقا إنما يكون هذا إذا كان له جهتان ولكل جهة شرط بعينه فلا يخلو عنهما فلا يتعلق بأحدهما بعينه لذاته بل باتفاق سبب من جهته وأما ذاته بذاته فلا شرط له إلا الواحد كما أن اللونية شرطها بذاتها أمر واحد وشرطها في جهات وجودها أمور تكون لكل وقت بعينه وكما أن اللونية في أنها لونية ليس أحد الأمرين بعينه وبغير عينه شرطاً لها في ماهية لونيتها بل في انية لونيتها وحصولها بالفعل كذلك يجب أن لا يكون أحد الأمرين شرطاً في وجوب الوجود من جهة ماهية كونه وجوب الوجود بل من جهة انيته فتكون انية وجوب الوجود غير ماهيته وهذا خلف فإنه يلزم أن يكون واجب الوجود يطرأ عليه وجود ليس له في حد نفسه كما يطرأ على الانسانية والفرسية وكما في اللونية بل كما أنه يجوز أن يقال في اللونية إن أحدهما لا بعينه شرط في اللونية لا لنفس اللونية بل لاختلاف وجودات اللونية كذلك إن كان لوجوب الوجود أحد الفصلين لا بعينه شرطاً فيجب أن يكون لا لأنه وجوب الوجود فيكون وجوب الوجود متقرراً دونه غير محتاج إليه ولكنه شرط في تخصيص وجوده فإن كان سبب تخصيص وجوده أن رفع يبطله فهو غير واجب الوجود وإن لم يكن يبطله فيبقى حينئذ واجب الوجود واحداً أو كثيراً لا اختلاف بين آحاده البتة وكلاهما على الوضع المفروض محال فقد بان أنه ليس ولا واحد من خاصيتي الماهيتين المذكورتين شرطاً في وجوب الوجود بوجه من الوجوه لا بعينه ولا لا بعينه فقد بطل أن يكون وجوب الوجود مشتركاً فيه على أن يكون لازماً أو يكون جنساً ونقول ولا على أن يكون مقوما لماهية الشيء وهذا أظهر فإن وجوب الوجود إذا كان الصفحة : 192 طبيعة بنفسها فليكن " ا " ثم انقسمت إلى مثيرين فإنها تنقسم في مختلفين بالعدد فقط وقد منعنا هذا: إذاً فتختلف في منقسمين بالنوع فينقسم بفصول فلتكن هي " ب و ج " وتلك الفصول لا تكون شريطة فيها " وهي في نفسها طبيعة منفردة أظهر " فإن طبيعة وجوب الوجود ليست طبيعة وجوب الوجود هذا خلف وبالجملة يجب أن تعرف أن حقيقة وجوب الوجود ليست كطبيعة اللون والحيوان الجنسين اللذين يحتاجان إلى فصل وفصل حتى يتقرر وجودهما لأن تلك الطبائع معلولة وإنما يحتاجان إلى الفصول لا في نفس اللونية والحيوانية المشتركة فيهما بل في الوجود وههنا فوجوب الوجود هو مكان اللونية والحيوانية وكما أن ذينك لا يحتاجان إلى فصول في أن يكونا لوناً وحيواناً فكذلك هذا لا يحتاج إلى الفصول في أن يكون وجوب وجود ثم وجوب الوجود ليس له وجود ثان يحتاج فيه إليها فإن اللون هناك يحتاج بعد اللونية إلى الوجود مشتركاً فيه لا أن كان لازماً لطبيعة ولا أن كان طبيعة بذاته فإذاً واجب الوجود واحد لا بالنوع فقط أو بالعدد أو عدم الانقسام أو التمام فقط بل في أن وجوده ليس لغيره وإن لم يكن من جنسه ولا يجوز أن يقال واجبي الوجود لا يشتركان في شيء كيف وهما مشتركان في وجوب الوجود ومشتركان في البراءة عن الموضوع فإن كان وجوب الوجود يقال عليهما بالاشتراك فكلامنا ليس في معنى منع كثرة ما يقال له واجب الوجود بالاسم بل بمعنى واحد من معاني ذلك الاسم فإن كان بالتواطؤ فقد حصل معنى عام عموم لازم أو عموم جنس وقد بينا استحالة ذلك وكيف يكون عموم وجوب الوجوب لشيئين على سبيل اللوازم التي تعرض من خارج واللوازم معلولة ووجوب الوجود المحض غير معلول. الصفحة : 193 فصل في اثبات واجب الوجود لا شك أن هنا وجوداً وكل وجود فإما واجب وإما ممكن فإن كان واجباً فقد صح وجود الواجب وهو المطلوب وإن كان ممكناً فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود وقبل ذلك فإنا نقدم مقدمات فمن ذلك أنه لا يمكن أن يكون في زمان واحد لكل ممكن الذات علل ممكنة الذات بلا نهاية وذلك لأن جميعها إما أن يكون موجوداً معاً وإما أن لا يكون موجوداً معاً فإن لم يكن موجوداً معاً غير المتناهي في زمان واحد ولكن واحد قبل الآخر فلنؤخر الكلام في هذا وأما أن يكون موجوداً معاً ولا واجب وجود فيه فلا يخلو إما أن تكون الجملة بما هي تلك الجملة سواء كانت متناهية أو غير متناهية واجبة الوجود بذاتها أو ممكنة الوجود فإن كانت واجبة الوجود بذاتها وكل واحد منها ممكن يكون الواجب الوجود متقوماً بممكنات الوجود هذا خلف وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد الوجود فإما أن يكون خارجاً منها أو داخلاً فيها فإن كان داخلاً فيها فإما أن يكون واحداً منها واجب الوجود وكان كل واحد منهما ممكن الوجود هذا خلف - وإما أن يكون ممكن الوجود فيكون هو علة لوجود الجملة وعلة الجملة علة أولا لوجود أجزائها ومنها هو فهو علة لوجود نفسه وهذا مع استحالته إن صح فهو من وجه ما نفس المطلوب فإن كل شيء يكون كافياً في أن يوجد ذاته فهو واجب الوجود وكان ليس واجب الوجود هذا خلف فبقي أن يكون خارجاً عنها ولا يمكن أن يكون علة ممكنة فإنا جمعنا كل علة ممكنة الوجود في هذه الجملة فهي إذاً خارجة عنها وواجبة الوجود بذاتها فقد انتهت الممكنات إلى علة واجبة الوجود فليس لكل ممكن علة ممكنة بلا نهاية. فصل في أنه لا يمكن أن يكون الممكنات في الوجود بعضها علة لبعض ونقول أيضاً إنه لا يجوز أن يكون للعلل عدد متناه وكل واحد منه ممكن الوجود في نفسه لكنه واجب بالآخر إلى أن ينتهي إليه دوراً ولنقدم مقدمة أخرى فنقول إن وضع عدد متناه من ممكنات الوجود بعضها لبعض علل في الدور فهو أيضاً محال وتبين بمثل بيان المسألة الأولى ويخصها أن كل واحد منها يكون علة لوجود نفسه ومعلولاً لوجود نفسه ويكون حاصل الوجود عن شيء إنما يحصل بعد حصوله بالذات وما توقف وجوده على وجود ما لا يوجد إلا بعد وجوده البعدية الذاتية فهو محال الوجود وليس حال المتضايفين هكذا فإنهما معاً في الوجود وليس الصفحة : 194 يتوقف وجود أحدهما فيكون بعد وجود الآخر بل توجدهما معاً العلة الموجدة لهما والمعنى الموجب إياهما معاً فإن كان لأحدهما تقدم وللآخر تأخر مثل الأب والابن فنقدمه من جهة غير جهة الإضافة فإن تقدمه من جهة وجود الذات ويكونان معاً من جهة الإضافة الواقعة بعد حصول الذات ولو كان الابن يتوقف وجوده على وجود الأب والأب يتوقف وجوده على وجود الابن ثم كانا ليسا معاً بل أحدهما بالذات بعد لكان لا يوجد ولا أحد منهما وليس المحال هو أن يكون وجود ما يوجد مع الشيء شرطاً في وجوده بل وجود ما يوجد عنه وبعده. فصل آخر في التجرد لإثبات واجب الوجود وبيان أن الحوادث تحدث بالحركة ولكن تحتاج إلى علل باقية وبيان أن الأسباب القريبة المحركة كلها متغيرة وبعد هاتين فإنا نبرهن أنه لا بد من شيء واجب الوجود لأنه إن كان كل موجود ممكناً فإما أن يكون مع إمكانه حادثاً أو غير حادث فإن كان غير حادث فإما أن يتعلق ثبات وجوده بعلة أو بذاته فإن كان بذاته فهو واجب لا ممكن وإن كان بعلة فعلته معه والكلام فيها كالكلام في الأول وإن كان حادثاً وكل حادث فله علة في حدوثه فلا يخلو إما أن يكون حادثاً باطلاً مع الحدوث لا يبقى زماناً وإما أن يكون إنما يبطل بعد الحدوث بلا فصل زمان وإما أن يكون بعد الحدوث باقياً والقسم الأول محال ظاهر الاحلة - والقسم الثاني أيضاً محال لأن الآنات لا تتالى وحدوث أعيان واحدة بعد الأخرى متباينة في العدد لا على سبيل الاتصال الموجود في مثل الحركة يوجب تتالي الآنات وقد بطل ذلك في العلم الطبيعي ومع ذلك فليس يمكن أن يقال إن كل موجود هو كذلك فإن في الموجودات موجودات باقية بأعيانها فلنفرض الكلام فيها " فنقول " إن كل حادث فله علة في حدوثه وعلة في ثباته ويمكن أن يكونا ذاتاً واحدة مثل القالب في تشكيله الماء ويمكن أن يكونا شيئين مثل الصورة الصنمية فإن محدثها الصانع ومثبتها يبوسة جوهر العنصر المتخذة منه ولا يجوز أن يكون الحادث ثابت الوجود بعد حدوثه بذاته حتى يكون إذا حدث فهو واجب أن يوجد ويثبت لا بعلة في الوجود والثبات ولنأخذ في بيان أن كل حادث فإن ثباته بعلة ليكون مقدمة معينة في الغرض المذكور قبله فإنا نعلم أن ثباته ووجوده ليس واجباً بنفسه فمحال أن يصير واجباً بالحدوث الذي ليس واجباً بنفسه ولا ثابتاً بنفسه ووجوب ثباته بعلة الحدوث إنما كان يجوز لو كانت العلة باقية معه - وأما إذا عدمت فقد عدم مقتضاها وإلا فسواء وجودها الصفحة : 195 وعدمها في وجود مقتضاها فليست بعلة ولنزد هذا شرحاً " فنقول " إن هذه الذات قبل الحدوث قد كانت لا ممتنعة ولا واجبة وكانت ممكنة فلا يخلو إما أن يكون إمكانها لا بشرط أو إمكانها بشرط أن تكون معدومة أو إمكانها هو في حال أن تكون موجودة ومحال أن يكون إمكانها بشرط عدمها لأنها ممتنعة أن توجد ما دامت معدومة واشترط لها العدم كما أنها ما دامت موجودة فهي بشرط أنها موجودة واجبة للوجود فبقي أحد الأمرين أما لأن الامكان أمر في طبيعتها وفي نفس جوهرها فلا تزايلها هذه الحقيقة في حال وأما في حال الوجود بشرط الوجود وهذا وإن كان محالاً " لأنا إذا اشترطنا الوجود وجب " فليس يضرنا في غرضنا وذلك أنك تعلم أن كل حادث بل كل معلول فإنه باعتبار ذاته ممكن الوجود ولكن الحق أن ذاته ممكنة في نفسها وإن كانت باشتراط عدمها ممتنعة الوجود وباشتراط وجودها واجبة الوجود وفرق بين أن يقال وجود زيد الموجود واجب وبين أن يقال وجود زيد ما دام موجوداً فإنه واجب وقد بين هذا في المنطق - وكذلك فرق بين أن يقال إن ثبات الحادث واجب بذاته وبين أن يقال إنه واجب ما دام موجود فالأول كاذب والثاني صادق بما بينا فإنا إذا لم نتعرض لهذا الشرط كان ثبات الوجود غير واجب واعلم أن ما أكسبه الوجود وجوباً أكسبه العدم امتناعاً ومحال أن يكون حال العدم ممكناً ثم يكون حال الوجود واجباً بل الشيء في نفسه ممكن ويعدم ويوجد وأي الشرطين شرط له دوامه صار مع شرط دوامه ضروري الحكم لا ممكناً ولم يتناقض ذلك فإن الإمكان باعتبار ذاته والوجوب والامتناع باعتبار شرط لاحق به فإذا كانت الصورة كذلك فليس للمكن في نفسه وجود واجب بغير اشتراط البتة بل ما دام ذاته تلك الذات لم تكن واجبة الوجود بالذات بل بالغير وبالشرط فلم يزل متعلق الوجود بالغير وكل ما احتيج فيه إلى غير وشرط فهو محتاج فيه إلى سبب فقد بان أن ثبات الحادث ووجوده بعد الحدوث بسبب يمد وجوده وهو بنفسه غير واجب وليس لأحد من المنطقيين أن يعترض علينا " فنقول " إن الامكان الحقيقي هو الكائن في حال العدم للشيء وإن كل ما يوجد فوجوده ضروري فإن قيل له ممكن فباشتراك الاسم فإنه يقال له قد بينا في كتبنا المنطقية أن اشتراط العدم للمكن الحقيقي اشتراط غير صحيح في أن يجعل جزء حد للمكن بل هو أمر يتفق ويلزم الممكن في أحوال وبينا أن الموجود ليس ضرورياً لأنه موجود بل بأن يشترط شرط وهو إما وضع الموضوع أو المحمول أو العلة والسبب لا نفس الوجود فينبغي أن تتأمل ما قلناه في الكتب المنطقية فتعلم أن هذا الاشتراط غير لازم فإن نظرنا الصفحة : 196 ههنا هو في الواجب بذاته والممكن بذاته فإن كان الحصول يلحقه بالضروري الوجود فإن العدم أيضاً يجب أن يلحقه بالضروري العدم ولا يحفظ عليه الامكان فإنه كما أنه متى كان موجوداً كان واجباً أن يكون موجوداً ما دام موجوداً كذلك متى كان معدوماً كان واجباً أن يكون معدوماً لأن نظرنا ههنا في الواجب بذاته والممكن بذاته ونظرنا في المنطق ليس كذلك فبين من هذا أن المعلولات مفتقرة في ثبات وجودها إلى العلة وكيف وقد بينا أنه لا تأثير للعلة في العدم السابق فإن علته عدم العلة ولا في كون هذا الوجود بعد العدم فإن هذا مستحيل أن يكون إلا هكذا فإن الحادثات لا يمكن أن يكون لها وجود بالطبع إلا بعد عدم فالمتعلق بالعلة هو الوجود الممكن بذاته لا في شيء من كونه بعد عدم أو غير ذلك فيجب أن يدوم هذا التعلق فيجب أن تكون العلل التي لوجود الممكن في ذاته من حيث هو وجوده الموصوف مع المعلول وإذا اتضحت هذه المقدمات فلابد من واجب الوجود وذلك لأن الممكنات إذا وجدت وثبت وجودها كان لها علل لثبات الوجود ويجوز أن تكون العلل علل الحدوث بعينها إن بقيت مع الحادث ويجوز أن تكون عللاً أخرى ولكن مع الحادثات وتنتهي لا محالة إلى واجب الوجود إذ قد بينا أن العلل لا تذهب إلى غير النهاية ولا تدور وهذا في ممكنات الوجود التي لا تفرض حادثة أولى وأظهر فإن تشكك متشكك وسأل فقال إنه لما كان إنما يثبت الممكن الحادث بعلة وتلك العلة لا تخلو إما أن تكون دائماً علة لثباته أو حدث كونها علة لثباته فإن كانت دائماً علة لثباته وجب أن لا يكون الممكن حادثاً ووصفناه حادثاً وإن حدث كونها علة لثباته فيحتاج أيضاً كونها علة لثباته والنسبة التي لها إليه إلى علة أخرى لثباته بعد العلة وهي المحدثة لهذه النسبة فإن النسبة التي بينهما قد كانت لسبب ما فيجب أن يدوم ويبقى بسبب والكلام في الأخرى كالكلام في الأولى بعينه ويوجب هذا وضع العلل الممكنة الحادثة معاً بلا نهاية " فنقول " في جواب هذا أنه لولا ثبوت شيء من شأن ذلك الشيء أن يكون حدوثه بلا ثبات أو ثباته على سبيل الحدوث والتجدد على الاتصال فيلزم منه انتهاء علل محدثة ومثبتة إلى علل أخرى في زمان آخر " يناقض تلك أو يزيد عليها تأثير حادثاً " من غير تشافع آنات بل مع بقاء كل علة ومعلول " ريثما يتأدى إلى الآخر " لكان هذا الاعتراض لازماً. الصفحة : 197 فصل في إثبات انتهاء مبادئ الكائنات إلى العلل المحركة لحركة مستديرة فأما ما هذا الشيء فهو الحركة وخصوصاً المكانية وخصوصاً المستديرة وإنما وجودها من حيث هو قطع مسافة أن يكون منها شيء كان وشيء يكون ولا يكون في شيء من الآنات منها شيء موجود ولكن فيما هو طرفه وإنما اتصاله باتصال المسافة - وأما ما سببه فأسبابه ثلاث طبع وارادة وقسر ولنبدأ بتفهم حال الطبيعة منها " فنقول " إنه لا يصح أن يقال إن الطبيعة المجردة سبب لشيء من الحركات بذاتها وذلك لأن كل حركة فهي زوال عن كيفية أو كم أو أين أو جوهر أو وضع وأحوال الأجسام بل الجواهر كلها إما أحوال منافية وإما أحوال ملائمة والأحوال الملائمة لا تزول عنها الطبيعة وإلا فهي مهروب عنها بالطبع لا مطلوبة فإذا الحركة الطبيعية هي إلى حالة ملائمة عن حالة غير ملائمة فإذاً الطبيعة نفسها ليست تكون علة حركة ما لم يقترن بها أمر بالفعل وهو الحال المنافية وللحال المنافية درجات قرب وبعد عن الحال الملائمة وكل درجة تتوهم من القرب والبعد إذاً بلغتها تعين عليها الحركة بعدها فتكون تلك الحركة التي في ذلك الجزء علتها الطبيعية هي حالة غير ملائمة في درجة موصول إليها وكما أن هذه العلة تتجدد دائماً ويكون ما بقي علته ما سلف في الحدوث على الاتصال كذلك الحركة فتكون إذاً علة لحركة يحدث منها شيء عن شيء منها على الاتصال " ولا يبقى منها شيء فيطلب علة منقسم لها ويكون ما أوجبه هذا الاعتراض بالحركة " وما سلف من تلك الحركة علة بوجه ما أو شرط علة لما بقي من الحركة المتجددة التي من ذلك الحد الموصول إليه بالحركة وتكون الطبيعة علة الرد إلى الحال الطبيعية فتكون المسافة شرطاً تصير معه الطبيعة علة لتلك الحركة بعينها من حيث أن كون الطبيعة فيها أمر غريب وتكون هذه العلة والمعلول معاً دائماً ويحدث كل وقت استحقاق آخر " وأما الحركة الارادية " فإن عللها أمور إرادية وإرادة ثابتة واحدة كأنها كلية تنحو نحو الغرض الذي يحصل في التصور أولا فهي محفوظة بعلة واحدة ثابتة وإرادة بعد إرادة بحسب تصور بعد بعد بعد وأين بعد أين يتبعه حركة بعد حركة ويكون كل ذلك على سبيل التجدد لا على سبيل الثبات ويكون هناك شيء واحد ثابت دائماً وهو الارادة الثابتة الكلية كما كانت الطبيعة هناك وأشياء تتجدد وهما تصورات جزئية وإرادات مختلفة كما كانت الطبيعة هناك وأشياء تتجدد وهما تصورات جزئية وإرادات مختلفة كما كان هناك اختلاف مقادير القرب الصفحة : 198 والبعد ويكون جميعها على سبيل الحدوث ولولا حدوث أحوال على علة باقية بعضها علة لبعض على الاتصال لما أمكن أن تكون حركة فإنه لا يجوز أن يلزم عن علة ثابتة أمر غير ثابت - وأنت تعلم من هذا أن العقل المجرد لا يكون مبدأ قريباً لحركة بل يحتاج إلى قوة أخرى من شأنها أن تتجدد فيها الارادة وتتخيل الأينات الجزئية وهذا يسمى النفس وأن العقل المجرد إذا كان مبدأ لحركة فيجب أن يكون مبدأ آمراً مثلاً أو مشوقاً أو شيئاً مما أشبه هذا - وأما مباشرة التحريك فكلا بل يجب أن يباشر التحريك بالارادة ما من شأنه أن يتغير بوجه ما ويحدث فيه إرادة بعد إرادة على الاتصال وقد أشار المعلم الأول في كلامه في النفس إلى أصل ينتفع به في هذا المعنى إذ قال " إن لذلك أي العقل النظري الحكم الكلي وأما لهذا فالأفعال الجزئية والتعقلات الجزئية " أي العقل العملي " وليس هذا في إرادتنا فقط بل وفي الارادة التي تحدث عنها حركة السماء هذا " وأما الحركة القسرية " فإن كان المحرك يلازمها فعلتها حركة المحرك بعلة وعلة علتها آخر الأمر طبيعة أو إرادة فإن كل قسر ينتهي إلى إرادة أو طبيعة وإن كان المحرك لا يلازمها بل كان التحريك على سبيل جذب أو دفع أو فعل آخر مما يشبه هذا فالرأي الحقيقي الصواب في ذلك هو أن المحرك يحدث في المتحرك قوة محركة إلى جهة تحريكه غالبة قوته الطبيعية وأن المتحرك بحسب تلك القوة المحركة الداخلة يبلغ مكاناً ينتحيه لولا معاوقة القوة الطبيعية واستمدادها من مصاكة الهواء أو الماء أو غير ذلك مما يتحرك فيه مدداً يوهن القوة الغريبة فحينئذ تستولي القوة الطبيعية وتحث حركة مائلة من تجاذب القوتين إلى جهة القوة الطبيعية ولولا حال مصاكة المتوسط وكسرة القوة الغريبة لكانت القوة الطبيعية لا تستولي عليه البتة إلا بعد بلوغه الغاية التي يوجبها تناهي كل قوة جسمانية وكل قوة محركة على الاستقامة فسكونها في تلك الغاية لأن هذه الحركة تطلب ذلك السكون فإذا بطل الميل والدفع الحادث عن تلك القوة بموافاتها مكانها المطلوب عادت القوة الطبيعية إلى فعلها إذ وهنت القوة الغريبة بتمام فعلها أو بأسباب أخرى وإنما حكمنا بهذا الحكم لأن القوة الغريبة لولا أنها استولت على القوة الطب يعية لما قهرت ميلها ثم لا يجوز أن يستحيل المغلوب غالباً أو الغالب مغلوباً إلا بورود سبب على أحدهما أو كليهما ومحال أن نتوهم أن القوة العرضية تبطل بذاتها فلا يجوز أن يكون شيء من الأشياء يبطل بذاته أو يوجد بذاته بعد أن يكون له ذات تثبت وتوجد فالقوة الطبيعية إنما تعود غالبة على القوة العرضية بمعاوق ينضم إليها وذلك المعاوق يعاوقها معاوقة بعد معاوقة تكون مقاومة لما يتحرك فيها الصفحة : 199 فيكون لذلك تأثير في القوة الغريبة بعد تأثير وقد أشبعنا الكلام في هذا حيث تكلمنا الكلام المبسوط على الاحوال كلها فإن القوة القسرية حالها في إيجاب الحركة بتجدد الأكوان عليها حال الطبيعة إلى أن تبطل فإن قال قائل إنا نرى الماء تبطل حرارته المستفادة بذاتها لأنها عرضية فإنا نقول له كلا بل إن الحرارة