الرفق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لا شك أن الرفق نعمة عظيمة يَمن الله بها على الموفقين من عباده، ومن نالها فقد نال خيرا عظيما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حُرم حظه من الخير".
إن الرِّفْق هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضدّ العنف والحدّة والفظاظة والقسوة والجفاء والتعسير، وهو سبب كل خير، لأن به تَسْهُلُ الأمور، ويَحْصُلُ المطلوب بأيسر طريق وأسلم أسلوب، وله فوائد جليلة في الفقه والدعوة، فهو يَجْمَعُ القلوب ويجذب الناس إلى دين الله، ويرغبهم فيه، وينمّي روح المحبّة والتّعاون بينهم، وينشئ مجتمعا سالما من الغلّ والعنف ، ويُثْمِرُ محبّة الله ومحبّة النّاس ، كما أَنَّه دليل على فقه العبد وحكمته وصلاحه وحسن خلقه، مِنْ أَجْلِ هذه الفوائد وغيرها أرشد الله نبيه إِليه فقال له: { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } أي: لو كنت قاسياً جافاً ما تَأَلَّفَت حولك القلوب، ولا تجمعت حولك المشاعر، وإذا كان مِثْلُ هذا الكلام يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان عنوانا للرحمة والرفق فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟!.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق فقال: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ " ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الرفق باب لكل خير فقال " مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ " ، كما بَيَّنَ أَنَّهُ زِينَةُ العمل فقال: " إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ".
قال النابغة:
الرفق يُمنٌ والأناةُ سلامةٌ فاستأنِ في رفق تُلاق نجاحا
من صور الرفق:
1- الرِّفق بالنفس في أداء العبادات:
المسلم لا يُحَمِّل نفسه من العبادة مالا تطيقه، فالإسلام دين يسر وسهولة، فالمتبع له يوغل فيه برفق، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدُّلْجة ".
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ الحولاء بنت تُوَيْتِ بن حبيب بن أسد ابن عبد العزَّى مرت بها، وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فقلت: هذه الحولاء بنت تويتٍ. وزعموا أنَّها لا تنام بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنام بالليل؟، خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا".
قال ابن القيم: (نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقَدَر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم).
2- الرِّفق مع النَّاس عامة:
ويكون بلين الجانب وعدم الغلظة والجفاء، والتعامل مع النَّاس بالسَّمَاحَة، قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجمل الأنِفِ، إن قِيد انقاد، وإذا أُنيخ على صخرة استناخ". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله رفيق يحب الرِّفق في الأمر كلِّه".
قال ابن القيم: (من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه).
3- الرِّفق بالرعية:
الراعي، سواء كان حاكمًا، أو رئيسًا، أو مسؤولًا، عليه أن يرفق برعيته، فيقضي حاجتهم، ويؤدِّي مصالحهم برفق، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ شرَّ الرِّعاء الحُطَمة".
(وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلًا لكل راع عنيف، قاس شديد لا رحمة في قلبه على رعيته من النَّاس، سواء أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، صغرت دائرة رعيته أو كبرت، فشرُّ الرعاة من النَّاس على النَّاس هو الحطمة، الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تليِّن سياسته وقيادته، فهو يقسو ويشتد على رعيته، ويوسعهم عسفًا وتحطيمًا، ويدفعهم دائمًا إلى المآزق والمحرجات، ولا يعاملهم بالرِّفق والحكمة في الإدارة والسياسة).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (أما ولاة الأمور فيجب عليهم الرِّفق بالرعية، والإحسان إليهم، واتباع مصالحهم، وتولية من هو أهل للولاية، ودفع الشر عنهم، وغير ذلك من مصالحهم؛ لأنَّهم مسئولون عنهم أمام الله عز وجل).
وقد بلغ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ جماعة من رعيته اشتكوا من عماله، فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أيها النَّاس، أيَّتها الرعية إنَّ لنا عليكم حقًّا، النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير، أيَّتها الرعاة إنَّ للرعيَّة عليكم حقًّا فاعلموا أنَّه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، وليس جهل أبغض إلى الله، ولا أغم من جهل إمام وخُرقه.
4- الرِّفق بالمدعوِّين:
الداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على النَّاس ولا يشق عليهم، ولا ينفِّرهم من الدين بأسلوبه الغليظ والعنيف، (وأولى النَّاس بالتَّخلُّق بخلق الرِّفق الدعاة إلى الله والمعلِّمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرِّفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم النَّاس لا يُؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرِّفق الذي يملك القلوب بالمحبة) قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
فيدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتلطَّف مع العاصي بكلام ليِّن وبرفق، ولا يعين الشيطان عليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبًا، فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا- أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- كنَّا لا نقول في أحد شيئًا حتى نعلم علام يموت؟ فإن خُتم له بخير علمنا أن قد أصاب خيرًا، وإن خُتم بشرٍّ خفنا عليه).
وانظر إلى رفق إبراهيم عليه السلام مع أبيه {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 46-47].
قال الشنقيطي: (بيَّن الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين أنَّ إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرِّفق واللين، وإيضاح الحق، والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ومن عذاب الله تعالى، وولاية الشيطان، خاطبه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه، ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت، وأنكر عليه أنَّه راغب عن عبادة الأوثان، أي: معرض عنها لا يريدها؛ لأنَّه لا يعبد إلا الله وحده جل وعلا، وهدَّده بأنَّه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه، قيل: بالحجارة، وقيل: باللسان شتمًا، والأول أظهر، ثم أمره بهجره مليًّا، أي: زمانًا طويلًا، ثُمَّ بيَّن أنَّ إبراهيم قابل أيضًا جوابه العنيف بغاية الرِّفق واللين، في قوله: { سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي...} [مريم: 47] ).
5- الرِّفق بالخادم والمملوك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يطيق".
ويقول صلى الله عليه وسلم في حق الخدم: "إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ (أي: خَدَمُكم الذين يَلُونَ أُمورَكم ويُصلِحونها مِن المُسلِمينَ فهُم إخوانُكم في الدِّينِ)، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ". "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعْتِقَه".
قال الشنقيطي رحمه الله: (فأوجب على مالكيهم الرِّفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم؛ كما هو معروف في السُّنَّة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم مع الإيصاء عليهم في القرآن).
6- الرِّفق بالحيوان:
فمن الرِّفق بالحيوان، أن تدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع والمرض، والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
- "بينا رجل يمشي، فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثُمَّ خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر".
- وعن سعيد بن جبير قال: (مرَّ ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرًا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟! لعن الله من فعل هذا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا).
ومن الرفق بالحيوان ذبحه بسكين حاد حتى لا يتعذب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفْرَتَه (السكين الذي يذبح به)، ولْيُرِحْ ذبيحته".
الرفق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا بقومه رغم أذيتهم له، فعن عروة أنَّ عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنَّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم علي، ثُمَّ قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".
- وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا في تعليمه للجاهل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُـزْرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثُمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجلَّ والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه عليه".
- وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يُصمِّتونني لكني سكت، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني. قال: "إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
- كما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُبيِّن للناس الأمور بالرِّفق، ومن ذلك الشاب الذي طلب منه أن يأذن له بالزنى، فعن أبي أمامة قال: إن فتى شابًّا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: "ادْنُه"، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: "أتحبُّه لأمِّك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لأخواتهم؟" قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لخالاتهم"، قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء".
إن الرفق في الحقيقة هو الطريق لنيل كل محبوب ودفع كل مكروه، قال مسلم بن الوليد:
ينالُ بالرِّفق ما يعيا الرجالُ به كالموتِ مستعجلًا يأتي على مهلِ
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الرفق في الأمور كلها، وأن يجنبنا موارد الهلكة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============================================
ا
الدنيا بين المدح والذم
85
التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وبعد:
فإن الدنيا لا تُمدح بإطلاق ولا تذم بإطلاق، وإنما يذم منها ما كان من معصية الله تعالى، أو كان حاملا على معصيته داعيا إليه، وأما ما فيها من الخير والطاعة فهو محمود ممدوح، ولما كان حال أكثر الخلق التلهي بالدنيا عن الآخرة والاشتغال بشهواتها عما فيه نفعهم وصلاحهم غلب وصف الذم على الدنيا وكثر التحذير منها، وقد أوضح الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذا المعنى فقال ما عبارته: (فالدنيا في الحقيقة لا تذم، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار، ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها صار لها اسم الذم عند الإطلاق، وإلا فهي مبنى الآخرة ومزرعتها، ومنها زاد الجنة، وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله ومحبته وذكره وابتغاء مرضاته، وخير عيش ناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها، وكفى بها مدحا وفضلا ما لأولياء الله فيها من قرة العيون وسرور القلوب وبهجة النفوس ولذة الأرواح والنعيم الذى لا يشبهه نعيم بذكره ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه والأنس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والإقبال عليه والاشتغال به عمن سواه، وفيها كلامه ووحيه وهداه وروحه الذى ألقاه من أمره فأخبر به من شاء من عباده).
وقد ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال علي - رضي الله عنه - : الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها.
وقد وردت نصوص بذم الدنيا والتحذير منها، ونصوص أخرى يفهم منها مدحها لمن فهم حقيقتها، وتزود لآخرته، من ذلك:
قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون} (الأنعام: 32).
وقوله عز وجل: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاع} (الرعد: 26).
وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} (العنكبوت: 64).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ". (رواه مسلم)، ويفهم ذم الدنيا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فَاتَّقُوا الدُّنْيَا".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ". (رواه الترمذي). وقوله صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ". (مسلم).
ومما ورد من أدلة الشرع مما يفهم منه مدح الدنيا:
قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} (الأعراف: 32).
وقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} (القصص: 77).
وقول الله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين} (النحل: 30).
وقوله عز وجل: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} (الزمر: 10).
وحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "خيركم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ". (رواه أحمد).
وقال بعض الحكماء: ليس من الرغبة في الدنيا اكتساب ما يصون العرض فيها. وقال بعض الأدباء: ليس من الحرص اجتلاب ما يقوت البدن. وقال محمود الوراق:
لا تتبع الدنيا وأيامها ... ذما وإن دارت بك الدائره
من شرف الدنيا ومن فضلها ... أن بها تستدرك الآخره
أسباب استصلاح الدنيا:
قال الماوردي - رحمه الله – ما حاصله: (واعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء هي قواعدها، وإن تفرعت، وهي: دين مُتَّبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح.
فأما القاعدة الأولى: فهي الدين المتبع فلأنه يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها، حتى يصير قاهرا للسرائر، زاجرا للضمائر، رقيبا على النفوس في خلواتها، نصوحا لها في ملماتها. وهذه الأمور لا يوصل بغير الدين إليها، ولا يصلح الناس إلا عليها. فكأن الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعا في انتظامها وسلامتها.
ولذلك لم يخل الله تعالى خلقه، مذ فطرهم عقلاء، من تكليف شرعي، واعتقاد ديني ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء.
وأما القاعدة الثانية: فهي سلطان قاهر تتألف من رهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع لهيبته القلوب المتفرقة، وتكف بسطوته الأيدي المتغالبة، وتمتنع من خوفه النفوس العادية؛ لأن في طباع الناس من حب المغالبة على ما آثروه والقهر لمن عاندوه، ما لا ينكفون عنه إلا بمانع قوي، ورادع ملي. وقد أفصح المتنبي بذلك في قوله:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذه العلة المانعة من الظلم لا تخلو من أحد أربعة أشياء: إما عقل زاجر، أو دين حاجر، أو سلطان رادع، أو عجز صاد.
قال عبد الله بن المعتز: المُلك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى.
والذي يلزم سلطان الأمة من أمورها سبعة أشياء:
أحدها: حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به من غير إهمال له.
والثاني: حراسة البيضة والذب عن الأمة من عدو في الدين أو باغي نفس أو مال.
والثالث: عمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها.
والرابع: تقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها.
والخامس: معاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها واعتماد النصفة في فصلها.
والسادس: إقامة الحدود على مستحقها من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها.
والسابع: اختيار خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها، والأمانة عليها.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض خلفائه: أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله.
وقال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: إني أخاف الله فيما تقلدت. فقال له: لست أخاف عليك أن تخاف الله وإنما أخاف عليك ألا تخاف الله. وهذا واضح؛ لأن الخائف من الله تعالى مأمون.
وحُكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية فكتب على حائط الحبس:
أما والله إن الظلم شؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في المعاد إن التقينا ... غدا عند المليك من الظلوم
فأُخبر الرشيد بذلك فبكى بكاء شديدا، ودعا بأبي العتاهية فاستحله ووهب له ألف دينار وأطلقه.
وأما القاعدة الثالثة: فهي عدل شامل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكثر معه النسل، ويأمن به السلطان. فقد قال المرزبان لعمر، حين رآه وقد نام متبذلا: عدلت فأمنت فنمت. وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنه ليس يقف على حد ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل.
وقال بعض الحكماء: بالعدل والإنصاف تكون مدة الائتلاف. وقال بعض البلغاء: إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، واستعن على العدل بخلتين: قلة الطمع، وكثرة الورع.
فإذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه، وجب أن نبدأ بعدل الإنسان في نفسه، ثم بعدله في غيره. فأما عدله في نفسه فيكون بحملها على المصالح، وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير. فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم. ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور.
وقد قال بعض الحكماء: من توانى في نفسه ضاع.
وأما عدله في غيره فقد ينقسم حال الإنسان مع غيره على ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول: عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان في رعيته، والرئيس مع صحابته، فعدله فيهم يكون بأربعة أشياء: باتباع الميسور، وحذف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق في الميسور. فإن اتباع الميسور أدوم، وحذف المعسور أسلم، وترك التسلط أعطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النصرة.
قال بعض الحكماء: الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم. وقال بعض الأدباء: ليس للجائر جار، ولا تعمر له دار.
وقال بعض البلغاء: أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم. وقال بعض حكماء الملوك: العجب من ملك استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم. وقال أزدشير بن بابك: إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن طاعته.