إنما تثبت قوتها في الماء لحضور علتها المجددة لقوتها دائماً فإذا بطلت علتها وتجديدها فيه الحرارة شيئاً بعد شيء أقبل عليها برد الهواء والقوة المبردة في الماء فأبطلها وكانا قبل يعجزان عن إبطالها إن بقيت العلة المسخنة الحاضرة الممدة دائماً بسخونة بعد سخونة وتسخن الهواء المماس لذلك الماء مع الماء فقد بان إذاً أن شيئاً ثباته على سبيل الحدوث وهو الحركة وأن له علة إنما تكون علة بالفعل لتجدد بعد تجدد يعرض في حالها على الاتصال أو يكون لها ذات باقية بالعدد متغيرة الأحوال ولولا أنها متغيرة الأحوال لم يحدث عنها تغيير ولولا أن لها ذاتاً باقية لم يحدث عنها إتصال التغيير وأنه لابد للتغير من حامل باق " كأن يغير المؤثر حتى يؤثر أو يغير المتأثر " فقد انكشفت الشبهة المسئول عنها إذ ظهر أن علل ثبات الحادثات تنتهي إلى علل أولى لها ثابتة الذوات متبدلة الأحوال تبدلاً يكون سبب كل ما يتجدد وتلك الذات الثابتة مع الحال المعلولة لتلك الذات سبب أمر آخر مؤد إلى الحال الثانية التي تصير الذات بها علة لما تجدد ثانياً ولا بأس في أن يكون الشيء الواحد علة لنفسه ومعلولاً من جهتين وأن يكون حال فيه علة لحال آخر - وهذان الحالان في الطبيعي قرب بعد قرب وفي الارادي تصور بعد تصور واختلاف نسبة ثابتة ونسبة متبدلة والنسبة الثابتة مثل وجود الشمس فوق الأرض لكون النهار أو زوال العشاء فإن معنى كون الشمس فوق الأرض واحد في جميع النهار وإن كان على سبيل تغير وانتقال من مكان إلى مكان " فتكون النسبة الواحدة يبقى معها أمر ما وتكون النسبة المتجددة أدت إلى علة مضادة لعلة بقائه فتوجب فساده وليس ينعكس فليس كل تجدد يبلغ إلى أن ينتهي المنفعل إلى علة مضادة لعلة ثباته بل يكون ذلك إذا أوصل بينهما بعد تباين منهما وإلى علة مضادة لعلة ثباته بل يكون ذلك إذا أوصل بينهما بعد تباين منهما وإلى أن تصل إحدى العلتين إلى الأخرى المفسدة إياها فتكون ثابتة موجودة " وبذلك يحفظ نظام الأكوان والاستحالات وما يجري مجراها فقد بان أيضاً من هذا أنه لابد في اتصال الكون من حركة متصلة ولا تتصل غير المكانية والوضعية ولا من المكانية غير المستديرة فإن كان كون ما كانت حركة متصلة لا محالة. الصفحة : 200 فصل في أن واجب الوجود بذاته عقل وعاقل ومعقول وإذ قد ثبت واجب الوجود " فنقول " إنه بذاته عقل وعاقل ومعقول أما أنه معقول الماهية فلأنك تعرف أن طبيعة الوجود بما هي طبيعة الوجود وطبيعة أقسام الوجود بما هي كذلك غير ممتنع عليها أن تعقل وإنما يعرض لها أن لا تعقل إذا كانت في المادة أو مكنونة بعوارض المادة فإنها من حيث هي كذلك محسوسة أو متخيلة وظهر فيما سلف أن ذلك الوجود إذا جرد عن هذا العائق كان وجوداً وماهية معقولة وكل ما هو بذاته مجرد عن المادة والعوارض فهو بذاته معقول والأول واجب الوجود مجرد عن المادة وعوارض المادة فهو بما هو هوية مجردة عقل وبما يعتبر له من أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته وبما يعتبر له من أن ذاته لها هوية مجردة هو عاقل ذاته فإن المعقول هو الذي ماهيته المجردة لشيء والعاقل هو الذي له ماهية مجردة لشيء وليس في شرط هذا الشيء أن يكون هو أواخر بل شيء مطلقاً والشيء المطلق أعم من أن يكون هو أو غيره كما سنوضح فالأول لأن له ماهية مجردة لشيء هو عاقل وبما ماهيته مجردة لشيء هو معقول وهذا الشيء هو ذاته فهو عاقل بأن له الماهية المجردة التي لشيء هو ذاته ومعقول بأن ماهيته المجردة هي لشيء هو ذاته فكل من تفكر قليلاً علم أن العاقل يقتضي شيئاً معقولاً وهذا الاقتضاء لا يتضمن أن ذلك الشيء آخر أو هو وأيضاً فإن المحرك يقتضي شيئاً متحركاً وهذا الاقتضاء نفسه ليس يوجب أن يكون شيئاً آخر بل نوعاً آخر من البحث يوجب ذلك ولذلك لم يمتنع أن نتصور شيئاً يتحرك بذاته إلى وقت أن يقوم البرهان على امتناعه ولم يكن نفس تصور المحرك والمتحرك يوجب ذلك إذ كان المتحرك يوجب أن يكون له شيء يتحرك هو عنه بلا شرط أنه آخر أو هو أو المحرك يوجب أن يكون له شيء متحرك عنه بلا شرط أنه آخر أو هو ولذلك المضافات تعرف أنيتها لأمر آخر لا لنفس النسبة والاضافة المفروضة في الذهن فإنا نعلم يقيناً " أن لنا قوة نعقل بها الأشياء " فإما أن تكون القوة التي تعقل هذا المعنى هي هذه القوة نفسها فتكون هي بعينها تعقل ذاتها فيثبت المطلوب أو تعقل ذلك بقوة أخرى فتكون لنا قوتان قوة نعقل بها الأشياء وقوة نعقل بها هذه القوة ثم يتسلسل الكلام إلى غير النهاية فيكون فينا قوى تعقل الأشياء بلا نهاية بالفعل ولكن هذا محال. فقد بان أن المعقول لا يوجب أن يكون معقول شيء آخر وبهذا يبين أنه ليس يقتضي العاقل أن يكون عاقل شيء آخر بل كل ما يوجد له الماهية المجردة فهو عاقل وكل ما هو ماهية متجردة توجد لشيء فهو معقول وإذا كانت هذه الماهية الصفحة : 201 لذاتها تعقل ولذاتها أيضاً تعقل كل ماهية مجردة تتصل بها ولا تفارقها فهي بذاتها عاقل ومعقول فقد فهمت أن نفس كونه معقولاً وعاقلاً لا يوجب أن يكون اثنان في الذات ولا اثنان في الاعتبار أيضاً فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا اعتبار أن له ماهية مجردة هي ذاته وأن ماهية مجردة هي ذاته له وههنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني والغرض المحصل شيء واحد بلا قسمة فقد بان أن كونه عاقلاً ومعقولاً لا يوجب فيه كثرة البتة. فصل في أنه بذاته معشوق وعاشق ولذيذ وملتذ وأن اللذة هي إدراك الخير الملائم ولا يمكن أن يكون جمال أو بهاء فوق أن تكون الماهية عقلية محضة خيرية محضة بريئة عن كل واحد من أنحاء النقص واحدة من كل جهة والواجب الوجود له الجمال والبهاء المحض وهو مبدأ كل اعتدال لأن كل اعتدال هو في كثرة تركيب أو مزاج فيحدث وحدة في كثرته وجمال كل شيء وبهاؤه هو أن يكون على ما يجب له فكيف جمال ما يكون على ما يجب في الوجود الواجب وكل جمال ملائم وخير مدرك فهو محبوب ومعشوق ومبدأ إدراكه إما الحس وإما الخيال وإما الوهم وإما الظن وإما العقل وكلما كان الادراك أشد إكتناهاً وأشد تحقيقاً والمدرك أجمل وأشرف ذاتاً فأحباب القوة المدركة إياه والتذاذها به أكثر فالواجب الوجود الي في غاية الجمال والكمال والبهاء والذي يعقل ذاته بتلك الغاية في البهاء والجمال وبتمام التعقل ويتعقل العاقل والمعقول على أنهما واحد بالحقيقة يكون ذاته لذاته أعظم عاشق ومعشوق وأعظم لاذ وملتذ فإن اللذة ليست إلا إدراك الملائم من جهة ما هو ملائم فالحسية منها إحساس بالملائم والعقلية تعقل الملائم والأول أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك فهو أفضل لاذ وملتذ ويكون ذلك أمراً لا يقاس إليه شيء وليس عندنا لهذه المعاني أسام غير هذه الاسامي فمن استشنعها إستعمل غيرها ويجب أن تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس لأنه أعني العقل يعقل ويدرك الأمر الباقي الكلي ويتحد به ويصير هو هو على وجه ما ويدركه بكنهه لا بظاهره وليس كذلك الحس للمحسوس واللذة التي تجب لنا بأن نتعقل ملائماً هي فوق التي تكون لنا بأن نحس ملائماً ولا نسبة بينهما ولكنه قد يعرض أن تكون القوة الدراكة لا تستلذ بما يجب أن تستلذ به لعوارض كما أن المريض لا يستلذ الحلو ويكرهه لعارض فكذلك يجب أن تعلم من حالنا ما دمنا في البدن فإنا لا نجد إذا حصل لقوتنا العقلية كما لها بالفعل من اللذة ما الصفحة : 202 يجب للشيء في نفسه وذلك لعائق البدن فلو انفردنا عن البدن لكنا بمطالعتنا ذاتنا وقد صارت عالماً عقلياً مطامعاً للموجودات الحقيقية والجمالات الحقيقية والملذات الحقيقية متصلة بها إتصال معقول بمعقول نجد من اللذة والبهاء ما لا نهاية له وسنوضح هذه المعاني بعد - واعلم أن لذة كل قوة حصول كمالها فللحس المحسوسات الملائمة وللغضب الانتقام وللرجاء الظفر ولكل شيء ما يخصه وللنفس الناطقة مصيرها عالماً عقلياً بالفعل فالواجب الوجود معقول عقل أو لم يعقل معشوق عشق أو لم يعشق لذيذ شعر بذلك أو لم يشعر. فصل في أن واجب الوجود بذاته كيف يعقل ذاته والأشياء وليس يجوز أن يكون واجب الوجود يعقل الأشياء من الأشياء وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل فيكون تقومها بالأشياء وإما عارض لها أن تعقل فلا تكون واجبة الوجود من كل جهة وهذا محال إذ لا تكون بحال لولا أمور من خارج لم يكن هو أو يكون له حال لا تلزم عن ذاته بل عن غيره فيكون لغيره فيه تأثير والأصول السالفة تبطل هذا وما أشبهه ولأنه كما سنبين مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك بأشخاصها وبوجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيرات مع تغيرها من حيث هي متغيرة عقلاً زمانياً متشخصاً بل على نحو آخر نبينه فإنه لا يجوز أن يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ولا واحدة من الصورتين تبقى مع الثانية فيكون واجب الوجود متغير الذات ثم الفاسدات إن عقلت بالماهية المجردة وبما يتبعها مما لا يشخص لم تعقل بما هي فاسدة وإن أدركت بما هي مقارنة لمادة وعوارض مادة ووقت وتشخص لم تكن معقولة بل محسوسة أو متخيلة ونحن قد بينا في كتب أخرى أن كل صورة محسوسة وكل صورة خيالية فإنما ندركها من حيث هي محسوسة ونتخيلها بآلة متجزئة وكما أن إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له كذلك إثبات كثير من التعقلات بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو كلي ومع ذلك فلا يغزب عنه شيء شخصي فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض - وهذا من العجائب التي يحوج تصورها إلى لطف قريحة. الصفحة : 203 فصل في أن واجب الوجود كيف يعقل الأشياء فأما كيفية ذلك فلأنه إذا عقل ذاته وعقل أنه مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات عنه وما يتولد عنها ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة كا واجباً بسببه وقد بينا هذا فتكون هذه الأسباب تتأدى بمصادماتها إلى أن توجد عنها الأمور الجزئية فالأول يعلم الأسباب ومطابقتها فيعلم ضرورة ما تتأدى إليه وما بينها من الأزمنة وما لها من العودات لأنه ليس يمكن أن يعلم تلك ولا يعلم هذه فيكون مدركاً للأمور الجزئية من حيث هي كلية أعني من حيث لها صفات وإن تخصصت بها شخصاً فبالاضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة لو أخذت تلك الحال بصفاتها شخصاً فبالاضافة إلى زمان متشخص أو حال متشخصة لو أخذت تلك الحال بصفاتها كانت أيضاً بمنزلتها لكنها لكونها مستندة إلى مبادئ كل واحد منها نوعه في شخصه فيستند إلى أمور شخصية: وقد قلنا إن من هذا الأسناد قد نجعل للشخصيات رسماً ووصفاً مقصوراً عليها فإن كان ذلك الشخص مما هو عند العقل شخصي أيضاً كان للعقل إلى ذلك المرسوم سبيل وذلك هو الشخص الذي هو واحد في نوعه لا نظير له ككرة الشمس مثلاً أو كالمشتري وأما إذا كان منتشراً في الأشخاص لم يكن للعقل إلى رسم ذلك الشيء سبيل إلا أن يشار إليه ابتداء على ما عرفته ونعود " فنقول " وكما أنك إذ تعلم الحركات السماوية كلها فأنت تعلم الحركات السماوية كلها فأنت تعلم كل كسوف وكل اتصال وانفصال جزئي يكون بعينه ولكن على نحو كلي لأنك تقول في كسوف ما أنه كسوف يكون بعد زمن حركة كوكب كذا من موضع كذا شمالياً بصفة كذا ينفصل القمر منه إلى مقابلة كذا ويكون بينه وبين كسوف مثله سابق عليه أو متأخر عنه مدة كذا - وكذلك حال الكسوفين الآخرين حتى لا يبقى عارض من عوارض تلك الكسوفات إلا علمته ولكنك علمته كلياً لأن هذا المعنى قد يجوز أن يحمل على كسوفات كثيرة كل واحدة منها تكون حاله تلك الحال لكنك تعلم بحجة ما أن ذلك الكسوف لا يكون إلا واحداً بعينه وهذا لا يدفع الكلية إن تذكرت ما قلناه قبل ولكنك مع هذا كله ربما لم تجز أن تحكم بوجود هذا الكسوف في هذا الآن أولا وجوده إلا أن تعرف جزئيات الحركات بالمشاهدة الحسية وتعلم ما بين هذا المشاهد وبين ذلك الكسوف من المدة وليس هذا نفس معرفتك بأن في الحركات حركة جزئية صفتها ما شاهدت وبينها وبين الكسوف الفلاني كذا فإن ذلك قد يجوز أن تعلمه على هذا النوع من العلم ولا تعلمه بوقت ما فتسأل أنها هل هي موجودة الصفحة : 204 بل يجب أن يكون قد حصل لك بالمشاهدة شيء مشار إليه حتى تعلم حال ذلك الكسوف فإن منع مانع أن يسمي هذا معرفة للجزئي من جهة كليته فلا مناقشة معه لأن غرضنا الآن في غير ذلك وهو تعريفنا أن الأمور الجزئية كيف تعلم وتدرك علماً وإدراكاً لا يتغير معهما العالم وكيف تعلم وتدرك علماً يتغير معه العالم فإنك إذا علمت أمر الكسوفات كما تؤخذ كلية أو موجودة دائماً أو كان لك علم لا بالكسوفات المطلقة بل بكل كسوف كائن ثم كان وجود ذلك الكسوف وعدمه لا يغير منك أمراً فإن علمك في الحالين يكون واحداً وهو أن كسوفاً له وجود بصفات كذا بعد كسوف كذا أو بعد وجود الشمس في الحمل كذا في عدة كذا ويكون بعده كذا وبعده فإما إن أدخلت الزمان في ذلك فعلمت في آن مفروض أن هذا الكسوف ليس بموجود ثم علمت في آن آخر أنه موجود ثم لا يبقى علمك ذلك عند وجوده بل يحدث علم آخر بعد التغير الذي أشرنا إليه قبل ولم يصح أن تكون في وقت الانجلاء على ما كنت قبل الانجلاء فهذا لأنك زماني وآني وأما الأول الذي لا يدخل في زمان وحكمه فهو بعيد أن يحكم حكماً في هذا الزمان وذلك الزمان من حيث هو فيه ومن حيث هو حكم منه جديد أو معرفة جديدة واعلم أنك إنما كنت تتوصل إلى إدراك الكسوفات الجزئية لاحاطتك بأسبابها وإحاطتك بكل ما في السماء وإذا وقعت الاحاطة بجميع الأسباب في الأشياء ووجودها انتقل منها إلى جميع المسببات ونحن سنبين هذا بزيادة كشف على ما بيناه من ذي قبل فتعلم كيف نعلم الغيب وتعلم من هذين أن الأول من ذاته كيف يعلم كل شيء لأنه مبدأ شيء هو مبدأ شيء أو أشياء حالها وحركتها كذا وما ينتج عنها كذا إلى التفصيل الذي لا تفصيل بعده ثم على الترتيب الذي يلزم ذلك التفصيل لزوم التعدية والتأدية فتكون هذه الأشياء مفاتيح الغيب. الصفحة : 205 فصل في تحقيق وحدانية الأول بأن علمه لا يخالف قدرته وإرادته وحياته في المفهوم بل ذلك كله واحد ولا يتجزأ لاحدى هذه الصفات ذات الواحد الحق فالأول يعقل ذاته ويعقل نظام الخير الموجود في الكل وأنه كيف يكون فذلك النظام لأنه يعقله هو مستفيض كائن موجود وكل معلوم الكون وجهة الكون عن مبدئه عند مبدئه وهو خير غير مناف وتابع لخيرية ذات المبدأ وكمالها المعشوقين لذاتيهما فذلك الشيء مراد لكن ليس مراد الأول هو على نحو مرادنا حتى يكون له فيما يكون عنه غرض فكأنك قد علمت استحالة هذا وستعلم بل هو لذاته مريد هذا النحو من الارادة العقلية المحضة وحياته حالها هذا أيضاً بعينه فإن الحياة التي عندنا تكمل بإدراك وفعل هو التحريك ينبعثان عن قوتين مختلفتين وقد صح أن نفس مدركه وهو ما يعقله من الكل هو سبب الكل وهو بعينه مبدأ فعله وذلك إيجاد الكل فمعنى الحياة واحد منه هو إدراك وسبيل إلى الإيجاد فالحياة منه ليست مما تفتقر إلى قوتين مختلفتين حتى تتم بقوتين فلا الحياة منه غير العلم وكل ذلك له بذاته وأيضاً فإن الصورة المعقولة التي تحدث فينا فتصير سبباً للصورة الموجودة الصناعية لو كانت بنفس وجودها كافية لأن تتكون منها الصور الصناعية بأن تكون صوراً هي بالفعل مباد لما هي له صوراً كان المعقول عندنا هو بعينه القدرة ولكن ليس كذلك بل وجودها لا يكفي في ذلك لكن يحتاج إلى إرادة متجددة منبعثة من قوة شوقية يتحرك منهما معاً القوة المحركة فتحرك العصب والأعضاء الآلية ثم تحرك الآلات الخارجة ثم تحرك المادة فلذلك لم يكن نفس وجود هذه الصورة المعقولة قدرة ولا إرادة بل عسى القدرة فينا بعد المبدأ المحرك وهذه الصورة محركة لمبدأ القدرة فتكون محركة المحرك لكن واجب الوجود ليست إرادته مغايرة الذات لعلمه ولا مغايرة المفهوم لعلمه فقد بينا أن العلم الذي له هو بعينه الارادة التي له وكذلك قد تبين أن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلاً هو مبدأ للكل لا مأخوذاً عن الكل ومبدأ بذاته لا متوقف على وجود شيء وهذه الارادة على الصورة التي حققناها التي لا تتعلق بغرض في فيض الوجود فيكون غير نفس الفيض هو الجود فقد كنا حققنا لك من أمر الجود ما إذا تذكرته علمت أن هذه الارادة نفسها تكون جوداً فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه إن وموجود ثم الصفات الأخرى يكون بعضها المتعين فيه هذا الوجود مع إضافة وبعضها هذا الوجود مع السلب وليس ولا واحد منها الصفحة : 206 موجباً في ذاته كثرة البتة ولا مغايرة فاللواتي تخالط السلب إنه لو قال قائل في الأول " بلا تحاش " إنه جوهر لم يعن إلا هذا الوجود وأنه مسلوب عنه الكون في الموضوع وإذا قال له واحد لم يعن به إلا الوجود نفسه مسلوباً عنه القسمة بالكم أو القول أو مسلوباً عنه الشريك - وإذا قيل عقل ومعقول وعاقل لم يعن بالحقيقية إلا أن هذا الوجود مسلوباً عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما. وإذا قيل له أول لم يعن إلا إضافة هذا الوجود إلى الكل. وإذا قيل له قادر لم يعن به إلا أنه واجب الوجود مضافاً إلى أن الوجود إلى أن وجود غيره إنما يصح عنه على النحو الذي ذكر - وإذا قيل له حي لم يعن إلا هذا الوجود العقلي مأخوذاً مع الأضافة إلى الكل المعقولة أيضاً بالقصد الثاني إذ الحي هو الدراك الفعال. وإذا قيل مريد لم يعن إلا كون واجب الوجود مع عقليته أي سلب المادة عنه مبدأ لنظام الخير كله وهو يعقل ذلك فيكون هذا مؤلفاً من إضافة وسلب - وإذا قال جواد عناه من حيث هذه الأضافة مع السلب بزيادة سلب آخر وهو أنه لا ينحو غرضاً لذاته: وإذا قيل خير لم يعن إلا كون هذا الوجود مبرأ عن مخالطة ما بالقوة والنقص وهذا سلب أو كونه مبدأ لكل كمال ونظام وهذا إضافة. فإذا عقلت صفات الأول الحق على هذه الجهة لم يوجد فيها شيء يوجب لذاته أجزاء أو كثرة بوجه من الوجوه. الصفحة : 207 فصل في صدور الأشياء عن المدبر الأول فقد ظهر لنا أن للكل مبدأ واجب الوجود غير داخل في جنس أو واقع تحت حد أو برهان بريئاً عن الكم والكيف والماهية والأين والمتى والحركة لا ندله ولا شريك ولا ضد وأنه واحد من جميع الوجوه لأنه غير منقسم لا في الأجزاء بالفعل ولا في الأجزاء بالفرض والوهم كالمتصل ولا في العقل بأن تكون ذاته مركبة من معان عقلية متغايرة يتحد بها جملته وأنه واحد من حيث هو غير مشاركة البتة في وجوده الذي له فهو بهذه الوجوه فرد وهو واحد لأنه تام الوجود ما بقي له شيء ينتظر حتى يتم. وقد كان هذا أحد وجوه الواحد وليس الواحد فيه إلا على الوجه السلبي ليس كالواحد الذي للأجسام لاتصال أو اجتماع أو غير ذلك مما يكون الواحد فيه بوحدة وهي معنى وجودي يلحق ذاتاً أو ذواتاً. فصل في إثبات دوام الحركة بقول مجمل ثم بعده بقول مفصل وقد اتضح لك فيما سلف من العلوم الطبيعية وجود قوة غير متناهية ليست مجسمة وأنها مبدأ الحركة الأولية وبأن لك أن الحركة المستديرة ليست متكونة تكوناً زمانياً فقد بان لك من هناك من وجه ما أن هنا مبدأ دائم الوجود وقد بان لك بعد ذلك أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته وأنه لا يجوز أن تستأنف له حالة لم تكن مع أنه قد بان لك أن العلة لذاتها تكون موجبة للمعلول فإن دامت أوجبت المعلول دائماً فلو اكتفيت بتلك الأشياء لكفتك ما نحن في شرحه إلا أنا نزيدك بصيرة " فنقول " إنك قد علمت أن كل حادث فله مادة فإذا كان لم يحدث ثم حدث لم يخل إما أن تكون علتاه الفاعلية والقابلية لم تكونا فحدثتنا أو كانتا ولكن كان الفاعل لا يحرك والقابل لا يتحرك أو كان الفاعل ولم يكن القابل أو كان القابل ولم يكن الفاعل " فنقول " قولاً مجملاً قبل العود إلى التفصيل أنه إذا كانت الأحوال من جهة العلل كما كانت ولم يحدث البتة أمر لم يكن كان وجود الكائن أولاً وجوده على ما كان فلم يجز أن يحدث كائن البتة فإن حدث أمر لم يكن فلا يخلو إما أن يكون حدوثه على سبيل ما يحدث بحدوث علته دفعة لا على سبيل ما يحدث لقرب علته وبعدها أو يكون حدوثه على سبيل ما يحدث لقرب علته أو بعدها فأما القسم الأول فيجب أن يكون حدوثه لحدوث العلة ومعها غير متأخر عنها البتة فإنه إن كانت العلة غير موجودة ثم وجدت أو موجودة وتأخر عنها المعلول لزم ما قلناه في الأول من الصفحة : 208 وجوب حادث آخر غير العلة فكان ذلك الحادث هو العلة القريبة فإن تمادى الأمر على هذه الجهة وجبت علل وحوادث دفعة غير متناهية ووجبت معاً وهذا مما عرفنا الأصل القاضي بإبطاله فبقي أن لا تكون العلل الحادثة كلها دفعة لا لقرب من علة أولى أو بعدها فبقي أن مبادئ الكون تنتهي إلى قرب علل أو بعدها وذلك بالحركة فإذا قد كان قبل الحركة وتلك الحركة أوصلت العلل إلى هذه الحركة فهما كالمتماسين والأرجح الكلام إلى الرأس في الزمان الذي بينهما وذلك أنه إن لم يماسها حركة كانت الحوادث الغير متناهية منها في آن واحد إذ لا يجوز أن يكون في آنات متلاقية متماسة فاستحال ذلك بل يجب أن يكون واحد قد قرب في ذلك الآن بعد بعد أو بعد بعد قرب فيكون ذلك الآن نهاية الحركة الأولى يؤدي إلى حركة أخرى أو أمر آخر فإن أدت إلى حركة أخرى وأوجبت كانت الحركة التي هي كعلة قريبة لهذه الحركة مماسة لما والمعنى في هذه المماسة مفهوم على أنه لا يمكن أن يكون زمان بين حركتين ولا حركة فيه فإنه قد بان لنا في الطبيعيات أن الزمان تابع للحركة ولكن الاشتغال بهذا النحو من البيان يعرفنا إن كانت حركة قبل حركة ولا يعرفنا أن تلك الحركة كانت علة لحدوث هذه الحركة فقد ظهر ظهوراً واضحاً أن الحركة لا تحدث بعد ما لم تكن إلا بحادث وذلك الحادث لا يحدث إلا بحركة مماسة لهذه الحركة ولا نبالي أي حادث كان ذلك الحادث كان قصداً من الفاعل أو إرادة أو علماً أو آلة أو طبعاً أو حصول وقت أوفق للعمل دون وقت أو حصول تهيؤ واستعداد من القابل لم يكن أو وصول من المؤثر لم يكن فإنه كيف كان حدوثه متعلق بالحركة لا يمكن غير هذا ولنرجع إلى التفصيل ونقول إن كانت العلة القابلة والفاعلة موجودتي الذات ولا فعل ولا انفعال بينهما فيحتاج إلى وقوع نسبة بينهما توجب الفعل والانفعال - أما من جهة الفاعل فمثل إرادة موجبة للفعل أو طبيعة موجبة للفعل أو آلة أو زمان - وأما من جهة القابل فمثل استعداد لم يكن أو من جهتيهما جميعاً مثل وصول أحدهما إلى الآخر وقد صح أن جميع هذا بحركة ما - وأما إن كان الفاعل موجوداً ولم يكن قابل البتة فهذا محال - أما أولاً فلأن القابل كما بينا لا يحدث إلا بحركة أو اتصال فيكون قبل الحركة حركة - وأما ثانياً فإنه لا يمكن أن يحدث ما لم يتقدمه وجود القابل وهو المادة فيكون قد كان القابل وإما أن وضع القابل موجود والفاعل ليس بموجود فالفاعل محدث ويلزم أن يكون حدوثه بعلة ذات حركة على وصفنا. الصفحة : 209 بيان آخر وأيضاً مبدأ الكل ذات واجبة الوجود وواجب الوجود واجب أن يوجد ما يوجد عنه وإلا فله حال لم تكن فليس واجب الوجود من جميع جهاته فإن وضعت الحال الحادثة لا في ذاته بل خارجة عن ذاته كما يضع بعضهم الارادة فالكلام على حدوث الارادة عنه ثابت أهو بالأرادة أو طبعاً أو لأمر آخر أي أمر كان ومهما وضع أمر حدث بعد أن لم يكن فإما أن يوضع حادثاً في ذاته وإما غير حادث في ذاته بل على أنه شيء مباين لذاته فيكون الكلام فيه ثابتاً وأن حدث في ذاته كان ذاته متغيراً وقد بين أن واجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته وأيضاً إذا كان هو عند حدوث المباينات عنه كما كان قبل حدوثها ولم يعرض البتة شيء لم يكن وكان الأمر على ما كان ولم يوجد عنه شيء فليس يجب أن يوجد عنه شيء بل يكون الأمر والحال على ما كان فلا بد من تمييز لوجوب الوجود عنه أو ترجيح الوجود عنه بحادث متوسط لم يكن حين كان الترجيح للعدم عنه وكان التعطل عن الفعل حاله وليس هذا أمراً خارجاً عنه فإننا نتكلم في حدوث الحادث عنه نفسه بلا واسطة أمر يحدث فيحدث به الثاني كما يقولون في الارادة والمراد والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها كما كانت وكان لا يوجد عنها فيما قبل شيء وهي الآن كذلك فالآن أيضاً لا توجد عنها شيء فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث في الذات قصد أو إرادة أو طبع أو قدوة وتمكن أو شيء مما يشبه هذا لم يكن ومن أنكر هذا فقد فارق مقتضى عقله لساناً ويعود إليه ضميراً فإن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسبب وإذا كانت هذه الذات التي للعلة كانت ولا يترجح ولا يجب عنها هذا الترجح ولا داعي ولا مصلحة ولا غير ذلك فلا بد من حادث يوجب الترجح في هذه الذات وإن كانت هي الفاعلة وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كان قبل ولم يحدث لها نسبة أخرى فيكون الأمر بحاله ويكون الإمكان إمكاناً صرفاً بحاله وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث لذاته في ذاته فإنها إن كانت خارجة عن ذاته كان الكلام فيها ثابتاً ولم تكن النسبة المطلوبة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل ما هو خارج عن ذاته بعد ما لم يكن أجمع كأنها جملة واحدة وفي حال ما لم يوجد شيء وإلا قد أخرج من الجملة شيء فننظر في حال ما بعده فإن كان مبدأ النسبة مباينة له فليست هي النسبة المطلوبة فإذا الحادث الأول يكون على هذا الصفحة : 210 القول في ذاته لكنه محال فكيف يمكن أن يحدث في ذاته شيء وعمن يحدث وقد بان أن واجب الوجود بذاته واحد أفترى أن ذلك عن الحادث منه فتكون ليست النسبة المطلوبة لأنا نطلب النسبة الموجبة لخروج الممكن الأول إلى الفعل أو هي عن واجب وجود آخر وقد قيل إن واجب الوجود واحد على أنه إن كان عن واجب آخر فهو العلة الأولى والكلام ثابت فيه. فصل في أن ذلك يقع لانتظار وقت ولا يكون وقت أولى من وقت ثم كيف يجوز أن يتميز في العدم وقت ترك ووقت شروع وبم يخالف الوقت الوقت وأيضاً إذ بان أن الحادث لا يحدث إلا بحادث حال في المبدأ فلا يخلو إما أن يكون حدوث ما يحدث عن الأول بالطبع أو عرض فيه غير الارادة أو بالارادة إذ ليس بقسري ولا اتفاق فإن كان بالطبع فقد تغير الطبع أو كان بالعرض فقد تغير العرض وإن كان بالارادة فلينزل إنها حدثت فيه أو مباينة له بل نقول إما أن يكون المراد نفس الايجاد أو غرضاً ومنفعة بعد فإن كان المراد نفس الايجاد لذاته فلم لم يوجد قبل أتراه استصلحه الآن أو حدث وقته أو قدر عليه الآن ولا نعني فيما نقوله قول القائل إن هذا السؤال باطل لأن السؤال في كل وقت عائد بل هذا السؤال حتى لأنه في كل وقت عائد ولازم وإن كان لغرض ومنفعة فمعلوم أن الذي هو للشيء بحيث كونه ولا كونه بمنزلة واحدة فليس بغرض والذي هو للشيء بحيث كونه ولا كونه بمنزلة واحدة فليس هو نافعاً والذي كونه منه أولى فهو نافع والحق الأول كامل الذات لا ينتفع بشيء كيف وهو غاية الخيرات. الصفحة : 211 فصل في أنه يلزم على قول المخالفين أن يكون الله تعالى سابقاً على الزمان والحركة بزمان وأيضاً فإن الأول بماذا يسبق أفعاله الحادثة أبذاته أم بالزمان فإن كان بذاته فقط مثل الواحد للاثنين وإن كانا معاً بالزمان وكحركة المتحرك بأن يتحرك بحركة ما يتحرك عنه وإن كانا معاً بالزمان فيجب أن يكون كلاهما محدثين أو قدم الأول وقدم الأفعال الكائنة عنه وإن كان قد سبق لا بذاته فقط بل بذاته وبالزمان بأن كان وحده ولا عالم ولا حركة ولا شك أن لفظة كان تدل على أمر مضى وليس الآن وخصوصاً ويعقبه قولك ثم فقد كان كون ثم مضى قبل أن خلق الخلق وذلك الخلق متناه فقد كان إذاً زمان قبل الحركة والزمان لأن الماضي إما بذاته وهو الزمان وإما بالزمان وهو الحركة وما فيها ومعها فقد بان لك هذا فإن لم يسبق بأمر هو ماض للوقت الأول من حدوث الخلق فهو حادث مع حدوثه وكيف لا يكون سبق على أوضاعهم بأمر ماض للوقت الأول من الخلقة وقد كان ولا خلق وكان وخلق وليس كان ولا خلق ثابتاً عند كونه كان وخلق ولا كونه قبل الخلق ثابت مع كونه مع الخلق ولا كان خلق هو وجوده مع عدم الخلق بلا شيء ثالث فإن وجود ذاته وعدم الخلق موصوف بأنه قد كان وليس الآن وتحت قولنا كان معنى معقول دون معقول الأمرين لأنك إذا قلت وجود ذات وعدم ذات لم يكن مفهوماً منه السبق بل قد يصح أن يفهم معه التأخر فإنه لو عدمت الأشياء صح وجوده وعدم الأشياء ولم يصح أن يقال لذلك كان بل إنما يفهم السبق بشرط ثالث فوجود الذات شيء وعدم الذات شيء ومفهوم كان شيء موجود غير المعنيين وقد وضع هذا المعنى للخالق عز ذكره ممتداً لا عن بداية وجوز فيه أن يخلق قبل أي وقت توهم فيه أنه خلق فإذا كان هذا هكذا كانت هذه القبلية مقدرة مكممة وهذا هو الذي تسميه الزمان إذ تقديره ليس تقدير ذي وضع ولا ثبات بل على سبيل التجدد ثم إن شئت فتأمل أقاويلنا الطبيعية إذ بينا أن ما يدل عليه معنى كان ويكون عارض لهيئة غير قارة والهيئة الغير القارة هي الحركة فإذا تحققت علمت أن الأول إنما سبق الخلق الصفحة : 212 فصل في أن المخالفين يلزمهم أن يضعوا وقتاً قبل وقت بلا نهاية وزماناً ممتداً في الماضي بلا نهاية وهو بيان جدلي إذا استقصى مال إلى البرهان وهؤلاء المعطلة الذين عطلوا الله تعالى عن وجوده لا يخلو أمرهم إما أن يسلموا أن الله عز وجل كان قادراً قبل أن يخلق الخلق أن يخلق جسماً ذا حركات تقدر أوقاته وأزمنته ينتهي إلى وقت وأزمنة محدودة أو لم يكن الخالق قادراً أن يبتدئ الخلق الآخر إلا حين ابتدأ - وهذا القسم الثاني محال يوجب انتقال الخالق من العجز إلى القدرة أو انتقال المخلوقات من الامتناع إلى الامكان بلا علة والقسم الأول يقسم عليهم قسمين فيقال لا يخلو إما أن يكون كان يمكن أن يخلق الخالق جسماً غير ذلك الجسم إنما ينتهي إلى خلق العالم بمدة وحركات أكثر أو أقل أولا يمكن ومحال أنه لا يمكن لما بيناه فإن أمكن فإما أن يكون خلقه مع خلق ذلك الجسم الأول الذي ذكرناه قبل هذا الجسم أو إنما يمكن قبله فإن فرض إمكانه فهو محال فإنه لا يمكن أن يكون ابتداء خلقين متساويي الحركة في السرعة يقع بحيث ينتهيان إلى خلق العالم ومدة أحدهما أطول وإن لم يكن معه بل كان إمكانه مبايناً له متقدماً عليه أو متأخراً عنه يقدر في حال العدم إمكان خلق شيء بصفته ولا إمكانه وذلك في حال دون حال ووقع ذلك متقدماً أو متأخراً ثم ذلك إلى غير نهاية فقد وضح ما قدمناه من وجود حركة لا بدأ لها في الزمان إنما البدأ لها من جهة الخالق وإنما هي السماوية. الصفحة : 213 فصل في أن الفاعل القريب للحركة الأولى نفس فيجب أن تعلم أن العلة القريبة للحركة الأولى نفس لا عقل وأن السماء حيوان مطيع لله عز وجل فنقول إما بينا في الطبيعيات أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم على الاطلاق والجسم على حالته الطبيعية إذ كان كل حركة بالطبع مفارقة ما بالطبع لحالة والحالة التي تفارق بالطبع هي حالة غير طبيعية لا محالة وظاهر أن كل حركة تصدر عن طبع فعن حالة غير طبيعية ولو كان شيء من الحركات مقتضى طبيعة الشيء لما كان شيء من الحركات باطل الذات مع بقاء الطبيعة بل الحركات إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية إما في الكيف كما إذا استحر الماء بالقسر - وأما في الكم كما يذبل البدن الصحيح فيها ذبولاً مرضياً - وأما في المكان كما إذا نقلت المدرة إلى حيز الهواء وكذلك إن كانت الحركة في مقولة أخرى والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية وتغيير البعد عن الغاية فإذا كان الأمر على هذه الصفة لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة وإلا كانت عن حالة غير طبيعية إلى حالة طبيعية فإذا وصلت إليها سكنت ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية لأن الطبيعة ليست تفعل باختيار بل على سبيل تسخير وسبيل ما يلزمها بالذات فإن كانت الطبيعة تحرك على الاستدارة فهي تحرك لا محالة إما عن أبن غير طبيعي أو وضع غير طبيعي هرباً طبيعياً عنه وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصداً طبيعياً إليه والحركة المستديرة تفارق كل نقطة وتتركها وتقصد في تركها ذلك كل النقط وليست تهرب عن شيء إلا وتقصده فليست إذاً الحركة المستديرة طبيعية. الصفحة : 214 فصل في أن حركة السماء مع أنها نفسانية كيف يقال إنها طبيعية إلا أنها قد تكون بالطبع أي ليس وجودها في جسمها مخالفاً لمقتضى طبيعة أخرى لجسمها فإن الشيء المحرك لها وإن لم يكن قوة طبيعية كان سبباً طبيعياً لذلك الجسم غير غريب عنه وكأنه طبيعة وأيضاً فإن كل قوة طبيعية فإنما تحرك بتوسط الميل والميل هو المعنى الذي يجس في الجسم المتحرك وإن سكن قسراً أحس ذلك الميل كأنه يد يقاوم المسكن مع سكونه طلباً للحركة فهو غير الحركة لا محالة وغير القوة المحركة لأن القوة المحركة تكون موجودة عند إتمامها الحركة ولا يكون الميل موجوداً فهكذا أيضاً الحركة الأولى لأن محركها لا يزال يحدث في جسمها ميلاً بعد ميل وذلك الميل لا يمتنع أن يسمى طبيعة لأنه ليس نفس ولا من خارج ولا له إرادة أو اختيار ولا يمكنه أن لا يحرك أو يحرك إلى غير جهة محدودة ولا هو مع ذلك بمضاد لمقتضى طبيعة ذلك الجسم القريب فإن سميت هذا المعنى طبيعة كان لك أن تقول إن الفلك متحرك بالطبيعة إلا أن طبيعته فيض عن نفس يتجدد بحسب تصور النفس فقد بان أن الفلك ليس مبدأ حركته طبيعة وكان قد بان أنه ليس قسراً فهي عن إرادة لا محالة ونقول إنه لا يجوز أن يكون مبدأ حركته القريب قوة عقلية صرفة لا تتغير ولا تتخيل الجزئيات البتة وكأنا قد أشرنا إلى جمل مما يعين في معرفة هذا المعنى في الفصول المتقدمة إذ أوضحنا أن الحركة معنى متجدد السبب وكل شطر منه مخصص بسبب فإنه لا ثبات له ولا يجوز أن يكون عن معنى ثابت البتة وحده فإن كان عن معنى ثابت فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال - أما إن كانت الحركة عن طبيعة فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال - أما إن كانت الحركة عن طبيعة فيجب أن يكون كل حركة تتجدد فيه فلتجدد قرب وبعد من النهاية المطلوبة وكل حركة ونسبة له تعدم وكل جزء له نسبة تعدم فلعدم بعد وقرب من النهاية ولولا ذلك التجدد لم يمكن تجدد حركة فإن الثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت - وأما إن كان إرادة فيجب أن يكون عن إرادة متجددة جزئية فإن الارادة الكلية نسبتها إلى كل شطر من الحركة نسبة واحدة فلا يجب أن تتعين منها هذه الحركة دون هذه فإنها إن كانت لذاتها علة لهذه الحركة لم يجز أن تبطل هذه الحركة وإن كانت علة لهذه الحركة بسبب حركة قبلها أو بعدها معدومة كان المعدوم موجباً لموجود والمعدوم لا يكون موجباً لموجود وإن كان قد يكون الاعدام علة للاعدام فإما أن يوجب المعدوم شيئاً فهذا لا يمكن وإن الصفحة : 215 كانت العلية لأمور تتجدد فالسؤال في تجددها ثابت فإن كان تجدداً طبيعياً لزم المحال الذي قدمناه وإن كان إرادياً يتبدل بحسب تصورات متجددة فهو الذي نريده فقد بان أن الارادة العقلية الواحدة لا توجب البتة حركة ولكنه قد يمكن أن نتوهم أن ذلك الارادة عقلية منتقلة فإنه قد يمكن أن ينتقل العقل الجزئي تحت النوع منتشراً مخصوصاً بعوارض عقلاً بنوع كلي على ما أشرنا إليه فيجوز إذاً أن نتوهم وجود عقل يعقل الحركة الكلية ويريدها ثم يعقل انتقالاً من حد إلى حد ويأخذ تلك الحركات وحدودها بنوع معقول على ما أوضحناه وعلى ما من شأننا أن نبرهن عليه من أن حركة من كذا إلى كذا ثم من كذا إلى كذا فنعين مبدأ ما كلياً منهياً إلى طرف آخر كلي بمقدار ما مرسوم كلي وكذلك حتى تفنى الدائرة فلا يبعد أن نتوهم أن تجدد الحركة يتبع تجدد هذا المعقول فنقول أولاً على هذا السبيل يمكن أن يتم أمر الحركة المستديرة فإن هذا التأثير على هذا الوجه يكون صادراً عن الارادة الكلية وإن كان على سبيل تجدد وانتقال والارادة الكلية كيف كانت فإنما هي بالقياس إلى طبيعة مشترك فيها وإن كانت إرادة لحركة تتبعها إرادة لحركة - وأما هذه الحركة التي من ههنا بعينه إلى هناك بعينه فليست أولى بأن تصدر عن تلك الارادة من هذه الحركة التي من هناك إلى حد ثالث فنسبة جميع أجزاء الحركة المتساوية في الجزئية إلى واحد واحد تلك الارادات العقلية المتنقلة واحدة فليس من ذلك جزء أولى بأن ينسب إلى واحد من تلك التصورات من أن لا ينسب وكل شيء فنسبته إلى مبدئه ولا نسبته واحدة فإنه بعد عن مبدئه بإمكان ولم يتميز ترجح وجوده عنه عن لا وجوده وكل ما لم يجب عن علته فإنه لا يكون كما علمت فكيف يصح أن يقال إن الحركة من " ا " إلى " ب " لزمت عن إرادة عقلية والحركة من " ب " إلى " ج " من إرادة أخرى عقلية دون أن يلزم عن كل واحدة من تلك الارادات غير ما لم يلزم ويكون بالعكس فإن " ا " و " ب " و " ج " متشابهة في النوع وليس شيء من الارادات الكلية بحيث تعين الألف دون الباء والباء دون الجيم ولا الألف أولى بأن تتعين من الباء والجيم عن تلك الارادة لما كانت عقلية ولا الباء عن الجيم إلا أن تصير نفسانية جزئية وإذا لم تتعين تلك الحدود في العقل بل كانت حدوداً كلية فقط لم يمكن أن تكون الحركة من " ا " إلى " ب " أولى من التي من " ب " إلى " ج " ثم كيف يمكن أن نفرض فيها إرادة وتصوراً ثم إرادة وتصوراً يختلفان في أمر متفق ولا استناد فيه إلى مخصوص شخصي يقاس به ومع هذا كله فإن العقل لا يمكنه أن يفرض هذا الانتقال إلا مشاركاً للتخيل والحس ولأنا يمكنا إذا رجعنا إلى العقل الصريح الصفحة : 216 أن نعقل جملة الحركة