والقسم الثاني: عدل الإنسان مع من فوقه، كالرعية مع سلطانها، والصحابة مع رئيسها. فقد يكون بثلاثة أشياء: بإخلاص الطاعة، وبذل النصرة، وصدق الولاء. فإن إخلاص الطاعة أجمع للشمل، وبذل النصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظن.
والقسم الثالث: عدل الإنسان مع أكفائه، ويكون بثلاثة أشياء: بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكف الأذى؛ لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكف الأذى أنصف. وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء ففسدوا وأفسدوا.
وأما القاعدة الرابعة: فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف. فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة. وقد قال بعض الحكماء، الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش؛ لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم وانتظام جملتهم؛ لأن الأمن من نتائج العدل، والجور من نتائج ما ليس بعدل.
وأما القاعدة الخامسة: فهي خصب دار تتسع النفوس به في الأحوال ويشترك فيه ذو الإكثار والإقلال. فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع، وتكثر المواساة والتواصل. وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء.
وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري: لا تستقضين إلا ذا حسب ومال، فإن ذا الحسب يخاف العواقب وذا المال لا يرغب في مال غيره. وقال بعض السلف: إني وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشر الدنيا والآخرة في الفجور والفقر. وقال بعض الشعراء:
ولم أر بعد الدين خيرا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر
وأما القاعدة السادسة: فهي أمل فسيح يبعث على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه، ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل في دركه بحياة أربابه. ولولا ذلك لافتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكنى وأراضي الحرث، وفي ذلك من الإعواز وتعذر الإمكان ما لا خفاء به.
فلذلك ما أرفق الله تعالى خلقه باتساع الآمال إلا حتى عمر به الدنيا فعم صلاحها، وصارت تنتقل بعمرانها إلى قرن بعد قرن، فيُتِم الثاني ما أبقاه الأول من عمارتها، ويرمم الثالث ما أحدثه الثاني من شعثها لتكون أحوالها على الأعصار ملتئمة، وأمورها على ممر الدهور منتظمة.
ولو قصرت الآمال ما تجاوز الواحد حاجة يومه، ولا تعدى ضرورة وقته، ولكانت تنتقل إلى من بعده خرابا لا يجد فيها بلغة، ولا يدرك منها حاجة. ثم تنتقل إلى من بعد بأسوأ من ذلك حالا حتى لا ينمى بها نبت، ولا يمكن فيها لبث.
وقال الشاعر:
وللنفوس وإن كانت على وجل ... من المنية آمال تقويها
فالمرء يبسطها والدهر يقبضها ... والنفس تنشرها والموت يطويها
وأما حال الأمل في أمر الآخرة فهو من أقوى الأسباب في الغفلة عنها، وقلة الاستعداد لها. وفرق ما بين الآمال والأماني، أن الآمال ما تقيدت بأسباب، والأماني ما تجردت عنها.
فهذه القواعد الست التي تصلح بها أحوال الدنيا، وتنتظم أمور جملتها، فإن كملت فيها كمل صلاحها. وبعيد أن يكون أمر الدنيا تاما كاملا، وأن يكون صلاحها عاما شاملا؛ لأنها موضوعة على التغيير والفناء، منشأة على التصرم والانقضاء.
قال بعض الشعراء:
ومن عادة الأيام أن خطوبها ... إذا سر منها جانب ساء جانبُ
وما أعرف الأيام إلا ذميمة ... ولا الدهر إلا وهو للثأر طالبُ
وبحسب ما اختل من قواعدها يكون اختلالها).
=========================================================
البر من أسباب المودة
من المعلوم عند المؤمنين أن البر من أعظم أسباب المودة بين الناس في الدنيا، وأنه من أعظم أسباب السعادة في الآخرة. أما كونه من أسباب المودة فلأن النفوس جبلت على محبة من يحسن إليها ويواسيها. لذلك ندب الله تعالى إلى التعاون به وقرنه بالتقوى له فقال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}(المائدة:2). لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس.
ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.
أنواع البر
قال الماوردي في أدب الدنيا والدين"والبرّ نوعان: صلة، ومعروف.فأمّا الصّلة: فهي التّبرّع ببذل المال في الجهات المحدودة لغير عوض مطلوب، وهذا يبعث عليه سماحة النّفس وسخاؤها، ويمنع منه شحّها وإباؤها قال الله تعالى: "وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الحشر/ 9) .
وأمّا النّوع الثّاني من البرّ فهو: المعروف: ويتنوّع أيضا نوعين: قولا وعملا. فأمّا القول: فهو طيب الكلام وحسن البشر، والتّودّد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حسن الخلق، ورقّة الطّبع، ويجب أن يكون محدودا كالسّخاء؛ فإنّه إن أسرف فيه كان ملقا مذموما وإن توسّط واقتصد فيه كان معروفا وبرّا محمودا.
وأمّا العمل: فهو بذل الجاه والمساعدة بالنّفس والمعونة في النّائبة، وهذا يبعث عليه حبّ الخير للنّاس وإيثار الصّلاح لهم، وليس في هذه الأمور سرف ولا لغايتها حدّ بخلاف النّوع الأوّل؛ لأنّها وإن كثرت فهي أفعال خير تعود بنفعين: نفع على فاعلها في اكتساب الأجر وجميل الذّكر، ونفع على المعان بها في التّخفيف عنه والمساعدة له
وقال صلى الله عليه وسلم: "السخيُّ قريبٌ من اللهِ قريبٌ من الجنةِ قريبٌ من الناسِ بعيدٌ من النارِ والبخيلُ بعيدٌ من اللهِ بعيدٌ من الجنةِ بعيدٌ من الناسِ قريبٌ من النارِ ولَجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى اللهِ من عابدٍ بخِيلٍ، وأكبر الداء البخل". (الترمذي وغيره).
وقال: "ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". (البخاري).
وأنزل في ذلك القرآن: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ}(الليل: 5-7).
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - يعني من أعطى فيما أمر واتقى فيما حظر وصدق بالحسنى يعني بالخلف من عطائه.
قال الماوردي: (قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لَسادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
وقيل في المثل: سؤدد بلا جود، كملك بلا جنود. وقال بعض الحكماء: الجود حارس الأعراض. وقال بعض الأدباء: من جاد ساد، ومن أضعف ازداد. وقال بعض الفصحاء: جود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده. وقال بعض الفصحاء: خير الأموال ما استرق حرا، وخير الأعمال ما استحق شكرا.
وقال صالح بن عبد القدوس:
وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بُخْلُهُ
وَيَسْتُرهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ
تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي
أَرَى كُلَّ عَيْبٍ فَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ
من ثمرات البخل
قال بعض الحكماء: البخل جلباب المسكنة. وقال بعض الأدباء: البخيل ليس له خليل. وقال بعض البلغاء: البخيل حارس نعمته، وخازن ورثته.
وقال بعض الشعراء:
إذَا كُنْت جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا
فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ
تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إلَى غَيْرِ حَامِدٍ
فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ
وقد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة، وإن كان ذريعة إلى كل مذمة، أربعة أخلاق ناهيك بها ذما وهي: الحرص والشره وسوء الظن ومنع الحقوق.
فأما الحرص فهو شدة الكدح والإسراف في الطلب. وأما الشره فهو استقلال الكفاية، والاستكثار لغير حاجة، وهذا فرق ما بين الحرص والشره قال بعض الحكماء: الشره من غرائز اللؤم.
وأما سوء الظن فهو عدم الثقة بمن هو لها أهل، فإن كان بالخالق كان شكا يؤول إلى ضلال، وإن كان بالمخلوق كان استخانة يصير بها مختانا وخوانا، لأن ظن الإنسان بغيره بحسب ما يراه من نفسه، فإن وجد فيها خيرا ظنه في غيره، وإن رأى فيها سوءا اعتقده في الناس.
وقد قيل في المثل: كل إناء ينضح بما فيه.
وأما منع الحقوق فإن نفس البخيل لا تسمح بفراق محبوبها، ولا تنقاد إلى ترك مطلوبها، فلا تذعن لحق ولا تجيب إلى إنصاف، وإذا آل البخيل إلى ما وصفنا من هذه الأخلاق المذمومة، والشيم اللئيمة، لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول.
وأما السرف والتبذير فإن من زاد على حد السخاء فهو مسرف ومبذر، وهو بالذم جدير. وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(الأعراف:31).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عالَ منِ اقتصَدَ".(رواه أحمد وغيره).
وقد قال المأمون - رحمه الله -: لا خير في السرف ولا سرف في الخير. وقال بعض الحكماء: صديق الرجل قصده، وسرفه عدوه. وقال بعض البلغاء: لا كثير مع إسراف ولا قليل مع احتراف.
وقال معاوية - رضي الله عنه -: كل سرف فبإزائه حق مضيع. وقال بعض الحكماء: الخطأ في إعطاء ما لا ينبغي ومنع ما ينبغي واحد.
وقال أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم.
وقيل لسفيان: ما الزهد في الدنيا؟ قال: الزهد في الناس.
وقال بعض البلغاء: السخاء أن تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا.
العطاء يكون لله
ثم ليكن غالب عطائه لله تعالى وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله عز وجل كالذي حكاه أبو بكرة، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جُزيت الجنه
اكس بنياتي وأمهنه
وكُن لنا من الزمان جُنه
أقسم بالله لتفعلنه
فقال عمر - رضي الله عنه -: فإن لم أفعل يكون ماذا؟ فقال: إذا أبا حفص لأذهبنه.
فقال: فإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال:
يكون عن حالي لتسألنه
يوم تكون الأعطيات هنه
وموقف المسئول بينهنه
إما إلى نار وإما جنه
فبكى عمر - رضي الله عنه - حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشِعره، أما والله لا أملك غيره.
وإذا كان العطاء على هذا الوجه خلا من طلب جزاء وشكر، وعرى عن امتنان ونشر، فكان ذلك أشرف للباذل، وأهنأ للقابل.
وأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء فهو خارج بعطائه عن حكم السخاء؛ لأنه إن طلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب به الجزاء كان تاجرا متربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا.
وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تأويل قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] إنه لا يعطي عطية يلتمس بها أفضل منها.
وقال أبو العتاهية:
وَلَيْسَتْ يَدٌ أَوْلَيْتَهَا بِغَنِيمَةٍ
إذَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُعِدَّ لَهَا شُكْرَا
غِنَى الْمَرْءِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ
فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرَا
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
لا شك أن الرفق نعمة عظيمة يَمن الله بها على الموفقين من عباده، ومن نالها فقد نال خيرا عظيما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من أُعطي حظه من الرفق فقد أُعطي حظه من الخير، ومن حُرم حظه من الرفق فقد حُرم حظه من الخير".
إن الرِّفْق هو لين الجانب بالقول والفعل والأخذ بالأسهل، وهو ضدّ العنف والحدّة والفظاظة والقسوة والجفاء والتعسير، وهو سبب كل خير، لأن به تَسْهُلُ الأمور، ويَحْصُلُ المطلوب بأيسر طريق وأسلم أسلوب، وله فوائد جليلة في الفقه والدعوة، فهو يَجْمَعُ القلوب ويجذب الناس إلى دين الله، ويرغبهم فيه، وينمّي روح المحبّة والتّعاون بينهم، وينشئ مجتمعا سالما من الغلّ والعنف ، ويُثْمِرُ محبّة الله ومحبّة النّاس ، كما أَنَّه دليل على فقه العبد وحكمته وصلاحه وحسن خلقه، مِنْ أَجْلِ هذه الفوائد وغيرها أرشد الله نبيه إِليه فقال له: { فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } أي: لو كنت قاسياً جافاً ما تَأَلَّفَت حولك القلوب، ولا تجمعت حولك المشاعر، وإذا كان مِثْلُ هذا الكلام يوجه للرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان عنوانا للرحمة والرفق فكيف بغيره صلى الله عليه وسلم؟!.
وقد أثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرفق فقال: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ " ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الرفق باب لكل خير فقال " مَنْ يُحْرَمِ الرِّفْقَ، يُحْرَمِ الْخَيْرَ " ، كما بَيَّنَ أَنَّهُ زِينَةُ العمل فقال: " إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ".
قال النابغة:
الرفق يُمنٌ والأناةُ سلامةٌ فاستأنِ في رفق تُلاق نجاحا
من صور الرفق:
1- الرِّفق بالنفس في أداء العبادات:
المسلم لا يُحَمِّل نفسه من العبادة مالا تطيقه، فالإسلام دين يسر وسهولة، فالمتبع له يوغل فيه برفق، قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الدين يسر، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة، والروحة، وشيء من الدُّلْجة ".
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ الحولاء بنت تُوَيْتِ بن حبيب بن أسد ابن عبد العزَّى مرت بها، وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فقلت: هذه الحولاء بنت تويتٍ. وزعموا أنَّها لا تنام بالليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنام بالليل؟، خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا".
قال ابن القيم: (نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن التشديد في الدين بالزيادة على المشروع، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنَّ تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقَدَر وإما بالشرع. فالتشديد بالشرع: كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس. فإنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم).
2- الرِّفق مع النَّاس عامة:
ويكون بلين الجانب وعدم الغلظة والجفاء، والتعامل مع النَّاس بالسَّمَاحَة، قال صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون هيِّنون ليِّنون، كالجمل الأنِفِ، إن قِيد انقاد، وإذا أُنيخ على صخرة استناخ". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله رفيق يحب الرِّفق في الأمر كلِّه".
قال ابن القيم: (من رَفَقَ بعبادِ الله رَفَقَ الله به، ومن رحمهم رحمه، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله بتلك الصِّفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده حسب ما يكون العبد لخلقه).
3- الرِّفق بالرعية:
الراعي، سواء كان حاكمًا، أو رئيسًا، أو مسؤولًا، عليه أن يرفق برعيته، فيقضي حاجتهم، ويؤدِّي مصالحهم برفق، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به".
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ شرَّ الرِّعاء الحُطَمة".
(وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث مثلًا لكل راع عنيف، قاس شديد لا رحمة في قلبه على رعيته من النَّاس، سواء أكان ولي أسرة، أو صاحب سلطان، صغرت دائرة رعيته أو كبرت، فشرُّ الرعاة من النَّاس على النَّاس هو الحطمة، الذي لا رفق عنده، ولا رحمة في قلبه تليِّن سياسته وقيادته، فهو يقسو ويشتد على رعيته، ويوسعهم عسفًا وتحطيمًا، ويدفعهم دائمًا إلى المآزق والمحرجات، ولا يعاملهم بالرِّفق والحكمة في الإدارة والسياسة).
قال ابن عثيمين رحمه الله: (أما ولاة الأمور فيجب عليهم الرِّفق بالرعية، والإحسان إليهم، واتباع مصالحهم، وتولية من هو أهل للولاية، ودفع الشر عنهم، وغير ذلك من مصالحهم؛ لأنَّهم مسئولون عنهم أمام الله عز وجل).
وقد بلغ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ جماعة من رعيته اشتكوا من عماله، فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثُمَّ قال: أيها النَّاس، أيَّتها الرعية إنَّ لنا عليكم حقًّا، النصيحة بالغيب، والمعاونة على الخير، أيَّتها الرعاة إنَّ للرعيَّة عليكم حقًّا فاعلموا أنَّه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، وليس جهل أبغض إلى الله، ولا أغم من جهل إمام وخُرقه.
4- الرِّفق بالمدعوِّين:
الداعية عليه أن يرفق في دعوته، فيشفق على النَّاس ولا يشق عليهم، ولا ينفِّرهم من الدين بأسلوبه الغليظ والعنيف، (وأولى النَّاس بالتَّخلُّق بخلق الرِّفق الدعاة إلى الله والمعلِّمون، فالدعوة إلى الله لا تؤثر ما لم تقترن بخلق الرِّفق في دعوة الخلق إلى الحق، وتعليم النَّاس لا يُؤتي ثمراته الطيبات ما لم يقترن بخلق الرِّفق الذي يملك القلوب بالمحبة) قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
فيدعو بالحكمة والموعظة الحسنة، ويتلطَّف مع العاصي بكلام ليِّن وبرفق، ولا يعين الشيطان عليه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبًا، فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه، اللهم العنه، ولكن سلوا الله العافية، فإنا- أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم- كنَّا لا نقول في أحد شيئًا حتى نعلم علام يموت؟ فإن خُتم له بخير علمنا أن قد أصاب خيرًا، وإن خُتم بشرٍّ خفنا عليه).
وانظر إلى رفق إبراهيم عليه السلام مع أبيه {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم: 46-47].
قال الشنقيطي: (بيَّن الله جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين أنَّ إبراهيم لما نصح أباه النصيحة المذكورة مع ما فيها من الرِّفق واللين، وإيضاح الحق، والتحذير من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ومن عذاب الله تعالى، وولاية الشيطان، خاطبه هذا الخطاب العنيف وسماه باسمه، ولم يقل له يا بني في مقابلة قوله له يا أبت، وأنكر عليه أنَّه راغب عن عبادة الأوثان، أي: معرض عنها لا يريدها؛ لأنَّه لا يعبد إلا الله وحده جل وعلا، وهدَّده بأنَّه إن لم ينته عما يقوله له ليرجمنه، قيل: بالحجارة، وقيل: باللسان شتمًا، والأول أظهر، ثم أمره بهجره مليًّا، أي: زمانًا طويلًا، ثُمَّ بيَّن أنَّ إبراهيم قابل أيضًا جوابه العنيف بغاية الرِّفق واللين، في قوله: { سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي...} [مريم: 47] ).
5- الرِّفق بالخادم والمملوك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للمملوك طعامه وكسوته بالمعروف، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يطيق".
ويقول صلى الله عليه وسلم في حق الخدم: "إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ (أي: خَدَمُكم الذين يَلُونَ أُمورَكم ويُصلِحونها مِن المُسلِمينَ فهُم إخوانُكم في الدِّينِ)، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ". "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعْتِقَه".
قال الشنقيطي رحمه الله: (فأوجب على مالكيهم الرِّفق والإحسان إليهم، وأن يطعموهم مما يطعمون، ويكسوهم مما يلبسون، ولا يكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، وإن كلفوهم أعانوهم؛ كما هو معروف في السُّنَّة الواردة عنه صلى الله عليه وسلم مع الإيصاء عليهم في القرآن).
6- الرِّفق بالحيوان:
فمن الرِّفق بالحيوان، أن تدفع عنه أنواع الأذى، كالعطش والجوع والمرض، والحمل الثقيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
- "بينا رجل يمشي، فاشتدَّ عليه العطش، فنزل بئرًا، فشرب منها، ثُمَّ خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، ثم رقي، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر".
- وعن سعيد بن جبير قال: (مرَّ ابن عمر بفتيان من قريش قد نصبوا طيرًا وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحب الطير كل خاطئة من نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا، فقال ابن عمر: من فعل هذا؟! لعن الله من فعل هذا، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من اتخذ شيئًا فيه الروح غرضًا).
ومن الرفق بالحيوان ذبحه بسكين حاد حتى لا يتعذب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، ولْيُحِدَّ أحدُكم شفْرَتَه (السكين الذي يذبح به)، ولْيُرِحْ ذبيحته".
الرفق عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا بقومه رغم أذيتهم له، فعن عروة أنَّ عائشة رضي الله عنها زوج النَّبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنَّها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشدَّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إنَّ الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلَّم علي، ثُمَّ قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا".
- وكان صلى الله عليه وسلم رفيقًا في تعليمه للجاهل، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُـزْرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثُمَّ إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله عزَّ وجلَّ والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه عليه".
- وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله. فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَاه، ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيتهم يُصمِّتونني لكني سكت، فلما صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني. قال: "إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس، إنَّما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
- كما أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يُبيِّن للناس الأمور بالرِّفق، ومن ذلك الشاب الذي طلب منه أن يأذن له بالزنى، فعن أبي أمامة قال: إن فتى شابًّا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال: "ادْنُه"، فدنا منه قريبًا، قال: فجلس، قال: "أتحبُّه لأمِّك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لأمهاتهم"، قال: "أفتحبه لابنتك؟" قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لبناتهم"، قال: "أفتحبه لأختك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لأخواتهم؟" قال: "أفتحبه لعمتك؟" قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لعماتهم"، قال: "أفتحبه لخالتك؟" قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: "ولا النَّاس يحبونه لخالاتهم"، قال: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء".