وأجزاء الانتقال فيما نعقله دائرة معاً فإذاً على الأحوال كلها لا غنى عن قوة نفسانية تكون هي المبدأ القريب للحركة وإن كنا لا تمنع أن يكون هناك أيضاً قوة عقلية تنتقل هذا الانتقال العقلي بعد استناده إلى شبه تخيل - وأما القوة العقلية المجردة عن جميع أصناف التغير فتكون حاضرة المعقول دائماً إن كان معقولاً كلياً عن كلي أو كلياً عن جزئي على ما أوضحناه. فإذا كان الأمر على هذا فالفلك متحرك بالنفس والنفس مبدأ حركته القريبة وتلك النفس متجددة التصور والارادة وهي متوهمة أي لها إدراك المتغيرات الجزئية وإرادة لأمور جزئية بأعيانها وهي كمال جسم الفلك وصورته ولو كانت لا هكذا بل قائمة بنفسها من كل وجه لكانت عقلاً محضاً لا يتغير ولا ينتقل ولا يخالطه ما بالقوة. والمحرك القريب للفلك إن لم يكن عقلاً فيجب أن يكون قبله عقل هو السبب المتقدم لحركة الفلك: فقد علمت أن هذه الحركة محتاجة إلى قوة غير متناهية مجردة عن المادة لا تتحرك ولا بالعرض - وأما النفس المحركة فإنها كما تبين لك جسمانية ومستحيلة متغيرة وليست مجردة عن المادة بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا إلا أن لها أن تعقل بوجه ما تعقلاً مشوباً بالمادة وبالجملة تكون أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقة كالعقل العملي فينا وبالجملة إدراكاتها بالجسم ولكن المحرك الأول له قوة غير مادية أصلاً بوجه من الوجوه إذ ليس يجوز أن تتحرك بوجه من الوجوه في أن تحرك وإلا لاستحالت ولكانت مادية كما قد بين هذا. فيجب بأن يحرك كما يحرك محرك بتوسط محرك آخر وذلك الآخر محلول للحركة مريد لها متغير بسببها وهذا النحو الذي يحرك علته محرك المحرك. الصفحة : 217 فصل في أن المحرك الأول كيف يحرك وأنه محرك على سبيل التشويق إلى الاقتداء بأمره الأولى لاكتساب تشبه بالعقل والذي يحرك المحرك من غير أن يتغير بقصد واستئناف فهو الغاية والغرض الذي إليه ينحو المحرك وهو المعشوق والمعشوق بما هو معشوق هو الخير عند العاشق بل نقول إن كل محرك حركة غير قسرية فهو إلى أمر ما وتشوق أمر ما حتى الطبيعة فإن معشوق الطبيعة أمر طبيعي وهو الكمال الذاتي للجسم إما في صورته وإما في أينه ووضعه ومعشوق الارادة أمر إرادي إما إرادة لمطلوب حسي كاللذة أو وهمي خيالي كالغلبة أو ظني وهو الخبر المظنون وطالب اللذة هو الشهوة وطالب الغلبة هو الغضب وطالب الخير المظنون هو الظن وطالب الخير الحقيقي المحض هو العقل ويسمى هذا الطلب اختياراً. والشهوة والغضب غير ملائم لجوهر الجسم الذي لا يتغير ولا ينفعل فإنه لا يستحيل إلى حال غير ملائمة فيرجع إلى حال ملائمة فيلتذ أو ينتقم من مخيل له فيغضب على أن كل حركة إلى لذيذ أو غلبة فهي متناهية وأيضاً فإن أكثر المظنون لا يبقى مظنوناً سرمدياً فوجب أن يكون مبدأ هذه الحركة اختياراً وإرادة لخير حقيقي ولا يخلو ذلك الخير إما أن يكون مما ينال بالحركة فيوصل إليه أو يكون خيراً ليس جوهره مما ينال بوجه بل هو مباين ولا يجوز أن يكون ذلك الخير من كمالات الجوهر المتحرك فيناله بالحركة وإلا لانقطعت الحركة ولا يجوز أن يكون متحركاً ليفعل فعلاً يكتسب بذلك الفعل كمالاً كما من شأننا أن نجود لنمدح ونحسن الأفعال لتحدث لنا ملكة فاضلة أو نصير خيرين وذلك لأن المفعول يكتسب كماله من فاعله فمحال أن يعود فيكمل جوهر فاعله فإن كمال المفعول المعلول أخس من كمال العلة الفاعلة والأخس لا يكسب الأشرف وإلا كمل كمالاً بل عسى أن يهيء الأخس للأفضل آلته ومادته حتى يوجد هو في بعض الأشياء عن سبب آخر - وأما نحن فإن المدح الذي نطلبه ونرغب فيه هو كمال غير حقيقي بل مظنون. والملكة الفاضلة التي نحصلها بالفعل ليس سببها الفعل بل الفعل يمنع ضدها ويهيء لها المادة وتحدث هذه الملكة من الجوهر المكمل لأنفس الناس وهو العقل الفعال أو جوهر آخر يشبهه. وعلى هذا فإن الحرارة المعتدلة سبب لوجود القوى النفسانية ولكن على أنها مهيأة للمادة لا موجدة وكلامنا في الموجد ثم بالجملة إذا كان الفعل تهيأ ليوجد كمالاً انتهت الحركة عند حصوله فبقي أن يكون الخير المطلوب بالحركة خيراً قائماً بذاته ليس من شأنه أن ينال وكل خير هذا شأنه فإنما يطلب العقل التشبه به بمقدار الامكان. والتشبه الصفحة : 218 به هو تعقل ذاته في كمالها الأبدي ليصير مثله في أن يحصل له الكمال الممكن في ذاته كما حصل لمعشوقه فالنسبة بالخير يوجب البقاء الأبدي على أكمل ما يكون لجوهر الشيء في أحواله ولوازمه دائماً لذلك. فما كان يمكن أن يحصل كماله الأقصى له في أول الأمر ثم تشبهه به بالثبات وما كان لا يمكن أن يحصل له كماله الأقصى في أول الأمر ثم تشبهه به بالحركة وتحقيق هذا هو أن الجوهر السماوي قد بان أن محركه محرك عن قوة غير متناهية والقوة التي لنفسه الجسمانية متناهية لكنها بما تعقل الأول فيسيح عليها من قوته ونوره دائماً تصير كأنها لها قوة غير متناهية ولا يكون لها قوة غير متناهية بل المعقول الذي يسيح عليها نوره وقوته. وهو " أعني الجرم السماوي " في جوهره على كماله الأقصى إذ لم يبق له في جوهره أمر بالقوة وكذلك في كمه وكيفه إلا في وضعه وأينه أولاً وفيما يتبع وجودهما من الأمور ثانياً فإنه ليس أن يكون على وضع وأين أولى بجوهره من أن يكون على وضع وأين آخر له في حيزه فإنه ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولى بأن يكون ملاقياً لجزء من جزء آخر فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة. فقد عرض لجوهر الفلك ما بالقوة من جهة وضعه أو أينه. والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال يكون للشيء دائماً ولم يكن هذا ممكناً للجرم السماوي بالعدد فحفظ بالنوع والتعاقب فصارت الحركة حافظة لما يمكن من هذا الكمال ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال الأكمل بحسب الممكن: ومبدأ هذا الشوق هو ما يعقل منه. وأنت إذا تأملت حال الأجسام الطبيعية في شوقها الطبيعي إلى أن تكون بالفعل أيناً لم تتعجب أن يكون جسم يشتاق شوقاً إلى أن يكون على وضع من أوضاعه التي يمكن أن تكون له وإلى أن يكون على أكمل ماله من كونه متحركاً وخصوصاً ويتبع ذلك من الأحوال والمقادير الفائضة ما يتشبه فيه بالأول من حيث هو مفيض للخيرات لا أن يكون المقصود هو التشبه بالأول بمقدار الامكان في أن يكون على أكمل ما يكون في نفسه وفيما يتبعه من حيث هو تشبه بالأول لا من حيث يصدر عنه أمور بعده فتكون الحركة لأجل ذلك التشبه بالمقصود الأول مثلاً: وأقول إن نفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل يصدر عنه الحركة الفلكية صدور الشيء عن التصور الموجب له وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول لأن ذلك تصور لما بالفعل فيحدث عنه طلب لما بالفعل الأكمل. ولا يمكن بالشخص فيكون بالتعاقب وهو الحركة لأن الشخص الواحد إذا دام لم يحصل لأمثاله وجود وبقيت دائماً بالقوة فالحركة تتبع أيضاً ذلك التصور على هذا الصفحة : 219 النحو لا على أن يكون مقصوده أولية وإن كان ذلك التصور الواحد تتبعه تصورات جزئية " ذكرناها وفصلناها " على سبيل الانبعاث لا على سبيل المقصود الأول. ويتبع تلك التصورات الجزئية الحركات المنتقل بها في الأوضاع " والجزء الواحد بكماله لا يمكن في هذا الباب " فيكون الشوق الأول على ما ذكرنا ويكون سائر ما يتلوه انبعاثات وهذه الأشياء قد توجد لها نظائر بعيدة في أبداننا ليست تناسبها وإن كانت قد تحكيها وتخيلها مثل أن الشوق إذا اشتد إلى خليل أو إلى شيء آخر تبع ذلك فينا تخيلات على سبيل الانبعاث تتبعها حركات ليست الحركات التي إلى نحو المشتاق إليه نفسه بل حركات نحو شيء في طريقه وفي سبيله وأقرب ما يكون منه فالحركة الفلكية كائنة بالارادة والشوق على هذا النحو وهذه الحركة مبدؤها شوق واختيار. ويمكن أن يكون على النحو الذي ذكرناه ليس أن تكون الحركة هي المقصودة بالقصد الأول وهذه الحركة كأنها عبادة ما ملكية أو فلكية وليس من شرط الحركة الإرادية أن يكون مقصودها في نفسها بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منه تأثير تتحرك له الأعضاء فتارة تتحرك على النحو الذي تتوصل به إلى الغرض وتارة على نحو آخر مشابه أو مقارب له إذا كان عن تخيل سواء كان الغرض أمراً ينال أو أمراً يقتدى به ويحتذى حذوه ويتشبه بوجوده فإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول وبما يعقل منه أو يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء وكل جهة لكنه ينبعث من ذلك ما هو أدون منه مرتبة وهو الشوق إلى التشبه به بمقدار الامكان فيلزم طلب الحركة لا من حيث هي حركة ولكن من حيث قلنا ويكون هذا الشوق تبع ذلك العشق والالتذاذ منبعثاً عنه وهذا الاستكمال منبعثاً عن الشوق فعلى هذا النحو يحرك المبدأ الأول جرم السماء: وقد اتضح لك من هذه الجملة أيضاً أن المعلم الأول إذا قال إن الفلك متحرك بطبعه فلماذا يعني أو قال إنه متحرك بالنفس فماذا يعني أو قال إنه متحرك بقوة غير متناهية يحرك كما يحرك المعشوق فماذا يعني فإنه ليس في أقواله تناقض ولا اختلاف. الصفحة : 220 فصل في أن لكل فلك جزئي محركاً أولاً مفارقاً قبل نفسه يحرك على أنه معشوق فإن المحرك الأول للكل مبدأ لجميع ذلك وأنت تعلم أن جوهر هذا المحرك الأول واحد ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الأول الذي لجملته السماء فوق واحد وإن كان لكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه ومشوق معشوق يخصه على ما يراه المعلم الأول ومن بعده من محصلي الحكمة المشائية فإنهم إنما ينفون الكثرة عن محرك الكل ويثبتون الكثرة للمحركات المفارقة وغير المفارقة التي تخص واحداً واحداً منها فيجعلون أول المفارقات الخاصة محرك الكارة الأولى وهي عند من تقدم " بطليموس " كرة الثوابت وعند من يعلم بالعلوم التي ظهرت لبطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها غير مكوكبة وبعد ذلك فمحرك الكرة التي تلي الأولى بحسب اختلاف الرأيين - وكذلك ما بعدها وهلم جرا. فهؤلاء يرون أن محرك الكل شيء ولكل كرة بعد ذلك محرك خاص والمعلم الأول يضع عدد الكرات المتحركة على ما ظهر في زمانه ويتبع عددها عدد المبادئ المفارقة وبعض من هو أسد قولاً من أصحابه يصرح " ويقول " في رسالته التي في مبادئ الكل أن محرك جملة السماء واحد لا يجوز أن يكون عدد كثيراً وإن كان لكل كرة محرك ومتشوق يخصانه والذي تحسن عبارته عن كتب المعلم الأول على سبيل تلخيص وإن لم يكن يغوص في المعاني يصرح " ويقول " ما هذا معناه إلا أن الأشبه والأحق وجود مبدأ حركة خاصية لكل فلك له على أنه فيه ووجود مبدأ حركة خاصية له على أنه معشوق مفارق - وهذان أقرب قدماء تلامذة المعلم الأول من سواء السبيل ثم القياس يوجب هذا فإنه قد صح لنا أيضاً بصناعة المجسطي أن حركات وكرات سماوية كثيرة ومختلفة في الجهة وفي السرعة والبطء فيجب أن يكون لكل حركة محرك غير الذي للآخر ومتشوق غير الذي للآخر وإلا لما اختلفت الجهات ولما اختلفت السرعة والبطء: وقد بينا أن هذه المتشوقات خيرات محضة مفارقة للمادة وإن كانت الكرات والحركات كلها تشترك في الشوق إلى المبدأ الأول فتشترك لذلك في دوام الحركة واستدارتها. أن اختلاف حركات السماء لأجل ما تحت السماء ونحن نزيد هذا بياناً ولنفتتح من مبدأ آخر فنقول إن قوماً لما سمعوا ظاهر قول فاضل المتقدمين إذ يقول إن الاختلاف في هذه الحركات وجهاتها يشبه أن يكون للعناية بالأمور الكائنة الفاسدة التي تحت كرة القمر وكانوا سمعوه أيضاً وعلموا بالقياس أن الحركات السماوية لا يجوز أن تكون الصفحة : 221 لأجل شيء غير ذواتها ولا يجوز أن يكون لأجل معلولاتها. أرادوا أن يجمعوا بين هذين المذهبين فقالوا إن نفس الحركة ليس لأجل ما تحت القمر ولكن للتشبه بالخير المحض والتشوق إليه. فأما اختلاف الحركات فيختلف ما يكون من كل واحد منها في عالم الكون والفساد اختلافا ينتظم به بقاء الأنواع كما أن رجلاً خيراً لو أراد أن يمضي في حاجته سمت موضع واعتراض له إليه طريقان أحدهما يختص بإيصاله إلى الموضع الذي فيه قضاء وطره والآخر يضيف إلى ذلك إيصال نفع إلى مستحق وجب في حكم خيريته أن يقصد الطريق الثاني وإن لم تكن حركته لأجل نفع غيره بل لأجل ذاته. قالوا وكذلك حركة كل فلك إنما هي لتبقى على كماله الأخير دائماً لكن الحركة إلى هذه الجهة وبهذه السرعة لينفع غيره. فأول ما نقول لهؤلاء أن أمكن أن يحدث للأجرام السماوية في حركاتها قصد ما لأجل شيء معلول ويكون ذلك القصد في اختيار الجهة فيمكن أن يحدث ذلك ويعرض في نفس الحركة حتى يقول قائل إن السكون كان يتم لها به خيرية تخصها والحركة كانت لا تضرها في الوجود وتنفع غيرها ولم يكن أحدهما أسهل عليها من الآخر أو أعسر فاختارت الأنفع. فإن كانت العلة المانعة عن القول بأن حركتها لنفع الغير استحالة قصدها فعلاً لأجل الغير من المعلولات فهذه العلة موجودة في نفس قصد اختيار الجهة لم تمنع قصد الحركة وكذلك الحال في قصد السرعة والبطء هذه الحالة فليس ذلك على ترتيب القوة والضعف في الأفلاك بسبب ترتيب بعضها على بعض في العلو والسفل حتى ينسب إليه بل ذلك مختلف " ونقول " بالجملة لا يجوز أن يكون عنها شيء لأجل الكائنات لا قصد حركة ولا قصد جهة حركة ولا تقدير سرعة وبطء ولا قصد فعل البتة لأجلها وذلك لأن كل قصد فيكون من أجل المقصود ويكون أنقص وجوداً من المقصود لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجوداً من الآخر من حيث هو والآخر على ما هما عليه بل يتم به للآخر النحو من الوجود الداعي إلى القصد ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس. فلا يكون البتة إلى معلول قصد صادق غير مظنون وإلا كان القصد معطياً ومفيداً لوجود ما هو أكمل وجوداً منه - وإنما يقصد بالواجب شيئاً يكون القصد مهيأ له ومفيد وجوده شيء آخر مثل الطبيب للصحة فالطبيب لا يعطي الصحة بل يهيء لها المادة والآلة وإنما يفيد الصحة مبدأ أجل من الطبيب وهو الذي يعطي المادة جميع صورها وذاته أشرف من المادة وربما كان القاصد مخطئاً في قصده إذا قصد ما ليس أشرف من القصد فلا يكون القصد لأجله في الطبع بل للخطأ ولأن هذا البيان يحتاج إلى الصفحة : 222 تطويل وتحقيق وفيه شكوك لا تنحل إلا بالكلام المشبع فلنعدل إلى الطريق الأوضح " فنقول " إن كل قاصد فله مقصود والعقلي منه هو الذي يكون وجود المقصود عند القاصد أولى بالقاصد من لا وجوده عنه وإلا فهو هذر والشيء الذي هو أولى بالشيء فإنه يفيده كمالاً ما إن كان بالحقيقة فحقيقياً وإن كان بالظن فظناً مثل استحقاق المدح وظهور القدرة وبقاء الذكر فهذه وما أشبهها كمالات ظنية أو الريح أو السلامة أو رضاء الله وحسن معاد الآخرة. وهذه وما أشبهها كمالات حقيقية لا تتم بالقصد وحده فإذاً كل قصد ليس عبثاً فإنه يفيد كمالاً لقاصد لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال والعبث مما علمت من سائر ما تبين لك ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالاً لم يكن فإن المواضع التي يظن فيها أن المعلول أفاد علته كمالاً مواضع كاذبة أو محرفة ومثلك ممن أحاط بما سلف له في الفنون لا يقصر عن تأملها وحلها " فإن قال قائل " إن الخيرية توجب هذا وإن الخيرية تفيد الخير " قيل له " إن الخيرية تفيد الخير لا على سبيل قصد وطلب ليكون ذلك فإن هذا يوجبه النقص وأن كل قصد وطلب لشيء فهو طلب لمعدوم وجوده عند الفاعل أولى من لاوجوده وما دام معدوماً وغير مقصود لم يكن ما هو الأولى به وذلك نقص وأن الخيرية لا يخلو إما أن تكون صحيحة موجودة دون هذا القصد ولا مدخل لوجود هذا القصد في وجودها فيكون كون هذا القصد ولا كونه عند الخيرية واحداً فلا يكون الخيرية توجبه ويكون حال سائر لوازم الخيرية التي تلزم بذاتها لا عن قصد هو هذه الحال وإما أن يكون بهذا القصد تتم الخيرية وتقوم فيكون هذا القصد علة لاستكمال الخيرية وقوامها لا معلول لها " فإن قال قائل " إن ذلك للتشبه بالعلة الأولى في أن فيه خيرية متعدية وحتى تكون بحيث يتبعها خير " فنقول " إن هذا في ظاهر الأمر مقبول وفي الحقيقة مردود فإن التشبه به في أن لا يقصد شيئاً بل أن ينفرد بالذات فإنه على هذه الصفة اتفاقاً من جماعة أهل العلم - وإما استفادة كمال بالقصد فمباين للتشبه به اللهم إن يقال أن المقصود الأول شيء وهذا بالقصد الثاني وعلى جهة الاستتباع فيجب في اختيار الجهة أيضاً أن يكون المقصود بالقصد الأول شيئاً وتكون المنفعة الذكورة مستتبعة لذلك المقصود. فتكون الخيرية غير مقصودة قصداً أولياً لنفس ما يتبع بل يجب أن يكون هناك استكمال في ذات الشيء مستتبع لتلك المنفعة حتى يكون تشبهاً بالأول ونحن لا نمنع أن تكون الحركة مقصودة بالقصد الأول على أنها تشبه بذات الأول من الجهة التي قلنا وتشبه بالقصد الثاني بذات الأول من حيث يفيض عنه الوجود بعد أن يكون القصد الصفحة : 223 الأول أمراً آخر ينظر به إلى فوق - وأما النظر إلى أسفل واعتباره فلا: فلو أجاز أن يقع القصد الأول إلى الجهة حتى يكون تشبهاً بالأول لجاز في نفس اختيار الحركة فكانت الحركة لأجل ما يجب يفيض عنها وجود ليس تشبهاً به من حيث هو كامل الوجود معشوقه وإنما ذلك لذاته من حيث ذاته ولا مدخل البتة لوجود الأشياء عنه في تشريف ذاته وتكميلها بل المدخل أنه على كماله الأفضل وبحيث يبعث عنه وجود الكل لا طلباً وقصداً فيجب أن يكون الشوق إليه من طريق التشبه على هذه الصورة لا على ما يتعلق للأول به كمال " فإن قال قائل " إنه كما قد يجوز أن يستفيد الجرم السماوي بالحركة خيراً وكماله والحركة فعلا له مقصود فكذلك سائر أفاعيله. فالجواب أن الحركة ليست تفيد كمالاً وخيراً وإلا لانقطعت عنده بل هي نفس الكمال الذي أشرنا إليه وهي بالحقيقة استثبات نوع ما يمكن أن يكون للجرم السماوي بالفعل إذ لا يمكن استثبات الشخص له فهذه الحركة لا تشبه سائر الحركات التي تطلب كمالاً خارجاً عنها بل تكمل هذه الحركة نفس المتحرك عنها بذاتها لأنها نفس استيفاء الأوضاع والأيون على التعاقب وبالجملة يجب أن يرجع إلى ما فصلناه فيما سلف حين بينا أن هذه الحركة كيف تتبع تصور المتشوق وهذه الحركة شبيهة بالثبات " فإن قال قائل " إن هذا القول يمنع من وجوده العناية بالكائنات والتدبير المحكم الذي فيها فإنا سنذكر بعد ما يزيل هذه الأشكال ويعرف عناية الباري عز وجل بالكل على أي سبيل هي وأن عناية كل علة بما بعدها على سبيل هي وأن الكائنات التي عندنا كيف العناية بها من المبادئ الأول والأسباب المتوسطة فقد اتضح بما أوضحناه أنه لا يجوز أن يكون شيء من العلل يستكمل بالمعلول بالذات إلا بالعرض وأنها لا تقصد فعلاً