إن الرفق في الحقيقة هو الطريق لنيل كل محبوب ودفع كل مكروه، قال مسلم بن الوليد:
ينالُ بالرِّفق ما يعيا الرجالُ به كالموتِ مستعجلًا يأتي على مهلِ
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الرفق في الأمور كلها، وأن يجنبنا موارد الهلكة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
===============================================
ا
الدنيا بين المدح والذم
85
التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه ومصطفاه، وبعد:
فإن الدنيا لا تُمدح بإطلاق ولا تذم بإطلاق، وإنما يذم منها ما كان من معصية الله تعالى، أو كان حاملا على معصيته داعيا إليه، وأما ما فيها من الخير والطاعة فهو محمود ممدوح، ولما كان حال أكثر الخلق التلهي بالدنيا عن الآخرة والاشتغال بشهواتها عما فيه نفعهم وصلاحهم غلب وصف الذم على الدنيا وكثر التحذير منها، وقد أوضح الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ هذا المعنى فقال ما عبارته: (فالدنيا في الحقيقة لا تذم، وإنما يتوجه الذم إلى فعل العبد فيها وهي قنطرة أو معبر إلى الجنة أو إلى النار، ولكن لما غلبت عليها الشهوات والحظوظ والغفلة والإعراض عن الله والدار الآخرة، فصار هذا هو الغالب على أهلها وما فيها، وهو الغالب على اسمها صار لها اسم الذم عند الإطلاق، وإلا فهي مبنى الآخرة ومزرعتها، ومنها زاد الجنة، وفيها اكتسبت النفوس الإيمان ومعرفة الله ومحبته وذكره وابتغاء مرضاته، وخير عيش ناله أهل الجنة في الجنة إنما كان بما زرعوه فيها، وكفى بها مدحا وفضلا ما لأولياء الله فيها من قرة العيون وسرور القلوب وبهجة النفوس ولذة الأرواح والنعيم الذى لا يشبهه نعيم بذكره ومعرفته ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه والأنس به والفرح بقربه والتذلل له ولذة مناجاته والإقبال عليه والاشتغال به عمن سواه، وفيها كلامه ووحيه وهداه وروحه الذى ألقاه من أمره فأخبر به من شاء من عباده).
وقد ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال علي - رضي الله عنه - : الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها.
وقد وردت نصوص بذم الدنيا والتحذير منها، ونصوص أخرى يفهم منها مدحها لمن فهم حقيقتها، وتزود لآخرته، من ذلك:
قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون} (الأنعام: 32).
وقوله عز وجل: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاع} (الرعد: 26).
وقوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُون} (العنكبوت: 64).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ". (رواه مسلم)، ويفهم ذم الدنيا من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فَاتَّقُوا الدُّنْيَا".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إِلَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ وَعَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ". (رواه الترمذي). وقوله صلى الله عليه وسلم: "الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ". (مسلم).
ومما ورد من أدلة الشرع مما يفهم منه مدح الدنيا:
قول الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون} (الأعراف: 32).
وقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين} (القصص: 77).
وقول الله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِين} (النحل: 30).
وقوله عز وجل: {قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب} (الزمر: 10).
وحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس خير؟ قال: "خيركم مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ". (رواه أحمد).
وقال بعض الحكماء: ليس من الرغبة في الدنيا اكتساب ما يصون العرض فيها. وقال بعض الأدباء: ليس من الحرص اجتلاب ما يقوت البدن. وقال محمود الوراق:
لا تتبع الدنيا وأيامها ... ذما وإن دارت بك الدائره
من شرف الدنيا ومن فضلها ... أن بها تستدرك الآخره
أسباب استصلاح الدنيا:
قال الماوردي - رحمه الله – ما حاصله: (واعلم أن ما به تصلح الدنيا حتى تصير أحوالها منتظمة، وأمورها ملتئمة، ستة أشياء هي قواعدها، وإن تفرعت، وهي: دين مُتَّبع، وسلطان قاهر، وعدل شامل وأمن عام، وخصب دائم، وأمل فسيح.
فأما القاعدة الأولى: فهي الدين المتبع فلأنه يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها، حتى يصير قاهرا للسرائر، زاجرا للضمائر، رقيبا على النفوس في خلواتها، نصوحا لها في ملماتها. وهذه الأمور لا يوصل بغير الدين إليها، ولا يصلح الناس إلا عليها. فكأن الدين أقوى قاعدة في صلاح الدنيا واستقامتها، وأجدى الأمور نفعا في انتظامها وسلامتها.
ولذلك لم يخل الله تعالى خلقه، مذ فطرهم عقلاء، من تكليف شرعي، واعتقاد ديني ينقادون لحكمه فلا تختلف بهم الآراء، ويستسلمون لأمره فلا تتصرف بهم الأهواء.
وأما القاعدة الثانية: فهي سلطان قاهر تتألف من رهبته الأهواء المختلفة، وتجتمع لهيبته القلوب المتفرقة، وتكف بسطوته الأيدي المتغالبة، وتمتنع من خوفه النفوس العادية؛ لأن في طباع الناس من حب المغالبة على ما آثروه والقهر لمن عاندوه، ما لا ينكفون عنه إلا بمانع قوي، ورادع ملي. وقد أفصح المتنبي بذلك في قوله:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم
وهذه العلة المانعة من الظلم لا تخلو من أحد أربعة أشياء: إما عقل زاجر، أو دين حاجر، أو سلطان رادع، أو عجز صاد.
قال عبد الله بن المعتز: المُلك بالدين يبقى، والدين بالملك يقوى.
والذي يلزم سلطان الأمة من أمورها سبعة أشياء:
أحدها: حفظ الدين من تبديل فيه، والحث على العمل به من غير إهمال له.
والثاني: حراسة البيضة والذب عن الأمة من عدو في الدين أو باغي نفس أو مال.
والثالث: عمارة البلدان باعتماد مصالحها، وتهذيب سبلها ومسالكها.
والرابع: تقدير ما يتولاه من الأموال بسنن الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها.
والخامس: معاناة المظالم والأحكام بالتسوية بين أهلها واعتماد النصفة في فصلها.
والسادس: إقامة الحدود على مستحقها من غير تجاوز فيها، ولا تقصير عنها.
والسابع: اختيار خلفائه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفاية فيها، والأمانة عليها.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبعض خلفائه: أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله.
وقال عمر بن عبد العزيز لبعض جلسائه: إني أخاف الله فيما تقلدت. فقال له: لست أخاف عليك أن تخاف الله وإنما أخاف عليك ألا تخاف الله. وهذا واضح؛ لأن الخائف من الله تعالى مأمون.
وحُكي أن الرشيد حبس أبا العتاهية فكتب على حائط الحبس:
أما والله إن الظلم شؤم ... وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديان يوم الدين نمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في المعاد إن التقينا ... غدا عند المليك من الظلوم
فأُخبر الرشيد بذلك فبكى بكاء شديدا، ودعا بأبي العتاهية فاستحله ووهب له ألف دينار وأطلقه.
وأما القاعدة الثالثة: فهي عدل شامل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، وتتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكثر معه النسل، ويأمن به السلطان. فقد قال المرزبان لعمر، حين رآه وقد نام متبذلا: عدلت فأمنت فنمت. وليس شيء أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنه ليس يقف على حد ولا ينتهي إلى غاية، ولكل جزء منه قسط من الفساد حتى يستكمل.
وقال بعض الحكماء: بالعدل والإنصاف تكون مدة الائتلاف. وقال بعض البلغاء: إن العدل ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق، فلا تخالفه في ميزانه، ولا تعارضه في سلطانه، واستعن على العدل بخلتين: قلة الطمع، وكثرة الورع.
فإذا كان العدل من إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه، وجب أن نبدأ بعدل الإنسان في نفسه، ثم بعدله في غيره. فأما عدله في نفسه فيكون بحملها على المصالح، وكفها عن القبائح، ثم بالوقوف في أحوالها على أعدل الأمرين من تجاوز أو تقصير. فإن التجاوز فيها جور، والتقصير فيها ظلم. ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو على غيره أجور.
وقد قال بعض الحكماء: من توانى في نفسه ضاع.
وأما عدله في غيره فقد ينقسم حال الإنسان مع غيره على ثلاثة أقسام:
فالقسم الأول: عدل الإنسان فيمن دونه كالسلطان في رعيته، والرئيس مع صحابته، فعدله فيهم يكون بأربعة أشياء: باتباع الميسور، وحذف المعسور، وترك التسلط بالقوة، وابتغاء الحق في الميسور. فإن اتباع الميسور أدوم، وحذف المعسور أسلم، وترك التسلط أعطف على المحبة، وابتغاء الحق أبعث على النصرة.
قال بعض الحكماء: الملك يبقى على الكفر ولا يبقى على الظلم. وقال بعض الأدباء: ليس للجائر جار، ولا تعمر له دار.
وقال بعض البلغاء: أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم. وقال بعض حكماء الملوك: العجب من ملك استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم. وقال أزدشير بن بابك: إذا رغب الملك عن العدل رغبت الرعية عن طاعته.
والقسم الثاني: عدل الإنسان مع من فوقه، كالرعية مع سلطانها، والصحابة مع رئيسها. فقد يكون بثلاثة أشياء: بإخلاص الطاعة، وبذل النصرة، وصدق الولاء. فإن إخلاص الطاعة أجمع للشمل، وبذل النصرة أدفع للوهن، وصدق الولاء أنفى لسوء الظن.
والقسم الثالث: عدل الإنسان مع أكفائه، ويكون بثلاثة أشياء: بترك الاستطالة، ومجانبة الإدلال، وكف الأذى؛ لأن ترك الاستطالة آلف، ومجانبة الإدلال أعطف، وكف الأذى أنصف. وهذه أمور إن لم تخلص في الأكفاء أسرع فيهم تقاطع الأعداء ففسدوا وأفسدوا.
وأما القاعدة الرابعة: فهي أمن عام تطمئن إليه النفوس وتنتشر فيه الهمم، ويسكن إليه البريء، ويأنس به الضعيف. فليس لخائف راحة، ولا لحاذر طمأنينة. وقد قال بعض الحكماء، الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش؛ لأن الخوف يقبض الناس عن مصالحهم، ويحجزهم عن تصرفهم، ويكفهم عن أسباب المواد التي بها قوام أودهم وانتظام جملتهم؛ لأن الأمن من نتائج العدل، والجور من نتائج ما ليس بعدل.
وأما القاعدة الخامسة: فهي خصب دار تتسع النفوس به في الأحوال ويشترك فيه ذو الإكثار والإقلال. فيقل في الناس الحسد، وينتفي عنهم تباغض العدم، وتتسع النفوس في التوسع، وتكثر المواساة والتواصل. وذلك من أقوى الدواعي لصلاح الدنيا وانتظام أحوالها، ولأن الخصب يؤول إلى الغنى، والغنى يورث الأمانة والسخاء.
وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري: لا تستقضين إلا ذا حسب ومال، فإن ذا الحسب يخاف العواقب وذا المال لا يرغب في مال غيره. وقال بعض السلف: إني وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشر الدنيا والآخرة في الفجور والفقر. وقال بعض الشعراء:
ولم أر بعد الدين خيرا من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شرا من الفقر
وأما القاعدة السادسة: فهي أمل فسيح يبعث على اقتناء ما يقصر العمر عن استيعابه، ويبعث على اقتناء ما ليس يؤمل في دركه بحياة أربابه. ولولا ذلك لافتقر أهل كل عصر إلى إنشاء ما يحتاجون إليه من منازل السكنى وأراضي الحرث، وفي ذلك من الإعواز وتعذر الإمكان ما لا خفاء به.
فلذلك ما أرفق الله تعالى خلقه باتساع الآمال إلا حتى عمر به الدنيا فعم صلاحها، وصارت تنتقل بعمرانها إلى قرن بعد قرن، فيُتِم الثاني ما أبقاه الأول من عمارتها، ويرمم الثالث ما أحدثه الثاني من شعثها لتكون أحوالها على الأعصار ملتئمة، وأمورها على ممر الدهور منتظمة.
ولو قصرت الآمال ما تجاوز الواحد حاجة يومه، ولا تعدى ضرورة وقته، ولكانت تنتقل إلى من بعده خرابا لا يجد فيها بلغة، ولا يدرك منها حاجة. ثم تنتقل إلى من بعد بأسوأ من ذلك حالا حتى لا ينمى بها نبت، ولا يمكن فيها لبث.
وقال الشاعر:
وللنفوس وإن كانت على وجل ... من المنية آمال تقويها
فالمرء يبسطها والدهر يقبضها ... والنفس تنشرها والموت يطويها
وأما حال الأمل في أمر الآخرة فهو من أقوى الأسباب في الغفلة عنها، وقلة الاستعداد لها. وفرق ما بين الآمال والأماني، أن الآمال ما تقيدت بأسباب، والأماني ما تجردت عنها.
فهذه القواعد الست التي تصلح بها أحوال الدنيا، وتنتظم أمور جملتها، فإن كملت فيها كمل صلاحها. وبعيد أن يكون أمر الدنيا تاما كاملا، وأن يكون صلاحها عاما شاملا؛ لأنها موضوعة على التغيير والفناء، منشأة على التصرم والانقضاء.
قال بعض الشعراء:
ومن عادة الأيام أن خطوبها ... إذا سر منها جانب ساء جانبُ
وما أعرف الأيام إلا ذميمة ... ولا الدهر إلا وهو للثأر طالبُ
وبحسب ما اختل من قواعدها يكون اختلالها).
=========================================================
البر من أسباب المودة
من المعلوم عند المؤمنين أن البر من أعظم أسباب المودة بين الناس في الدنيا، وأنه من أعظم أسباب السعادة في الآخرة. أما كونه من أسباب المودة فلأن النفوس جبلت على محبة من يحسن إليها ويواسيها. لذلك ندب الله تعالى إلى التعاون به وقرنه بالتقوى له فقال: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى}(المائدة:2). لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس.
ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته.
أنواع البر
قال الماوردي في أدب الدنيا والدين"والبرّ نوعان: صلة، ومعروف.فأمّا الصّلة: فهي التّبرّع ببذل المال في الجهات المحدودة لغير عوض مطلوب، وهذا يبعث عليه سماحة النّفس وسخاؤها، ويمنع منه شحّها وإباؤها قال الله تعالى: "وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (الحشر/ 9) .
وأمّا النّوع الثّاني من البرّ فهو: المعروف: ويتنوّع أيضا نوعين: قولا وعملا. فأمّا القول: فهو طيب الكلام وحسن البشر، والتّودّد بجميل القول، وهذا يبعث عليه حسن الخلق، ورقّة الطّبع، ويجب أن يكون محدودا كالسّخاء؛ فإنّه إن أسرف فيه كان ملقا مذموما وإن توسّط واقتصد فيه كان معروفا وبرّا محمودا.