لأجل المعلول وإن كان يرضى به ويعلمه بل كما أن الماء يبرد بذاته بالفعل ليحفظ نوعه لا ليتبرد غيره ولكن يلزمه أن يبرد غيره والنار تسخن بذاتها بالفعل لتحفظ نوعها لا لتسخن غيرها ولكن يلزمها أن تسخن غيرها والقوة الشهوانية تشتهي لذة الجماع لتدفع الفضل ويتم لها اللذة لا ليكون عنها ولد ولكن يلزمه ولد والصحة هي صحة بجوهرها وذاتها لا لأن تنفع المريض لكن يلزمها نفع المريض - كذلك في العلل المتقدمة إلا أن هناك إحاطة بما يكون وعلماً بأن وجه النظام والخير فيها كيف يكون وأنه على ما يكون " وليس في تلك " فإذا كان الأمر على هذا فالأجرام السماوية إنما اشتركت في الحركة المستديرة شوقاً إلى معشوق مشترك - وإنما اختلفت لأن مباديها المعشوقة المتشوق إليها قد تختلف بعد ذلك الأول وليس إذا أشكل علينا أنه كيف الصفحة : 224 وجب على كل تشوق حركة بهذه الحال فيجب أن يؤثر ذلك فيما علمنا من أن الحركات مختلفة لاختلاف المتشوقات. فصل في أن المعشوقات التي ذكرنا ليست أجساماً ولكن بقي علينا شيء وهو أنه يمكن أن يتوهم المعشوقات المختلفة أجساماً لا عقولاً مفارقة حتى يكون مثلاً الجسم الذي هو أخس متشبهاً بالجسم الذي هو أقدم وأشرف كما ظنه أبو الحسن العامري القدم من أخبث المتفلسفة الإسلامية في تشويش الفلسفة إذ لم يفهم غرض الأقدمين فنقول إن هذا محال وذلك أن التشبيه به يوجب مثل حركته وجهتها والغاية التي يؤمها فإن أوجب القصور عن مرتبته شيئاً فإنما يوجب الضعف في الفعل لا المخالفة في الفعل مخالفة توجب أن يكون هذا إلى جهة وذاك إلى أخرى ولا يمكن أن يقال إن السبب في ذلك الخلاف طبيعة ذلك الجسم كأن تكون طبعية الجسم تقتضي أن يتحرك من " أ " إلى " ب " ولا تقتضي أن يتحرك من " ب " إلى " أ " فإن هذا محال فإن الجسم بما هو جسم لا يوجب هذا والطبيعة بما هي طبيعة للجسم تطلب الأين الطبيعي من غير وضع مخصوص ولو كانت تطلب وضعاً مخصوصاً لكانت تنتقل عنه قسراً فيدخل في حركة الفلك معنى قسري ثم وجود كل جزء من أجزاء الفلك على كل نسبة محتمل في طبيعة الفلك فليس يجب إذاً أن يكون إذا أزيل جزء من جهة جاز وإن أزيل من جهة لم تجز بحسب الطبع إلا أن يكون هناك طبيعة تفعل حركة إلى جهة فتميل إلى تلك الجهة ولا تميل إلى جهة أخرى إن منعت عن جهتها: وقد قلنا إن مبدأ هذه الحركة ليست طبيعة ولا أيضاً هناك طبيعة توجب وضعاً بعينه ولا جهات مختلفة فليس إذاً في جوهر الفلك طبيعة تمنع تحريك النفس له إلى أي جهة كانت وأيضاً لا يجوز أن يقع ذلك من جهة النفس حتى يكون طبعها أن تريد تلك الجهة لا محالة إلا أن يكون الغرض في الحركة مختصاً بتلك الجهة لأن الإرادة تبع للغرض وليس الغرض تبعاً للإرادة. فإذا كان هكذا كان السبب مخالفة الغرض فإذاً لا مانع من جهة الجسمية ولا من جهة الطبيعة ولا من جهة النفس إلا اختلاف الغرض. والقسر أبعد الجميع عن الإمكان فإذاً لو كان الغرض تشبهاً بعد الأول بجسم من السماوية لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم ولم يكن مخالفاً له أو أسرع منه في كثير من المواضع وكذلك إن كان الغرض لمحرك هذا الفلك التشبه بمحرك ذلك الفلك وقد كان بان أنه ليس الغرض في تلك الحركات شيئاً يتوصل إليه البتة بالحركة بل شيئاً مبايناً وبان الآن أنه ليس جسماً فبقي أن الغرض لكل فلك الصفحة : 225 تسبه بشيء غير جواهر الأفلاك وموادها وأنفسها. ومحال أن يكون بالعنصريات وما يتولد عنها ولا أجسام ولا أنفس غير هذه فبقي أن يكون لكل واحد منها شوق تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه. وتختلف الحركات وأحوالها وجهاتها التي لها لأجل ذلك وإن كنا لا نعرف كيفية وجوب ذلك وكميته وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك. فهذا معنى قول القدماء إن للكل محركاً واحداً معشوقاً ولكل كرة محرك يخصها ومعشوق يخصها فيكون إذاً لكل فلك نفس محركة تعقل الخير ولها بسبب الجسم تخيل أي تصور للجزيئات وإرادة للجزئيات ويكون ما يعقله من الأول من المبدأ الذي يخصه القريب منه مبدأ يشوقه إلى التحريك ويكون لكل فلك عقل مفارق نسبته إلى نفسه نسبة العقل الفعال إلى أنفسنا وأنه مثال كلي عقلي لنوع فعله فهو يتشبه به. وبالجملة فلا بد في كل متحرك منها لغرض عقلي من مبدأ عقلي يعقل الخير الأول وتكون ذاته مفارقة فقد علمت أن كل ما يعقل فهو مفارق الذات. ومن مبدأ للحركة جسماني أي مواصل للجسم فقد علمت أن الحركة السماوية نفسانية تصدر عن نفس مختارة متجددة الاختيارات على الاتصال جزئيتها فيكون عدد العقول المفارقة بعد المبدأ الأول عدد الحركات فإن كانت أفلاك المتحيرة إنما المبدأ في حركة كرات كل كوكب منها قوة تفيض من الكوكب لم يبعد أن تكون المفارقات بعدد الكواكب لها لا بعدد الكرات وكان عددها عشرة بعد الأول أولها العقل المحرك الذي لا يتحرك وتحريكه لكرة الجرم الأقصى ثم الذي هو مثله لكرة الثوابت ثم الذي هو مثله لكرة زحل - وكذلك حتى ينتهي إلى العقل الفائض على أنفسنا وهو عقل العالم الأرضي: ونسميه نحن الفعال وإن لم يكن كذلك بل كان كل كرة متحركة لها حكم في حركة نفسها ولكل كوكب كانت هذه المفارقات أكثر عدداً وكانت على مذهب المعلم الأول قريباً من خمسين فما فوقها وآخرها العقل الفعال: وقد علمت من كلامنا في الرياضات مبلغ ما ظفرنا به من عددها. السماوية والأجرام العلوية فقد صح لنا بما قدمناه من القول إن الواجب الوجود بذاته واحد وأنه ليس بجسم ولا في جسم ولا ينقسم بوجه من الوجوه. فإذاً الموجودات كلها وجودها عنه ولا يجوز أن يكون له مبدأ بوجه من الوجوه ولا سبب لا الذي عنه ولا الذي فيه أو به يكون ولا الذي له حتى يكون لأجل شيء فلهذا لا يجوز أن يكون كون الكل عنه على سبيل قصد منه كقصدنا لتكوين الكل لوجود الكل فيكون قاصداً لأجل شيء غيره - وهذا الفصل قد فرغنا عن تقريره في غيره وذلك فيه أظهر الصفحة : 226 ويخصه من بيان امتناع أن يقصد وجود الكل عنه أن ذلك يؤدي إلى تكثر ذاته. فإنه حينئذ يكون فيه شيء بسببه يقصد وهو معرفته وعلمه بوجوب القصد أو استحبابه أو خيرية فيه توجب ذلك ثم قصد ثم فائدة يفيدها إياه القصد على ما أوضحنا قبل وهذا محال وليس كون الكل عنه على سبيل الطبع بأن يكون وجود الكل عنه لا بمعرفة ولا رضاً منه وكيف يصح هذا وهو عقل محض يعقل ذاته فيجب أن يعقل أنه يلزم وجود الكل عنه لأنه لا يعقل ذاته إلا عقلاً محضاً ومبدأ أولاً وإنما يعقل وجود الكل عنه على أنه مبدؤه وليس في ذاته مانع أو كاره لصدور الكل عنه وذاته عالمة بأن كماله وعلوه بحيث يفيض عنه الخير وأن ذلك من لوازم جلالته المعشوقة له لذاتها وكل ذات يعلم ما يصدر عنه ولا يخالطه معاوقة ما بل يكون على ما أوضحناه فإنه راضٍ بما يكون عنه فالأول راض بفيضان الكل عنه ولكن الحق الأول إنما عقله الأول وبالذات أنه يعقل ذاته التي هي لذاتها مبدأ لنظام الخير في الوجود فهو عاقل لنظام الخير في الوجود كيف ينبغي أن يكون لا عقلاً خارجاً عن القوة إلى الفعل ولا عقلاً متنقلاً من معقول إلى معقول فإن ذاته بريئة عما بالقوة من كل وجه على ما أوضحنا قبل بل عقلاً واحداً معاً ويلزم ما يعقله من نظام الخير في الوجود إذ يعقل أنه كيف يمكن. وكيف يكون أفضل ما يكون أن يحصل وجود الكل على مقتضى معقوله فإن الحقيقة المعقولة عنده هي بعينها على ما علمت علم وقدرة وإرادة - وأما نحن فنحتاج في تنفيذ ما نتصوره إلى قصد وإلى حركة وإرادة حتى يوجد وهو لا يحسن فيه ذلك ولا يصح لبراءته عن الاثنينية على ما أطنبنا في بيانه فنعقله علة للوجود على ما يعقله ووجود ما يوجد عنه على سبيل لزوم لوجوده وتبع لوجوده لا أن وجوده لأجل وجوده شيء آخر غيره وهو فاعل الكل بمعنى أنه الموجود الذي يفيض عنه كل وجود فيضاً تاماً مبايناً لذاته ولأن كون ما تكون عن الأول إنما هو على سبيل اللزوم إذ صح أن الواجب الوجود بذاته واجب الوجود من جميع جهاته. وفرغنا من بيان هذا العرض قبل فلا يجوز أن يكون أول الموجودات عنه وهي المبدعات كثيرة لا بالعدد ولا بالانقسام إلى مادة وصورة لأنه يكون لزوم ما يلزم عنه هو لذاته لا لشيء آخر والجهة والحكم الذي في ذاته الذي منه يلزم هذا الشيء ليست الجهة والحكم الذي يلزم عنه لا هذا الشيء بل غيره فإن لزم منه شيئان متباينان بالقوام أو شيئان متباينان يكون منهما شيء واحد مثل مادة وصورة لزوماً معاً فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته وتانك الجهتان إذا كانت لا في ذاته بل لازمتين لذاته فالسؤال في لزومهما ثابت حتى يكونا في الصفحة : 227 ذاته فيكون ذاته منقسماً بالمعنى. وقد منعنا هذا قبل وبينا فساده. فبين أن أول الموجودات عن العلة الأولى واحد بالعدد وذاته وماهيته موجودة لا في مادة فليس شيء من الأجسام ولا من الصور التي هي كمالات الأجسام معلولاً قريباً له بل المعلول الأول عقل محض لأنه صورة لا في مادة وهو أول العقول المفارقة التي عددناها ويشبه أن يكون هو المبدأ المحرك للجرم الأقصى على سبيل التشويق. ولكن القائل أن يقول إنه لا يمتنع أن يكون الحادث عن الأول صورة مادية لكنها يلزم عنها وجود مادتها فنقول إن هذا يوجب أن تكون الأشياء التي بعد هذه الصورة وهذه المادة ثالثة في درجة المعلولات وأن يكون وجودها بتوسط المادة فتكون المادة سبباً لوجود صور الأجسام الكثيرة في العالم وقواها وهذا محال إذ المادة وجودها أنها قابلة فقط وليست سبباً لوجود شيء من الأشياء على غير سبيل القبول فإن كان شيء من المواد ليس هكذا. فليس هو مادة إلا باشتراك الاسم فيكون إن كان الشيء المفروض ثانياً ليس على صفه المادة إلا باشتراك الاسم فالمعلول الأول لا يكون نسبته إليه على أنه صورة في مادة إلا باشتراك الاسم فإن كان هذا الثاني من جهة توجد عنه هذه المادة ومن جهة أخرى توجد عنه صورة شيء آخر حتى لا تكون الصورة الأخرى موجودة بتوسط المادة كانت الصورة المادية تفعل فعلاً لا يحتاج فيه إلى المادة وكل شيء يفعل فعله من غير أن يحتاج إلى المادة فذاته أولاً غنية عن المادة فتكون الصورة المادية غنية عن المادة. وبالجملة فإن الصورة المادية وإن كانت على للمادة في أن تخرجها إلى الفعل وتكملها فإن للمادة تأثيراً في وجودها وهو تخصيصها وتعيينها وإن كان مبدأ الوجود من غير المادة كما قد علمت ستكون لا محالة كل واحد منهما علة للأخرى في شيء وليستا من جهة واحدة ولولا ذلك لاستحال أن يكون للصورة المادية تعلق بالمادة بوجه من الوجوه وكذلك قد سلف منا القول أن المادة لا يكفي في وجودها الصورة فقط بل الصورة كجزء العلة وإذا كان كذلك فليس يمكن أن نجعل الصورة من كل وجه علة للمادة مستغنية بنفسها. فبين أنه لا يجوز أن يكون المعلول الأول صورة مادية أصلاً بل عقلاً. وأنت تعلم أن ههنا عقولاً ونفوساً مفارقة كثيرة فمحال أن يكون وجودها مستفاداً بتوسط ما ليس له وجود مفارق لكنك تعلم أن في جملة الموجودات عن الأول أجساماً إذ علمت أن كل جسم ممكن الوجود في حد نفسه وأنه يجب بغيره وعلمت أنه لا سبيل إلى أن تكون الواسطة واحدة محضة. فقد علمت أن الواحد من حيث هو واحد إنما يوجد عنه واحد فبالحري أن تكون الأجسام عن المبدعات الأولى بسبب الصفحة : 228 اثنينية يجب أن تكون فيها ضرورة أو أكثر كيف كانت ولا يمكن في العقول المفارقة شيء من الكثرة إلا على ما أقول إن المعلول بذاته ممكن الوجود وبالأول واجب الوجود " ووجوب وجوده بأنه عقل " وهو يعقل ذاته. ويعقل الأول ضرورة. فيجب أن يكون فيه من الكثرة معنى عقله لذاته ممكنة الوجود في حد نفسها وعقله وجوب وجوده من الأول المعقول بذاته وعقله الأول وليست الكثرة له عن الأول فإن إمكان وجوده أمر له بذاته لا بسبب الأول بل له من الأول وجوب وجوده ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب حدوثه عن الأول ونحن لا نمنع أن يكون عن شيء واحد ذات واحدة ثم يتبعها كثرة إضافية - ليست في أول وجوده وداخلة في مبدأ قوامه بل يجوز أن يكون الواحد يلزم عنه واحد ثم ذلك الواحد يلزمه حكم وحال أو صفة أو معلول. ويكون ذلك أيضاً واحداً ثم يلزمه عنه بمشاركة ذلك اللازم شيء فتنبع من هناك كثرة كلها تلزم ذاته فيجب إذاً أن يكون مثل هذه الكثرة هي العلة لإمكان وجود الكثرة معاً عن المعلولات الأولى ولولا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منها إلا وحدة ولا يمكن أن يوجد عنها جسم. ثم لا إمكان كثرة هناك إلا على هذا الوجه فقط: وقد بان لنا فيما سلف أن العقول المفارقة كثيرة العدد فليست إذاً موجودة معاً عن الأول بل يجب أن يكون أعلاها هو الموجود الأول عنه. ثم يتلوه عقل وعقل ولأن تحت كل عقل فلكاً بمادته وصورته التي هي النفس وعقلاً دونه فتحت كل عقل ثلاثة أشياء في الوجود فيجب أن يكون إمكان وجوده هذه الثلاثة عن ذلك العقل الأول في الإبداع لأجل التثليث المذكور فيه والأفضل يتبع الأفضل من جهات كثيرة فيكون إذاً العقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها وهي النفس وبطبيعة إمكان الوجود الحاصلة المندرجة في تعلقة لذاته وجود جرمية الفلك الأقصى المندرجة في جملة ذات الفلك الأقصى بنوعه وهو الأمر المشابك للقوة فيما يعقل الأول يلزم عنه عقل وبما يختص بذاته على جهتيه الكثيرة الأولى بجزأيها أعني المادة والصورة والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالفعل الذي يحاذى صورة الفلك وكذلك الحال في عقل عقل وفلك فلك حتى ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدير أنفسنا وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق فإنا نقول إنه إن لزم وجود كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة فنلزم كثرته هذه المعلولات ولا الصفحة : 229 هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقاً. ولنبتدئ لبيان هذا المعنى بياناً آخر فنقول إن الأفلاك كثيرة فوق العدد الذي في المعلول الأول من جهة كثرته المذكورة وخصوصاً إذا فصل كل فلك إلى صورته ومادته فليس يجوز أن يكون مبدؤها واحداً هو المعلول الأول. ولا أيضاً يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للمتأخر وذلك لأن الجرم بما هو جرم لا يجوز أن يكون مبدأ جرم وبما له قوة نفسانية لا يجوز أن يكون مبدأ جرم ذي نفس أخرى وذلك لانا بينا إن كل نفس لكل فلك فهو كماله وصورته فليس جوهراً مفارقاً وإلا لكان عقلاً لا نفساً وكان لا يحرك البتة إلا على سبيل تشويق وكان لا يحدث فيه من حركة الجرم تغير ومن مشاركة الجرم تخيل وتوهم. وقد ساقنا النظر إلى إثبات هذه الأحوال لأنفس الأفلاك كما علمت. وإذا كان الأمر على هذا فلا يجوز أن تكون أنفس الأفلاك تصدر عنها أفعال في أجسام أخرى غير أجسامها إلا بوساطة أجسامها فإن صور الأجسام وكمالاتها على صنفين - أما صور قوامها بمواد تلك الأجسام فكما أن قوامها بمواد تلك الأجسام فكذلك ما يصدر عن قوامها يصدر بوساطة مواد تلك الأجسام - ولهذا السبب فإن النار لا تسخن حرارتها أي شيء اتفق بل ما كان ملاقياً لجرمها أو من جسمها بحال والشمس لا تضيء كل شيء بل ما كان مقابلاً لجرمها. وأما صور قوامها بذاتها لا بمواد الأجسام كالأنفس. ثم كل نفس فإنما جعلت خاصة بجسم بسبب أن فعلها بذلك الجسم وفيه ولو كانت مفارقة الذات والفعل جميعاً لذلك الجسم لكانت نفس كل شيء لأنفس ذلك الجسم فقط. فقد بان على الوجوه كلها أن القوى السمائية المتعلقة بأجسامها لا تفعل إلا بوساطة جسمها ومحال أن تفعل بوساطة الجسم نفساً لأن الجسم لا يكون متوسطاً بين نفس ونفس. فإن كانت تفعل نفساً بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم واختصاص بفعل مفارق لذاتها ولذات الجسم وهذا غير الأمر الذي نحن في ذكره وإن لم تفعل نفساً لم تفعل جرماً سماوياً لأن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال فإن وضع لكل فلك شيء يصدر عنه في فلكه شيء وأثر من غير أن يستغرق ذاته في شغل ذلك الجرم وبه ولكن ذاته مباينة في القوام. وفي الفعل لذلك الجسم فنحن لا نمنع هذا. وهذا هو الذي نسميه العقل المجرد ونجعل صدور ما بعده عنه ولكن هذا غير المنفعل عن الجسم وغير المشارك إياه والصائر صورة خاصة به. والكائن على الجهة التي حدثنا عنه حين أثبتنا هذه النفس فقد بان ووضح أن للأفلاك مبادئ غير جرمانية وغير صور الصفحة : 230 الأجسام وإن كل فلك يختص بمبدأ منها والجميع يشترك في مبدأ واحد. فصل في طريق ثالث للبرهنة على العقول المفارقة ومما لا شك فيه أن ههنا عقولاً بسيطة مفارقة وتحدث مع حدوث أبدان الناس ولا تفسد بل تبقى. وقد بين ذلك في العلوم الطبيعية وليست صادرة على العلة الأولى لأنها كثيرة مع وحدة النوع ولأنها حادثة ليست بمعلولات قريبة لهذا المعنى. وهو أن الكثرة في عدد المعلولات القريبة محال فهي إذا معلولات الأول يتوسط ولا يجوز أن تكون العلل الفاعلية المتوسطة بين الأول وبينها دونها في المرتبة فلا تكون عقولاً بسيطة ومفارقة فإن العلل المعطية للوجود أكمل وجوداً وأما القابلة للوجود فقد تكون أخس وجوداً فيجب إذاً أن يكون المعلول الأول عقلاً واحداً بالذات ولا يجوز أيضاً أن يكون عنه كثرة متفقة النوع وذلك لأن المعاني المتكثرة التي فيه وبها يمكن وجود الكثرة عنه إن كانت مختلفة الحقائق كان ما يقتضيه كل واحد منها شيئاً غير ما يقتضي الآخر في النوع فلم يلزم كل واحد منها ما يلزم الآخر بل طبيعة أخرى وإن كانت متفقة الحقائق فبماذا تخالف وتكثرت ولا انقسام بمادة هناك - فإذاً المعلول الأول لا يجوز عنه وجوب كثرة إلا مختلفة النوع فليست هذه الأنفس الأرضية أيضاً كائنة عن المعلول الأول بلا توسط على أخرى موجودة وكذلك عن كل معلول أول عال حتى ينتهي إلى معلول يكون عنه كون الاسطقسات القابلة للكون والفساد المتكثرة بالعدد والنوع معاً فيكون تكثر القابل سبباً لتكثر فعل مبدأ واحد باللذات وهذا بعد استتمام وجود السماويات كلها فيلزم دائماً عقل بعد عقل حتى تتكون كرة القمر. ثم تتكون الاسطقسات وتتهيأ لقبول تأثير واحد بالنوع كثير بالعدد من العقل الأخير فإنه إذا لم يكن السبب في الفاعل وجب أن يكون في القابل ضرورة. فإذاً يجب أن يحدث عن كل عقل عقل تحته. ويقف بحيث يمكن أن تحدثه الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد لتكثر الأسباب فهناك تنتهي. فقد بان واتضح أن كل عقل هو أعلى في المرتبة فإنه لمعنى فيه وهو أنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه وجرمه وجرم الفلك كأن عنه ومستبقى بتوسط النفس الفلكية فإن كل صورة فهي علة لأن تكون مادتها بالفعل لأن المادة بنفسها لا قوام لها. الصفحة : 231 فصل في حال تكون الأسطقسات عن العلل الأول فإذا استوفت الكرات السماوية عددها لزم بعدها وجود الاسطقسات وذلك لأن الأجسام الاسطقسية كائنة فاسدة فيجب أن تكون مباديها القريبة أشياء تقبل نوعاً من التغير والحركة وأن لا يكون ما هو عقل محض وحده سبباً لوجودها وهذا يجب أن يتحقق من الأصول التي أكثرنا التكرار فيها وفرغنا من تقريرها ولهذه الاسطقسات مادة تشترك فيها وصور تختلف بها فيجب أن يكون اختلاف صورها مما يعين فيه اختلاف في أحوال الأفلاك وأن يكون اتفاق مادتها مما يعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك. والأفلاك تتفق في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة فيجب أن يكون مقتضى تلك الطبيعة يعين في وجود المادة ويكون ما تختلف فيه مبدأ تهيؤ المادة للصور المختلفة لكن الأمور الكثيرة المشتركة في النوع والجنس لا تكون وحدها بلا مشاركة من واحد معين علة لذات هي في نفسها متفقة واحدة وإنما يقيمها غيرها فلا يوجد إذاً هذا الواحد عنها إلا بارتباط بواحد يردها إلى أمر واحد. فيجب أن تكون العقول المفارقة بل آخرها الذي يليثا هو الذي يفيض عنه بمشاركة الحركات السماوية شيء فيه رسم صور العالم الأسفل من جهة الانفعال كما أن في ذلك العقل أو المعقول رسم الصور على جهة التفعيل ثم تفيض منه الصور فيها بالتخصيص لا بانفراد ذاته فإن الواحد في الواحد يفعل كما علمت واحداً بل بمشاركة الأجسام السماوية. فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا واسطة جسم عنصري أو بواسطته فيجعله على استعداد خاص بعد العام الذي كان في جوهره فاض عن هذا المفارق صورة خاصة وارتسمت في تلك المادة. وأنت تعلم أن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد بأمر دون أمر يكون له بل يحتاج إلى أن يكون هناك مخصصات مختلفة ومخصصات المادة معدات والمعد هو الذي يحدث منه في المستعد أمر ما يصير مناسبته بذلك الأمر لشيء بعينه أولى من مناسبته لشيء آخر ويكون هذا الإعداد مرجحاً لوجود ما هو أولى فيه من الأوائل الواهبة للصور ولو كانت المادة على التهيؤ الأول لتشابهت نسبتها إلى الضدين فما ترجح أحدهما - اللهم إلا بحال تختلف به المؤثرات فيه وذلك الاختلاف أيضاً منسوب إلى جميع المواد نسبة واحدة فلا يجوز أن يختص بموجبه مادة دون مادة إلا لأمر أيضاً يكون في تلك المادة وليس الاستعداد الكامل وليس الاستعداد إلى مناسبة كاملة لشيء بعينه هو المستعد له وهذا مثل أن الماء إذا أفرط تسخينه فاجتمعت السخونة الغريبة والصورة المائية وهي بعيدة الصفحة : 232 المناسبة للصورة المائية وشديدة المناسبة للصورة النارية فإذا أفرط ذلك واشتدت المناسبة اشتد الاستعداد فصار من حق الصور النارية أن تفيض ومن حق هذه أن تبطل ولأن المادة ليست تبقى بلا صورة فليس قوامها عما تنسب إليه من المبدأ الأول وحده بل عنه وعن الصورة ولأن الصورة التي تقيم هذه المادة الآن قد كانت المادة قائمة دونها فليس قوامها عن الصورة وحدها بل بها وبالمبادئ الباقية بوساطتها أو لواسطة أخرى مثلها فلو كانت عن المبادئ الأول وحدها لاستغنت عن الصورة. ولو كانت عن الصورة وحدها لما سبقت الصورة بل كما أن المتفق فيه من الحركة المستديرة هناك يلزم طبيعة تقيمها الطبائع الخاصية بفلك فلك فكذلك المادة ههنا يقيمها مع الطبيعة المشتركة ما يكون عن الطبائع الخاصية وهي الصورة وكما أن الحركة أخس الأحوال هناك فكذلك المادة أخس الذوات ههنا وكما أن الحركة هناك تابعة لطبيعة ما بالقوة فكذلك المادة ههنا موافقة لما بالقوة - وكما أن الطبائع الخاصية والمشتركة هناك مبادئ أو معينات للطبيعة الخاصة والمشتركة ههنا فكذلك ما يلزم الطبائع الخاصية والمشتركة هناك من النسب المختلفة المتبدلة الواقعة فيها بسبب الحركة مبدأ لتغير الأحوال وتبدلها ههنا كذلك امتزاح نسبها هناك سبب لامتزاج هذه العناصر أو معين وللأجسام السماويات تأثير في أجسام هذا العالم بالكيفيات التي تخصها وتسري منها إلى هذا العالم. ولأنفسها تأثيراً أيضاً في أنفس هذا العالم. وبهذه المعاني نعلم أن الطبيعة التي هي مدبرة لهذه الأجسام كالكمال والصور حادثة عن النفس الفاشية في الفلك أو بمعونتها. وقال قوم من المنتسبين إلى العلم إن الفلك لأنه مستدير يجب أن يستدير على شيء ثابت في حشوه فيلزم محاكته له التسخين حتى يستحيل ناراً. وما يبعد عنه يبقى ساكناً فيصير إلى التبرد والتكثيف حتى يصير أرضاً وما يلي النار يكون حاراً ولكنه أقل حراً من النار وما يلي الأرض يكون كثيفاً ولكن أقل تكثفاً من الأرض وقلة الحر وقلة التكثف يوجبان الترطيب فإن اليبوسة إما عن الحر وإما عن البرد لكن الرطب الذي يلي الأرض هو أبرد والذي يلي النار هو أحر - فهذا سبب تكوين العناصر وما قد قالوا ليس مما يمكن أن يصح بالكلام القياسي ولا هو بسديد عند التفتيش ويشبه أن يكون الأمر على قانون آخر وأن تكون هذه المادة التي تحدث بالشركة تفيض إليها من الأجرام السماوية إما عن أربعة أجرام وإما عن عدة منحصرة في أربع جمل عن كل واحد منها ما يهيئه لصورة جسم بسيط فإذا استعد نال الصورة من واهب الصور أو يكون ذلك كله يفيض عن جرم واحد وأن يكون هناك سبب الصفحة : 233 يوجب انقساماً من الأسباب الخفية علينا فإنك إن أردت أن تعرف ضعف ما قالوا فتأمل أنهم يوجبون أن يكون الوجود أولاً لجسم وليس له في نفسه إحدى الصور المقومة غير الصور الجسمية - وإنما تكتسب سائر الصور بالحركة والسكون ثانياً وبينا نحن استحالة هذا وبينا أن الجسم لا يستكمل له وجود لمجرد الصورة الجسمية ما لم تقرن بها صورة أخرى وليست صورته المقيمة للهيولى الأبعاد فقط فإن الأبعاد تتبع في وجودها صوراً أخرى تسبق الأبعاد إلى الهيولى - وإن شئت فتأمل حال التخلخل من الحرارة والتكاثف من البرودة بل الجسم لا يصير جسماً حتى يصير بحيث يتبع غيره في الحركة إلا وقد تمت طبيعته لكن يجوز أن يكون إذا تمت طبيعته يستحفظ بأصلح المواضع لاستحفاظها فإن الحار يستحفظ حيث الحركة والبارد يستحفظ حيث السكون. ثم لا يفكرون أنه لم وجب لبعض تلك المادة أن هبط إلى المركز فعرض له البرد. وبعضه إن جاور الفوق. أما الآن فإن السبب في ذلك معلوم - أما في الكليات فالخفة والثقل وأما في جزئي عنصر واحد فلأنه قد صح أن أجزاء العناصر كائنة وأنه إذا تكون جزء منه في موضع ضرورة لزم أن يكون سطح منها إلى الفوق إذا تحرك إلى فوق كان ذلك السطح أولى بالفوقية من السطح الآخر - وأما في أول تكونه فإنما يصير سطح منه إلى فوق سطحاً إلى أسفل لأنه لا محالة قد استحال بحركة ما وأن الحركة أوجبت له ضرورة وضعاً ما. والأشبه عندي ما قد ذهبنا إليه وأظن أن الذي قال ذلك في تكون الاسطقسات إنما رام تقريباً للأمر عند بعض من كاتبه من العاميين فجزم عليه القول من تأخر عنه على أن كاتب ذلك الكلام شديد التذبذب والاضطراب. الصفحة : 234 فصل في العناية وبيان دخول الشر في القضاء الإلهي وخليق بنا إذ بلغنا هذا الموضع أن نحقق القول في العناية ولا نشك أنه قد اتضح لك فيما سلف منا بيانه أن العلل العالية لا يجوز أن تعمل ما تعمل من العناية لأجلنا. أو تكون بالجملة يهمها شيء ويدعوها داع ويعرض عليها إيثار ولا لك سبيل إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم وأجزاء السماويات وأجزاء النبات والحيوان مما لا يصدر اتفاقاً بل يقتضي تدبيراً ما فيجب أن تعلم أن العناية هي كون الأول عالماً لذاته بما عليه الوجود من نظام الخير وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان وراضياً به على النحو المذكور فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان فيفيض عنه ما يعقل نظاماً ما وخيراً على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضاناً على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان - فهذا هو معنى العناية - واعلم أن الشر على وجوه فيقال شر للنقص الذي هو مثل الجهل والضعف والتشويه في الخلقة. ويقال شر لما هو مثل الألم والغم الذي يكون هناك إدراكاً ما لسبب لا فقد شيء فقط فإن السبب المنافي للخير المانع للخير والموجب لعدمه ربام كان لا يدركه المضرور كالسحاب إذا ظلل فمنع شروق الشمس عن المحتاج إلى أن يستكمل بالشمس فإن كل هذا المحتاج دراكاً أدرك أنه غير منتفع ولم يدرك ذلك من حيث أن السحاب قد حال بل من حيث هو مبصر وليس هو من حيث هو مبصر متأذياً بذلك متضرراً أو منتقصاً بل من حيث هو شيء آخر: وربما كان مواصلاً يدركه مدرك عدم السلامة كمن يتألم بفقدان اتصال عضو بحرارة ممزقة فإنه من حيث يدرك فقدان الاتصال بقوة في نفس ذلك العضو يدرك المؤذي الحار أيضاً. فيكون قد اجتمع هناك إدراكان إدراك على نحو ما سلف من إدراكنا الأمور العدمية. وإدراك على نحو ما سلف من إدراكنا الأشياء الوجودية: وهذا المدرك الوجودي ليس شراً في نفسه بل شراً بالقياس إلى هذا الشيء - وأما عدم كماله وسلامته فليس شراً بالقياس إليه فقط حتى يكون له وجود ليس هو به شراً إذ ليس نفس وجوده شراً فيه وعلى نحو كونه شراً فإن العمى لا يجوز أن يكون إلا في العين ومن حيث هو في العين لا يجوز أن يكون إلا شراً وليس له جهة أخرى يكون بها غير شر وأما الحرارة مثلاً إذا صارت شراً إلى المتألم بها فلها جهة أخرى تكون بها غير شر والشر بالذات هو العدم ولا كل عدم بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته. والشر بالعرض هو الصفحة : 235 المعدم أو الحابس للكمال عن مستحقه ولا خبر عن عدم مطلق إلا عن لفظه فليس هو بشيء حاصل. ولو كان له حصول ما لكان الشر العام فكل شيء وجوده على كمال الأقصى وليس فيه ما بالقوة فلا يلحقه شر وإنما يلحق الشر ما في طباعه ما بالقوة وذلك لأجل المادة والشر يلحق المادة إما من أول يعرض لها أو لأمر طارئ بعده. فأما الأمر الذي في نفسه قد عرض للمادة أولاً فأن يكون قد عرض لمادة ما في أول وجودها بعض أسباب الشر الخارجة فتمكن منها هية من الهيئات فتلك الهيئة تمانع استعدادها الخاص للكمال الذي منيت بشر يوزايه. مثل المادة التي تتكون منها إنسان أو فرس إذا عرض لها من الأسباب الطارئة ما جعلها أردى مزاجاً وأعصى جوهراً فلم تقبل التخطيط والتشكيل والتقويم فتشوهت الخلقة. ولم يوجد المحتاج إليه من كمال المزاج والبنية لا أن الفاعل حرم بل لأن المنفعل لم يقبل - وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين إما مانع وحائل ومبعد للمكمل - وإما مضاد واصل ممحق للكمال. مثال الأول وقوع سحب كثيرة وتراكمها وأظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال ومثال الثاني حبس البرد للنبات المصيب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص وما يتبعه وجميع سبب الشر إنما يوجد فيما تحت فلك القمر وجملة ما تحت القمر طفيف بالقياس إلى سائر الوجود كما علمت. ثم أن الشر إنما يصيب أشخاصاً إلا نوعاً من الشر. واعلم أن الشر الذي هو بمعنى العدم إما أن يكون شراً بحسب أمر واجب أو نافع قريب من الواجب - وإما أن لا يكون شراً بحسب ذلك بل شراً بحسب الأمر الذي هو ممكن في الأقل. ولو وجد كان على سبيل ما هو فضل من الكمالات التي بعد الكمالات الثانية ولا مقتضى له من طباع الممكن الذي هو فيه. وهذا القسم غير الذي نحن فيه وهو الذي استثنيناه هذا وليس هو شراً بحسب النوع بل بحسب اعتبار زائد على واجب النوع كالجهل بالفلسفة أو الهندسة أو غير ذلك فإن ذلك ليس شراً من جهة ما تحن ناس بل هو شر بحسب كمال الأصلح في أن يعم وستعرفه. وإنما يكون بالحقيقة شراً إذا اقتضاه شخص إنسان أو شخص نفس وإنما يقتضيه الشخص لا لأنه إنسان أو نفس بل لأنه قد ثبت عنده حسن ذلك واشتاق إليه واستعد لذلك الاستعداد كما سنشرح لك بعد - وأما قبل ذلك فليس مما ينبعث إليه مقتضى طبيعة النوع انبعاثه إلى الكمالات الثانية التي تتلو الكمالات الأول فإذا لم يكن كان عدماً في أمر مقتضى في الطباع فالشر في أشخاص الموجودات قليل ومع ذلك فإن وجود ذلك الشر في الأشياء ضرورة تابعة للحاجة إلى الصفحة : 236 الخير فإن هذه العناصر لو لم تكن بحيث تتضاد وتنفعل عن الغالب لم يكن أن تكون عنها هذه الأنواع الشريفة ولو لم يمكن النار منها بحيث إذا تأدت بها المصادمات الواقعة في مجرى الكل على الضرورة إلى ملاقاة رداء رجل شريف وجب إحراقه لم تكن النار منتفعاً بها النفع العام. فوجب ضرورة أن يكون الخير الممكن في هذه الأشياء إنما يكون خيراً بعد أن يمكن وقوع مثل هذا الشر عنه ومعه وإفاضته الخير لا يوجب أن يترك الخير الغالب لشر يندر فيكون تركه شراً من ذلك الشر لأنه عدم ما يمكن في طباع المادة وجوده إذا كان عدمين شر من عدم واحد. ولهذا ما يؤثر العاقل الإحراق بالنار بشرط أن يسلم منها حياً على الموت بلا ألم فلو ترك هذا القبيل من الخير لكان يكون ذلك شراً فوق هذا الشر الكائن بإيجاده وكان في مقتضى العقل المحيط بكيفية وجوب الترتيب في نظام الخير أن يعقل استحقاق مثل هذا النمط من الأشياء وجوداً مجوزاً ما يقع معه من الشر ضرورة فوجب أن يفيض وجوده فإن قال قائل وقد كان جائزاً في مثل هذا النمط من الوجود. وإن كان جائزاً في الوجود المطلق على أنه إن كان ضرب من الوجود المطلق مبرأ فليس هذا الضرب وذلك مما قد فاض عن المدبر الأول ووجد في الأمور العقلية والنفسية والسماوية وبقي هذا النمط في الإمكان ولم يكن ترك إيجاده لأجل ما قد يخالطه من الشر الذي إذا لم يكن مبدؤه موجوداً أصلاً وترك لئلا يكون هذا الشر كان ذلك شراً من أن يكون هو فكونه خير الشرين ولكان أيضاً يجب أن لا توجد الأسباب الجزئية التي هي نيل هذه الأسباب التي تؤدي إلى الشر بالعرض فإن وجود تلك مستتبع لوجود هذه فكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي بل وإن لم نلتفت إلى ذلك وصيرنا التفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود إلى أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها فكان الوجود المبرأ من الشر قد حصل وبقي نمط من الوجود إنما يكون على هذه السبيل ولا كونه أعظم شراً من كونه فواجب أن يفيض وجوده من حيث يفيض عنه الوجود الذي هو أصوب على النمط الذي قيل بل نقول من رأس إن الشر يقال على وجوه يقال شر للأفعال المذمومة ويقال شر لمباديها من الأخلاق ويقال شر للآلام والغموم وما يشبهها ويقال شر لنقصان كل شيء عن كمال وفقدانه ما من شأنه أن يكون له وكأن الآلام والغموم وإن كانت معانيها وجودية ليست إعداماً فإنها تتبع الإعدام والنقصان والشر الذي هو في الأفعال أيضاً إنما هو بالقياس إلى من يفقد كماله بوصول ذلك إليه مثل الظلم أو بالقياس إلى ما يفقد من كمال يجب في السياسة المدنية كالزنا وكذلك الأخلاق إنما هي شرور الصفحة : 237 بسبب صدور هذه عنها وهي مقارنة لإعدام النفس كمالات يجب أن يكون لها ولا نجد شيئاً مما يقال له شر بالأفعال إلا وهو كمال بنسبة الفاعل إليه وإنما هو شر بالقياس إلى السبب القابل له أو بالقياس إلى فاعل آخر يمنع عن فعله في تلك المادة التي أولى بها من هذا الفعل والظلم يصدر مثلاً عن قوة طلابة للغلبة وهي الغضبية والغلبة هي كمالها ولذلك خلقت من حيث هي غضبية أعني خلقت لتكون متوجهة إلى نحو الغلبة تطلبها وتفرح بها فهذا الفعل بالقياس إليها خير لها وإن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر لها إنما هي شر للمظلوم أو للنفس النطقية التي كمال كسر هذه القوة والاستيلاء عليها فإن عجزت عنه كان شراً لها - وكذلك السبب الفاعل للآلام والأحزان كالنار إذا أحرقت فإن الإحراق كمال النار لكنه شر بالقياس إلى من سلب سلامته بذلك لفقدانه ما فقد - وأما الشر الذي سببه النقصان وقصور يقع في الجبلة ليس لأن فاعلاً فعله بل لأن الفاعل لم يفعله فليس ذلك بالحقيقة خيراً بالقياس إلى شيء: فأما الشرور التي تتصل بأشياء هي خيرات فإنما هي من سببين سبب من جهة المادة فإنها قابلة للصورة وللعدم سبب من الفاعل فإنه لما وجب أن تكون عنه الماديات وكان مستحيلاً أن تكون للمادة وجود الوجود الذي يعني غناء المادة ويفعل فعل المادة إلا وأن يكون قابلاً للصورة والعدم وكان مستحيلاً أن لا يكون قابلاً للمتقابلات. وكان مستحيلاً أن تكون للقوى الفعالة أفعال مضادة لأفعال أخرى قد حصل وجودها وهي لا تفعل فعلها فإنه من المستحيل أن يخلق ما يراد منه الغرض المقصود بالنار وهي لا تحرق: ثم كأن الكل إنما يتم بأن يكون فيه مسخن وأن يكون فيه متسخن لم يكن بد من أن يكون الغرض النافع في وجود هذين يستتبع آفات تعرض من الإحراق والاحتراق كمثل إحراق النار عضو إنسان ناسك لكن الأمر الأكثري هو حصول الخير المقصود في الطبيعة والأمر الدائم أيضاً أما الأكثري فإن أكثر أشخاص الأنواع في كنف السلامة من الاحتراق. وأما الدائم فلأن أنواعاً كثيرة لا تستحفظ على الدوام إلا بوجود مثل النار على أن تكون حرقة. وفي الأقل ما يصدر عن النيران من الآفات التي تصدر عنها وكذلك في سائر الأسباب المشابهة لذلك فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأغراض شرية أقلية فأريدت الخيرات الكائنة عن هذه الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال إن الله تعالى يريد الأشياء ويريد الشر أيضاً على الوجه الذي بالعرض إذ علم أنه يكون ضرورة فلم يعبأ به فالخير مقتضى بالذات والشر مقتضى بالعرض. وكل بقدر وكذلك فإن المادة قد علم من أمرها أنها تعجز عن أمور الصفحة : 238 وتقصر عنها الكمالات في أمور لكنها يتم لها ما لا نسبة له كثرة إلى ما يقصر عنها. فإذا كان كذلك فليس من الحكمة الإلهية أن تترك الخيرات الثابتة الدائمة والأكثرية لأجل شرور في أمور شخصية غير دائمة بل نقول إن الأمور في الوهم إما أمور إذا توهمت موجودة وجودها يمتنع أن يكون إلا شراً على الإطلاق. وإما أمور وجودها أن يكون خيراً ويمتنع أن يكون شروراً وناقصة - وإما أمور تغلب فيها الخيرية إذا وجدت وجودها ولا يمكن غير ذلك بطباعها. وإما أمور تغلب فيها الشرية. وإما أمور متساوية الحالين. فأما ما لا شر فيه فقد وجد في الطباع - وأما ما كله شر أو الغالب فيه أو المساوي أيضاً فلم يوجد. وأما الذي الغالب في وجوده الخير فالأحرى به أن يوجد إذا كان الأغلب فيه أنه خير. فإن قيل فلم لم تمنع الشرية عنه أصلاً حتى كان يكون كله خيراً فيقال فحينئذ لم تكن هي هي إذ قلنا إن وجودها الوجود الذي يستحيل أن يكون بحيث لا يعرض عنها شر فإذا صيرت بحيث لا يعرض عنها شر فلا يكون وجودها الوجود الذي لها بل يكون وجود أشياء أخرى وجدت وهي غيرها وهي حاصلة أعني ما خلق بحيث لا يلزمه شر ومثال هذا أن النار إذا كان وجودها أن تكون محرقة وكان وجود المحرق هو أنه إذا مس ثوب الفقير أحرقه إذ كان وجود ثوب الفقير أنه قابل للاحتراق. وكان وجود كل واحد منهما أن تعرض له حركات شتى وكان وجود الحركات الشتى في الأشياء على هذه الصفة وجوداً يعرض له الالتقاء وكان وجود الالتقاء من الفاعل والمنفعل بالطبع وجوداً يلزمه الفعل والانفعال فإن لم تكن الثواني لم تكن الأوائل فالكل إنما رتبت فيها القوى الفعالة والمنفعلة السماوية والأرضية الطبيعية والنفسانية بحيث يؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن تحدث في نفس صورة اعتقاد ردي أو كفر أو شر آخر في نفس أو بدن بحيث لو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة وقيل خلقت هؤلاء للنار ولا أبالي وخلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وقيل كل ميسر لما خلق له " فإن قال قائل " ليس الشر شيئاً نادراً أو أقلياً بل هو أكثري فليس كذلك بل الشر كثير وليس بأكثري. وفرق بين الكثير والأكثري فإن ههنا أموراً كثيرة هي كثيرة وليست أكثرية كالأمراض فإنها كثيرة وليست أكثرية. فإذا تأملت هذا الصنف الذي نحن في ذكره من الشر وجدته أقل من الخير الذي يقابله ويوجد في مادته فضلاً عنه بالقياس إلى الخيرات الأخرى الأبدية نعم الشرور التي هي نقصانات الصفحة : 239 الكمالات الثانية فهي أكثرية لكنها ليست من الشرور التي كلامنا فيها. وهذه الشرور مثل الجهل بالهندسة ومثل فوت الجمال الرائع وغير ذلك مما لا يضر في الكمالات الأولى ولا في الكمالات التي تليها فيما يظهر منفعتها وهذه الشرور ليست بفعل فاعل بل لأن لا يفعل الفاعل لأجل أن القابل ليس مستعداً أو ليس يتحرك إلى القبول وهذه الشرور هي إعدام خيرات من باب الفضل والزيادة في المادة. فصل في معاد الأنفس الإنسانية وبالحري أن نحقق ههنا أحوال الأنفس الإنسانية إذا فارقت أبدانها وأنها إلى أي حال تصير " فنقول " يجب أن تعلم أن المعاد منه مقبول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلا من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة وهو الذي للبدن عند البعث وخيرات البدن وشروره معلومة لا تحتاج إلى أن تعلم. وقد بسطت الشريعة الحقة التي أتانا بها نبيها المصطفى محمد حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن ومنه ما هو مدرك بالعقل والقياس البرهاني وقد صدقته النبوة وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالمقاييس اللتان للأنفس وإن كانت الأوهام منا تقصر عن تصورها الآن لما نوضح من العلل. والحكماء الإلهيون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنية بل كأنهم لا لتفتون إلى تلك وإن أعطوها فلا يستعظمونها في جنب هذه السعادة التي هي مقاربة الحق الأول على ما نصفه عن قريب فلنعرف حال هذه السعادة والشقاوة المضادة لها فإن البدنية مفروغ عنها في الشرع فنقول يجب أن تعلم أن لكل قوة نفسانية لذة وخيراً يخصها وأذى وشراً يخصها مثاله أن لذة الشهوة وخيرها أن يتأدى إليها كيفية محسوسة ملائمة من الخمسة. ولذة الغضب الظفر ولذة الوهم الرجاء. ولذة الحفظ تذكر الأمور الموافقة الماضية وأذى كل واحد منهما ما يضاده وتشترك كلها نوعاً من الشركة في أن الشعور بموافقها وملائمها هو الخير واللذة الخاصة بها والموافق لكل واحد منتها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل فهذا أصل. وأيضاً فإن هذه القوى وإن اشتركت في هذه المعاني فإن مراتبها في الحقيقة مختلفة فالذي كماله أتم وأفضل والذي كماله أكثر والذي كماله أدوم والذي كماله أوصل إليه وأحصل له هو في نفسه أكمل فعلاً وأفضل والذي هو في نفسه أشد إدراكاً فاللذة أبلغ له وأوفى ولا محالة وهذا أصل. وأيضاً فإنه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما بحيث يعلم أنه كائن ولذيذ ولا يتصور كيفيته ولا يشعر باللذاذة ما لم يحصل الصفحة : 240 وما لم يشعر به لم يشتق إليه ولم ينزع نحوه مثل العنين فإنه متحقق أن للجماع لذة ولكنه لا يشتهيه ولا يحن نحوه الاشتهاء والحنين اللذين يكونان مخصوصين به بل شهوة أخرى " كما يشتهي من يجرب من حيث يحصل به إدراك وإن كان مؤذياً " وفي الجملة فإنه لا يتخيلة. وكذلك حال الأكمه عند الصور الجميلة والأصم عند الألحان المنتظمة - ولهذا يجب أن لا يتوهم العاقل أن كل لذة فهي كما للحمار في بطنه وفرجه. وأن المبادئ الأولى المقربة عند رب العالمين عادمة للذة والغبطة وأن رب العالمين عز وجل ليس له في سلطانه وخاصية البهاء الذي له وقوته الغير متناهية أمر في غاية الفضيلة والشرف والطيب نجله عن أن يسمى لذة. ثم للحمار والبهائم حالة طيبة ولذيذة كلا بل أي نسبة تكون لما للمبادئ العالية إلى هذه الخسيسة ولكنها نتخيل هذا ونشاهده ولم نعرف ذلك بالاستشعار بل بالقياس فحالنا عنده كحال الأصم الذي لم يسمع قط في عمره ولا تخيل اللذة اللحنية وهو متيقن لطيبها وهذا أصل: وأيضاً فإن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدراكة وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده عليه مثل كراهية بعض المرضى الطعم الحلو وشهوتهم للطعوم الردية الكريهة بالذات وربما لم تكن كراهية ولكن كان عدم الاستلذاذ به كالخائف يجد الغلبة أو اللذة فلا يشعر بهما ولا يستلذهما وهذا أصل. وأيضاً فإنه قد تكون القوة الداركة ممنوة بضد ما هو كمالها ولا تحس به ولا تنفر عنه حتى إذا زال العائق تأذت به ورجعت إلى غريزتها مثل الممرور فربما لم يحس بمرارة فيه إلى أن يصلح مزاجه وتشفى أعضاؤه فحينئذ ينفر عن الحال العارضة له. وكذلك قد يكون الحيوان غير مشته للغذاء البتة كارهاً له وهو أوفق شيء له ويبقى عليه مدة طويلة فإذا زال العائق عاد إلى واجبه في طبعه فاشتد جوعه وشهوته للغذاء حتى لا يصبر عنه ويهلك عند فقدانه وقد يحصل سبب الألم العظيم مثل إحراق النار وتبريد الزمهرير إلا أن الحسن مؤوف فلا يتأذى البدن به حتى تزول الآفة فيحس حينئذ بالألم العظيم فإذا تقررت هذه الأصول فيجب أن ننصرف إلى الغرض الذي نؤمه " فنقول " إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصيراً عالماً عقلياً مرتسماً فيها صورة الكل والنظام المعقول في الكل والخير الفائض في الكل مبتدئاً من مبدأ الكل سالكاً إلى الجواهر الشريفة فالروحانية المطلقة ثم الروحانية المتعلقة نوعاً ما من التعلق الأبدان ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله فتنقلب عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود كله مشاهداً لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال الحق ومتحداً به ومنتقشاً الصفحة : 241 بمثاله وهيئته ومنخرطاً في سلكه وصائراً من جوهره وإذا قيس هذا بالكمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى وحد في المرتبة التي بحيث يقبح معها أن يقال إنه أتم وأفضل منها بل لا نسبة لها إليه بوجه من الوجوه فضيلة وتماماً وكثرة وسائر ما يتفاوت به لذائذ المدركات مما ذكرنا - وأما الدوام فكيف يقاس الدوام الأبدي بالدوام المتغير الفاسد. وأما شدة الوصول فكيف يكون حال ما وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتى يكون كأنه هو هو بلا انفصال إذ العقل والمعقول والعاقل شيء واحد أو قريب من الواحد. وأما أن المدرك في نفسه أكمل فأمر لا يخفى وأما أنه أشد إدراكاً فأمر أيضاً تعرفه بأدنى تذكر لما سلف بيانه. فإن النفس النطقية أكثر عد مدركات. وأشد تقصياً للمدرك وتجريداً له عن الزوائد الغير الداخلة في معناه إلا بالعرض. وله الخوض في باطن المدرك وظاهره. بل كيف يقاس هذا الإدراك بذلك الإدراك أو كيف تقاس هذه اللذة باللذة الحسية والبهيمية والغضبية ولكننا في عالمنا وبدننا وانغماسنا في الرذايل لا نحس بتلك اللذة إذا حصل عندنا شيء من أسبابها كما أومأنا إليه في بعض ما قدمنا من الأصول ولذلك لا نطلبها ولا نحن إليها - اللهم إلا أن نكون قد خلعنا ربقة الشهوة والغضب وأخواتهما من أعناقنا وطالعنا شيئاً من تلك اللذة فحينئذ ربما تخيلنا منها خيالاً طفيفاً ضعيفاً وخصوصاً عند انحلال المشكلات واستيضاح المطلوبات النفيسة ونسبة التذاذنا هذا إلى التذاذنا ذلك نسبة الالتذاذ الحسي بتنشق روائح المذوقات اللذيذة بتطعمها بل أبعد من ذلك بعداً غير محدود. وأنت تعلم إذا تأملت عويصاً يهمك وعرضت عليك شهوة وخيرت بين الطرفين استخففت بالشهوة إن كنت كريم النفس: والأنفس العامية أيضاً كذا فإنها تترك الشهوات المعترضة وتؤثر الغرامات والآلام الفادحة بسبب افتضاح أو خجل أو تعيير أو شوق لغلبة وهذه كلها أحوال عقلية فبعضها يؤثر على المؤثرات الطبيعية ويصبر لها على المكروهات الطبيعية. فيعلم من ذلك أن الغايات العقلية أكرم على الأنفس من محقرات الأشياء فكيف في الأمور النبيهة العالية إلا أن الأنفس الخسيسة تحس بما يلحق المحقرات من الخير والشر ولا تحس بما يلحق الأمور النبهية لما قيل من المعاذير - وأما إذا انفصلنا عن البدن وكانت النفس منا قد تنبهت وهي في البدن لكمالها الذي هو معشوقها ولم تحصله وهي بالطبع نازعة إليه إذ عقلت بالفعل أنه موجود إلا أن اشتغالها بالبدن كما قلنا قد أنساها ذاتها ومعشوقها. كما ينسي المرض الحاجة إلى بدل ما يتحلل. وكما ينسي المرض الاستلذاذ بالحلو واشتهاءه وكما تميل الصفحة : 242 الشهوة بالمريض إلى المكروهات في الحقيقة عرض لها حينئذ من الألم بفقدانه كفء ما يعرض من اللذة التي أوجبنا وجودها ودللنا على عظم منزلتها فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوبة التي لا يعادلها تفريق للنار للاتصال وتبديها وتبديل الزمهرير للمزاج. فيكون مثلنا حينئذ مثل المخدر الذي أومأنا إليه فيما سلف أو الذي عمل فيه نار أو زمهرير فمنعت المادة اللابسة وجه الحس من الشعور به فلم يتأذ. ثم عرض أن زال العائق فشعر بالبلاء العظيم. وأما إذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حداً من الكمال يمكنها به إذا فارقت البدن أن تستكمل الاستكمال التام الذي لها أن تبلغه كان مثلها مثل المخدر الذي أذيق المطعم الألذ وعرض للحال الأشهى وكان لا يشعر به فزال عنه الخدر فطالع اللذة العظيمة دفعة وتكون تلك اللذة لا من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه بل لذة تشاكل الحال الطيبة التي للجواهر الحية المحضة وهي أجل من كل لذة وأشرف - فهذا هو السعادة وتلك هي الشقاوة وليست تلك الشقاوة تكون لكل واحد من الناقصين بل للذين أكسبوا القوة العقلية الشوق إلى كمالها. وذلك عندما تبرهن لهم أن من شأن النفس إدراك ماهية الكمال بكسب المجهول من المعلوم والاستكمال بالفعل فإن ذلك ليس فيها بالطبع الأول ولا أيضاً في سائر القوى بل شعور أكثر القوى بكمالاتها إنما يحدث بعد أسباب. وأما النفوس والقوى الساذجة الصرفة فكأنها هيولى موضوعة لم تكتسب البتة هذا الشوق لأن هذا الشوق إنما يحدث حدوثاً وينطبع في جوهر النفس إذا تبرهن للقوى النفسانية أن ههنا أموراً يكتسب العلم بها بالحدود الوسطى على ما علمت - وأما قبل ذلك فلا يكون لأن الشوق يتبع رأياً وليس هذا الرأي للنفس أولياً بل رأياً مكتسباً فهؤلاء إذا اكتسبوا هذا الرأي لزم النفس ضرورة هذا الشوق فإذا فارقت ولم يحصل معها ما تبلغ به بعد الانفصال إلى التمام وقعت في هذا النوع من الشقاء الأبدي لأن أوائل الملكة العلمية إنما كانت تكتسب بالبدن لا غير وقد فات. وهؤلاء إما مقصرون عن السعي في كسب الكمال الأنسي وإما معاندون جاحدون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية. والجاحدون أسوأ حالاً لما كسبوا من هيئات مضادة للكمال. وأما أنه كم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات حتى تجاوز به الحد الذي في مثله تقع هذه الشقاوة وفي تعديه وجوازه ترجى هذه السعادة فليس يمكنني أن أنص عليه نصاً إلا بالتقريب. وأظن أن ذلك أن يتصور الإنسان المبادئ المفارقة تصوراً حقيقياً ويصدق بها تصديقاً يقينياً لوجودها عنده بالبرهان. ويعرف العلل الغائبة للأمور الصفحة : 243 الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى. ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه. ويتصور العناية وكيفيتها ويتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها وأية وحدة تخصها وإنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر ولا تغير بوجه من الوجوه وكيف ترتبت نسبة الموجودات إليها ثم كلما ازداد الناظر استبصاراً ازداد للسعادة استعداداً. وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون أكد العلاقة مع ذلك العالم فصار له شوق إلى ما هناك وعشق لما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة ونقول أيضاً إن هذه السعادة الحقيقية لا تتم إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس ونقدم لذلك مقدمة. وكأنا قد ذكرناها فيما سلف فنقول إن الخلق هو ملكة يصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية وقد أمر في كتب الأخلاق بأن يستعمل التوسط بين الخلقين الضدين لا بأن يفعل أفعال التوسط. بل بأن يحصل ملكة التوسط وملكة التوسط كأنها موجودة للقوة الناطقة وللقوى الحيوانية معاً. أما القوة الحيوانية فبأن يحصل فيها هيئة الإذعان والانفعال - وأما القوة الناطقة فبأن يحصل فيها هيئة الاستعلاء كما أن ملكة الإفراط والتفريط موجودة للقوة الناطقة وللقوى الحيوانية معاً ولكن بعكس هذه النسبة. ومعلوم أن الإفراط والتفريط هما مقتضيا القوى الحيوانية وإذا قويت القوة الحيوانية وحصل لها ملكة استعلائية حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية. وأثر انفعالي قد رسخ في النفس الناطقة من شأنه أن يجعلها قوية العلاقة مع البدن شديد الانصراف إليه - وأما ملكة التوسط فالمراد منها التبرئة عن الهيئات الانقيادية وتبقية النفس الناطقة على جبلتها مع إفادة هيئة الاستعلاء والتنزه وذلك غير مضاد لجوهرها ولا مائل بها إلى جهة البدن بل عن جهته. فإن التوسط يسلب عنه الطرفين دائماً ثم جوهر النفس إنما كان البدن هو الذي يغمره ويلهيه ويغفله عن الشوق الذي يخصه وعن طلب الكمال الذي هل وعن الشعور بلذة الكمال إن حصل له أو الشعور بألم النقصان إن قصر عنه لا بأن النفس منطبعة في البدن ومنغمسة فيه ولكن العلاقة التي كانت بينهما وهو الشوق الجبلي إلى تدبيره والاشتغال بآثاره وبما يورد عليه من عوارضه. وبما يتقرر فيه من ملكات مبدؤها البدن. فإذا فارق وفيه الملكة الحاصلة بسبب الاتصال به كان قريب الشبه من حاله وهو فيه فيما ينقص من ذلك تزول غفلته عن حركة الشوق الذي له إلى كماله وبما يبقى منه معه يكون محجوباً عن الاتصال الصرف بمحل سعادته ويحدث هناك من الحركات الصفحة : 244 المتشوشة ما يعظم أذاه ثم إن تلك الهيئة البدنية مضادة لجوهرها مؤذية له. وإنما كان يلهيها عمها أيضاً البدن وتمام انغماسه فيه. فإذا فارقت النفس البدن أحست بتلك المضادة العظيمة وتأذت بها أذى عظيماً لكن هذا الأذى وهذا الألم ليس لأمر لازم بل لأمر عارض غريب والعارض الغريب لا يدوم ولا يبقى فيزول ويبطل مع ترك الأفعال التي كانت تثبت تلك الهيئة بتكرارها فيلزم إذاً أن تكون العقوبة التي بحسب ذلك غير خالدة بل تزول وتنمحي قليلاً قليلاً حتى تزكو النفس وتبلغ السعادة التي تخصها وأنا النفوس البله التي لم تكتسب الشوق فإنها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة الهيئات البدنية الردية صارت إلى سعة من رحمة الله ونوع من الراحة وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية وليس عندها هيئة غير ذلك ولا معنى يضاده وينافيه فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها فتعذب عذاباً شديداً بفقد البدن ومقتضيات البدن قد بقي. ويشبه أيضاً أن يكون ما قاله بعض العلماء حقاً وهو أن هذه الأنفس إن كانت زكية وفارقت البدن وقد رسخ منها نحو من الاعتقاد في العاقبة التي تكون لأمثالهم على ما يمكن أن يخاطب به العامة وتصور في أنفسهم من ذلك فإنهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم لاتمام كمال فتسعد تلك السعادة ولا شوق كمال فتشقى تلك الشقاوة بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل منجذبة إلى الأجسام ولا منع في المواد السماوية عن أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها قالوا فإنها تتخيل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخروية وتكون الآله التي يمكنها بها التخيل شيئاً من الأجرام السماوية فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية وتكون الأنفس الرديئة أيضاً تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه فإن الصورة الخيالية ليست تضعف عن الحسية بل تزداد عليها تأثيراً وصفاء كما تشاهد ذلك في المنام فربما كان المحلوم به أعظم شأناً في بابه من المحسوس على أن الأخرى أشد استقرارً من الموجود في المنام بحسب قلة العوائق وتجرد النفس وصفاء القابل وليست الصورة التي ترى في المنام والتي تحس في اليقظة كما علمت إلا المرتسمة في النفس إلا أن إحداهما تبتدئ من باطن وتنحدر إليها والثانية تبتدئ من خارج وترتفع إليها فإذا ارتسمت في النفس تم هناك إدراك المشاهدة. وإنما يلذ ويؤذي بالحقيقة هذا المرتسم في النفس لا الموجود من خارج فكل ما ارتسم في النفس فعل فعله وإن لم يكن سبب من خارج فإن السبب الذاتي هو هذا المرتسم والخارج سبب بالعرض أو سبب السبب - وأما الأنفس الحقيقية فإنها تبتعد عن الصفحة : 245 مثل هذه الأحوال وتتصل بكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية لتتبرأ عن النظر إلى ما خلفها وإلى المملكة التي كانت لها كل التبري. ولو كان في فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت وتخلفت لأجله عن درجة عليين أي أن تنفسخ عنها. فصل في المبدأ والمعاد بقول مجمل وفي الإلهامات والدعوات المستجابة والعقوبات السماوية وسائر الأحوال - ومنها الكلام على التنجيم - ومنها الكلام على القضاء والقدر ويجب أن تعلم أن الوجود إذا ابتدأ من عند الأول لم يزل كل تال منه أدون مرتبة من الأول ولا يزال ينحط درجات فأول ذلك درجة الملائكة الروحانية المجردة التي تسمى عقولاً ثم مراتب الملائكة الروحانية التي تسمى نفوساً وهي الملائكة العملية. ثم مراتب الأجرام السماوية وبعضها أشرف من بعض إلى أن تبلغ آخرها ثم بعدها يبتدئ وجود المادة القابلة للصور الكائنة الفاسدة فتلبس أول شيء صورة العناصر. ثم تتدرج يسيراً يسيراً فيكون أول الوجود فيها أخس وأرذل مرتبة من الذي يتلوه فيكون أخس ما فيه المادة ثم العناصر ثم المركبات الجمادية. ثم الناميات وبعدها الحيوانات وأفضلها الإنسان وأفضل الناس من استكملت نفسه عقلاً بالفعل ومحصلاً للأخلاق التي تكون فضائل عملية وأفضل هؤلاء هو المستعد لمرتبة النبوة وهو الذي في قواه النفسانية خصائص ثلاث ذكرناها وهو أن يسمع كلام الله ويرى ملائكة الله تعالى وقد تحولت على صورة يراها. وقد بينا كيفية هذا. وبينا أن هذا الذي يوحي إليه تتشبح له الملائكة ويحدث في سماعه صوت يسمعه يكون من قبل الله تعالى والملائكة فيسمعه من غير أن يكون ذلك كلاماً من الناس والحيوان الأرضي وهذا هو الموحى إليه وكما أن أول الكائنات من الابتداء إلى درجة العناصر كان عقلاً ثم نفساً ثم جرماً فهاهنا يبتدئ الوجود من الأجرام ثم تحدث نفوس ثم عقول وإنما تفيض هذه الصور لا محالة من عند تلك المبادئ والأمور الحادثة في هذا العالم تحدث من مصادمات القوى الفعالة والمنفعلة الأرضية تابعة لمصادمات القوى الفعالة السماوية - أما القوى الأرضية فيتم حدوث ما يحدث فيها بسبب شيئين أحدهما القوى الفعالة فيها إما الطبيعية وإما الإرادية. والثاني القوى الانفعالية - إما الطبيعية - وإما النفسانية. وأما القوى السماوية فيحدث عنها آثارها في هذه الأجرام التي تحتها على ثلاثة أوجه: أحدها من تلقائها بحيث لا تسبب فيه للأمور الأرضية بوجه من الوجوه: وثانيها إما عن طبائع أجسامها الصفحة : 246 وقواها الجسمانية بحسب التشكلات الواقعة منها مع القوى الأرضية والمناسبات بينها - وإما عن طبائعها النفسانية والوجه الثالث فيه شركة ما مع الأحوال الأرضية وتسبب بوجه من الوجوه على الوجه الذي أقول إنه قد اتضح لك أن لنفوس تلك الأجرام السماوية ضرباً من التصرف في المعاني الجزئية على سبيل إدراك غير عقلي محض وإن لمثلها أن تتوصل إلى إدراك الحادثات الجزئية وذلك يمكن بسبب إدراك تقارن أسبابها الفاعلة والقابلة الحاصلة من حيث هي أسباب وما يتأدى إليه وأنها تنتهي إلى طبيعية وإرادية موجبة لنسب إرادية فاترة غير حاتمة ولا جازمة ولا تنتهي إلى القسر فإن القسرية إما قسر عن طبيعة وإما قسر عن إرادة وإليهما ينتهي التحليل في القسريات أجمع: ثم أن الإرادات كلها كائنة بعد ما لم تكن فلها أسباب تتوافى فتوجبها وليست توجد إرادة بإرادة وإلا لذهب إلى غير النهاية ولا عن طبيعة المريد وإلا للزمت الإرادة ما دامت الطبيعة بل الإرادات تحدث بحدوث علل هي الموجبات والدواعي تستند إلى أرضيات وسماويات وتكون موجبة ضرورة لتلك الإرادة وأما الطبيعة فإن كانت راهنة فهي أصل وإن كانت قد حدثت فلا محالة أنها تستند أيضاً إلى أمور سماوية وأرضية وقد عرفت جميع خذا فيما قبل. وإن لازدحام هذه العلل وتصادمها واستمرارها نظاماً ينجر تحت الحركة السماوية وإذا علمت الأوائل بما هي أوائل وهيئة انجرارها إلى الثواني علمت الثواني ضرورة فمن هذه الأشياء علمنا أن النفوس السماوية وما فوقها عالمة بالجزيئات. أما ما فوقها فعلمها على نحو كلي - وأما هي فعلى نحو جزئي كالمباشر أو المتأدي إلى المباشر المشاهد بالحواس فلا محالة أنها تعلم ما يكون. ولا محالة أنها تعلم في كثير منها الوجه الذي هو أصوب والذي هو أصلح وأقرب من الخير المطلق من الأمرين الممكنين وقد بينا أن التصورات التي لتلك العلل مباد لوجودات تلك الصور ههنا إذا كانت ممكنة ولم يكن هناك أسباب سماوية تكون أقوى من تلك التصورات مما هو أقدم ومما هو في أحد القسمين من الثلاث غير هذا الثالث. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يحصل ذلك الأمر الممكن موجوداً لا عن سبب أرضي ولا عن سبب طبيعي من السماء - بل عن تأثير بوجه ما لهذه الأمور في الأمور السماوية وليس هذا بالحقيقة تأثيراً لمبادئ وجود ذلك الأمر من الأمور السماوية فإنها إذا عقلت الأوائل عقلت ذلك الأمر وإذا عقلت ذلك الأمر عقلت ما هو أولى بأن يكون وإذا عقلت ذلك كان إذ كان لا مانع فيه إلا عدم علة طبيعية أرضية أو وجود علة طبيعية أرضية - أما عدم العلة الطبيعية الأرضية مثل أن الصفحة : 247 يكون ذلك الشيء هو أن يوجد حرارة فلا تكون قوة مسخنة طبيعية أرضية فتلك السخونة تحدث للتصور السماوي لوجه كون الخير فيه كما أنه تحدث هي في أبدان الناس عن أسباب من تصورات الناس وعلى ما عرفته فيما سلف - وأما مثال الثاني فأن يكون ليس المانع عدم سبب التسخين فقط بل وجود المبرد في ذلك أيضاً فالتصور السماوي للخير في وجود ضد ما يوجبه المبرد يقسر المبرد. كما يقسر تصورنا للغضب السبب المبرد فينا فتكون أصناف هذا القسم إحالات لأمور طبيعية أو إلهامات تتصل بالمستدعي أو بغيره أو اختلاط من ذلك يؤدي واحد منها أو جملة مجتمعة إلى الغاية النافعة. ونسبة التضرع إلى استدعاء هذه القوة نسبة التفكر إلى استدعاء البيان. وكل يفيض من فوق وليس هذا يتبع تصورات النفوس السماوية. بل الأول الحق يعلم جميع ذلك على الوجه الذي قلنا إنه يليق به ومن عنده يبتدي كون ما يكون ولكن بالتوسط وعلى ذلك علمه فبسبب هذه الأمور ما ينتفع بالدعوات والقرابين وخصوصاً في الأمر الاستسقاء وفي أمور أخرى. ولهذا ما يجب أن يخاف المكافأة على الشر ويتوقع المكافأة على الخير. فإن ثبوت حقيقة ذلك مزجرة عن الشر وثبوت حقيقة ذلك يكون بظهور آياته وآياته هي وجود جزئياته. وهذه الحال معقولة عند المبادئ فيجب أن يكون لها وجود فإن لم يوجد فهناك شيء لا ندركه أو سبب آخر يعاوقه وذلك أولى بالوجود من هذا. ووجود ذلك ووجود هذا معاً من المحال وإذا شئت أن تعلم أن الأمور التي عقلت نافعة مؤدية إلى المصالح قد أوجدت في الطبيعة على النحو من الإيجاد الذي علمته وتحققته فتأمل حال منافع الأعضاء في الحيوانات والنبات وإن كل واحد كيف خلق وليس هناك البتة سبب طبيعي بل مبدؤه لا محالة من العناية على الوجه الذي علمت. وكذلك فصدق بوجود هذه المعاني فإنها متعلقة بالعناية على الوجه الذي علمت. واعلم أن أكثر ما يقر به الجمهور ويفزع إليه ويقول به فهو حق وإنما يدفعه هؤلاء المتشبهة بالفلاسفة جهلاً منهم بعلله وأسبابه. وقد علمنا في هذا الباب كتاب البر والإثم فليتأمل شرح هذه الأمور من هناك وصدق بما كان يحكى من العقوبات الإلهية النازلة على مدن فاسدة وأشخاص ظالمة وانظر أن الحق كيف ينصر. واعلم أن السبب في الدعاء منا أيضاً وفي الصدقة وغير ذلك وكذلك حدوث الظلم والإثم إنما يكون من هناك فإن مبادئ جميع هذه الأمور تنتهي إلى الطبيعة والإرادة والاتفاق والطبيعة مبدؤها من هناك. والإرادات التي لنا كائنة بعد ما لم تكن وكل كائن بعد ما لم يكن فله علة وكل إرادة لنا فلها علة وعلة تلك الإرادة ليست إرادة الصفحة : 248 متسلسلة في ذلك إلى غير النهاية بل أمور تعرض من خارج أرضية وسماوية والأرضية تنتهي إلى السماوية واجتماع ذلك كله يوجب وجود الإرادة. وأما الاتفاق فهو حادث عن مصادمات هذه وإذا حللت الأمور كلها استندت إلى مبادئ وجودها ينزل من عند الله تعالى. والقضاء من الله سبحانه وتعالى هو الوضع الأول البسيط والتقدير هو ما يتوجه إليه القضاء على التدريج كأنه موجب اجتماعات من الأمور البسيطة التي تنسب من حيث هي بسيطة إلى القضاء والأمر الإلهي الأول ولو أمكن إنسان من الناس أن يعرف الحوادث التي في الأرض والسماء جميعاً وطبائعها لفهم كيفية ما يحدث في المستقبل. وهذا المنجم القائل بالأحكام مع أن أوضاعه الأولى ومقدماته ليست تسند إلى برهان بل عسى أن يدعي فيها التجربة أو الوحي وربما حاول قياسات شعرية أو خطابية في إثباتها فإنه إنما يعول على دلائل جنس واحد من أسباب الكائنات وهي التي في السماء على أنه لا يضمن من عنده الإحاطة بجميع الأحوال التي في السماء. ولو ضمن لنا ذلك ووفى به لم يمكنه أن يجعلنا ونفسه بحيث نقف على وجود جميعها في كل وقت. وإن كان جميعها من حيث فعله وطبعه معلوماً عندنا. وذلك مما لا يكفي أن تعلم أنه وجد أو لم يوجد وذلك لأنه لا يكفيك أن تعلم أن النار حارة مسخنة وفاعلة كذا وكذا في أن تعلم أنها سخنت ما لم تعلم أنها حصلت. وأي طريق في الحساب يعطينا المعرفة بكل حدث وبدعة في الفلك ولو أمكنه أن يجعلنا ونفسه بحيث نقف على وجود جميع ذلك تم لنا به الانتقال إلى المغيبات فإن الأمور المغيبة التي في طريق الحدوث إنما تتم بمخالطات بين الأمور السماوية التي تتسامح أننا حصلناها بكمال عللها وبين الأمور الأرضية المتقدمة واللاحقة فاعلها ومنفعلها وطبيعيها وإراديها. وليست تتم بالسماويات وحدها فما لم يحط بجميع الحاضر من الأمرين وموجب كل واحد منهما خصوصاً ما كان متعلقاً بالمغيب لم يتمكن من الانتقال إلى المغيب فليس لنا إذاً اعتماد على أقوالهم وإن سلمنا متبرعين أن جميع ما يعطوننا من مقدماتهم الحكمية صادقة. وكيفية دعوة النبي إلى الله والمعاد ونقول الآن من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصاً واحداً يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضرورات حاجاته. وأنه لا بد أن يكون الإنسان مكفياً بآخر من نوعه يكون ذلك الآخر أيضاً مكفياً به وبنظيره فيكون مثلاً هذا الصفحة : 249 ينقل إلى ذاك. وذاك يخبز لهذا - وهذا يخيط للآخر - والآخر يتخذ الإبرة لهذا حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفياً - ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات. فمن كان منهم غير محتاط في عقد مدينته على شرائط المدينة وقد وقع منه ومن شركائه الاقتصار على اجتماع فقط فإنه يتحصل على جنس بعيد الشبه من الناس عادم لكمالات الناس ومع ذلك فلا بد لأمثاله من اجتماع ومتن تشبه بالمدنيين وإذا كان هذا ظاهراً فلا بد في وجود الإنسان وبقائه من مشاركة ولا تتم المشاركة إلا بمعاملة كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له - ولا بد في المعاملة من سنة وعدل. ولا بد للسنة والعدل من سان ومعدل ولا بد أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة ولا بد من أن يكون هذا إنساناً. ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون ويرى كل منهم ما له عدلاً وما عليه ظلماً فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الناس ويتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرورة إليها في البقاء بل أكثر ما لها أنها تنفع في البقاء ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن كما سلف منا ذكره. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي أسها ولا أن يكون المبدأ الأول والملائكة تعلم ذلك ولا تعلم هذا. ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود فواجب إذاً أن يوجد نبي وواجب أن يكون إنساناً وواجب أن يكون له خصوصية ليست لسائر الناس حتى يستشعر الناس فيه أمراً لا يوجد لهم فيتميز به عنهم. فتكون له المعجزات التي أخبرنا بها فهذا الإنسان إذا وجد وجب أن يسن للناس في أمورهم سنناً بأمر الله تعالى وإذنه ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه فيكون الأصل فيما يسنه تعريفه إياهم أن لهم صانعاً واحداً قادراً وأنه عالم بالسر والعلانية وأن من حقه أن يطاع أمره. وأنه يجب أن يكون الأمر لمن له الخلق. وأنه قد أعد لمن أطاعه المعاد المسعد ولمن عصاه المعاد المشقي حتى يتلقى الجمهور رسمه المنزل على لسانه من الإله والملائكة بالسمع والطاعة. ولا ينبغي له أن يشغلهم بشيء من معرفة الله تعالى فوق معرفة أنه واحد حق لا شبيه له. فأما أن يتعدى بهم إلى تكليفهم أن يصدقوا بوجوده وهو غير مشار إليه في مكان فلا ينقسم بالقول ولا هو خارج العالم ولا داخله ولا شيء من هذا الجنس فقد عظم عليهم الشغل وشوش ما بين الصفحة : 250 أيديهم وأوقعهم فيما لا يخلص عنه إلا من كان الموفق الذي يشذ وجوده ويندر كونه فإنه لا يمكنهم أن يتصوروا هذه الأحوال على وجهها إلا بكد. وإنما يمكن القليل منهم أن يتصور حقيقة هذا التوحيد والتنزيه فلا يلبثون أن يكذبوا بمثل هذا الوجود أو يقعوا في الشارع وينصرفوا إلى المباحثات والمقايسات التي تصدهم عن أعمالهم البدنية وربما أوقعتهم في آراء مخالفة لصلاح المدينة ومنافية لواجب الحق فكثرت فيهم الشكوك والشبه وصعب الأمر على اللسان في ضبطهم فما كل بمتيسر له في الحكمة الإلهية ولا يصح بحال أن يظهر أن عنده حقيقة يكتمها عن العامة بل لا يجب أن يرخص في التعريض بشيء من ذلك بل يجب أن يعرفهم جلالة الله تعالى وعظمته برموز وأمثلة من الأشياء التي هي عندهم عظيمة وجليلة ويلقي إليهم منه هذا القدر أعني أنه لا نظير له ولا شبه ولا شريك - وكذلك يجب أن يقرر عندهم أمر المعاد على وجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً مما يفهمونه ويتصورونه. وأما الحق في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمراً مجملاً. وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ولا إذن سمعته. وإن هناك من اللذة ما هو ملك عظيم ومن الألم ما هو عذاب مقيم. واعلم أن الله تعالى يعلم وجه الخير في هذا فيجب أن يؤخذ معلوم الله سبحانه على وجهه على ما عملت ولا بأس أن يشتمل خطابه على رموز وإشارات ليستدعي المستعدين بالجبلة للنظر إلى البحث الحكمي في العبادات ومنفعتها في الدنيا والآخرة: ثم إن هذا الشخص الذي هو النبي ليس مما يتكرر وجود مثله في كل وقت. فإن المادة التي تقبل كمالاً مثله تقع في قليل من الأمزجة فيجب لا محالة أن يكون النبي قد دبر لبقاء ما يسنه ويشرعه في أمور المصالح الإنسانية تدبيراً. ولا شك أن الفائدة من ذلك هو استمرار الناس على معرفتهم بالصانع والمعاد وحسم سبب وقوع النسيان فيه مع انقراض القرن الذي يلي النبي فيجب أن يكون على الناس أفعال وأعمال يسن تكرارها عليهم في مدد متقاربة حتى يكون الذي ميقاته بطل مصاقباً للمقتضى منه فيعود به التذكر من رأس وقبل أن ينفسخ يلحق عاقبه. ويجب أن تكون هذه الأفعال مقرونة بما يذكر الله تعالى والمعاد لا محالة وإلا فلا فائدة فيها والتذكير لا يكون إلا بألفاظ تقال أو نيات تنوى في الخيال. وأن يقال لهم إن هذه الأفعال يتقرب بها إلى الله ويستوجب بها الخير الكريم وأن تكون تلك الأفعال بالحقيقة على هذه الصفة وهذه الأفعال مثل العبادات المفروضة على الناس. وبالجملة يجب أن يكون فيها منبهات. والمنبهات إما حركات وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات فأما الحركات فمثل الصلواتالصفحة : 251 وأما إعدام الحركات فمثل الصوم فإنه وإن كان معنى عدمياً فإنه يحرك من الطبيعة تحريكاً شديداً ينبه صاحبه على أنه على جملة من الأمر ليست هدراً فيتذكر سبب ما ينويه من ذلك وأنه القربة إلى الله تعالى. ويجب إن أمكن أن يخلط بهذه الأحول مصالح أخرى في تقوية السنة وبسطها والمنافع الدنيوية للناس أيضاً أن يفعلوا وذلك مثل الجهاد والحج على أن يعين مواضع من البلاد باتها أصلح المواضع للعبادة وأنها خاصة لله ويعين أفعالاً مما لا بد منه بأنها في ذات الله عز وجل. مثل القرابين فإنها مما تعين في هذا الباب معونة شديدة والموضع الذي منفعته في هذا الباب هذه المنفعة إذا كان مأوى الشارع ومسكنه فإنه يذكره أيضاً وذكراه في المنفعة المذكورة تالية لذكر الله عز وجل والملائكة والمأوى الواحد ليس يجوز أن يكون نصب عين الأمة كافة فبالحري أن يفرض إليها مهاجرة وسفراً. ويجب أن يكون أشرف هذه العبادات من وجه هو ما يفرض متوليه أنه مخاطب لله عز وجل ومناج إياه وصائر إليه وماثل بين يديه. وهذا هو الصلاة فيجب أن يسن للمصلى من الأحوال التي يستعد بها للصلاة ما جرت به العادة بمؤاخذة الإنسان نفسه عند لقاء الملك الإنساني من الطهارة والتنظيف. وأن يسن في الطهارة والتنظيف سنناً بالغة. وأن يسن عليه فيها ما جرت العادة بمؤاخذته نفسه عند لقائه الملك من الخشوع والسكون وغض البصر وقبض الأطراف وترك الالتفات والاضطراب - وكذلك يسن له في كل وقت من أوقات العبادة آداباً ورسوماً محمودة. فهذه الأحوال ينتفع بها العامة في رسوخ ذكر الله عز اسمه في أنفسهم. فيدون لهم التشبث بالسنن والشرائع بسبب ذلك وأن لم يكن لهم مثل هذه المذكرات تناسوا جميع ذلك مع انقراض قرن أو قرنين وينفعهم أيضاً في المعاد منفعة عظيمة فما ينزه به أنفسهم على ما عرفته - وأما الخاصة فأكثر منفعة هذه الأشياء إياهم في المعاد فقد قررنا حال المعاد الحقيقي وأثبتنا أن السعادة في الآخرة مكتسبة بتنزيه النفس وتنزيه النفس تبعيدها عن الهيئات البدنية المضادة لأسباب السعادة. وهذا التنزيه يحصل بأخلاق وملكات والأخلاق والملكات تكتسب بأفعال من شأنها أن تصرف النفس عن البدن والحس وتديم تذكيرها بالمعدن الذي لها فإذا كانت كثيرة الرجوع إلى ذاتها لم تنفعل من الأحوال البدنية ومما يذكرها ذلك ويعينها عليه أفعال متعبة وخارجة عن عادي الفطن بل الفطن يتولاها مع التكلف فإنها تتعب البدن والقوى الحيوانية وتهدم إرادتها من الاستراحة والكسل ورفض العناء وإخماد الغريزة واجتناب الارتياض إلا في اكتساب أعراض من اللذات البهيمية ويفرض على النفس المحاولة لتلك الصفحة : 252 الحركات ذكر الله والملائكة وعالم السعادة شاءت أن أبت فيتقرر لذلك فيها هيئة الانزعاج عن هذا البدن وتأثيراته وملكة التسلط على البدن فلا تنفعل عنه فإذا جرت عليها أفعال بدنية لم يؤثر فيها هيئة وملكة تأسرها لو كانت مخلدة إليه منقادة له من كل وجه فلذلك ما قال القائل الحق " إن الحسنات يذهبن السيئات " فإن دام هذا الفعل من الإنسان استفاد ملكة الالتفات إلى جهة الحق والإعراض عن الباطل وصار شديد الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية - وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله تعالى ويعرض عن غيره لكان جديراً بأن يفوز من هذا الذكاء بحظ فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي من عند الله وبإرسال الله وواجب في الحكمة الإلهية إرساله وأن جميع ما يسنه فإنما هو واجب من عند الله أن يسنه وإنما يسنه من عند الله فالنبي فرض عليه من عند الله أن يفرض عباداته وتكون الفائدة في العبادات للعابدين بما يبقى به فيهم السنة والشريعة التي هي أسباب وجودهم وبما يقربهم عند المعاد من الله زلفى بزكاتهم ثم هذا الإنسان هو الملي بتدبير أحوال الناس على ما تنتظم به أسباب معيشتهم ومصالح معادهم وهو إنسان يتميز عن سائر الناس بتألهه. تم الكتاب والحمد والثناء لواهب العقل والحكمة في المبدأ والمآب. جمع وترتيب وصف محمد حزين و هذا الكتاب الثاني لابن سينا من عمل الموقع. موقع الفلسفة الإسلامية - موقع ابن سينا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المسارعة في الخيرات المسارعةُ في الخيراتِ والمسابقةُ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ للفوزِ برِضا اللهِ - عزَّ وجلَّ -

بعضه  من الالوكة    قلت المدون لقد أغفل المسلمون أهم مطلوب ساد علي كل المطلوبات الالهية والتكليفات الربانية هو[عمل الصالحات بغير قيد وو تخصي...