وأمّا العمل: فهو بذل الجاه والمساعدة بالنّفس والمعونة في النّائبة، وهذا يبعث عليه حبّ الخير للنّاس وإيثار الصّلاح لهم، وليس في هذه الأمور سرف ولا لغايتها حدّ بخلاف النّوع الأوّل؛ لأنّها وإن كثرت فهي أفعال خير تعود بنفعين: نفع على فاعلها في اكتساب الأجر وجميل الذّكر، ونفع على المعان بها في التّخفيف عنه والمساعدة له
وقال صلى الله عليه وسلم: "السخيُّ قريبٌ من اللهِ قريبٌ من الجنةِ قريبٌ من الناسِ بعيدٌ من النارِ والبخيلُ بعيدٌ من اللهِ بعيدٌ من الجنةِ بعيدٌ من الناسِ قريبٌ من النارِ ولَجاهلٌ سخيٌّ أحبُّ إلى اللهِ من عابدٍ بخِيلٍ، وأكبر الداء البخل". (الترمذي وغيره).
وقال: "ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". (البخاري).
وأنزل في ذلك القرآن: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ}(الليل: 5-7).
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - يعني من أعطى فيما أمر واتقى فيما حظر وصدق بالحسنى يعني بالخلف من عطائه.
قال الماوردي: (قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لَسادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
وقيل في المثل: سؤدد بلا جود، كملك بلا جنود. وقال بعض الحكماء: الجود حارس الأعراض. وقال بعض الأدباء: من جاد ساد، ومن أضعف ازداد. وقال بعض الفصحاء: جود الرجل يحببه إلى أضداده، وبخله يبغضه إلى أولاده. وقال بعض الفصحاء: خير الأموال ما استرق حرا، وخير الأعمال ما استحق شكرا.
وقال صالح بن عبد القدوس:
وَيُظْهِرُ عَيْبَ الْمَرْءِ فِي النَّاسِ بُخْلُهُ
وَيَسْتُرهُ عَنْهُمْ جَمِيعًا سَخَاؤُهُ
تَغَطَّ بِأَثْوَابِ السَّخَاءِ فَإِنَّنِي
أَرَى كُلَّ عَيْبٍ فَالسَّخَاءُ غِطَاؤُهُ
من ثمرات البخل
قال بعض الحكماء: البخل جلباب المسكنة. وقال بعض الأدباء: البخيل ليس له خليل. وقال بعض البلغاء: البخيل حارس نعمته، وخازن ورثته.
وقال بعض الشعراء:
إذَا كُنْت جَمَّاعًا لِمَالِكَ مُمْسِكًا
فَأَنْتَ عَلَيْهِ خَازِنٌ وَأَمِينُ
تُؤَدِّيهِ مَذْمُومًا إلَى غَيْرِ حَامِدٍ
فَيَأْكُلُهُ عَفْوًا وَأَنْتَ دَفِينُ
وقد يحدث عن البخل من الأخلاق المذمومة، وإن كان ذريعة إلى كل مذمة، أربعة أخلاق ناهيك بها ذما وهي: الحرص والشره وسوء الظن ومنع الحقوق.
فأما الحرص فهو شدة الكدح والإسراف في الطلب. وأما الشره فهو استقلال الكفاية، والاستكثار لغير حاجة، وهذا فرق ما بين الحرص والشره قال بعض الحكماء: الشره من غرائز اللؤم.
وأما سوء الظن فهو عدم الثقة بمن هو لها أهل، فإن كان بالخالق كان شكا يؤول إلى ضلال، وإن كان بالمخلوق كان استخانة يصير بها مختانا وخوانا، لأن ظن الإنسان بغيره بحسب ما يراه من نفسه، فإن وجد فيها خيرا ظنه في غيره، وإن رأى فيها سوءا اعتقده في الناس.
وقد قيل في المثل: كل إناء ينضح بما فيه.
وأما منع الحقوق فإن نفس البخيل لا تسمح بفراق محبوبها، ولا تنقاد إلى ترك مطلوبها، فلا تذعن لحق ولا تجيب إلى إنصاف، وإذا آل البخيل إلى ما وصفنا من هذه الأخلاق المذمومة، والشيم اللئيمة، لم يبق معه خير مرجو ولا صلاح مأمول.
وأما السرف والتبذير فإن من زاد على حد السخاء فهو مسرف ومبذر، وهو بالذم جدير. وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(الأعراف:31).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عالَ منِ اقتصَدَ".(رواه أحمد وغيره).
وقد قال المأمون - رحمه الله -: لا خير في السرف ولا سرف في الخير. وقال بعض الحكماء: صديق الرجل قصده، وسرفه عدوه. وقال بعض البلغاء: لا كثير مع إسراف ولا قليل مع احتراف.
وقال معاوية - رضي الله عنه -: كل سرف فبإزائه حق مضيع. وقال بعض الحكماء: الخطأ في إعطاء ما لا ينبغي ومنع ما ينبغي واحد.
وقال أيوب السختياني: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عن أموال الناس، والتجاوز عنهم.
وقيل لسفيان: ما الزهد في الدنيا؟ قال: الزهد في الناس.
وقال بعض البلغاء: السخاء أن تكون بمالك متبرعا وعن مال غيرك متورعا.
العطاء يكون لله
ثم ليكن غالب عطائه لله تعالى وأكثر قصده ابتغاء ما عند الله عز وجل كالذي حكاه أبو بكرة، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن أعرابيا أتاه فقال:
يا عمر الخير جُزيت الجنه
اكس بنياتي وأمهنه
وكُن لنا من الزمان جُنه
أقسم بالله لتفعلنه
فقال عمر - رضي الله عنه -: فإن لم أفعل يكون ماذا؟ فقال: إذا أبا حفص لأذهبنه.
فقال: فإذا ذهبت يكون ماذا؟ فقال:
يكون عن حالي لتسألنه
يوم تكون الأعطيات هنه
وموقف المسئول بينهنه
إما إلى نار وإما جنه
فبكى عمر - رضي الله عنه - حتى اخضلت لحيته ثم قال: يا غلام أعطه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشِعره، أما والله لا أملك غيره.
وإذا كان العطاء على هذا الوجه خلا من طلب جزاء وشكر، وعرى عن امتنان ونشر، فكان ذلك أشرف للباذل، وأهنأ للقابل.
وأما المعطي إذا التمس بعطائه الجزاء، وطلب به الشكر والثناء فهو خارج بعطائه عن حكم السخاء؛ لأنه إن طلب به الشكر والثناء، كان صاحب سمعة ورياء، وفي هذين من الذم ما ينافي السخاء. وإن طلب به الجزاء كان تاجرا متربحا لا يستحق حمدا ولا مدحا.
وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في تأويل قوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر} [المدثر: 6] إنه لا يعطي عطية يلتمس بها أفضل منها.
وقال أبو العتاهية:
وَلَيْسَتْ يَدٌ أَوْلَيْتَهَا بِغَنِيمَةٍ
إذَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ تُعِدَّ لَهَا شُكْرَا
غِنَى الْمَرْءِ مَا يَكْفِيهِ مِنْ سَدِّ حَاجَةٍ
فَإِنْ زَادَ شَيْئًا عَادَ ذَاكَ الْغِنَى فَقْرَا
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق