دغاء الوعيد

وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد في أمري كله

Translate

الأربعاء، 4 سبتمبر 2024

تاريخ الجزيرة العربية/تاريخ البحرين

 
البحرين

 == ليث وعائلته

البحرين قديماً

بالقرب من منطقة الممطلة جنوب وسط جزيرة البحرين وجدت بعض أدوات إنسان العصر الحجري القديم Paeolithic له كما وجدت على الجزء الساحلي من تلك المنطقة بقايا بعض أدوات حجرية يرجح انها من آثار العصر الحجري المتأخر Neolithic ويعتقد الباحثون ان هذه المنطقة (المعروفة حالياً بالجزاير) كانت في تلك العصور الغابرة جزيرة تبعد عن الساحل الغربي حوالي أربعة كيلومترات. واغلب تلك الأدوات البدائية التي وجدت في هذه المنطقة وجنوب غربي جبل الدخان كانت من الحجر الصوان، ومن بينها عدد يدوية للقطع والكشط وكذلك مجموعة من رؤوس سهام (نبال) يرجع تاريخها إلى 30 ألفأ أو خمسين الف سنة خلت. وفي هذا السياق ذكر المنقبون بعض احجار مسننة كانت تستخدم مع مواد أخرى كالمنجل للحصاد مما ينبىء بوجود مجتمع بدائي زراعي في البحرين في العصور السالفة من تاريخ الإنسانا(1). ومثل هذه القرائن القليلة والبسيطة تنقل خيالنا إلى غابر الازمان لنعيش مع بعض الاساطير التي نسجت حول اسطورة حياة الخلود في دلمون البحرين(2).

ولعل القارئ يود ان يستوقفنا هنا متسائلا عن علاقة الاسطورة بموضوعية التأريخ. الم يبدأ تاريخ العالم بأسطورة أو بعدة اساطير؟ ولعلنا لا نغالي إذا قلنا ان الاسطورة هي "المراجع الاولى" لتاريخ الإنسان قبل ان يسطر تاريخه برموز مقروءة سماها الكتابة. والاسطورة كذلك هي التي حفظت لنا خيوطاً رفيعة نهتدي ببعضها إلى ابعاد من التاريخ غير المكتوب.

وهكذا بدأ تاريخ (البحرين) بأسطورة ذكر العلامة الدكتور جواد علي جانبأ منها في الجزء الثاني من سفره المعنون "تاريخ العرب قبل الاسلام". وفي هذا اشار "نص أرخ في السنة السابعة من سني فيليبس Phillipus فلفوس وتقابل سنة 317 قبل الميلاد، وهو نص بابلي ورد فيه اسم ارض دعيت برديسو Pardisu كان وتقابل هذه الكلمة كلمة Pildash أن وparades في العبرانية وفردوس في العربية، وتقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب بين Maggana التي هي "مكان" وبين "بيت نبسانو Bit Napsanu" التي هي جزيرة دلمون. وقد حملت هذه التسمية بعض العلماء على التفكيرفي ان ماورد عن (جنة عدن) في التوراة انما اريد به هذه المنطقة التي تقع في القسم الشرقي من جزيرة العرب وعلى سواحل الخليج.

زهرة الخلود وقبل ميلاد المسيح بمئات السنين كانت اسطورة الفردوس أو اسطورة أرض المشرق التي تقع وراء الافق البعيد، كانت تلك الاسطورة يرددها السومريون في حكاياتهم الدينية، فقد وردت في نصوص اسطورة الإله Enki وكيفية نجاته من الفيضان الشهير، ثم بعد ذلك كيف توجه الإله إلى أرض الخلود في دلمون فسكنها. فجاءه جلجامش بطل السومريين ليتعرف منه على سر الحياة ويتعلم عنه اسرار الخلود في دلمون فأفاده عن كيفية موته تحت قاع البحر الذي يمتزج بعيون ماء عذب وبداخل تلك العيون زهرة بيضاء هي (زهرة الخلود)، ولو حصل عليها كتب له الخلود الابدي. وسعى بطل السومريين في الحصول على زهرة الخلود لكن الحية الثعبان(1) سبقته فاكلت الزهرة وهكذا كتب للثعبان الخلود- ولعل ذلك يكون بتغيير جلده رمزاً لتجديد حياته!!(2)

وحلقات مفقودة فتلكم كانت البحرين الفردوس المفقود أو أرض الحياة في حوض خليج فارس.(3) وبعد أن تعاقبت على منطقة الخليج عدة شعوب من الاكاديين والبابليين والبارثيين(1) وغيرهم اخذ الكتاب الكلاسيكيون في محاولة كشف النقاب عن تاريخ البحرين وعلاقة تلك الشعوب بها. فكتب عن الخليج هيردوتس المتوفى 406 لم وهو صاحب النظرية التي تعتبر خليج فارس العربي موطن الفينيقيين(2) وقدذكر البحرين كل من سترابون وبلينوس في القرن الأول من الميلاد، ثم تحدث عنها بطليموس قبل منتصف القرن الثاني الميلادي أيضأ. وبالطبع اختلفت مسمياتها من قرن لآخر وحسب رواية كل مؤرخ فقد كانت البحرين تعرف باسم Niduk-ki عند الاكاديين، ودلمون(1) و تلمون عند السومريين، وتايلوس Tyros Tylos عند الفينيقيين. وبالقياس إلى من سبقه من المؤرخين فقد اجاد بلينوس (3) في وصف ساحل الخليج، المسمى بالعروض عند المسلمين (... وعلى بعد خمسين ميلا من الساحل أرض تسمى اتينه Attene وتقابلها في البحر جزيرة تسمى تيروس Tyros وهي معروفة بكثرة ما فيها من اللؤلؤ).

وفي رأينا ان بين اسطورة السومريين وروايات المؤرخين الكلاسيكيين حلقة مفقودة ليس من اليسير تحديد معالمها في التاريخ القديم للبحرين تماماً كما لا يمكن فصل الماء الاجاج عن الينابيع العذبة في باطن حوض الخليج. ومن المؤكد ان الفردوس المفقود في هذه المنطقة من العالم ليس الفردوس الخاص بالشاعر جون ملتون خلال القرن السابع الميلادي، لان فردوس البحرين وهي أرض الحياة هي حلقة من تاريخ الإنسانية عامة ويجدر بنا شحذ الهمة ومواصلة البحث عن تلك الحلقة المفقودة من اسرار الحياة.

ومن مطالعتنا في روايات الأقدمين واقاصيصهم وطوافهم بمنطقة البحرين نستطيع أن نستخلص الجزء اليسير من معالم ارخبيل البحرين، فنفيد جملة لاتفصيلا بان ساكني هذه المنطقة قديماً كانوا من العمالقة أي من العرب البائدة الذين حكموا فيما بين النهرين والخليج. وان الجزر المقابلة للساحل الشرقي من جزيرة العرب كانت تشتهر بالسمك ووفرة اللؤلؤ وان اهلها كانوا يقومون بزراعة التمر بانواعه والقطن. لذا كانت لهم حواضر بها معابد اسطورية، وان جزيرتهم كانت محطة للتجارة العابرة لنقل أنواع البضائع من نحاس وخشب فيما بين الخليج والشرق الاقصى.

أكبر مقبرة في العالم يتحدث العالم عادة عن عجائب الدنيا السبع، فتشتهر بابل بحدائقها المعلقة، والهند بتاج محل كأجمل مقبرة ومصر بأهراماتها الشامخة كأضخم مقبرة.. ولذا فان (البحرين) عامة بل وجزيرة البحرين خاصة تشتهر بأكبر مقبرة تاريخية في العالم كله. وهذه حقيقة لم يكشف النقاب عنها الا منذ بضع سنوات حديثة خلت. وهذه المقبرة الكبيرة عبارة عن مجموعة عديدة من التلال المقببة المتجانسة والتي تنتشر في مساحة واسعة في وسط الجزيرة وشمالها الغربي ويتمركز اغلبها حول قرية عالي (حيث صناعة الفخار التقليدي القائمة حتى اليوم) والتي بها ما يمكن تسميته "بالمقبرة الملكية" لسكان البحرين قديماً)(1)

والقبور المنتشرة حول منطقة عالي يرجع اغلبها على الارجح إلى العصر البرونزي وفي المتوسط فأن ارتفاع كل قبر حوالي 2.35 متراً وقطره 17 متراً وعلى بعد 3 امتار من القبر يحيط به جدار دائري. وفي مدخل القبر ذي الحجرة أو ذي الحجرتين فوقية وارضية فجوة بعرض متر واحد، تليها إلى الداخل وعلى بعد متر ونصف المترحجارة تؤدي إلى المدخل الرئيسي الذي بنيت حيطانه من قطع حجر جيري مغطى بالملاط. وابعاد حجرة القبر هي 90 سم عرضاً × 180 سم طولا × 116 سم ارتفاعاً وفي الطرف الشرقي منها يوجد قبران متجاوران يفصلهما جدار، أحد القبرين باتجاه شمال شرقي وبأبعاد 38 × 38 × 70 سم وكل قبر مسقوف بقطعة كبيرة من الحجر. اما جسم المدفون فانه يميل على جانبه الايمن- وهذه خاصية تتميز بها قبور البحرين. واغلب ما اكتشف من هذه القبور المقببة قبور ذات اتجاه شمالي غربي/ جنوبي شرقي ولكنها تنتمي إلى عهود مختلفة من التاريخ.

ولعل القارىء يستغرب وجود أكبر مقبرة تاريخية على اصغر رقعة أرضية في العالم. وبمثل هذا الاستغراب شارك عدد من المؤرخين وعلماء الآثار في تفسير هذه الظاهرة العجيبة. فجاء نفر منهم بعد البحث والتنقيب باجتهادات متباينة متناقضة، واهم ما انتشر منها الفكرة السائدة بان جزر البحرين كانت الأرض المقدسة لساكني منطقة (البحرين) الذين كانوا يدفنون موتاهم في الجزء الشمالي من وسط جزيرة البحرين. ولكن كيف استطاع الأهون في الزمن الغابر حينذاك نقل موتاهم بحراً إلى جزر البحرين ؟ ومانوع السفن(1) التي كانوا بها يعبرون البحر؟ ام ترى كانت جزر البحرين متصلة بشبه جزيرة العرب في أحد العصور الجيولوجية؟

من المعلوم ان شعوباً مختلفة استوطنت (البحرين) وكذلك جزر البحرين. فمنذ آلاف السنين وقبل ميلاد المسيح تعاقبت على هذه المنطقة شعوب بعضها من اصل سامي والبعض الآخر يختلف المؤرخون في تحديد اصلها. فهناك من يرجع نسب ساكني بلدان الخليج إلى سام بن نوح (عليه السلام) معتمدين في ذلك على أقوال وحكايات دينية. ومن المؤرخين من يرجع نسبهم إلى اجناس مختلفة استناداً إلى عوامل جغرافية وأخرى لغوية أو عرقية. ومهما اختلفت الاقاصيص التاريخية فانه من المرجح حسبما ورد في كتب الاخباريين عامة ان ينتسب ساكنو (البحرين) إلى قبيلة معد بن عدنان التي إليها ينتمي عرب الشمال.

ولعل تلك الاجناس من الشعوب مجتمعة قد تركت لنا أكبر مقبرة في (البحرين) وماحولها بالساحل الشرقي لجزيرة العرب وساحل عمان، والتي يزيد عددها في جزر البحرين فقط على مائة الف مقبرة. واغلب هذه القبور المقببة ذات نمط واحد في بنائها وشكلها وطريقة دفن الموتى. ومقابر البحرين بانتشارها في رقعة واسعة نسبياً تختلف عن تلك المقابر الموجودة في وادي الرافدين أو في وادي الاندوس بالهند، وذلك بالرغم من وجود صلة حضارية بين (البحرين) والحضارتين المذكورتين منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، فهل (للبحرين) حينذاك حضارة خاصة بها؟ وفي هذا تشير التنقيبات الحديثة عن الآثار بان لجزر البحرين حضارة تعرف بدلمون والتي يرجع تاريخها إلى حوالي عام 2300 ق.م

حضارة دلمون "تلمون" كتب الدكتور جواد علي في الجزء الثاني من مؤلفه "تاريخ العرب قبل الإسلام" فصلا خاصاً عن حضارة دلمون ".. وورد في النصوص الاكدية والسومرية اسم موضع آخر له علاقة على رأي غالبية العلماء ببلاد العرب هو موضع (Ni-Tuk-Ki) (Ni-Kuk) وهو دلمون Dilmun أو تلمون Tilmun وقد نذكر في النصوص الآشورية كذلك. ويظن الباحثون انه (البحرين) أو البحرين والسواحل المقابلة لها. وقد اشتهر موضع دلمون بتمره ومعادنه مثل النحاس والبرنز وبأخشابه. وكانت به مملكة يحكمها ملك. وقد ذهب كرامر إلى أن دلمون هي الأراضي التي تقع في جنوب غربي إيران وتمتد من جنوب مملكة عيلام إلى ما يقابل مضيق هرمز، ودليله على ذلك ما ورد في نص سومري، من وقوع دلمون في المشرق حيث تشرق الشمس ولهذا وجب أن تكون هذه الأرض في شرق سومر، لا في الجنوب كما هي الحال بالنسبة إلى موقع (البحرين) أو السواحل المقابلة لها. وإذا اقترن اسم دلمون باسم "مجان" و "ملوخا" وورد في النصوص الآشورية أن هذه الأرضيين تقع جنوب بيت يكين Matu Bit-ia-Kim التي تقع جنوب سومر على ساحل الأنهر المالحة أي مياه البحر وهو الخليج فان هذا الوصف يحملنا على حد قوله إلى التفكير في وقوع دلمون في جنوب غربي إيران أي في السواحل الشرقية للخليج المقابلة للبحرين والعروض.

غير أن أكثرية الباحثين ترى- كما قلت- إن دلمون هي البحرين للإشارات الواردة في النصوص الآشورية التي تدل علي أنها كانت جزيرة تحيط بها المياه، وان ملكها كان يعيش كالسمكة في وسط البحر على بعد 30 بيرو وقد ذكرها سرجون 732- 705 ق. م وآشور بانيبال. ويفهم من أقوالهما أنها جزيرة في البحر. والمسافة التي ذكرها سرجون تكاد تساوي بعد البحرين عن فم نهر الفرات. وهذا ما يحمل على الظن أن المراد ب "دلمون" البحرين - وقد ورد في أخبار سرجون الاكدي انه غزى دلمون أضاف الأرضيين المتاخمة لها إلى مملكته. وان "جوديا" حصل على الخشب. فبعد أن تمكن سنحاريب من بابل ودكها دكاً عزم على ضم دلمون إلى مملكته، أرسل وفداً إلى ملكها يخبره أمرين: إما الخضوع ل "آشور" وإما الخراب والدمار. فوافق ملك الجزيرة على الاعتراف بسيادة سنحاريب عليه، أرسل له بجزية ثمينة. كذلك كانت هذه الجزيرة في عداد الأرضيين التي كانت خاضعة لآشور بانيبال.

ثم استمر الدكتور جواد علي في ذكر أسطورة "ارض الحياة" وكيف أن هذه الجزيرة تعتبر مدفناً لما جاورها من بلدان خاصة للمنطقة المقابلة لها والمسماة جرها Garrha وهي الأحشاء في الوقت الحاضر. ثم كرر الدكتور جواد علي الرأي القائل بان مقابر (البحرين) فينيقية، ولكنه لا يرجح صحة هذا الرأي وذلك لعدم وجود القرائن والمبررات الكافية لإثبات وجهة النظر هذه.

وبهذا يلخص العلامة جواد عقب أهم ما كتب في التاريخ القديم عن جزر البحرين. ومع انه يرجح وجود حضارة خاصة بالبحرين إلا انه لم يعين بالتحديد وجوه التشابه والفروق بين (البحرين) وجزر البحرين في الجزء الثاني من مؤلفه الذي نشره سنة 1953 ويتضح كذلك أن الدكتور جواد علي فيما كتبه عن دلمون لم يحاول أن يبرز العلاقة بين دلمون وبين كل من مجان (يرجح انه عمان حالياً) وملوخا الهند. وربما تكشف التنقيبات الجارية للبعثة الدانمركية في البحرين منذ عام 1953 وبلدان الخليج عن بعض الحقائق حول هذه التسميات ومواضعها الأصلية.

ولقد ورد في الجزء الثاني من مؤلف الدكتور جواد علي أيضا ما ملخصه أن: مجان هو القسم الشرقي من الجزيرة (جزيرة العرب) من أرض بابل إلى الجنوب وفي رأي "هومل" كذلك أن مجان كانت في المنطقة المسماة كا 22 كاحل وملوخا هو القسم الغربي من جزيرة العرب أو في القسم الشمالي الغربي منها ولكن نفس المصدر يذكر أن ملوخا تقع في المنطقة الواقعة إلى الجنوب من (البحرين) إلى عمان وقد اشتهرت ملوخا بوجود الذهب فيها وبالخشب الثمين. وبين هذه وتلك يرى "موسل" انه من الصعب جدا الاتفاق على موقعي (مجان) و (ملوخا) (1) لان مدلول الاسمين قد تغير مراراً. فالذي يفهم من النصوص التي تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد انهما موضعان يقعان في جزيرة العرب(2) على سواحل الخليج وعلى سواحل البحر الهندي.

ويتبين مما تقدم أنه حتى منتصف القرن العشرين كانت مجان في منطقة (البحرين) وان ملوخا في أمكنة مختلفة من جزيرة العرب وبدون تحديد غير أن تنقيبات البعثة الدانمركية للآثار قد استطاعت في السنوات القليلة الماضية أن تعين حدود دلمون التي كانت حاضرتها البحرين، وبذلك بدأت تكشف النقاب عن إمكانية علاقة (البحرين) بكل من مجان Magan و ملوخا Malukha.

وقد كتبت مجلة التايمز الأميركية في عددها الصادر في 18 أبريل 1960 تحت عنوان "المدينة.. موطن السوماريين" ما ترجمته: انه عندما ينظر المؤرخون إلى التاريخ القديم ليحددوا أول شعب متحضر فانهم يذكرون السوماريين الذين شيدوا مدينة ابراهام (في العراق قديما) حوالي 3000 ق. م، غير أن السوماريين حسب أساطيرهم يعودون بنسبهم إلى موطنهم دلمون التي منها نزحوا إلى العراق بعد "الفيضان" وقد قامت البعثة الدنمركية للآثار بتنقيبات في مقابر جزيرة البحرين أثبتت أن دلمون كانت بالبحرين. ودلمون كانت مدينة منيعة بحصونها، كما كانت منذ القديم الوسط التجاري بين حضارة وادي الرافدين وحضارة الاندوس. وفي المدة الأخيرة وجدت البعثة ختماً دائرياً بين بقايا حانوت نقاش قديم.

وهذا الختم الدائري هو المفتاح الذي استعانت به البعثة الدانمركية في التعرف على معالم تاريخ دلمون أي جزر البحرين. بل أن البعثة الدانمركية بمساعدة جوفري بيبي Geofry Bibby قد كشفت النقاب عن حلقات مفقودة من تأريخ البحرين، فأثبتت بصورة قاطعة أن تاريخ حضارة دلمون يرجع إلى عام 2300 ق. م كما بينت الحفريات الأخيرة في جزر البحرين وما جاورها من مناطق في الخليج حدود حضارة دلمون التي كانت تشمل الساحل الشرقي من شبه جزيرة العرب (وقد عرف هذا الساحل فيما بعد بالجرها Garrha والخط والعروض وهجر الممتد من جزيرة فيلكه(1) بالكويت إلى جنوب جزيرة البحرين. وهذا يعني أن مجان عمان حالياً لا تدخل ضمن حدود دلمون وكذلك فان ملوخا تكون خارج تلك الحدود).

واعتماداً على مذكرات هنري رولنسن H. Rawlinsun عن القبور الملكية في اور Ur من نتائج تنقيبات الكابتن ديوراند في جزيرة البحرين، هذا بالإضافة إلى تقارير البعثة الدانمركية في مجموعة Kuml يتبين انه في الألف الثالث قبل الميلاد كانت هناك حضارة خاصة بدلمون البحرين ومتميزة عن حضارة كل من وادي الرافدين بالعراق والاندوس بالهند. والحفريات التي تمت بجزر البحرين خلال الخمسينات الأخيرة تؤكد وجود تلك الحضارة بدليل قرائن رئيسية نذكر منها على وجه الخصوص

1-
المقابر المقببة: من المعروف لدى علماء الآثار أن المقابر الخاصة بحضارة وادي الاندوس توجد عادة في الحقول والمزارع خارج المدن حيث يدفن أو يحرق الناس موتاهم، وأما سكان وادي الرافدين بالعراق فانهم كانوا يدفنون موتاهم داخل البيوت حيث كانت توجد مقابرهم. ولكن سكان حضارة دلمون ومقابر جزر البحرين خاصة اتخذوا مقابرهم تحت التلال المقببة أماكن لموتاهم في غرف حجرية ذات نمط مميز كما سبق وصفه. ولعل آلاف المقابر المقببة التي مازالت قائمة اليوم عند قرية عالي هي ما تختص به دلمون عما جاورها من حضارات كانت الاتصالات بها وثيقة. 2- نوعية الفخار: من العينات التي حصلت عليها البعثة الدانمركية للآثار بجزر البحرين تبين أن شكل القلل والأواني الفخارية تختلف في نقوشها وأشكالها عن نظيراتها في حضارتي الاندوس ووادي الرافدين. وهذا دليل على أصالة صناعة الفخار في البحرين. ومن الجدير بالذكر أن هذه الصناعة لم تزل من الصناعات التقليدية المحلية في منطقة عالي أيضا وحيث تتمركز أكثر المقابر الأثرية. 3-الأختام الدائرية: يصف علماء الآثار أختام وادي الاندوس أنها ذات أشكال مربعة بينما أختام وادي الرافدين ذات أشكال أسطوانية. ولكن الأختام الفريدة التي وجدت بقلعة البحرين عند مدينة دلمون الأثرية وبأعداد كثيرة هي ذات شكل دائري خاص. انظر صورة هذا بالإضافة إلى ما عليها من رسوم ورموز مميزة لبيئة البحرين وأهمها نخلة التمر والغزال.

وخلاصة المطاف أن تاريخ البحرين يتأرجح خلال مختلف العصور في حلقات غير متصلة بين أسطورة "ارض حياة الفردوس " وبين بعض أختام دلمونية يرجع تاريخها إلى عهد باربار -المعبد الأول- حوالي 3400 سنة ق. م مصنوعة من حجر الأستيت ترمز إلى تجارة دلمون البحرية بالنحاس، وهي عبارة عن دعاء أو صلاة للآلهة (انان) آلهة الأرض عند سكان دلمون لحماية تجارتهم البحرية والعودة إلى الأرض.

ويرمز الختم الأوسط إلى نخلة وشخصين دلمونيين وهما ممسكان النخلة بيديهما والنخلة رمز (أنان) آلهة الأرض وشجرتها المفضلة. وممسكان النحاس باليد الأخرى وشخصان واقفان على قطعة من النحاس المصقول. وتبدو طريقة الرسم السومرية. كما يبدو الغزال وهو حيوان انان المفضل. والدعاء: أيها الآلهة انان -آلهة الأرض- باركي تجارتنا بالنحاس حتى نرجع إليك.

الختم مصنوع من الطين ومحفوظ في المتحف الوطني بالبحرين برقم 358 ويرجع تاريخه إلى المعبد الثالث والختم يرمز إلى تطور الحياة الموسيقية لدى حضارة دلمون حيث أن الموسيقار الدلموني يلعب على آلة القيثارة ذات الصندوق الموسيقي الكبير مع وجود صور عن الحياة الطبيعية الثور والغزال ويرمز الختم إلى مدى تطور الحياة الاجتماعية وخاصة فكرة الأمن والصداقة والمحبة لديهم انظر بحث. علي حبيب بوشهري 1980

الموجودات الأثرية التي عثر عليها ضمن حفريات البعثة الدانمركية بجزيرة البحرين، وبين تلك الأساطير وهذه النتف المتبقية من قطع العصر الحجري وأدوات العصر البرونزي يمكن القول بان ساكني منطقة البحرين كانوا من الصيادين ثم أصبحوا كذلك مزارعين(1). ومن الزراعة اشتهرت هذه المنطقة وخاصة في عهد الجرها بالتجارة ومقايضة مختلف البضائع مثل الأخشاب والذهب والنحاس، كما كانت تصدر اللؤلؤ إلى ما جاورها من أمصار.

وان البحرين كانت أرضا مقدسة ذات حضارة مستقلة في مقوماتها وخصائصها وأثارها. ومن الطبيعي أن يتمازج ساكنو البحرين قديماً مع غيرهم من شعوب الخليج شماله وجنوبه، وكان من نتيجة ذلك الاختلاط أن وردت إلى البحرين عدة طوائف وشعوب من الأمم التي خلفت وراءها آثاراً متباينة غمر التاريخ بين طياته العديد منها، والقليل الذي بقي طمسته الأتربة والتغيرات التي حدثت في منطقة الخليج. ولقد حاول أعضاء البعثة الدانمركية أن يعينوا معالم تلك الموجات البشرية من حاول ما درسوه من طبقات أرضية في قلعة البحرين الأثرية وما جاورها من قرى.

واستناداً إلى ما وجد من نوعية الفخار في كل طبقة أرضية وضع ترتيب زمني تقريبي يحدد بعض عصور تاريخ البحرين التي نوجز أهم تواريخها قبل الميلاد كالتالي:

1-
من 2459 إلى 2304 قبل الميلاد عصر الطبقة الأولى وتمثلها قلل الفخار ذات الأطراف التي على شكل سلاسل. 2- من 2303 إلى 08 31 قبل الميلاد عصر الاكاديين ويمثله فخار قرية باربار ذو الخطوط البارزة حول محيط الجرة. 3- من 1894 إلى 1165 قبل الميلاد العصر البابلي الأول والكيانيين (1) Kassite ويتمثل عصرهم بالقلل المصنوعة من الفخار العادي المحروق. 4- من 500 قبل الميلاد إلى بداية الميلاد وهو عصر الاخمينيين والسلوقيين ويمثله الفخار المصقول ذو الأشكال المختلفة.

ويلي تلك العصور حلقة بل حلقات أخرى مفقودة من تاريخ البحرين قبل الإسلام خاصة وهي الفترة التي كانت تشمل بضعة قرون من الزمان والتي لم يكن نصيب تاريخ البحرين خلالها أوفر مما سبق تحصيله.

ومسألة التمييز بين البحرين وجزر البحرين كما هي اليوم تكررت في كتابات المؤرخين الإخباريين والذين يشير بعضهم إلى تسمية جزر البحرين بأوال خلال القرن الثاني عشر الميلادي.

ومن مطالعاتنا لروايات الإخباريين ومقارنتها برحلات الجغرافيين العرب نستطيع أن نرجح بأن تسمية البحرين بجزرها الحالية قد بدأت قبيل منتصف القرن الثالث عشر الميلادي و كانت جزيرة البحرين بعد ذلك التاريخ تذكر كجزء منفصل عن البحرين الأم(2).

البحرين ولاية عربية منذ فجر التاريخ البحرين من خلال النقوش التاريخية البحرين ولاية عربية منذ فجر التاريخ(1) درس الدكتور كورنوال في كلية كندا العليا بتورنتو قبل التحاقه بكلية كنيسة المسيح في اكسفورد، ثم تابع بعد ذلك دراساته في جامعة هارفارد ، وقبل الحرب الأخيرة تنقل كثيراً في أوروبا والشرق الأدنى. وفى عام 1940 - 1941 قام تحت إشراف دائرة التاريخ الطبيعي للأجناس البشرية في جامعة كاليفورنيا ببعض الحفريات في البحرين والتنقيبات في الأحساء.

كتبت المؤرخة المفكرة الجليلة البيزنطية، الأميرة انا كومينيا، تقول: "إن الزمن في لدفقه العارم الدائم يحمل في فيضانه جميع المخلوقات ثم يغرقها في أغوار النسيان، سواء منها مالا يستحق الذكر على الإطلاق، أو المهم والجدير غاية الجدارة بالتقدير.. بيد أن رواية التاريخ تكون سداً مكيناً في وجه تيار الزمن، فتصد إلى حد ما من تدفقه العارم، وتحتفظ بكل ما يستطيع التاريخ انتزاعه منه، وتضم بعضه إلى بعض، تم تحول بينه وبين الانحدار إلى هاوية النسيان."

يتجلى سداد هذه الآراء بصورة خاصة عند التفكير في "ديلمون" فقد نشأت في أوائل الألف الثالث قبل الميلاد مملكة صغيرة عرفت بهذا الاسم ، وامتد وجودها زهاء 3000 سنة. كان أهلها من الساميين من أواسط الجزيرة العربية على الأرجح، وكانت تخومها لا تتألف من جزيرة ديلمون البحرين في العصر الحديث فحسب، بل من المنطقة التي تكون اليوم المنطقة الشرقية للمملكة العربية السعودية الخط والأحساء.

ومع ذلك فلولا وجود عدد من الكتابات المسمارية التي استخرجت من ما بين النهرين- وثائق من معاملات الملوك والكهان السومريين، ومكاتبات التجار، والتاريخ المدون عن حروب ملوك الآشوريين- لانطمس اسم ديلمون ذاته من ذاكرة الناس، ولما كان لنا هذا الفصل النادر الممتع بين الفصول التي تتكون منها الظلال الخلفية للعالم العربي، إذ أن الديلمونيين أنفسهم لم يتخذوا لهم سجلات حكومية، وحصولهم على محل في مجرى التاريخ يعود الفضل فيه إلى اتصالهم ما بين حين وآخر بسكان وادي الرافدين نجوى الثقافة السامية.

بدأت في أوائل عام 1930 البحث عن الكتابات المسمارية ودراستها التي عن ديلمون إشارة فيها. وكان بعضها على جانب من الخطورة والآخر تافهاً ثم تمكنت في سنة 1940- 41 من قضاء ستة شهور في البحرين والأحساء اشتغل بالحفر والتنقيب. فاستطعت على مهل، ضم ما حصلت عليه من المعلومات المتناثرة إلى بعض وتخطيط تاريخ لمملكة ديلمون وثقافتها المادية ومع بقاء جانب عظيم في طي الظلام فان ما نعرفه الآن عظيم الأهمية والدلالة.

إننا موافقون في أن بلاد الديلمونيين تحتوى على مخلفات كثيرة لحضارتهم، فقد كان محاربو القبيلة يدفنون بعد وفاتهم في اكام من الصخور والحصباء، وتجد آلافاً من هذه الآكام وتسمى عادة طعوساً(1) تغطي النصف الشمالي لجزيرة البحرين- كما تغطي بقعة أخرى في الجزيرة العربية ذاتها القريبة من البحرين، واقدم هذه الآكام مبينة حول مدافن. ولكنك تجد في الآكام الحديثة منها- ويعود تاريخها إلى العصر البرنزي المتأخر حجرات حسنة البناء مسقفة بصفائح هائلة من الحجارة ومغطاة بكميات كبيرة من التراب حتى تأخذ شكل التلال. في هذه الآكام وجدت عدا الهياكل العظمية أدوات وأسلحة من البرونز، وقطعاً من صناديق عاجية، وبعضاً من الفخار مما صنع على الدولاب أو باليد، ووجدت في إحدى الآكام قطعاً من سرير.

والبحرين تعرف اليوم بما فيها من احتياطي عظيم من الزيت الذي تستثمره شركة نفط البحرين ولكنها كانت حتى اكتشاف الزيت فيها قبل عقد من السنين بقليل تعرف بوجه خاص بلؤلؤها وتجارته، وبآكامها التي تسبغ عليها مظهر مدينة كبيرة من مدائن الأموات.

تبلغ مساحة البحرين 38 أميال في 10 أميال، اغلبها نجد قاحل من الصوان، وتقوم في طرف الجزيرة الشمالي أحراج جميلة من النخيل كما تقوم قصبتها الرئيسية، المنامة. على هذه البقعة الساحلية الخصبة المنخفضة، عاش اغلب أبناء الجزيرة منذ القدم فهناك مواقع والسعة لمساكن العهد القديم تنتشر فوقها آثار أبنية بدائية من الصوان وبقايا من الفخار والحلي الزجاجية . وفى هذه البقعة أيضا عدد من الآكام، ولكن القسم الأعظم منها يقع على المنحدرات الصوانية التي تبدأ جنوبي أحراج النخيل مباشرة وتمتد إلى حوض مركزي متفتت. وهذه الآكام مخروطية الشكل ويؤيد عددها علي خمسين ألفا، يتراوح ارتفاعها من 4 إلى 9 أقدام وقطرها من 10 إلى 34 قدماً عند القاعدة، بالرغم من وجود عدد قليل من الآكام الهرمية الضخمة على مقربة من قرية " عالي " يبلغ ارتفاعها 82 قدماً وقطرها 100 قدم.

ومنابع المياه العذبة تكاد تصل في روعتها إلى ما في الجزيرة من آكام، وهذه المياه ارتوازية ساخنة (85 درجة) وجريانها الثابت المطرد يجعل من شمال الجزيرة جنة من الحدائق، ولولا هذه المياه لكانت الجزيرة قاحلة جرداء. ومن الطبيعي أن تكون هذه الثروة العجيبة من المياه العذبة مثاراً للدهشة والروعة، دائماً لعدم وجود ما يضارعها في أي مكان آخر في هذا الجزء من العالم- ما عدا جزء في المنطقة الساحلية من الأحشاء. وهذه المياه كانت ولا تزال تعتبر مقدسة كمنحة من السماء في مثل هذه المنطقة التي تكون شمس الصيف فيها بهذه القساوة، وطيبات الحياة بهذه النزرة. ويبدو أن أهالي البحرين كانوا يتصورون يوماً ما أن هذه المياه تحملها من الفرات قناة تحت الأرض ولكننا نعرف الآن أن منبعها في الواقع في جبال طويق في وسط الجزيرة العربية.

قبل 3000 سنة قبل الميلاد نزل الشعب السومري الذي يكتنف الغموض ماضيه في وادي الرافدين، واستقر هناك. لم يكن هؤلاء الطارئون الجدد من الساميين، وكانت لغتهم مركبة الكلمات، فنشروا فن الكتابة وصناعة الزجاج الراقية، وكان انتشار الحضارة في الشرق الأدنى نتيجة لعبقريتهم لا يزال اصل هؤلاء السومريين مجهولا، بالرغم من وجود عدد من النظريات عنه. وإحدى هذه النظريات تقول انهم جاءوا من ناحية ما من إيران. وعلى أي حال فان هناك عدداً من علماء الآثار يرون أنه اقرب إلى الاحتمال أن يكون السومريون قد جاءوا إلى الخليج العربي من عمان أو من جنوبي الهند، وهذه النظرية لها ما يؤيدها، إذ انهم كانوا من أبناء البحار وأساطيرهم ذاتها تدل على انهم جاءوا إلى وادي الرافدين بحراً.

ويحتمل أن تكون ديلمون البحرين قد قامت في هذه الفترة بدور هام فأساطير السومريين تضفي ميزة كبرى على مكان ما يدعى ديلمون- وليس من شك في انهم كانوا يقصدون بهذا المكان بلاداً حقيقية. وكانوا يصفون هذا المكان بأنه بلاد الإلهين السومريين العظيمين، انكى Enki ونينخورساك Ninkhursag وذكر المياه العذبة في تلك البلاد التي تم تكوينها بإرادة الإله انكي، له دلالته، زد على ذلك أن انكي كما يقال قد فرض أن تكون "ديلمون" "دار الندوة" لجميع البلاد السومرية.

لهذا فمن الجائز أن يكون السومريون قد توقفوا في البحرين في طريقهم إلى وادي الرافدين وهو أمر طبيعي جداً، إن كانوا جاءوا إلى الخليج، حيث أن الجزيرة هي المحطة الملائمة في طريقهم بين عمان ووادي الرافدين بما فيها من مياه عذبة وبمينائها الطيب.

وعلى كل فليس من الممكن اتخاذ موقف إيجابي بالنسبة لهذه المسألة الهامة، ولكن الحقيقة هي أن الديلمونيين قد اتخذوا انزاك Inzak ولاخامون Lakhamun إلهين خاصين بهم يتعبدون لهما، وهما اسمان مهجوران لإلهين من آلهة السومريين.

يعود تاريخ أقدم نص تاريخي جاء ذكر ديلمون فيه إلى 3500 سنة قبل الميلاد تقريباً. كانت الجزيرة في ذلك الحين متصلة تجارياً اتصالا وثيقاً بالولاية السومرية لاغاش Lagash التي كانت ديلمون ترسل لها التمور والنحاس الخام- ولعل الأول مما كان يزرع في جزيرة العرب كما يزرع في البحرين، أما الأخير فيكاد يكون من المحقق انه مما كان يستخرج من مناجم ماغان Magan عمان في العصر الحديث؟. ثم حدث أول احتكاك لدلمون بالتوسع الاستعماري في ذلك الحين.

فقد قام في نجود سومر الشمالية الغليظة حوالي سنة 2360 قبل الميلاد ملك طموح بعيد الهمة، هو سرجون الاكدى Sargon of Akad فزحف صوب الجنوب وافتتح من دون هوادة الدويلات السومرية التي كانت تتألف كل منها من مدينة واحدة مستقلة، فتحها واحدة واحدة، ثم التفت صوب الشمال وصوب اليمين: فاجتاح عيلام Elam وسوريا النائية حتى غابات الأرز والجبال الفضية بعد ذلك، وكأنما كان يسوقه سائق إلى الحرب، شرع في إخضاع الجزيرة التي تقع نحو الجنوب في البحر الواطئ أما كيف هاجم ديلمون فلا نعرف عنه شيئاً، ولكن لوحة مسمارية تسمى أحيانا أطلس إمبراطورية لصرجون الاكدى تذكر ديلمون وماغان، البلدين الكائنين خلف البحر الواطئ، والبلاد من مشرق الشمس إلى مغربها التي افتتحها سرجون.. بيده.

من المحتمل أن حملة الاكاديين انحدرت بحراً فاجتاحت الجزيرة مستولية على ما فيها من مواد، وأجبرت الديلمونيين على تأدية يمين الولاء لسرجون، ومع ذلك فالظاهر أن ديلمون استعادت استقلالها بعد قليل من الزمن، وظلت دون أن يضايقها أحد حتى اضطرها إلى التسليم ملك مقاتل آخر من ملوك الاكاديين. يحتمل أن يكون حفيداً لسرجون.

ولما اقترب الألف الثالث قبل الميلاد من نهايته، اضمحلت معه قوة الاكديين، ولكن إمبراطورية جديدة كانت تنمو في ذلك الحين لتحل محلهم:

هي السلالة الثالثة في اور Ur وقد خلفت لنا هذه الإمبراطورية بعض الوثائق يظهر منها أن ديلمون كانت إحدى مقاطعاتها حتى 1987 قبل الميلاد على الأرجح. وعلى كل فمن المحتمل أن الوقت لم يكون على ما لا يهوى الديلمونيون، إذ يبدو انهم كانوا والسومريين دائماً على وفاق، وفى مقابل الولاء لهذه الإمبراطورية السومرية استفاد أبناء الجزيرة من دون شك، سواء بتنمية ثقافتهم المادية أو بزيادة إحساسهم بالاطمئنان.

أن معلوماتنا عن ديلمون خلال الجزء الأكبر من الألف الثاني قبل الميلاد ضئيلة جداً، فإحدى اللوحات تنبئنا أن سوموئيلو Sumu-ilu وهو أمير من أمراء لارسا Larsa التي ازدهرت حوالي 1820 قبل الميلاد قد أرسل بعثة تجارية إلى الجزيرة للحصول على الصخور والمعادن والخشب والعاج، ومن المحتمل أن يكون اصل الخشب والعاج من الهند. وكذلك بين أيدينا لوحة أخرى تعود إلى هذا التاريخ تقريباً ، وتتطلب انتباهاً خاصاً منا، لكونها اللوحة الوحيدة التي أمكن اكتشافها في البحرين حتى الآن. ونصها: قصر ريموم Rimum سادن انزاك Inzak وفارس اقاروم Agzrum واينزاك هو الاسم الذي يعرف به Nabu الإله الاشوري، بين الديلمونيين، أما اقاروم فلا بد وان يكون اسم قبيلة عربية كان ريموم شيخا عليها ولا يبعد عن الاحتمال إطلاقا أن ريمو كان في الواقع ملكاً على ديلمون فذكر القصر يدل على ذلك بينما إغفال لقب الملك غير ذي أهمية، فالشيخ العربي بالأمس -كما هو اليوم- على استعداد لتسمية نفسه ببساطة ملؤها الفخر فارس القبيلة.

وعلى توالي القرون أخذت قوة جديدة- هي آشور تتحرك بأعصاب متوترة، وتكافح في سبيل السيادة في الشرق الأدنى، فقد بدأ أحد ملوك الآشوريين وهو توكولتي- اورتا Tuklti-Urta يطالب بالسيادة على ديلمون منذ سنة 1260 قبل الميلاد، ولعل هذه الدعوى الآشورية لم يكن لها من سند سوى ما كان يرسله أبناء الجزيرة من الهدايا.

وعلى كل فقد اخذ الإرهاب الآشوري المتزايد يهوى قاسيا في اسكن الثامن قبل الميلاد على رؤوس البلاد المجاورة جميعها، وباللجوء الوحشي للحرب واستعمال سياسة القوة، دفعت آشور جاراتها، واحدة بعد أخرى، أما إلى التسليم والقسم بالآلهة العظمى على الولاء لها وأما على مواجهة التدمير والإرهاب حسب خطة موضوعة. وهذا الاستعمال الوطني للعنف كان من نوع وعلى مقياس لم يعهد لهما ضريب حتى ظهور ألمانيا الهتلرية. أن تاريخ الحروب الآشورية يقطر دماً، فقد كانت لكل ملك من ملوكها قوائم بالمدن التي كما يقول أحدهم دمرتها، وخربتها، أحرقتها بالنار وبالقبائل التي أبيدت برمتها، أو كما يقول أحدهم قطعتها إرباً إرباً.. أطعمت أجسادهم التي بترت أعضاؤها للكلاب، والخنازير، والذئاب، والعقبان، والى طيور السماء واسماك البحار.

كانت الجنود الآشورية مسلحة ومدربة على احسن ما يرام، فلم تتوان في اجتياح الصحراء العربية الواسعة خلف البدو، أو في مهاجمة أهالي الجبال في معاقلهم، فاستولت على الشرق الأدنى موجة من القلق والتشاؤم، إذ أصبح من الجلي أن آشور ما كانت تهدف إلى ما دون الانتشار الواسع والسيادة المطلقة.

وتدخل القدر بصورة غير متوقعة فإذا جزيرة ديلمون الصغيرة لم تنج أن تكون ضمن الضحايا الكبرى، على الرغم من بعدها واكتناف الماء بها. فسرجون الآشوري 733-705 قبل الميلاد ، وقد تسمى باسم سرجون الاكدى الذي كان يعيش قبله بألف وستمائة سنة، يهوى تقليد سميه في كل شيء مهما دق وصغر، ولما كان يعرف أن لصرجون القديم قد فتح ديلمون فقد تطلع هو أيضاً إلى بلوغ تلك الغاية، زد على ذلك أن الجزيرة كانت مرموقة من الوجهة التجارية فمن يستولي عليها يسيطر على الطريق البحري الجنوبي، بالإضافة إلى بسط سيطرته العامة على الأقل على القسم الشمالي من الخليج العربي.

وتجاه هذا التهديد من الشمال لم يكن لدى الديلمونيين سوى ورقة واحدة يلعبون بها، هي ضعف آشور البحري، فلم يكن للآشوريين أسطول خاص بهم، بل كانوا في الواقع يخافون الخليج العربي الذي كانوا يسمونه أحيانا "البحر المخيف". فلذلك لم يضطلعوا بإرسال حملة بحرية على ديلمون.

ولكن آشور حاولت بالتهديد والضغط الاقتصادي أن تسيطر على ديلمون، فكانت توفق من حين لآخر في استخلاص إتاوة من أبناء الجزيرة. فالنقوش من عهد سرجون تذكر أن "اوبرى Uperi ملك ديلمون الذي يعيش كالسمكة على بعد ثلاثين ساعة ومثلها معها، وسط البحر في مطلع الشمس، قد سمع عن قدرتي العظمى فحمل إلي هداياه." ويخبرنا سنحاريب Sennacherib بن سرجون انه عندما خرب بابل تخريباً تاماً سنة 689 قبل الميلاد أرسل بعض أنقاض المدينة إلى ديلمون ويزيد "أن الديلمونيين نظروا إليها فاستولى عليهم الخوف والهلع من آشور فجاءوا بذخائرهم إلى آشور وأرسلوا مع ذخائرهم الصناع، جمعوهم من هنا وهناك من بلادهم، وعجلات نحاسية، وأدوات نحاسية واوان من صناعة بلادهم.

ثم حان الوقت الذي حصلت فيه آشور على أكثر من جزية طارئة، فقد أصبحت ديلمون في عهد آشور بانيبال Ashur Banibal مقاطعة آشورية.أما كيف حدث هذا فلا نعرف عنه شيئاً، ولكن من المحتمل أن التسليم لم يزد كثيراً على كونه اسمياً فقط، إذ لا دليل على إنزال حامية آشورية في الجزيرة.

وأخيراً جاء اليوم الذي تنال فيه آشور جزاءها. فمنذ عهد آشور بانيبال كان هناك تصميم على الثورة بين الكلدان والقبائل العربية، ويبدو أن للديلفونيين يداً فيها، فقد جمع أحد زعماء الثورة كنزا في الجزيرة. لقد أخمدت آشور الثورة بقسوة دامية، ولكنها مع جبروتها سقطت إلى الأبد سنة 605 قبل الميلاد بين أفراح الشعوب التي سخرتها كل هذه المدة الطويلة.

البحرين ولاية عربية منذ فجر التاريخ

البحرين من خلال النقوش التاريخية البحرين من خلال النقوش التاريخية(1) تقص علينا الحكايات المحلية بأنه في غابر الزمان كان زعيم يدعى ابن حكيم يقطن القطيف فجاء إلى البحرين وهو يرغب في الزواج من ابنة جميلة لرئيسها ويبدو انه لا الحسب ولا المال كان مرغوباً فيهما، إذ قوبل طلبه بالرفض والازدراء. فما كان من زعيم القطيف إلا أن أشعل نار الحرب. وبقلب ملؤه الكره قطع عن أهل البحرين الماء بقصد إكراههم وقهرهم عطشاً فتسبب في ردم ثلاثة آبار: واحد في عالي والآخر في الباود القديم والثالث في الدراز.. ولكن ذلك الغازي رد على أعقابه بعد حين واضطر للتراجع بعد هزيمته.

والبحرين مشهورة بمياهها الفياضة.. إذ يقول بلينى Pliny وهو المؤرخ الإغريقي أن العرب هناك كانوا يعتقدون بأن العيون في البحرين تنبع مياهها الباطنية من مجاري نهر الفرات .. ومن معالم البحرين كذلك القبور المقببة والمنتشرة بكثرة من السواحل حتى هضبة الرفاع.. ومن البلاد القديم أيضاً باتجاه الشمال الغربي من الجزيرة ثم تتكاثر عند قرية عالي.. ونعرف كذلك بأن البحرين قد حكمها عدد من الشعوب كالفينيقيين والبابليين والفرس والعرب والبرتغاليين.

وتكثر في البحرين المساجد على اختلافها، والتي وجدت في بعضها أحجار منقوش عليها كتابات عربية بالأحرف الكوفية والمسمارية كالتي توجد في مسجد الخميس بالبلاد القديم.

وأخيراً أبلغني أحد الناس عن حجر عليه كتابة لا يعرف نوع كتابتها أو قراءتها فذهبت إلى ذلك الحجر المطمور في أرض "مدرسة الداوود" بالبلاد القديم. وهذا الحجر من البازلت الأسود، ويشبه في شكله مقدمة السفينة أو لسان الحيوان، وهو بطول قدمين وبوصتين كذلك. وبالرغم من قداسة ذلك المكان الذي وجدت الحجر فيه، فإنني لم أواجه أية صعوبة في الحصول عليه وذلك بعد أن أخبرت "الملأ" بأن ذلك الحجر يخص عبدة النار وانه بمثابة صنم لا يناسب المكان المطمور بأرضه. ولكي ادعم كلامي ووجهة نظري تبرعت ببضع روبيات لترميم مسجدهم.. فما كان من الشيخ "الملأ" واسمه أحمد إلا أن أرسل أحد عبيده ليحفر الأرض وينقل ذلك الحجر إلى منزلي. ومن الواضح أن لهذا الحجر خصائص تتميز بالكتابة المسمارية التي كانت عند بابل وآشور... كما أن قسماً من تلك الكتابة كانت تشبه الأحرف الهيروغليفية.

تعليق السير رولنسون؟!

أن ما اكتشفه الكابتن ديوراند يعطينا فكرة عن الأهمية التاريخية للمناطق البحرية ونشاطها الحضاري عن طريق الملاحة. فمثلا يقر البابليون والذين قد أعطوا الكثير للحضارة، بأنهم أنفسهم قد اخذوا اغلب معارفهم من سكان جزر عجيبة تقع في خليج فارس وتتحدث حكايات الأقدمين عن اوانس Oannes "اله السمك" الذي جاء من وراء البحر الارثيري - المجاور لحدود بابل- وهو الذي علم أهالي ما بين النهرين دجلة والفرات الحروف اللغات والعلوم والفنون من كل نوع وقد كان ذلك في فجر الحضارة.

ومن الكتابات المنقوشة يبدو أن Oannes كان هو "خالق البشر رب المعرفة" God of Knowledge وسيد الشعوب القديمة الأولى مثل ايريد Erid وسورباك Surippak وكلخا Khalkha وغالباً ما يعرف اوانس Oannes باسم The God of the House of Water أي رب مملكة الماء بالنسبة لأهمية هذا الاسم حاولت منذ سنوات مضت أن اقترح له لقباً ذا قيمة لغوية فأسميته "هيا Hea" ثم أصبح هذا اللقب مناسباً ومقبولا يستخدمه الدارسون.

والسؤال الرئيسي الذي يفرض نفسه هو التالي: من هم أولئك البدائيون "آباء المعرفة" الذين كانوا أول من أتى بالحضارة ونقلها إلى المقيمين عند ضفاف دجلة والفرات؟ ومن هم أولئك البدائيون الذين حفظت "ذكراهم كذلك أساطير" جنات عدن Garden of Eden وشجرة المعرفة The Tree of Knowledge وحسب تقديراتي الكلام لرولنسون ستطيع أن اقرر بأن أولئك البدائيين كانوا هم الجنس الأسود (Dark Mark) أي أجداد أصحاب الرؤوس السوداء The Black Heads - وربما كانوا هم بنو آدم الأول المذكورين في سفر التكوين. ومن المعلوم أن أولئك الناس لا ينتمون إلى الساميين، لأنه لا يوجد في أساطير وجغرافية منطقة الخليج و البحر الارثيري ما يدل على صلة لهم لا بالعبرانيين ولا بالعرب.

ولكن اعتماداً على نوعية لغتهم فان هذا "الجنس الأسود" قد ينتمي إلى الاكاديين في بابل. ومن جهة ثانية يمكننا أن نربح بأن سبقهم قبل غيرهم إلى الرقي والحضارة يعود الفضل فيه إلى مركز بلادهم الممتاز بتوسطه ووقوعه على الطريق الكبير بين الشرق والغرب. وفى هذا نلاحظ أن التجارة كانت دائماً تصقل الذكاء وتمهد الطريق الرائدة إلى تحقيق وبلوغ الحضارة. ولعل هذه هي نفس العوامل التي جعلت الفينيقيين يغزون الأوربيين بتقدمهم في عصر فجر التاريخ، وذلك عن طريق نشاطهم في حوض الخليج الفارسي. ومن الجدير ما لاحظته هنا انه منذ الأزمنة الغابرة وحتى في عهد الاسكندر الكبير كانت إمبراطورية التجارة متمركزة في خليج فارس وليست في الساحل الجنوبي لجزيرة العرب ولا في البحر الأحمر، وذلك للأسباب التالية:

1-
في المرحلة الأولى من نشوء الملاحة لم يجرؤ البحارة على عبور مياه المحيط الهندي بصورة مباشرة من ملبار إلى عدن، بل كان البحارة مضطرين للإبحار بمحاذاة الساحل من مصب نهر الاندوس إلى مدخل الخليج الفارسي. 2- أن الخليج الفارسي برياحه المتغيرة قد كان انسب للملاحة من البحر الأحمر الذي تهب رياحه بصورة مستمرة ولمدة تسعة أشهر في اتجاه واحد، ثم تكون في اتجاه واحد معاكس لمدة ثلاثة أشهر أخرى. 3- أن وادي الرافدين والحدود الشمالية للجزيرة العربية حيت طريق القوافل من الجرهاء، مثلا إلى تدمر لها مميزات كبيرة في النقل البري إلى الجهات الغربية، وهي بلا شك ممرات أفضل من وسط الجزيرة العربية المقفرة الحارة.

ولهذه الأسباب وتلك العوامل مجتمعة يعود الفضل في الاحتفاظ بمركز رئيسي في التجارة والملاحة لكل من ملوخا Milukh ومجان Magan وكذلك لاوقير Oqeir يقصد بها العقير -المترجم- والجرهاء Garrha والتي جميعها قد اندثرت فخلفتها على التوالي كل من قيس Keis وهرمز Ormuz والبصرة Bassorah.

ولكن عبادة "هيا" Hea أو نبتون Neptune اله البحر عند الرومان لم تكن الوحيدة من نوعها التي ادخلها أصحاب "الرؤوس السوداء"،البدائيون في حياة بابل. فخليج فارس كان أيضاً مشهوراً بعبادة الشمس. ولكون عطارد اقرب السيارات إلى الشمس، فان عطارد (وهو اله التجارة والفصاحة عند الرومان) كان يعبد في البحرين لما له من صلة وثيقة وذلك حسبما تم الكشف عنه من تاريخها. وبالنسبة إلى عبادة الشمس فانه تجدر الإشارة إلى ما أفاد به قواد الاسكندر بأن جزيرة اكاروس Icarus التي تقع في الطرف الشمالي من الخليج الفارسي شمالي جزيرة فيلكة الحالية ،كانت مقدسة لابولو Apolo وديانا Diana وفى نفس الموضوع أفاد بطليموس Ptolemy أن تلك العبادة كانت بمحاذاة ساحل الجزيرة العربية من الجهة الجنوبية. وبالإضافة إلى ما ذكرنا من فقرات فان الخط المسماري خير قرينة للدلالة على وجود صلة بين عبادة الشمس وجزيرة نيدوكي Niduk-ki أي البحرين. وهناك كذلك رحلات ازدوبار Izdubar أو على الأرجح مغامرات اندبار الهندي Indubar the India، والذي كان ينتمي إلى عصر البدائيين في مستعمرات البابليين، فهو بكل تأكيد يرمز إلى أسطورية عبادة الشمس، ولذا يمكن اعتباره كمؤشر لأصالة هذه العبادة في تلك الأماكن.

وأما فيما يتعلق بعطارد فان الأدلة على وجود عبادته متوفرة بكل تأكيد.. ذلك أن الكتابات المنقوشة، والتي اكتشفها الكابتن ديوراند على الحجر الأسود الشهير بالبحرين، هي السند الأساسي في دراسة هذا الموضوع ومناقشته " وعلى ذلك الحجر الأسود قد كتب بالهيرية البابلية Herieratic Babylonian وهى كتابات كهنوتية ذات أشكال ابسط من الهيروغليفية -المترجم (ما يمكن ترجمته كالتالي: Hekal Rimugas ،eri- Inzak ، Agiru أي هذا قصر ريموقاس خادم عطارد ومن قبيلة عقير Ogyr ومن الجدير ملاحظته أن الاسم ريموقاس Rimugas هو من اصل آكادي من الناحية اللغوية ، فان الكاسعة أي المقطع اللفظي المضاف في المؤخرة وهى هنا اس (S) سمة بارزة في أسماء "ما قبل اللغات السامية". أما انزاك Inzak ذو المقطع الثنائي لغوياً فانه اسم آكادي للإله Nebo أو Mercury عطارد والذي كان يعبد في البحرين كما أسلفنا.

وبالإضافة إلى ما سبق ذكره من العبادات فان الإغريق من أيام الاسكندر يروون لنا عن أهم عبادة كانت في منطقة الخليج الفارسي وهي عبادة الآلهة فينوس Venus آلهة الحب والجمال وهي ذات علاقة بعطارد Mercury أو انزاك Inzak والذي كانت زوجته في بابل تعرف باسم تاسميدت Tasmit ولكن هذه الأخيرة كانت تذكر في النقوش التي تحدثنا عنها آنفاً باسم لاكامون Lakhamun وهي بدورها ذات علاقة باسم زيرو- بانت Ziru-Paint والتي يرجح أنها كانت زوجة مروداش Merodach، وقد كانت هذه الأخيرة كذلك هي القديسة الحارسة لبابل - وفي هذا كله شيء من التداخل والغموض بين اسم زوجة مروداش Merodach واسم زوجة نيبو Nebo أو بالأحرى زوجة عطارد Mercury واللذين يتكرر ذكر اسميهما مقرونين بالزوجة Pap-nun ولكن هذه الأخيرة لها علاقة كذلك بزيرو بانت وتاسميت.

والذي يهمنا هنا هو أن رسم النقوش الكتابية لاسم لاكامون Lackmun لا يوجد في أي فقرة أخرى عدا الكتابة التي تذكر اسم -فينوس البحرين The Venus of Bahrain... وهذه الحقيقة اقل ما يمكن أن نقول عنها هي أنها رائعة بلا شك، ذلك بسبب شمولها وتكاملها بالنسبة إلى ما لدينا من مجموعة الأساطير المختلفة وأهمية هذه الحقيقة تزداد حينما نعرف أن اسم لاكامون Lackmun يتكرر ذكره مراراً وهو مقرون باسم الأم الكبيرة "Great Mother" أو بالعنصر الأساسي الأنثوي للطبيعة The Female Principle of Nature وهذا يناسب تماما علاقة اسم زيرو- بانت Ziru-panit بنيدوكي Nidukki أي البحرين كما سبق أن ذكرناه. ولهذا كله أستطيع الكلام لرولنسون أن اقرر بأن لاكامو Lackamu ولاكامون Lackamun هما شكلان أو صورتان لاسم واحد، واقرر كذلك بأن القديسة أي زيو- بانت الحارسة للبحرين هي نفسها الآلهة التي كانت تعبد فيما بعد في بابل وذلك بأشكال من أسماء ثلاثة هي:- زيرو بانت Ziru-panit زوجة ميروداش Merodach تاسميت Tasmit كان زوجة نيبو Nebo *جولا Gula زوجة نينيب Ninip وعلى أية حال فان صفات جولا Gula والتي كان يرد ذكرها مقروناً باسم لاكامو Lackamu وهو العنصر الذكر للطبيعة The Male Principle of Nature تناسب تماماً آلهة البحرين ، وذلك للأسباب التالية:

1-
أن الأم الكبيرة The Great Mother أي امو الجدات Ummu-alidat بمعنى المولودة الأصل (Genetrix) (هي ذاتها آلهة أصحاب الرؤوس السوداء أي الجنس الأسود). 2- أن تلك الأم الكبيرة هي كذلك ملكة الآلهة بالكرك جزيرة قديمة يرجح أنها مقابل المحمرة بمدخل الفرات (المترجم The Queen of Karrak والتي كانت تبارك أيضا القبور Abrikat Arali) 3- وهي كذلك الملكة الآلهة للحياة The Queen of Life والتي تبعث الموتى، وبذلك تكون سيدة النشور... ولهذا فهي الآلهة التي يرغب أصحاب "الرؤوس السوداء" أي الاريثريين Erytheans أن يدفنوا عند مزارها محرابها المقدس تماماً كما يرغب اليوم الفرس اتباع الأماكن المقدسة Seataries أن يدفنوا بالنجف في كربلاء، وذلك لكون المكان في وادي السلام Wadi-as-Salam وما جاوره هو المقام المقدس الذي سيكتب لهم فيه الحساب. ويمكنني الحديث لرولنسون أن اذكر حادثة أخرى مماثلة تفسر وجو القبور بكثرة في وركا Warka أو حوروك Huruk وذلك لنفس السبب أي لكونها مزاراً أي مقاما مشهوراً للآلهة عشتار Ishtar والتي تمثل أيضا قوة الإخصاب والإنتاج في الطبيعة The productive power of nature والتي يرجح أنها في مقدمة القوامين بأمر الانبعاث.

والى هنا يصبح من الضروري علينا أن نأخذ بعين الاعتبار العامل الجغرافي وعلاقته الوثيقة بالعامل الأسطوري إذ بدون هذه العلاقة وتلاحمها لا يمكن تفسير أو معرفة أحد العاملين معرفة ذكية معقولة إلا بدراسة العامل الآخر دراسة مستوفاة. وليكن معلوما هاهنا انه منذ بداية تاريخ الكتابات المنقوشة الآشورية حتى نهاية آخر فترة من عهودها كانت هناك على الدوام إشارة إلى اسم جزيرة تدعى نيدوكي Niduki باللغة الآكادية وكذلك باسم تلوون أو تلمون أي Tilvun or Tilmun باللغة الآشورية. وان هذا الاسم الأخير غالباً ما لينطبق على اسم البحرين بدون أي شك. كما يقترن هذا الاسم "تلمون" باسمين آخرين هما ميلوك Miluk ومجان Makkan مما قد يدل على أن أماكن هذه الأسماء الثلاثة كانت متجاورة. وفي الوقت الحاضر تعرف أن معنى ميلوك Miluk ومجان Magan هما "العلوي" Upper والسفلي Lower على التوالي. وهذا ما يتفق عليه العلماء المختصون في تاريخ الآشوريين ولغاتهم Assyriologists ، فهم عندما يدرسـون مصر، مثلا، يشيرون إلى الإقليم العلوي مصر العليا فالإقليم السفلي مصر السفلي أو وصفهما معاً في لفظة ثنائية باسم واحد Marraim وعلى غرار ذلك كانت توجد ميلوك ومجان "غربية" وأخرى "شرقية" كميناءين في الخليج الفارسي، واللذين كانا مجاورين للبحرين.

أن اسم نيدوكي Nidukki قد ذكر لأول مرة في أعمال التنجيم والتي لم تذكر في حينه لفظة آشور لأنها سبقت نشوء الإمبراطورية الآشورية نفسها.. وكل ما ورد هو أن نيدوكي كانت تقع في مكان ما شرقي بابل. وفي الكتابات الأسطورية يتكرر ذكر نيدوكي Nidukki مقروناً بالجبل الكبير للإله بعل The Great Mountain of Bell، وعلاقته بالثور الخرافي Bull الذي بدوره له صلة بعبادة الشمس، وكل تلك الارتباطات تشير إلى اسم نيدوكي Nidukki جهة "الشرق" عامة.

وفي سياق ذلك الأسلوب الاستطرادي المثير ترد أول إشارة عن حكاية نيدوكي Nidukki ضمن لوحة تروي أعمال سرجون الكبير Sargon the Great وذلك حوالي 1600 ق. م حيث نجد وصفاً عن بلوغ ذلك الملك إلى البحر الأدنى أو بالأحرى وصوله إلى خليج فارس وان سرجون الكبير قد اخضع تحت سلطته كلا من نيدوكي Nidukki (أي البحرين) وميناء آخر لم يذكر اسمه تماماً... ونظراً للارتباط الوثيق بين اسم نيدوكي واسم تلمون فانه من الضروري أن نشير إلى الفصول الشهيرة من وقائع السجلات التاريخية لسرجون الأصغر The Younger sargon التي تصف إخضاعه لاوبير Hupir ملك جزيرة البحرين والذي كان هذا الأخير يعيش كالسمكة في الماء وعلى مسافة 30 كاسبو Kaspu أي حوالي ساعتين بما يساوى 210 أميال من مدخل نهر الفرات.

وفي كتابات الجغرافيين العرب الأوائل مثل الاصطخري وابن حوقل واتباعهما توجد ثلاث جزر كان يتكرر نذكرها ضمن خليج فارس وهي: خرك Kharak ولافت Laft وأوال Awal وهي حديثاً ما تعرف بأسماء كرك وقشم والبحرين على التوالي. ولكن المناطق الداخلية والساحلية التي يرد ذكرها مع اسم البحرين كانت جميعها تسمى هجر Hajar وهذا الاسم كما يبدو كان عاصمة لجزيرة كبيرة والتي من المحتمل أن تكون البلاد القديم Bilad Kadim من معالمها. وإذا عدنا إلى النقوش الكتابية التي وجدها الكابتن ديوراند على الحجر الأسود في البلاد القديم بالبحرين يمكننا أن نجزم بأن القبيلة الرئيسية التي استوطنت تلك الجزيرة وما جاورها من مناطق هي قبيلة عقيرو Aqiru وهذا الاسم يشابه ما أشار إليه الإغريق باسم عقير Uqeir أو نظيره عجير Ojair وموقع عجير مقابل الجرها

أسطورة دلمون "البحرين" توطئة: قبل أن يطالع القارئ ترجمتنا لأسطورة تلمون "البحرين" من كتاب "ما قبل الفلسفة" لمؤلفه فرانكفورت لا بد من توضيح نقدمه حول هذه الأسطورة التي نقتبسها في فصل من هذا الكتاب وهو يبحث في الكون كدولة The Cosmos as a State.

وفي هذا نلاحظ أن سكان وادي الرافدين كانوا يرون الكون في انتظام إرادة أو مجموعة إرادات موحدة... وان الإنسان في ذلك الكون ضعيف بالنسبة للخالق غير المنظور... وما كينونة الإنسان الأول إلا نتيجة لانتظام عدد من القوى الممكنة والفاعلة أيضاً.

ومن بين تلك القوى المتمثلة في عدد من الآلهة نذكر:- القوة الممكنة في السماء SKY ويرمز لها ANU هي في قوة السلطان Authority القوة الممكنة في الريح Storm ويرمز لها ENLIL هي في قوة العاصفة Force القوة الممكنة في الماء Water ويرمز لها Enki هي في قوة الخلق Creativity.

ملاحظة: يعتبر انكي سيد الأرض، ومصدر الذكاء والفهم... وانكى سيد المناعة بخبرة وحكمة.

ملاحظة: يعتبر انكى سيد الأرض (Ninhursga)wi ومصدر الذكاء والفهم وانكى سيد الإخصاب Fertility ومن الإخصاب تنبع الولادة وهذه الأخيرة هي سر الحياة! وهكذا نرى الأرض "كأنثى" ساكنة ومستقبلة للإخصاب ومنتجة للعطاء بينما الماء كذكر فيه خلق وهو متحرك يجري بإرادة ولتحقيق غرض ما. وما أسطورة تلمون إلا حكاية تدور حول التفاعل بين الأرض التربة والماء... في تمازجهما وحدة... اصل الكون.

أسطورة تلمون

"
أسطورة نشـوء الكون في تزاوج الأرض بالماء"

لا تحاول أسطورة تلمون أن تفك معضلة أو تحل مشكلة حياتية، فالغرض من هذه الأسطورة هو تقصي وحدة عليا A Casual Unity! وهي بذاتها قصة وحدة الوجود بظواهرها العديدة المتباينة، والتي ترجع في اصلها المشترك إلى صراع بين طبيعتين هما الذكر والأنثى أي ربما بين آدم وحواء.

وأسطورة تلمون تحكي لنا قصة معركة الارادات بين انجذابها مرة وتنافرها مرة أخرى وهي كذلك حكاية صراع واختلاف بين الأرض الأم نينهرساجا Ninhursaga وانكى Enki المياه الآسنة. وتبدأ حوادث هذه الأسطورة على أرض جزيرة تلمون وهي البحرين الحديثة في خليج فارس. وهذه الجزيرة كانت قد منحت للإلهين انكي ونينهرساجا معاً وذلك عندما قررت الآلهة في فجر الخليقة أن تقتسم هذا الكون فيما بينها.

وبإيحاء من نينهر ساجا ونزولا عند رغبتها يمد انكي جزيرة تلمون بالماء النقي فيسيله بأراضيها رقراقاً، ثم اخذ انكي يطلب ودها ويخطبها لنفسه. ومع أن نينهرساجا في البداية تتمنع عنه، تعود في نهاية الأمر فتقبله يلقحها فينجبان ابنتهما نينسار Ninsar آلهة النبات، وهي التي قد ولدت من تزاوج التربة أي الأرض نينهر ساجا بالماء وهو الإله انكي.

تلك بداية البداية. ولكن بما أن مياه الفيضان لتدفق سنوياً إلى مجرى النهر وقبل أن تنمو النباتات وتستوي عن عودها، فانه ليس من عادة انكي أن يمكث مع نينهرساجا كزوج.. فتراه يسيل ويجري مبتعداً عنها قبل ولادة آلهة النبات. وفي آخر فصل الربيع تتكاثر النباتات وتتجمع حول الأنهر، وتفد نينسار Ninsar بدلالها النضر إلى حافة النهر حيث كان انكي هنالك كذلك. بيد أن انكي يرى في آلهة النبات فتاة أخرى يافعة، فيراودها ويضاجعها.. ولكنه يستمر في جريانه كعادته فلا يمكث للعيش معها.. وتنجب آلهة النبات بدورها وليدة، تشبه فيما نرجح "الخيوط الليفية" التي بها ينسج الكتان. ونحصل على مثل هذه الخيوط عادة بنقع النباتات في الماء حتى تتهرأ منها مادة لينة، فلا تبقى إلا أجزاء الخيوط المتينة. وهذه الأخيرة هي بمثابة "الطفل المولود" من تزاوج النباتات مع الماء.

وهكذا تتكرر الحكاية نفسها بين جريان وتزاوج وتوالد... فآلهة "الصباغة" والتي بها تلون الثياب تولد بنفس الطريقة... وبعدها كذلك تنجب بدورها اوتو Uttu آلهة "الثياب والنسيج" والى هنا تعود نينهر ساجا Ninhursaga فتدرك ماهية أنكي وطبيعته، فتحذر وتنذر بذلك اوتو Uttu وبالرغم من ذلك التحذير تصر الآلهة اوتو على الزواج من انكي. فتهيم به ليجلب لها انكي هدايا من القثاء والتفاح والعنب - ويبدو أن تلك الهدايا كانت من تقاليد مهر الزواج حينذاك بين الآلهة - وبذلك ستكون له زوجة. ويستجيب انكي لطلباتها، ويتقدم طالباً يدها. وحينما يقف كالمعتاد بهداياه عند بابها... تستقبله اوتو Uttu بكل فرحة وابتهاج وتدخله بيتها... فيسقيها انكي منه خمرة حتى ترتمي اوتو ثملة نشوى... فيقضي منها وطره. عند هذه النقطة تتخلل الأسطورة فجوة تلقى بظلام علي سياق حوادثها.

ثم يبرز إلى الوجود ثمانية من الآلهة والتي لم تعلن نينهر ساجا "الأرض الأم" بعد عن أسمائهم ولا عن طبيعتهم حتى ولا تذكر لهم أوصافاً بها يعرفون. وفيما هي حيرى، تكتشف نينهرساجا أن كل ذلك كان قد حدث بفعل انكي وحده... ثم أخفى فعلته وابتبع تلك النباتات بداخله.وبسبب ذلك التجاهل بنينهرساجا والاستخفاف بها تشتعل نار الكره في نفسها فتلعن انكي "اله المياه .. وبتلك اللعنة الكبيرة" من الأرض الأم يمرض انكي، وتحجب المياه النقية 5000 بل تودع في بواطن الأرض المظلمة فتسبب موتاً بطيئاً للحياة... ومع حلول فصل الصيف تجف العيون والأنهر... فلا ماء... ولا حياة أو كذا كادت تكون... عندئذ تنتفض جميع الآلهة وتنزعج... وهنا يخرج الثعلب إليهم ويعدهم بأنه سيرضي نينهرساجا ويعيدها إليهم. ووفى الثعلب بوعده، وعادت نينهرساجا وقلبها الطيب كله رقة وشفقة... فتداوي انكي المريض وتشفيه ثم تساعده على إنجاب آلهته الثمانية... وهي نفس تلك الآلهة التي ابتلعها فضمها إليه وعاشت بداخله ثاوية إلى حين.... حين عادت الحياة إلى كل طرف مريض من انكي... فأصبح حياً.. حياً... وهكذا تنتهي الأسطورة بمنح كل آله من تلك الآلهة قوة ووظيفة في الحياة... وتستمر الحياة في تدفقها تجري.

وكما أشرنا سابقاً فان أسطورة تلمون تهدف إلى توضيح فكرة وحدة الوجود "بمسبباتها" في علية تربط بين ظواهر متباينة في هذا الوجود "وهنا يجب أن نلاحظ بأن عليه" مسببات هذه الوحدة هي في سياق وحسب منطق الشعر الأسطوري لا غير. إذ عندما نرى توالد النباتات من تزاوج الأرض "التربة" بالماء، فإننا نقبل ذلك التعليل، ولكن بتحفظ. وهذا التحفظ لا بد منه إذ إننا لاحظنا في نهاية هذه الأسطورة بأن الآلهة التي ولدت من انكي لكي يشفى انكي ثانية من مرضه، أن تلك الآلهة ليس بينها أي ترابط داخلي وثيق لا بالنسبة إلى التربة ولا بالنسبة إلى الماء! ومن قبيل الصدفة قد نعرف أن أسماء تلك الآلهة تحتوي على عناصر تذكرنا بمسميات لأجزاء من انكي الذي أبرئ. فمثلا الآلهة آ- زي-موا A'-zi-mu-a ومعناها "نمو الساعد المستقيم"، قد ولدت بشفاء ساعد انكي - وهذا وجه العلاقة بينهم لا غير. وهنا لابد أن نتذكر تماماً بأنه حسب مفهوم ومنطق "الشعر الأسطوري" فأن كل اسم هو بذاته قوة داخل شخص ما تحركه وتدفع به نحو اتجاه معين. وبما أن اسم "آ- زي- موا" قد يعني "النمو المستقيم للساعد"، مع أننا كما نعلم ليس لهذا الإله من صلة بنمو السواعد، فان السؤال الذي يفرض نفسه: ساعد من قامت تلك الآلهة بمده مستقيماً؟ و جواب الأسطورة هو إذ ساعد انكي. وهذا الجواب قد أورد لإيجاد علاقة سببية فحسب، ولكنه لا يتعمق أكثر فيكشف لنا الصلة الحقيقية بين طبيعة قوى الإلهين نينهرساجا وانكي وهما المعينان أصلاً بالأمر.

ومع ذلك كله فان أسطورة تلمون حسب طبيعتها هي وقياساً على منطق الشعر الأسطوري تعمق فينا فهمنا لقوتين كبيرتين في هذا الكون هما:"الأرض الأم والماء". وأنه في عالم وادي الرافدين Mesopotamia فان الفهم بمعناه الفلسفي يقصد به الاستبصار النفساني Psychological Insight وفي هذا تسطر لنا أسطورة تلمون معرفة عميقة باللافرضية Antithesis التي تفسر بحق ذلك التفاعل المثمر المنتج بين القوى المتصارعة في الطبيعة، ثم نتابع ذلك التفاعل الأسطوري وهو يرقى إلى الذروة "الدراماتيكية" متجلية بنى وضوح في الحكم على الماء وهو ينبوع الحياة "بالعدم والزوال إلى الأبد"... ثم ينعطف ذلك التفاعل فجأة بوقفة هادئة تعيد التوافق الودي والتوازن الطبيعي الجميل إلى الكون... وكذا الحياة تجري.

ومن أسطورة تلمون وتتبعنا من خلال حوادثها لذلك التلاحم بين قوى الطبيعة ندرك أهميتها مصادر للحياة: فمن فاعلية تلك الآلهة تأتي نباتات المأكل، ونباتات الثياب "الملبس"... ومن هذه وتلك تتوالد عدة قوى التي مهما صغرت فهي لم تزل زاخرة بنفعها للحياة.. وبذا يصبح الكون عامراً بمزيد من الذكاء والحكمة.. فالحياة تجري..

وقبل أن ترك أسطورة تلمون هذه لا بد أن نوجه الأنظار إلى أبيات من"شعر".. أبيات شيقة ممتعة وهي تصف العالم عندما كان عذرياً.. وبكراً فتياً... وذلك العالم الذي لم تبرز معالمه إلا بعد ردح من الزمان..

واي زمان لم يكن بعد في فجر هذا الكون... ولم يكن بعد في حينه سوى عالم موعود... بل مجرد برعم وحيد يتململ في ذاته بلا شكل وبلا هوية... فلا الحيوانات ولا بني البشر قد كونوا عاداتهم بعد... ولا سائر المخلوقات قد اكتسبت سمات بعد... ليصبحوا فيما هم عليه في عالم اليوم...

وكذا... الغراب لم ينعب بعد... والأسد لم يقتل بعد.. والذئب لم يسرق الحمل بعد.. وكذا... فالشيخوخة والمرض ليس لهما وجود بعد... لا بل ليس للمرض عوارض، ولا للشيخوخة من مظاهر... لا مرض ولا شيخوخة بعد وكذا... ديمومة لمخلوقات لها وجود... وديمومة لكل الوجود في عالم فجر الزمان بأرض تلمون... أسطورة الخلود.

أن الأبيات الأولى من افتتاحية أسطورة تلمون تخاطب مخاطبة مباشرة كلا من انكي ونينهرساجا... وتشير إليهما معاً في المتن بلفظة You أي انتم... وبعد ذلك تستمر الحكاية بأسلوب وصفي بسيط:عندما كنتم "انتم" تقتسمون الأرض العذراء... مع صحبكم الآلهة.

كانت أرض تلمون... أرض ندية طهور... عندما كنتم "انتم" تقتسمون تلك الأرض الطهور... مع صحبكم الآلهة... كانت أرض تلمون... أرض نقية تدور.. كانت أرض تلمون... أرض صفاء وحبور... كانت أرض تلمون... أرض طهر ونور... وعلى أرض تلمون... وحدكما نزلتا... وعلى تربتها الطهور... بمفردكما تضاجعتا... كانت تلكم أرض تلمون ذاتها... ذاتها... لم تزل تلمون... طهورا... لم تزل تلمون مشعشعة نورا... وعلى أرض تلمون لم ينعب غراب لا بالأمس واليوم نعيق... وعلى أرض تلمون لم يسمع صياح للديوك... لا بالأمس ولا اليوم نعيق... (تلكم تلمون... أرض الخلود...) الأموريون يتفق معظم المؤرخين على أن الفينيقيين هم من القبائل السامية المنتمية إلى كنعان والتي كانت تسكن في شمال شبه الجزيرة العربية ثم تركتها، فيما عرف في تاريخ الهجرات الكبيرة من شبه الجزيرة العربية بالهجرة الثانية. أما الهجرة الأولى فقد قام بها الأموريون الذين أسسوا دولتهم قبل الكنعانيين واستقروا في شمال الشام في أول الأمر ثم اخذوا ينتشرون في أواسط سورية ولبنان وفلسطين. وقد وردت أول إشارة للأموريين في عهد "سرجون" (2300 ق. م).

الكنعانيون ومع الأمويين -أو في أعقابهم- تقدمت موجة تحمل اسم الكنعانيين "ولسنا ندري تماماً اصل الكلمة فالبعض يشير إلى أن كلمة كنعان تعني الأرض المنخفضة إشارة إلى الساحل الذي استوطنته هذه الجماعة ولكن احدث الآراء يشير إلى أن أصل الكلمة غير سامي بل حورى "كناجى" كنغ بالفينيقية وكنعان بالعبرية. وتعني الصباغة القرمزية التي اشتهروا بها. ولعل كلمة فينيقيا بما تشير إليه من نفس المعنى القرمز أو الأرجوان ترجح هذا المعنى، ولقد أصبحت كلمة فينيقي ترادف كلمة كنعاني منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد

صلة الكنعانيين بالاموريين "والكنعانيون والفينيقيون وثيقو الصلة بالاموريين، أن لم يكونوا فرعين من مجموعة كبرى واحدة تحركت في هجرة واحدة لا في هجرتين متعاقبتين. وتعد لغة الاموريين والكنعانيين لهجتين من فروع كتلة اللغات السامية السورية وأما الخلاف البين بين المجموعتين فينحصر في تأثر الاموريين بحضارة وادي الرافدين من ناحية واستيطان الكنعانيين الفينيقيين عند الساحل مما جعل اتصالهم بمصر أوثق من اتصال الاموريين بها. " (2) وبلاد الكنعانيين تعني أصلا الشقة الساحلية والقسم الغربي من فلسطين ولكنها أطلقت فيما بعد حتى شملت فلسطين جميعاً وجانباً كبيراً من سورية.

فينيقيا أو كنعان كلمتان مترادفتان تعنيان على الأغلب شيء واحداً، فلقد وردت كلمة "كناجى" في اللغة الحورية وتعني اللون الأحمر وتقابلها في الاكدية كلمة كناخى وهي في الفينيقيه كينغ وفي العبرية كنعان في وكلها مسميات تعني الحمرة الأرجوانية وحين احتك اليونان بأهل هذه البقعة من العالم القديم أطلقوا على مجتمعها اسم فينكس Phoenix وهي كلمة تعني كذلك اللون الأحمر وقد تعني نوعاً من النخيل ينمو على شواطئ هذه النواحي وقد اشتقت من هذه الكلمة كلمة فينيقيا. إذن فقد اتفقت التسمية السامية القديمة والسمية اليونانية في أن تربط بين هذه الشعوب واللون الأحمر. والواقع أن هذه المدن الساحلية على شاطئ البحر المتوسط تخصصت منذ عرفت في صناعة نوع من الصبغة الأرجوانية كانت تستخرج من حيوانات بحرية رخوة تكثر قرب شواطئها ومن هنا جاءت نسبتها إلى اللون الأحمر.(1)

اصل الكنعانيين والفينيقيين كنا أشرنا في مستهل هذا الفصل إلى أن فينيقيا وكنعان لشيء واحد وان الكلمة الأولى ترجع إلى اصل يوناني وان الكلمة الثانية ترجع إلى أصول سامية، إلا انه تجب الإشارة إلى أمر هام: ذ لك أن المواطن التي استقرت فيها الشعبة الكنعانية تعني مواضع غير التي استقرت فيها الشعبة الفينيقية ويشير تاريخ الفينيقيين إلى انهم شعبة من الكنعانيين استقرت على الشاطئ عند منحدرات لبنان ومن هنا جاءت التفرقة بينهم وبين الكنعانيين والشواهد تبين أن الكنعانيين هم الأصل وانهم تحركوا إلى غرب فلسطين حيث استقروا قبل قدوم الإسرائيليين وظهورهم في التاريخ ثم تسربوا إلى الشواطئ حين جذبتهم بعض الحقول المثمرة واستلفتت أنظارهم أكثر مما كانت تستلفتها النواحي الجبلية التي ظلت تغطيها الغابات حتى في عهد الإسرائيليين.(1)

النظريات المختلفة حول اصل الفينيقيين وإذن فالفينيقيون الكنعانيون قدموا إلى الشواطئ أما من النواحي الجنوبية للشاطئ السوري أو من النواحي الشمالية لفلسطين. وأما تاريخ قدومهم إلى شاطئ البحر المتوسط فليس في وسعنا أن نكذب ما رواه علماء صور لهيرودت من أن أجدادهم قدموا من شواطئ الخليج الارتيرى وانهم شادوا تلك المدينة في العهد الذي نطلق عليه نحن القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد.. يقول هيرودوت في كتابه السابع "أما الفينيقيون فيقررون انهم كانوا يعيشون قبلا على البحر الارتيري وانهم شقوا طريقهم إلى سورية وانهم يعيشون اليوم على شاطئ البحر"(2) أما جوستنيان Justin في مقتطفاته من تاريخ "بومبيوس تروجي Pompeivs Trogus فيقول: "ينحدر الصوريون من الفينيقيين الذين أزعجهم زلزال في يوم من الأيام فهجروا موطنهم الأصلي في البحر الداخلي في Ad Syrium Stagn وعندما استقروا علي اقرب شاطئ بحر بنوا مدينة أطلقوا عليها اسم صيدا Sidon بسبب كثرة السمك.. لان السمك عند الفينيقيين اسمه Sidon أما البحر الداخلي المذكور هنا Syrium Stagnum فلا يبعد عن الشاطئ السوري، وقد ظن أحيانا انه بحيرة جنيسارة Gennesareth أو بحر الجليل بأسماكه الوفيرة... ولما كانت كلمة Stagnum تعني بحيرة لا مخرج لها فان التفسير يصبح بعيد الاحتمال(3) ويرى Christain Carl Josias Bunsin أن المقصود هنا هو البحر الميت وان الزلزال الذي يروي خبره هو الذي أودى بسدوم وعمورة في القصص الذي ورد في التوراة. وهناك أكثر من رواية تاريخية تؤكد حدوث اضطراب جغرافي في الإقليم الكائن حول البحر الميت، وان ظهور الفينيقيين على صارح التاريخ تحدده هذه الكارثة التي يرجع إليها كذلك تاريخ العنصر الكنعاني كله وبعبارة أخرى نستطيع أن نخرج من هذا كله بأن أسطورة ذات اصل محلي لتعليل نشأة البحر الميت دفعت إلى خلق دائرة أسطورية نواتها إقليم ذلك البحر وما جرى فيه من أحداث كان من أثرها القضاء على حضارة سابقة.. ولكن إذا حاولنا البحث عن أصل الجنس الذي نزلت به النازلة فإننا نصل إلى الكنعانيين في عصر لا يمكن تحديده... يضاف إلى ذلك أن مصادر هيرودوت وجوستنيان لها جذورها في أسطورة كنعانية ترى في البحر الميت وإقليمه نقطة بداية لتقسيم الشعوب لا لأنها كانت كذلك فعاو بل لأنه ليست هناك نقطة بدء معروفة من الناحية التاريخية يستطاع الاطمئنان إليها.

وظهور الفينيقيين على الصورة التي ظهروا بها في التاريخ في أول عهدنا بهم كبحارة مهرة وتجار مبرزين... وإذن فالحضارة الفينيقية والمدن الفينيقية ليست ثمرة ظهور قوم يبدءون خطى الحضارة في أناة يتعثرون مرات ليتوقفوا مرة، بل هي ثمرة هجرة لقوم ضاقت بهم الحيلة في أرضهم فنزحوا أقوياء عنها ثم رحلوا لغيرها يستكملون قوتهم ويتابعون نشاطهم ويمارسون حضارتهم على نطاق أوسع.. ولئن صح ذلك فان رواية هيرودوت تستحق أن يعني بأمرها وان شابتها بعض الشكوك من ناحية أخرى ذلك لان الشاطئ الارثيري أو الشواطئ البابلية للخليج العربي وما وراءه لا تصلح مياهه للتجارة والملاحة بالنسبة لندرة الأخشاب وهي الناحية التي برز فيها الفينيقيون... ومهما يكن من أمر فان الفينيقيين كما نرجح مهاجرون كنعانيون من الجنوب تقدموا إلى داخل فلسطين واستقروا بها بعض الوقت ثم انتقلوا أو انتقلت الشعبة الفينيقية منهم إلى الشاطئ السوري للبحر المتوسط، وهم يمثلون على هذه الصورة امتداداً كنعانياً نحو الساحل " (1)

ويقول ج. اكونتو في كتابه الحضارة الفينيقية: "من المسلم به منذ العصور القديمة أن الفينيقيين ليسوا من أهل البلاد الأصليين وانهم نزحوا منها حرين إلى البلاد التي نزلوها.. ونحن نسلم اليوم أن الفينيقيين يدخلون في مجموعة الكنعانيين ونجعل اللغة الكنعانية بحسب خواصها ضمن المجموعة ب فيه... ويؤكد سفر التكوين في الإصحاح العاشر وجود علاقة بين كنعان ومصر."(2)

الفينيقيون وصلتهم بالخليج وهكذا كان هيرودوت يعتقد أن الفينيقيين ليسوا من أهل البلاد الأصليين بل يجعلهم نازحين من البحر الارتيري كما ورد ذكره سابقاً أما سترابون فيروي لنا في شيء من الاستغراب أن سكان الخليج العربي أكدوا له انهم يسمون عندهم باسم صيدا وصور واراد Erid وان المعابد عندهم تشبه معابد الفينيقيين ويؤكد بلين هذه الواقعة(3). يقول جان جاك بيريبي: "يرى عدد من الباحثين أن البحرين كانت الموطن الذي نشأ فيه أولئك الفينيقيون ملاحو وتجار البحر الأبيض المتوسط الذين غدوا نقلة الحضارات القديمة. ويوطد هذا الرأي ذلك التشابه المدهش بين العديد من القبور التي عثر عليها في الجزيرة الكبرى وبين النواويس الفينيقية. وقد درس تلك الآثار عدد من العلماء ولكنهم لم يصلوا بشأنها إلى تعليل نهائي مجمع عليه. ومع ذلك يبدو من الثابت تماماً أن الفينيقيين كانت لهم مستعمرات تجارية على الخليج قبل أن يستوطنوا شواطئ البحر الأبيض المتوسط وإذا كان ثمة من شك فانه يدور حول مواقع تلك المستعمرات".(1)

وقد اهتم أمين أريحاني بموضوع علاقة الفينيقيين بالخليج وتشابك الدوحة العربية بالدوحة الفينيقية في كتابه (ملوك العرب) وقد جاء فيه: "قال بعض المؤرخين أن خليج العجم هو مهد الحضارة بل مهد الجنس البشري وان سكانه الأقدمين أي سكان الجزر فيه، هم أول من رفعوا شراعاً في البحار واقتحموا أخطار الأسفار فمارسوا الملاحة أتقنوا علمها وكانوا الصلة العامة بين الشرق والغرب. وقال آخرون أن الفينيقيين هم من هذه الديار العربية، فقد جاء في بعض كتابات المصريين القديمة ذكر البنط Pount وهو اسم الفينيقيين قبل أن يحلوا باود الشام... والظاهر انهم من أصل عربي فقد نقلت التقاليد القديمة انهم ظعنوا من الديار المجاورة لخليج فارس إلى سواحل البحر المتوسط. ويعتمد الريحاني في استنتاجه هذا على ما كشفت عنه الحفريات من آثار في منطقة الخليج وما تواتر على ألسنة أئمة هذا العلم."(2)

وحول صلة الفينيقيين بالخليج هناك كتابات عدة تجعل اصل منشأ الفينيقيين قي الخليج العربي، ومن هذه المراجع كتاب " تاريخ سوريا قبل الفتح الإسلامي " لامين خليفة ومنها "دائرة معارف القرن العشرين" لمحمد فريدى وجدي المجلد السابع الذي يقول فيه: "كانت مدائن الكنعانيين علي سواحل الخليج العربي في إقليم بلاد العرب المعروف الآن باسم البحرين أو القطيف"(1). كما أن هناك كتاب "حقائق الأخبار عن دول البحار" تأليف الأمير الاى إسماعيل سرهنك ناظر المدارس الحربية باسطنبول جاء فيه: "لقد أجمع المؤرخون على أن شعوب الفينيقيين لا يعلم بالتحقيق غير انه منذ نحو 2500 سنة قبل الميلاد تقريباً أخذت سواحل البحر المتوسط في آسيا تعمر بسكان أتوا إليها من بلاد المشرق وقالوا انهم من الكنعانيين وهذا النسل هو من كنعان بن حام(؟؟) ير من نوح عليه السلام وأصل مدائن الكنعانيين بحسب أقوال المؤرخين كانت أولا على سواحل الخليج العربي في إقليم بلاد العرب المعروف الآن باسم (القطيف أو البحرين) (2) كما يقول أمين خليفة في كتابه "تاريخ سوريا قبل الفتح الإسلامي". "لقد ورد سابقاً أن الموجات السامية قصدت القطر السوري ليس من الجنوب فقط بل من الشرق أيضا وان قبائل عديدة بعد أن توطنت بلاد بابل وشواطئ خليج العرب لم يطب لها المقام هناك فزحفت عبر الصحراء وبعد أن تجولت في الطرف الغربي من الهلال الخصيب استقرت في سهوله وبين جباله الشاهقة ولدى البحث يترجح لنا أن الفينيقيين هم من جملة الشعوب التي اتبعت هذه الخطة فقد كانوا يسكنون أولا على شواطئ خليج العرب حيث اتسع لهم المجال لممارسة الملاحة والتجارة "ولابد أن تيار المهاجرة الذي قذف بسواهم من الشعوب إلى سوريا جاء بهم أيضا فتوجهوا إليها حوالي القرن الثامن والعشرين قبل المسيح وذلك من باب الترجيح، فنزلوا على ساحل البحر المتوسط الممتد من جزيرة أرواد شمالا إلى جبل الكرمل جنوباً".(3)

المكتشفات الأثرية في البحرين و علاقتها بالفينيقيين اعتماداً على تشابه الأسماء مثل مدينة صور في عمان وعراد ارادوس Aradus في البحرين، جاء بحاثة إنجليزي يدعى تيودوربنت وقام باكتشافات أثرية عام 1988 م سمى بعدها هذه القبور بأنها فينيقية إلا أن بعض الباحثين الآخرين عارضوا استنتاجات بنت وقالوا أن هذه القبور يرجع تاريخها إلى عهد اقرب من عهد الفينيقيين وان أرض البحرين كانت في الأزمنة السابقة قد استخدمت كمدفن للموتى الذين يؤتى بهم من الساحل المقابل للبحرين من أرض لنجة حتى بوشهر ومن المحتمل أن الموتى يؤتى بهم من شبه الجزيرة العربية). إلا أننا عندما نأخذ بهذه النتيجة لا نستطيع أن نتجاهل استنتاجات هيرودوت وسترابون القائلين بأن هذه القبور فينيقية فقد استخدمت كمدافن موطن الفينيقيين وهذا لا يمنع من الاستنتاج أيضا أن هذه القبور رغم أنها فينيقية فقد استخدمت كمدافن لأناس ينتمون إلى عصر أقرب من عصور الفينيقيين ولهذا فان الحضارة التي استخدمت هذه القبور ربما هي حضارة قريبة الصلة من الفينيقيين.(1) أن الحل النهائي لهذه المسألة الصعبة يمكن الوصول إليه فقط عن طريق البحث المنتظم في عدد أكبر من القبور في جزيرة البحرين. ومقارنتها بنظيراتها في مناطق أخرى من بلاد الشرق القديم.

وربما من المناسب أن نعيد إلى الأذهان رأي الرحالة العربي أمين الريحاني وهو يشير إلى نظرة إنسانية عميقة حيث يقول: "ولا فرق عندي في كل حال إذا كان العرب الأصل أو الفرع، فإذا كانوا الأصل فمرحباً بالفينيقيين أبنائهم، وإذا كانوا الفرع فمرحباً بالمنحدرين من الفينيقيين"(3)

في عهد الجرهائيين، مع ملوك الحيرة

البحرين و دولة الجرهائيين انتهى عهد دلمون وضمته الأرض بين ثناياها ذخيرة تنتظر رجال الآثار ليواصلوا التنقيب عما بقي من ماضيها، وما لم يكشف النقاب عنه من حضارة دلمون وتمازجها مع مياه الخليج وجزره وما تفاعلت معه من حضارات الشرق القديم.

ولا زال علماء الآثار يواصلون تنقيباتهم المستمرة في البحرين ويحظون ببقايا من معالم حضارة دلمون وغيرها من الشعوب التي استوطنت البحرين فيما قبل الميلاد بصورة خاصة وذلك في صورة حلقات زمنية غير مترابطة. ومع فجر الميلاد نلتقي بدولة الجرعاء أو الجرهائيين في منطقة الخليج بل ضمن تاريخ البحرين الذي نكتب فيه. ونتساءل مع القارئ عن اصل الجرهاء ؟ ومن هم الجرهائيون ؟ وكيف كانت مدينة الجرهاء؟ وفي أي مكان كانت؟

نرى من الواجب علينا ونحن نستعين بالمراجع أن نذكر ثلاثة منها بصورة خاصة: "تاريخ العرب قبل الإسلام" الجزء الثاني للعلامة الدكتور جواد علي. "العرب قبل الإسلام" للأستاذ جرجي زيدان. "العرب والملاحة في المحيط الهندي" للدكتور فضلو حوراني ترجمة الدكتور يعقوب بكر.

ولكي نحاول أن نعطي صورة اشمل عن الجرهاء، ورغبة منا في تكامل الموضوع قدر المستطاع عن اعظم مدن الخليج التي لم يكتب فيها الاخباريون إلا لماماً وفي هوامش كتبهم، فإننا سنستعرض أولا ما كتب في هذه المراجع ثم نضيف تعليقنا ورأينا تاركين للدارسين استكمال ما قد خفي.

مدينة الجرهاء عند الكتاب المعاصرين لها: وقد اقتصر استرابون على ذكر (Aradus)(Macae)(Garrha)(Tyre) وهي مواقع تقع على ساحل العروض أي الساحل الشرقي لجزيرة العرب والمطل على الخليج أما Garrha فمدينة تقع على خليج عميق، أسسها مهاجرون كلدانيون من أهل بابل في أرض سبخة، بنوا بيوتهم بحجارة من حجارة الملح، ترش جدرانها بالماء عند ارتفاع درجة الحرارة لمنع قشورها من السقوط، وتقع على مسافة 200 استاديون(1)(Stadia) من البحر، وهم يتاجرون بالطيب والمر والبخور، تحملها قوافلهم التي تسلك الطرق البرية. أما ارسطوبولوس فيدعي انهم ينقلونها بالبحر إلى بابل ثم إلى مدينة Thapascus وهي الدير أو الميادين، ومنها يعاد نقلها بالطرق البرية إلى مختلف الأنحاء. وقد أشار إلى هذه المدينة كتاب آخرون عاشوا بعد ايراتوستينس صاحب خبر Gerra Garrha المدون في جغرافية استرابون. أشار إليها مثلا بوليبوس Ploybius عام 204-122 ق. م، واغاثار سيدس المتوفى عام 145 أو 120 ق. م وكذلك ارتميدوروس Artmidoros من أهل مدينة افسوس Ephesus وخلاصة ما أوردوه عن مدينة الجرهاء أنها كانت مركزاً من المراكز التجارية الخطيرة وسوقاً من الأسواق المهمة في بلاد العرب، وملتقى طرق تلتقي فيها القوافل الواردة من العربية الجنوبية والواردة كذلك من الحجاز ومن الشام والعراق. كما أن الجرهاء كانت سوقاً من أسواق التجارة البحرية، تستقبل تجارة إفريقية والهند والعربية الجنوبية، وتعيد تصديرها إلى مختلف الأسواق بطريق القوافل البرية حيث ترسل عن طريق حائل و تيماء إلى موانئ البحر المتوسط ومصر، أو بالطريق البري إلى العراق ومنه إلى الشام . وقد ترسل بالسفن إلى سلوقا Seleucia أو بابل في Thapascus ومنها بالبر إلى موانئ البحر المتوسط ولا حاجة بي أن أقول(1) أنها كانت تستقبل تجارات البحر المتوسط والعراق والأسواق التي تعاملت معها، لتتوسط في إصدارها إلى العربية الجنوبية وإفريقية والهند وربما إلى ما وراء الهند من عالم ينتج ويتسهلك أيضا. فالجرهاء سوق وساطة، والوسيط يصدر ويستورد، وبعمله هذا يكنز الثروة والمال.

ويتاجر الجرهائيون مع حضرموت، فتصل قوافلهم إليها في أربعين يوماً وهي محملة بحاصلات العربية الجنوبية، وحاصلات إفريقية المرسلة بواسطتها، وهي بضاعة نافقة ذات أثمان عالية في الأسواق التجارية في ذلك العهد. وقد كان لمدينة الجرها ولا شك تاريخ قديم قبل أن يصل خبرها إلى مسامع ايراتوستينس واليونان. فصيت عريض مثل صيت Garrha والجرهائيين لا يمكن أن يكون ابن ساعته ويومه. انه حاصل سنين ومن يدري فلعله حاصل عصور. لقد كان الجرهائيون من كبار الرأسماليين في العربية الشرقية، نافسوا السبأيين وكانوا هم ومنافسوهم أبناء سبأ من أغنى شعوب الجزيرة.. كانت ثروتهم عظيمة ثقيلة، عمادها الذهب والفضة والأحجار الكريمة، اتخذوا من الذهب كؤوساً وآنية وأثاثاً وجملوا سقوف بيوتهم وأبواب غرفهم به وبالأحجار النفيسة الغالية، وهذه الثروة العظيمة هي التي حركت الطمع في نفس الملك انطيوخوس الثالث Antiochus III فجعلته يقود أسطوله في عام 205 ق. م. فيقطع به نهر دجلة، ثم الشط للاستيلاء على المدينة الغنية الكانزة للذهب والفضة واللؤلؤ وكل حجر كريم، وإذلال القبائل المجاورة لها، وإلحاقها بحكومته. وتقول الرواية أن المدينة المسالمة التجارية أرسلت رسولا إلى الملك يحمل رجاءها إليه إلا يحرمها نعمتين عظيمتين أنعمتهما الآلهة عليها: نعمة السلام ونعمة الحرية- وهما من اعظم نعم الآلهة على الإنسان. فرضي الملك من حملته هذه بالرجوع بجزية كبيرة من فضة وأحجار كريمة، فأبحر إلى جزيرة تيلوس Tylos ومنها إلى سلوقيةSeleucia في عام 205- 304 ق. م. وهكذا اشترت المدينة جرها سلمها وحريتها من هذا الطامع بالمال. وصدق أهل الجرها -إذا كانت الرواية صحيحة- فالسلم والحرية من اعظم نعم الله على الإنسان.

ويتبين من وصف استرابون للحجارة التي بنيت مدينة الجرها بها ومن ادعاء بلينوس أيضا أن أبراج المدينة وسورها قد بنيت بقطع مربعة من صخور الملح، كما يتبين أنها بنيت في أرض سبخة، وان هذا السبخ هو الذي أوحى إلى مخيلة الكلاسيكيين ابتداع قصة حجر الملح الذي بنيت به ديور المدينة وسورها، وفي التاريخ قصص أخرى من هذا القبيل عن قصور ومدن شيدت بحجارة من معدن الملح ويظن أن Gerra أو Gerraei -على حسب اختلاف القراءات- هو موضع ذكره بطليموس وهي مدينة الجرها. وذكرت بلينوس أنها تقع على خليج يسمى باسمها Gerraicus Sinus ويبلغ محيطها خمسة أميال خمسة آلاف خطوة وعلى مسافة خمسين ميلا من الساحل أي خمسين ألف خطوة تقع منطقة تدعى Attene وفي مقابل مدينة Garrha من جهة البحر وعلى مسافة خمسين ميلا تقع جزيرة Tylos المشهورة بوجود اللؤلؤ فيها.

وتحدث سترابون عن أمة عربية سماها جرهين(2) وقال انهم أغنى العرب يقتنون الرياش الفاخرة ويتمتعون بكل أسباب الرخاء والترف، ويكثرون من آنية الذهب والفضة والفرش الثمينة. ويزينون جدران منازلهم بالعاج والذهب والفضة والحجارة الكريمة. وقال أيضا أن مدينتهم جرا Garraha أو جرها واقعة في بقعة كثيرة الملح تبعد نحو 200 استاده عن البحر. وأفاد اغاثار سيدس بأنهم من أغنى أهل الأرض، وسبب غناهم اتجارهم بغلال بلاد العرب والهند. فيحملونها على قوافل إلى الغرب، أو بحراً إلى بابل من فرضة جرا، ولهم سفن ضخمة تسير في المحيط الهندي ومراكب تسير في الأنهر يصلون بها إلى بابل. وقد يصعدون بها في دجلة إلى مدينة اوبيس، ومنها تنقل البضائع الهندية والعربية وتنتشر في بلاد مادى وارمينيا وما جاورهما وان هذه الأمة اصلها من بابل.

وفي كتاب العرب والملاحة في المحيط الهندي يتحدث الأستاذ فضلو حوراني عن مملكة أرض البحر التي كانت في الجزء الشمالي الشرقي من الجزيرة العربية والتي قد تكون لها صلة بأخبار الجرهائيين.

موقع الجرهاء

مما سبق يتضح اختلاف الباحثين حول موقع الجرها Garrha التي يرى شبر نجر وجلاسر أنها هي الجرعاء وقد كانت قائمة بالقرب من فرضة العقير الحالية. بينما يؤكد Philby أن جرها هي العقير نفسها وان الاسم الجديد العقير ينطق Ojair احتفظ في بنيته بالاسم القديم جرها. ويورد سليمان حزين في كتابه Arabia and the Far East (صفحة 142) والذي نشر في القاهرة عام 1942 بأن الجرها هي القطيف. أما الأستاذ جرجي زيدان في كتابه المشار إليه يرى انه لم يذكر العرض أمة ولا دولة ولا عشيرة بهذا الاسم. ويخالفه في ذلك بعض المستشرقين الذين يعتبرونها من أمم البحرين على خليج فارس وان جرا أو جرها هي الجرعاء وهي فرضة من فرض تلك الناحية بالاحساء، وان لها ذكراً في شعر العرب. وقد يكون الجرهيون من أهل اليمامة وانه قد جرى تحريف لفظة الجرهيين بالقريين نسبة إلى قرية اسم اليمامة القديم، وهذه الأخيرة كانت عامرة أيام طسم وجديس وان أحد ملوكها كان عمليقاً.. والعمالقة أصلهم من بابل. وأخيراً يعلق الدكتور جواد علي على ما ذكر من اختلاف وجهات النظر حول الجرها وموقعها بأن هذه وتلك آراء وتخمينات قد لا تفيد كثيراً، وان الخبر اليقين لا بد أن يأتي عن طريق التنقيب والحفريات. وان مدينة عظيمة كالجرهاء وان جار عليها الزمان وندرت المصادر فيها لا بد من مواصلة الدراسة عنها

الرأي في أقوالهم تحدثنا النقوش الأكادية أن خليجنا كان يدعى البحر المر أو البحر الأدنى، أما سواحله العربية فكانت تدعى أرض البحر وكلديا أي أرض الكلدان وكذلك أرض الحياة ودلمون أو تلمون كما سبق ذكره. وان كثيراً من الأسماء التي أتى عليها الزمن وغمرها النسيان أصبحت نسياً منسياً ولم تعرف عنها شيئاً لسنوات أو قرون طويلة إلى أن كشفت عنها تنقيبات الآثار منذ وقت قريب. وهكذا في رأينا كان حظ جرها Gerrha والجرهيين بالنسبة لأحفادهم في الخليج فقد نسوا اسمهم وجانبا من ماضيهم المجيد فلم يذكر الجرهيين أحد من مؤرخي العرب. ولولا ما كتبه مؤرخو اليونان لما عرفنا عن الجرها شيئا يستحق الذكر.

وبينما يرجح الباحثون أن مدينة الجرهاء تقع على الساحل العربي في الخليج من الجزيرة العربية اختلفوا في تحديد موقعها. ولكن الأماكن التي ذكروها تكاد تنحصر في مساحة تمتد من القطيف إلى سلوى، ولم يخالفهم في ذلك إلا الأستاذ جرجي زيدان حيث ذكر أن الجرهاء في اليمامة. وهذا الرأي الأخير قد يكون بعيد الاحتمال استنادا إلى ما ورد في أخبار الجرهيين، ولو انه قال أن القريين سكان اليمامة الأقدمين كانوا على صلة وثيقة بالجرهائيين لكان ذلك أقرب إلى الصحة نظرا لاتصال أهل اليمامة بسكان البحرين وارتباطهم معهم في أكثر حقب العهود التاريخية.

وبالرغم من اختلاف الباحثين، فانه حسب معرفتنا بمنطقة الخليج نؤيد القول الأرجح بأن الجرها هي الجرعاء والتي ذكرها الهمداني أيضا في كتابه " صفة جزيرة العرب "وان فرضتها هي العقير التي نعرفها حاليا باسم العجير. ونحن نعرف أن العقير وما جاورها من منطقة الأحشاء تكثر فيها السباخ، فهناك سبخة المريقب وسبخة أم حشيشة وسبخة ابي الحمام كما أن المسافة بين هذه السباخ وبين ساحل البحر بقرب العقير تربو كل ثلاثين ميلا كما سبق وصفه.

وقد كانت العقير قديما هي فرضة الأحشاء وذلك قبل أن يحتل ميناء الدمام مكانته في الوقت الحاضر. وعلى مسافة قريبة منه جزيرة الزخنونية ثم غبة أم الصخال وهى بحر عميق صالح لعبور السفن ويمتد من سواحل العقير إلى أن يقارب السواحل الجنوبية الغربية لجزر البحرين. وعلى بعد ما يقارب عشرين ميلا من فرضة العقير تقع جزيرة أوال وهى أكبر جزر البحرين التجارية، حيث يقابل العقير على سواحل أو ان أيضا ميناء العقارية. وقد كان هذا الأخير أو البندر كما يسمى محليا عامرا حينما كانت العقير عامرة أيضا. وبعد أن اضمحلت العقير اضمحلت معه كذلك أهمية العقارية.

ومما تقدم ذ كره من أقوال المؤرخين وخاصة سترابون نستدل أن جرا أو الجرهاء كانت تبعد عن ساحل البحر 200 استاديون وإذا كانت الاستاده تساوي 400 ذراع فان المسافة المذكورة تكون حوالي 37 كيلومترا. وإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكره الهمداني في كتابه "صفة جزيرة العرب" صفحة 137: "وكان سوقها على كثيب يسمى الجرعاء تتبايع عليه العرب" فانه من الأرجح أن الجرهاء عاصمة الجرهائيين كانت في الأحساء حيث المياه الغزيرة. وقد يكون الكثيب ركام تلك المدينة فاحتفظت باسم سوقها. ومن وصف المؤرخين اليونانيين نجد أن الجرهاء كانت في أرض سبخة وان محيطها يبلغ خمسة أميال ولها سور وأبراج مبنية من صخور الملح ولعلهم كانوا يعنون به الجص.. وربما أن أحد الكتاب اليونانيين شاهد الجص قبل حرقه، وحينما استفسر عنه افادوه أنهم بذاك الحجر يبنون بيوتهم.. ومن المعلوم عندنا أن الجص قبل حرقه يشبه الملح(1) وفي القديم لم يكن لديهم أفضل من تلك المادة أي الجص للبناء، وان كنا نرجح انهم قد عرفوا ما نسميه بالجص الخكرى ومصدره الرواسب الطينية التي تستخرج عادة من جداول مياه الري والصرف السيبان الزراعية ثم تقرص تلك الرواسبب أقراصا وتوضع في الشمس حتى تجف فتحرق وتدق بعد الحرق. وينتج عن هذه العملية مادة شديدة المقاومة للماء والرطوبة ومن الجدير ذكره أن العيون القديمة قي البحرين كانت مبنية من نوع هذا الجص.

ولا شك أن الجرهيين كانوا منتشرين في جميع أنحاء إقليم البحرين وسواحله فقد عرف انهم قوم يعشقون البحر. وأما مدينة الجرهاء وترجح أنها الجرعاء فقد كانت عاصمتهم وبها عرفوا وإليها ينتسبون، كما انتسب البابليون إلى بابل. ويحضرنا هنا ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب "لا تكونوا كالنبحل تنتسبون إلى مدنكم بل انتسبوا إلى قبائلكم". وأما ما ذهب إليه الأستاذ جرجي زيدان من أن أهل الجرها هم أهل اليمامة وان لفظة الجرهيين تحريف للقريين نسبة إلى قرية اسم اليمامة قديماً الخ، فإننا نستبعد ذلك لان اليمامة بعيدة عن الساحل، ولم يعرف عن سكان اليمامة اتهم أهل سفن وملاحة. وان كنا لا نستبعد في هذا إمكانية وجود وحدة سياسية بين أهل اليمامة والجرهيين، ومن المحتمل أن يتولى الاخيرون من سكان البحر لن شئون الملاحة بينما يقوم سكان الدمامة بمهام النقل البري.

ونعود إلى رأي المستر فلبي Philby الذي يظن أن جرها هي نفسها العقيرو أن الاسم الجديد احتفظ في بنيته بالاسم القديم. فمما لا شك فيه أن العقير كانت قديما وحديثا كذلك هي ميناء الأحساء أي أن العقير ميناء الجرعاء، ولكنه ليس بالجرعاء نفسها والتي وصفها سترابون بأنها تبعد عن ساحل البحر 200 استاديون كما أسلفنا. وقد ذكر المؤرخ بلينوس بأن في مقابل مدينة جرها من جهة البحر وعلى مسافة خمسين ميلا تقع جزيرة تيلوس المشهورة بوجود اللؤلؤ فيها. وهذه المسافة هي المسافة بين جزيرة البحرين وواحة الأحساء وليس العقير. وجزيرة تيلوس هي على الأرجح جزيرة أوال أو البحرين والتي أشار إليها سترابون (1( بقوله: بأن المقابر الموجودة في جزر تيلوس البحرين aradus, Tyrus تشابه مقابر الفينيقيين وان سكان الجزيرة يروون أسماء جزائرهم ومدنهم فينيقية مثل Tylus التي بها أكبر مقبرة في العالم أو aradus أي جزيرة عراد بالمحرق.

ثم ذكر بلينوس موضعا آخر يبعد عن الجرها اسمه Chatemi أو Atten ويرجح انه الخط من ساحل الخليج. ولهذا نستبعد أيضا ما ذكره الأستاذ سليمان حزين من أن الجرهاء هي القطيف.

اضمحلال الجرهيين وسقوط الحرهاء مع مطلع أيام عيسى عليه السلام اخذ الدهر يقلب ظهر المجن للجرهيين ولعل صنمهم جد أي اله الحظ -أن كانوا إياه يعبدون كما نظن من دلالة بعض أسماء القرى(2)في البحرين- قد أحس بأفول نجمه فأصبح غير محدود. ولا بد انهم قد تقربوا إليه بالضحايا والنذور ولكن بدون جدوى. ومن المؤسف أن مدينة كالجرهاء لم يذكر المؤرخون شيئا عن اضمحلالها ولا عن سبب اختفائها من سجلات التاريخ. فما هي الأسباب التي أدت بها إلى السقوط؟

من دراستنا لتلك الحقبة من الزمن بالإضافة إلى عوامل متكررة ممكنة مثل النقص في الثمر والإنتاج الزراعي أو حصول فترة من شدة الجدب فيما جاور الجرهاء من مجتمع صحراوي أو غير ذلك فإننا نعلل سقوط الجرهاء لسببين رئيسيين: الأول: كان الجرهائيون وإخوانهم السبأيون سادة الملاحة في المحيط الهندي والخليج والبحر الأحمر فقد ذكرهم اغاثار سيدس(1) بقوله انه لا يبدو أن ثمة شعبا أغنى من السبأيين وأهل جرهاء الذين كانوا وكلاء تجارة عن كل شئ يقع تحت اسم النقل من آسيا واوربا، وهم الذين جعلوا سوريا غنية بالذهب وأتاحوا لتجار الفينيقيين نمو تجارة رابحة. ومن ذلك يتضح لنا أن سرغنى الجرهائيين يكمن في سيطرتهم على التجارة ووسائل نقلها. ولكن بعد ذلك اخذ اليونانيون يشاركون الجرهائيين في هذا العمل التجاري، وبمرور السنين ازداد اليونانيون خبرة ودراية بالملاحة في تلك البحار فاكتشفوا الرياح الموسمية والتي كانت يوما ما سرا يحتفظ به الملاحون العرب لأنفسهم -وقد تم هذا الاكتشاف لملاح يوناني يدعى هبالوس Hippalus حوالي سنة 90 ق. م، ثم شاركهم الرومان.

ويحدثنا التاريخ أن عصر أباطرة أسرة يوليوس كلاوديوس وأسرة فلافيوس Flavlus بين 96 و 31 ق. م كان عصرا ذهبيا للتجارة اليونانية الرومانية مع الهند وبلاد العرب.

ثانياً : بانتقال التجارة والملاحة إلى أيدي اليونان والرومان وسلوكهم طريق البحر الأحمر وسواحله قد أضعفت من مركز الجرهيين في الخليج، وأخذت أحوال الأخيرين في التدهور. ويبدو أن القبائل العربية في البادية المجاورة لسكنى الجرهيين والتي كانت تشاركهم في النقل البري ومن جرائه تكسب فوائد طائلة قد شملهم كذلك هذا التدهور والكساد. فاتحدت كلمة أهل البادية كالمعتاد على مهاجمة الحواف حيث عجز رجال المال فيها عن تلبية طلباتهم وحاجياتهم. وهكذا يحدثنا الاخباريون أن تنوخا هاجمت البحرين وبها قوم من النبط وسيطرت عليها مع مطلع التاريخ الميلادي. وبذا انتهى عهد الجرهيين واندثرت عاصمتهم الجرهاء.

البحرين منذ فجر الميلاد إلى فجر الإسلام

في عهد الجرهائيين، مع ملوك الحيرة البحرين و ملوك الحيرة تنوخ: كلمة مشتقة من أناخ/أناخة. أناخ الجمل أي أبركه ويقال "انخت البعير فبرك،.. وتنوخ واستناخ ولا يقال فناخ وأناخ". أناخ فلان بالمكان أي أقام به. أناخ البلاء أو الذل بقلان أي أقام عليه الخ. ولهذه الكلمة معنى آخر عند أهل البادية لم تشر إليه معاجم اللغة التي اطلعنا عليها، وهذا المعنى أتى عندهم اصطلاحا بمعنى المحاصرة أو القتال. فيقال مثلا تناوخ بنوفلان مع بني فلان أي تبارزوا للقتال.. أو أناخ الأمير الفلاني وعلى بلد ما أي حاصرها.

وتنوخ حلف ضم فروعا من قبائل العرب بما في ذلك القحطانية والعدنانية. وقد تحالفوا على التنوخ أي تحالفوا على الإقامة والتعاون في القتال. وتمكنت تنوخ من احتلال إقليم البحرين بزعامة مالك بن فهم القضاعى. ويحدثنا ابن الأثير بقوله: "لما كثر أولاد معد بن عدنان ومن كان معهم من قبائل العرب ومزقتهم الحروب فخرجوا يطلبون الريف فيما يليهم من اليمن ومشارف الشام وأيلتت منهم قبائل حتى نزلوا بالبحرين وبها جماعة من الازد وكان بين الذين اقبلوا من تهامة مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة ومالك بن زهير بن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم، والحيقاد بن الحنق بن عمير بن قبيص بن معد بن عدنان في قبيص كلها، ولحق بهم غطفان بن الطشان بن عوذ بن مناة بن يقدم بن أفعى بن دعمى بن أيد بن نزار بن معد بن عدنان وغيره من اياد. فاجتمع بالبحرين قبائل من العرب، وتحالفوا على التنوخ وهو المقام، وتعاقدوا على التناصر والتساعد فصاروا يدا واحدة، وضمهم اسم تنوخ وتنخ عليهم بطون من نمارة بن لخم ودعا مالك بن زهير بن جذيمة الابرش بن مالك بن فهم بن غانم بن أوس الازدي إلى التنوخ معه، وزوجه أخته لميس فتنخ جذيمة وكان اجتماعهم أيام ملوك الطوائف".

ويحدثنا عنهم الأستاذ جرجي زيدان بقوله: تنوخ فرع من قضاعة جاء ذكره في كتاب اليونان وهم يلفظونه "تانويت Thanouite" وذكر النسابون أن تنوخا مزيج من قضاعة والازد قالوا أن زعيما من الازد اسمه مالك بن فهم أتى البحرين والتقى هناك بزعيم قضاعة واسمه مثل اسمه فتحالفا على التعاون في القتال فسميا " تنوخا "، وكان ذلك أيام ملوك الطوائف أو في أوائل النصرانية.

وللاخباريين روايات مختلفة بعض الشيء في انساب هذه القبائل العربية التي تألفت منها تنوخ وأسماء زعمائها فبعضهم يروي أن جذيمة هو ابن مالك بن فهم القضاعي- وهذا ما نرجحه كذلك.

ومما تقدم نرجح كذلك أن هذه القبائل المتحالفة والمندمجة شحت اسم تنوخ هي التي قضت على ما للجرهيين من بقايا حضارة بعد أن تدهورت أحوالهم المادية حسبما أسلفنا ذكره. وبمرور الزمن اخذ الغزاة البدو يندمجون في الحياة الحضارية ويأخذون عن إخوانهم الحضر ما توصلوا إليه من أسباب حضارة وتنظيم، كما ادخل أهل البادية بدورهم على هذا الإقليم لهجتهم العربية التي كانت نواة للغة الفصحى.

ولعل التاريخ بخل علينا بالشيء الكثير عن تلك الفترة التي مرت علي هذا الإقليم تحت حكم قبيلة تنوخ، ولكن يحدثنا انهم بعد أن استقر حكمهم في البحرين تطلعت نفوسهم إلى ريف العراق مغتنمين فرصة الخلاف والشقاق بين ملوك الطوائف حينذاك، فأجمعوا على المسير إلى العراق.

وتتابعت غاراتهم على أطراف العراق فكان أول من أغار منهم عليه حسب رواية ابن الأثير الحيقاد بن الحنق وهو في جماعة من قومه وأخلاط من الناس فوجدوا الاراميين -وهم الذين ملكوا أرض بابل وما يليها حتى ناحية الموصل- يقاتلون الاردوانيين من ملوك الطوائف ما بين نفر وهي قرية من سواد العراق إلى الابلة، فدفعوهم عن بلادهم. والاراميون من بقايا ارم فلهذا سموا الاراميون وهم نبط السواد. ثم طلع مالك وعمرو ابنا فهم بن تيم وغيرهما من تنوخ إلى الانبار على ملك الاراميين، وطلع كذلك نماره ومن معه إلى نفر على ملك الاردوايخين وكانوا لا يدينهن للأعاجم، تم نزلوا فيما بين الانبار والحيرة في الاخبية لانهم كانوا لا يسكنون بيوت المدر.

واول من ملك منهم هو مالك بن فهم وكان منزله فيما يلي الانبار ثم بعد موت مالك خلفه أخوه عمرو بن فهم وتلاه جذيمة الابرش بن مالك. ووصف المؤرخون(1) جذيمة بأنه ملك عظيم ومن أفضل ملوك العرب رأيا وحزماً وأشدهم نكاية، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق وضم إليه العرب، وغزا بجيوشه أراضي كثيرة. وحيث أنه لم يكن له ولد يرثه فقد خلفه على الملك ابن أخته عمرو بن عدي بن نصر بن الخم وكان بدء حكمه سنة 268 م. وكان عمرو بن عدي جد الملوك اللخميين المناذرة واول ملك من ملوك العرب اتخذ الحيرة عاصمة لملكه، وهو أول من ذكره أهل الحيرة في كتبهم.

هذا ومن المشهور حسب أقوال المؤرخين أن إقليم البحرين كان خلال تلك الفترة تحت حكم المناذرة حلفاء الإمبراطورية الساسانية. ولقد كان للساسانيين بدورهم نفوذ على ملوك هذه الدولة وهو نفوذ يمتد تارة ويتقلص تارة أخرى تبعا للظروف ولشخصيات الملوك من الطرفين.

ولعل الجدول الزمني الذي استخلصناه من عدة مصادر، وفقنا حسب اجتهادنا بين بعضها البعض، يعطينا فكرة عن علاقة تلك الدول المعاصرة لنظيراتها وعن سنوات حكمهم أيضا ومن المفيد أن نسجل ما ذكره العلامة الدكتور جواد علي في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام" في الجزء الثالث بأنه قد ورد اسم جديمت أي جذيمة في نص نبطي عثر عليه في أيام الجمال بسوريا وجاء فيه: "هذا موضع أي قبر فهر بن شلى مر بي جديمت ملك تنوح" وقصد به تنوخ.ولهذا النص على قصره أهمية بالغة وخاصة أنه يشير إلى الصلة التي كانت بين الأسرة الحاكمة في الحيرة وعرب الشام. ولا يمكن أن يعرف على وجه التحديد من هذا النص أكان مربي الملك في ديار الشام أم في ديار العراق؟ غير أن النص يثبت لنا أن في القصص التي ذكرها الاخباريون عن جذيمة الابرش وعن الزباء(3) جانبا من الصحة وذلك لما بين الحيرة وتدمر من صلات تاريخية قديمة والتي أوحت إلى الإخباريين تدوين قصصهم وتكرارها بشيء من التعديل والإضافة كل حسب روايته

في عهد الجرهائيين، مع ملوك الحيرة الجدول الزمني ملوك آل لخم في الحيرة (المناذرة) اسم الملك نهاية الحكم ب م سنة الحكم ب م عمرو بن عدى 288 268 امرؤ القيس بن عمرو 328 288 اوس بن قلام 330 325 عمرو بن امرؤ القيس 382 370 امرؤ القيس المحرق بن عمر 403 382 النعمان الاعور بن امرؤ القيس 431 403 المنذر بن النعمان الاعور 473 431 الأسود بن المنذر 493 473 المنذر بن المنذر (اخوه) 500 493 النعمان بن الأسود 504 500 علقمة أبو يعفر 507 504 امرؤ القيس بن النعمان 514 507 المنذر بن مرؤ القيس، الملقب بابن ماء السماء 523 514 الحارث بن عمرو الكندي 527 523 المنذر بن ماء السماء 554 527 عمرو بن هند مضرط الحجارة 569 554 قابوس بن هند (اخوه) 577 569 فيشهرت اوزيد 578 577 المنذر بن قابوس ابن ماء السماء 582 578 النعمان بن المنذر الملقب ابوقابوس 613 582 اياس بن قبيصة 618 613 زاديه 638 618

ملوك الدولة الحميرية الثانية في اليمن (التبابعة) اسم الملك نهاية الحكم ب م سنة الحكم ب م سمر يهرعش 300 270 ذو القرنين أو افريقس 310 300 يمر يهرجب 330 320 (فترة غير معروفة) 345 335 استيلاء الحبشة على اليمن 374 345 ملكيكرب يوهنعم (ينعم) 400 370 ابوكرب اسعد بن ملكيكرب 415 400 حسان بن ابوكرب اسعد 425 415 شرحبيل يعفر ابن أبي كرب اسعد 455 425 عبد كلال (كلالم) 460 455 شرحبيل يكف 470 460 معدى كرب ينعم وابنه لحيعث 495 470 مرثد الن ينف 515 495 معدى كرب يعفر 516 515 ذو نواس 525 516 الحبشة عام الفيل 570 570 ابرهة 575 525 سيف بن ذى يزن ؟ 570 بطل الأقاصيص الشعبية ؟ 575

ملوك الإمبراطورية الساسانية الساسانيون (الفرس) اسم الملك نهاية الحكم ب م سنة الحكم ب م اردشير 241 226 سابور الأول بن اردشير 272 241 بهرام الأول هرمز بن سابور 273 272 بهرام الثاني ابن بهرام 276 273 بهرام الثالث ابن بهرام بن بهرام 293 276 نرسى بن بهرام 302 293 هرمز الثاني ابن نرسى 309 302 سابور الثاني ذو الأكتاف 379 309 اردشير الثاني ابن سابور 383 379 سابور الثالث ابن سابور 388 383 بهرام الرابع ابن سابور 399 388 يزدجرد الأصل ابن بهرام 420 399 بهرام جور الخامس ابن يزدجرد 438 420 يزدجرد الثاني ابن بهرام 457 438 هرمز الثالث فيروز بن يزدجرد 484 457 بلاش بن فيروز 488 484 قباذ الأصل بن فيروز 497 488 كسرى انوشيروان ابن قباذ 531 499 هرمز الرابع بن كسرى 579 531 كسرى ابروزير ابن هرمز 590 579

استخرج المؤلفان هذا الجدول الأعور لأهميته وذلك بعد دراسات مقارنة لبضعة مراجع أثبتناها في آخر هذا الكتاب.. وقد أجريت على هذا الجداول بعض التعديلات.

وهنا نود أن نتوقف قليلا لنلقي نظرة سريعة على الدول المجاورة والتي كان لها بحكم الجوار تأثير كبير على تاريخ البحرين السياسي بوجه خاص ونعني بتلك ثلاث دول هي:- الإمبراطورية الساسانية.
دولة المناذرة في الحيرة.
دولة التبابعة في اليمن.

دولة اللخميين

بدأ حكم ملوك دولة اللخميين بعمرو بن عدي اللخمي كما يوضحه الجداول السابق، وبعد وفاته عام 288 م تولى الحكم ابنه امرؤ القيس بن عمرو، وهو من أقوى ملوك دولة اللخميين.

امرؤ القيس بن عمرو بن عدي وهو الملقب بالبدء. تولى الحكم عام 288 م وكان معاصرا من ملوك الفرس لبهرام الثالث ونرسى بن بهرام وهرمز الثاني بن نرلمى وسابور ذى الأكتاف. ويبدو من خلال تاريخ مدة حكمه التي استمرت أربعين عاما أن امرؤ القيس كان يهدف إلى توحيد العرب في دولة واحدة ويكون هو ملكا عليها. ولكن الظروف لم تساعده فقد مات بعيدا عن عاصمة مملكته عام 328 م.

وعثر على قبره المستشرق الفرنسي دوسو Dussaud بين خرائب النمارة في حوران. ومن بين أنقاض ذلك القبر وجد حجرا من البازلت مقاسه 4 أمتار و 40 سنتمترا 3 أمتار و 30 سنتمترا تقريبا ويكون الحجر العتبة العليا من القبر، ومكتوب عليه بالحرف النبطي وهو اقرب إلى اللسان العربي العدناني كما هو شائع حينذاك طول متر وستة عشر سنتمترا عرض 23 سنتمترا كما توضحه الصورة ص 101 والمنقولة عن كتاب "تاريخ العرب قبل الإسلام" الجزء الثالث للدكتور جواد علي: وترجمة هذه الكتابة تقرأ على النحو التالي: 1- هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي تقلد التاج. 2- واخضع قبيلتي أسد ونزار وملوكهم وهزم مذحج وقاد. 3- الظفر إلى أسوار نجران مدينة شمر واخضع معدا واستعمل بنيه. 4- على القبائل ووكلهم فرساناً للروم فلم يبلغ ملك مبلغه. 5- إلى اليوم. توفى سنة 223 م في اليوم السابع من أيلول سبتمبر وفق بنوه للسعادة. وكان أهل الشام وحوران وما يليهما يؤرخون في ذلك الوقت بالتقويم

البصروي نسبة إلى بصرى عاصمة حوران، وهو يبذأ بدخولها في حوزة الروم سنة 105 للميلاد. فإذا أضفنا هذا العدد إلى 223 المذكور على الحجر أصبح المجموع 328 للميلاد وهي نفس السنة التي ذكرناها أعلاه والتي توفى فيها امرؤ القيس.

ومما سجل على قبره أن امرأ القيس قد اخضع لسلطانه قبائل معد وفروعها وأن نفوذه امتد إلى البحرين والحجاز ونجد وأطراف العراق والشام واليمن، كما أنه حارب شمر يرعش الحميري وحاصر مدينة نجران، وهذا ما يؤيده العلامة ابن خلدون بقوله: "ولما طك عمرو بن عدى ولى بعده على العرب وسائر من بادية العراق والحجاز ونجد والجزيرة امرؤ القيس بن عمرو بن عدي ويقال له البدء، وهو أول من تنصر من ملوك ال نصر(1) كما ذكر ابن خلدون أن امرأ القيس قد تملك في عهد سابور ذي الأكتاف(2)

ومن الجدير بالذكر أن امرأ القيس أمضى سني حكمه الأولى خاصة وهو يمني نفسه بقيام دولة عربية كبيرة ومستقلة عن نفوذ الإمبراطورية الساسانية. وقد مهد لذلك الهدف بمحاربة القبائل العربية أولا وإخضاعها داخليا لسلطانه، ثم بعد ذلك حارب شمرير عشى ملك الدولة الحميرية في اليمن وقلص نفوذه إلى ما وراء فجران. وفي عام 359 م واتت امرؤ القيس فرصة أخرى حينما توفى هرمز الثاني بن نرسى الذي لم يخلف وريثا لعرش الساسانيين ولكن كانت إحدى زوجاته حاملا فأوصى بالملك من بعده للحمل الذي في بطنها. فولدت غلاما هو سابور فلقب بذي الأكتاف ابن هرمز. وبايعته الفرس حين ولادته ولم يزل صغيرا، فاختلت شأن الإمبراطورية الساسانية إلى حين وطمع فيها من جاورها. فاستغل امرؤ القيس تلك الفرصة وأخذ يعمل على إنشاء الدولة العربية التي كان يحلم بها. ولما دانت له القبائل العربية أوعز إلى عبدالقيس ومن يسكن البحرين من قبائل العرب بمهاجمة سواحل فارس فعبروا الخليج بسفنهم. وفي هذا يقول ابن الأثير: وسمع الملوك أن ملك الفرس صغير في المهد فطمعت في مملكته العرب والروم معاً، ولما كانت العرب أقرب إلى بلاد فارس سار جمع عظيم منهم في البحر-وبينهم من بني عبدالقيس بالبحرين- إلى بلاد فارس وسواحل أردشيرفره، وغلبوا اهلها على مواشيهم ومعايشهم واكثروا الفساد. ومن هذه الواقعة نستدل على عدة أمور: أولا: أن القبائل العربية من ربيعة كانت تسكن البحرين قبل القرن الرابع الميلادي. ثانيا: أن مهاجمة الدولة الفارسية عن طريق البحر كان بأمر من امرئ القيس الذي كان يدأب على تكوين الدولة العربية التي كان يعاضدها عدد من القبائل العربية في منطقة الخليج.

ويرجح كذلك أن امرأ القيس قد أمر اياد بالإغارة على سواد العراق. وفي ذلك كتب ابن الأثير أيضا: وغلبت اياد على سواد العراق واكثروا الفساد فيهم، فمكثوا حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لصغر ملكهم وهذا دليل آخر على خضوع بقية القبائل العربية لسلطان امرئ القيس. ولكن الإخباريين سامحهم الله لا يرون للعرب دولة قبل الإسلام، فأهملوا عدداً من حقائق التاريخ لانهم اعتمدوا في الغالب على الروايات الفارسية.

غير أننا نرى أن نستخلص مما تقدم بأن امرأ القيس قد قام فعلا بمحاولة تأسيس دولة عربية كبيرة امتد نفوذها من مشارف الشام وسواحل البحر الأحمر إلى حدود اليمن وسواد العراق بما في ذلك شطري الخليج العربي وإقليم البحرين.

ولما ترعرع سابور ذو الأكتاف وبلغ من العمر 16 سنة تولى أمور مملكته فبادر إلى إصلاح أوضاعها الداخلية بسرعة، ثم تطلع إلى استرجاع حدود إمبراطورية أسلافه. ولهذا شرع بتوجيه جيوشه ضد العرب أولا، وفي هذا يصف لنا لقيط ابن يعمر الأيادي -وقد كان يعمل في حينه في البلاط الفارسي- تحذيره لقبيلته ناشدا:

سلام في الصحيفة من لقيط إلى من بالجزيرة من اياد بأن الليث كسرى قد أتاكم فلا يشغلكم سوق النفاد أتاكـم منهم سـبعون ألفا يزجون الكتائب كالجراد

ثم أرسل لقيط رسالة أخرى ينذر بها قومه:

يا أيها الراكب المزجى مطيته إلى الجزيرة مرتادا ومرتبعا أبلغ ايادا وخلل في سراتهم اني أرى الرأي أن لم أعص قد نصعا لا تلهكم ابل ليست لكم ابل أن لعدو بعظم منكم قرعا قوموا قياما على أمشاط أرجلكم ثم افزعوا كي ينال الأمن من فزعا

وقال ابن خلدون عن سابور ذي الأكتاف: "حتى إذا كبر وعرضوا عليه الأمور فأحسن فيها الفصل وبلغ ست عشرة سنة من عمره ثم أطاق حمل السلاح نهض حينئذ للاستبداد بملكه. وكان أول شيء ابتدأ به هو شأن العرب فجهز إليهم العساكر وعهد إليهم أن لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم.

ثم شخص بنفسه إليهم وغزاهم، وهم غازون بلاد فارس فقتلهم أبرح القتل. وعن قصيدة لقيط كاتب البلاط الفارسي يحق لنا أن نتساءل: هل جهز سابور سبعين ألف جندي وقادهم بنفسه لمحاربة قبيلة واحدة فقط في ذلك الوقت؟ نرجح الجواب بالنفي. وفي هذا نرى أن سابور نحو الأكتاف قد جهز تلك القوة الكبيرة حينذاك وترأس قيادتها بنفسه لمحاربة الدولة العربية الناشئة بزعامة امرئ القيس بن عمرو. فتحركت جيوش سابور تجاه عاصمة الدولة العربية في الحيرة سنة 325 م(2) واشتبكت مع العرب في حروب ضارية. ولما كان الفرس أكثر تنظيما وأقوى سلاحا استطاع سابور أن يحتل الحيرة منتصرا وولى عليها أوس بن قلام (1) بعد أن تقهقر امرؤ القيس بجنوده تجاه إقليم البحرين. ثم تبعه سابور أسرف في القتل في الخط وهجر حتى سالت دماء العرب على الأرض، وتابع سابور زحفه إلى اليمامة وهو يغور المياه ويخلع أكتاف العرب تنكيلا بهم، ولذلك سموه سابور ذا الأكتاف. ويحدثنا العلامة ابن خلدون نقلا عن السهيلي بأن سابور قال: إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أن لكم دولة.

واثر تلك الهزيمة التحث امرؤ القيس إلى دولة الروم في الشام وعلى رأسها قسطنطين الكبير الذي تحالف معه فأسكنه حوران على أطراف مملكته وبما أن قسطنطين هو أول من تنصر من ملوك الروم واول من عمل على تنشيط الحركة التبشيرية واجتهد في تنظيمها ونشرها، فقد اعتنق امرؤ القيس النصرانية أيضا. وقبل ذلك كان هذا الأخير وثنيا يدلنا على ذلك اسمه امرؤ القيس أي خادم القيس، والقيس اسم لصنم من أصنام العرب التي كانوا يعبدونها.

وبعد أن مات امرؤ القيس في الشام ودفن على حدودها حيث يوجد قبره ظل بنوه لمدة سنتين خارج الحكم إلى أن نشبت الفتنة في الحيرة عام 330 م حينما قتل جحجبان بن عتيق اللخمي أوس بن قلام الذي أوردنا ذكره. ويحدثنا المؤرخون بأنه بعد أن يئس أبناء امرئ القيس من مناصرة الروم لهم عادوا بزعامة عمرو بن امرئ القيس إلى حكم الحيرة بعد مقتل أوس.

وذلك لان الفرس اتصلوا بهم ليحاربوا معهم ضد الروم. وهكذا أصبح حكم اللخميين خاضعا أيضا لسلطان الفرس ونفوذهم الذي كان يشتد حيناً ويضعف حينا آخر أتقيس لشخصية الملوك من الطرفين، أو لقرب وبعد أي إقليم من عاصمتهم. وعليه نرجح أن إقليم البحرين كان خاضعا لنفوذ اللخميين التابعين، كما هو معروف، بدورهم للإمبراطورية الساسانية، ولم يكن حكم الأخير على البحرين حكما مباشرا إلا في بعض الفترات.

البحرين من القرن الرابع إلى ظهور الإسلام

استطاع العرب في أوائل القرن الرابع الميلادي وبقيادة امرؤ القيس بن عمرو أن يؤسسوا أركان دولة عربية لو حالفتها الظروف لكان لها شأن يذكر في التاريخ.. ولكن الفرس استطاعوا القضاء عليها ولم تزل في بداية نشوئها كما أسلفنا.

ومنذ عام 325م إلى 378م مر العرب بفترة قاسية كانت من أسوأ الفترات التي مرت عليهم في تاريخهم القديم، فقد احتل الفرس الأطراف الشرقية من جزيرة العرب، واحتل الأحباش اليمن فقضوا على دولة الحميريين فيها، وغزا الروم الشام والأطراف الشمالية لبلاد العرب وبذلك قضوا على استقلال الدويلات التي كانت للعرب في اليمن والحيرة وتخوم الشام، ولم يبق بعيدا عن ذلك الاحتلال غير الحجاز وبعض أقسام نجد وباديتها.

وفي عام 378 م استطاع الحميريون بقيادة ملكيكرب ينعم أو ملك كرب (يهأمن) أن يحرروا اليمن من سيطرة الأحباش وبويع ملكيكرب ملكا على اليمن ولقب بملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات. ولكن العرب لم يستطيعوا التخلص من أكبر دول العالم في ذلك العصر وهما دولتا الفرس والروم.

وبما أن هاتين الدولتين ليس لهما مطامع في داخلية جزيرة العرب وصحاريها فقد أعاد الفرس إلى اللخميين سلطانهم على الحيرة بعد قتل اوس بن قلام كما أسلفنا، ثم تحالفت الدولة الساسانية مع هذه الإمارة واتخذت منها أداة رادعة لصد هجمات القبائل العربية المتكررة على حدود مملكتها، كما جعلتها عونا لها في الحروب التي تنشب بين الساسانيين وبين الروم.

أما التبابعة في اليمن فقد وسعوا نفوذهم في جزيرة العرب في عهد أبو كرب. اسعد بن ملكيكرب وابنه حسان أضيف إلى لقبهما ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنات وأعرابهم طودم (وتهمتم) أي وأعرابها في الجبال وتهامه. ويروى الاخباريون أن حسان بن أسعد بن ملكيكرب ساعد أخاه لامه حجر بن عمرو سيد قبيلة كنده على تأسيس إمارة كنده التي امتد سلطانها على قبائل معد، وكانت هذه القبائل تابعة لسلطة تبابعة اليمن كما كانت إمارة المناذرة تابعة للفرس حينذاك. ولما كان لأمراء كئدة دور كبير في تاريخ إقليم البحرين ونجد فإننا سنذكر هذه الإمارة باختصار.

إمارة كندة

اختلف الرواة في اصل قبيلة كندة هل هم قحطانيون أم عدنانيون. يرى الأستاذ جرجي زيدان أن كندة بطن من كهلان وأصلهم فيما رواه الثقاة من البحرين والمشقر وانهم أجلوا عنها حضرموت وعددهم ثلاثين ألف نفس في زمن لا يمكن تحديده، ثم أقاموا هناك إلى ما شاء الله وفي بلد يعرف باسمهم كنده، وهذه الأخيرة مرتفع من الأرض يشرف على حضرموت وتصب أوديته فيه، ثم إلى صهرة وقصبته الكبرى دمون. أقام الكنديون هناك دهرا من الزمان وهم على وفاق مع الحميريين حكام تلك البلاد. وكان الحميريون يستخدمون خاصة كندة وكنارهم في بعض مصالحهم ويدخلونهم في حاشيتهم أو بطانتهم.

أما الدكتور جواد علي فبعد أن يستعرض مختلف الروايات عن الكنديين يرى أن كندة كانت قبيلة على اتصال وثيق بالقبائل الحجازية المنتسبة بدورها إلى معد وعدنان، وربما كان اتصال كندة هذا أوثق وأقوى من اتصالها بقبائل قحطان خلافا لما يرى النسابون من أن كندة تنتمي إلى قبائل قحطان.

ومن بين تلك الروايات نرجح انه في حوالي عام 410 م تمكن حسان بن اسعد ملكيكرب -وكان مشاركا لوالده حكم اليمن في حياته- أن يمد نفوذه إلى القبائل العدنانية المنتشرة في بادية نجد و (البحرين) وان يولي عليهم أخاه لامه حجر بن عمرو الملقب بآكل المرار. وعلى يد هذا الأمير تأسست إمارة كندة. واستقام حجر في الحكم حوالي 40 سنة أي أن وفاته كانت عام 450 ميلادية تقريبا. وخلفه في الحكم ابنه عمرو بن حجر الملقب بالمقصور. وفي أوائل سني حكمه أي في حوالي العقد السادس من القرن الخامس الميلادي ثارت قبائل معد بقيادة كنيب وائل واستطاعت التخلص من حكم اليمن حيث انتصرت على القبائل القحطانية في وقعة خزازى المشهورة في التاريخ.

وعلى الأرجح فإننا نرى أن وقعة خزازى كانت في هذه الفترة الزمنية بالذات وذلك للأسباب التالية: أولا: أن عمرو بن حجر لم تكن له شخصية قوية كوالده لذا لم يستطع أن يسيطر على قبائل معد التي شنت عليه الحرب. ثانيا: طبيعة الحوادث التي أصابت البيت المالك في اليمن اثر ثورة عبد كلال كلالم عليهم. فقد انتقل الملك في عام 455 م من ذرية ملكيكرب إلى عبد كلال الذي كانت ثورته على ما نرجح ثورة دينية حيث اتبع هو ومن ناصره المسيحية. في هذا ذكر نشوان بن سعيد الحميركب في قصيدته هذا التبع بقوله: أم أين عبد كلال الماضي على دين المسيح الطاهر المساح ثالثا: لقب عمرو بن حجر بالمقصور كناية عن ضعفه وإشارة إلى تقلص نفوذه. رابعاً: من دراستنا لاعمار القائمين بهذه الحروب راجع الجدول نجد أن هذه الفترة من الزمن هي اقرب وانسب فقرة لوقوع معركة خزازى.

ولقد أتينا على ذكر معركة خزازى لاعتقادنا بأنها من المعارك الفاصلة في التاريخ والتي كانت لها نتائج واسعة في الجزء الشرقي من جزيرة العرب وبصورة خاصة نجد و البحرين حيث سيطرت عليهما قبائل ربيعة وهي تغلب وبكر وعنزة وعبد القيس وضبيعة والنمر بن قاسط، وتوجوا كليبا أميراً عليهم. وبسبب هذه القبائل وانتشار عاداتها طغت لهجة عرب الشمال على سكان هذا الجزء من جزيرة العرب، واحتلت العربية الفصحى الصدارة وبرز شعراؤها منذ ذلك التاريخ وعلى رأسهم المهلهل وهو عدي بن ربيعة أخو كليب بن وائل والمهلهل لقبه حيث يقال بأنه أول من هلهل الشعر. ويذكر المؤرخون سيطرة أبناء وائل على جزر البحرين، وان أكبر تلك الجزر وهي المنامة حاليا استمدت اسمها أوال من اسم صنم أبناء وائل كان مقاماً فيها. وسكان قرية داركليب في البحرين يذكرون أن قريتهم قد استمدت اسمها على الأرجح من اسم كليب وائل. هذه أخبار تناقلتها الأجيال ولا ندري مداها من الصحة سيما إذا عرفنا أن منازل كليب وائل هي حمى ضربه والذنائب وابانين وواردات كلها في نجد بالقرب من حائل، ولكن لا نعرف إذا كان كليب ينتقل صيفا إلى إقليم البحرين لما كانت له السيطرة في استيفاء رسوم فرضها إبان حكمه، وقد يكون لذلك صلة دينية حيث يوجد صنم القبيلة قي أوال جزيرة البحرين. ولبكر بن وائل كذلك صنم يدعى المحرق الذي قد تكون له صلة باسم جزيرة المحرق. وأما عبد القيس فلها صنم يدعى المشقر ومحله بالمشقر في هجر بالاحساء.

غير أن هذه القبائل لم تستطع أن تحافظ على وحدتها مدة طويلة فقد قتل جساس بن مرة كليب وائل ونشبت بين حيى بكر وتغلب حرب البسوس المشهورة التي دامت أربعين سنة. وعلى اثر مقتل كليب تفككت رابطة قبائل ربيعة التي أضنتها حرب البسوس.

وفي عام 490 م توفي عمرو بن حجر وخلفه ابنه الحارث بن عمرو الذي استهل حكمه بأن عقد صلحا بين بكر وتغلب واصهر بتغلب بأن زوج ابنه حجر بفاطمة بنت ربيعه. وعلى ما يظهر فان هذا الزواج كان زواجا سياسياً قصد منه الملك الحارث الاستعانة بقبائل وائل في حروبه ضد أمراء لخم والغساسنة، وبذلك يستطيع أن يستعيد ما لجده حجر من سيطرة على جزيرة العرب. ولقد كان الحارث من دهاة ملوك كندة وهو لا يتورع أن يسلك أي طريق يوصله لتنفيذ غايته وإلا كيف يزوج ابنه من امرأة في منتصف العمر إذ هي أخت لكليب والمهلهل. وإذا عرفنا أن حرب البسوس عندما نشبت لم يكن ربيعة أبو فاطمة موجود على قيد الحياة! ولما كانت تلك الحرب قد دامت أربعين سنة فمعنى ذلك أن فاطمة بنت ربيعة كانت في العقد الخامس من عمرها على الأقل. ولهذا كله لم يوفق ذلك الزواج إذ ما لبث حجر أن ترك زوجته مع وليدها امرؤ القيس الشاعر وهو من أصحاب المعلقات. ولى ليلنا على ذلك قول امرؤ القيس نفسه عندما علم بمقتل أبيه "ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا". ولكن فاطمة استطاعت أن تهب لابنها فصاحة خاله المهلهل كما كانت تغذيه بلهجتها العدنانية حتى استطاع امرؤ القيس أن يبز غيره من شعراء العرب.

في أوائل القرن السادس استطاع الحارت الكندي أن يقوى سيطرته على الجزيرة العربية ويضم إلى سلطانه كثيرا من القبائل العربية مما أثار عليه سيد الخورنق الملك المنذر ابن ماء السماء الذي لا يقل عنه دهاء وحنكة.وهكذا بدأ الصراع بين الملكين سجالا تمكن الحارث أن يبعد المنذر من الحيرة ويسيطر عليها فترة من الزمن.

ويعزو الاخباريون أن سبب احتلال الحارث للحيرة أن قباذ ملك الفرس لما اعتنق المزدكية طلب من المنذر موافقته على اعتناقها فرفض ووافقه الحارث على الدخول في مذهبه الأمر الذي جعل قباذ يساعد الحارث في احتلال الحيرة التي هرب منها المنذر. وبعد وفاة قباذ عام 531م واستيلاء ابنه كسرى انوشروان على الحكم ومطاردته لاتباع مزدك، تمكن المنذر من استعادة ملكه في الحيرة وهرب الحارث بدوره منها هو وأهله إلى أرض كلب حيث قتل هناك وبعد أن غنم المنذر أمواله وهجانه تمكنت بنو تغلب من أسر ثمانية وأربعين رجلا من بني حجر آكل المرار، فأمر المنذر بقتلهم. وقد رثاهم امرؤ القيس بقصيدته التي يقول فيها: ملوك من بني حجر بن عمرو يساقون العشية يقتلونا

وبعد مقتل الحارث تقاسم بنوه الحكم على القبائل العربية، ولكن المنذر أخذ يدس الدسائس بين الاخوة الذي نشب الصراع فيما بينهم، وبذا استمال إليه القبائل العربية التي كانت تناصرهم حتى تمت للمنذر السيطرة عليهم.

وبعد أن استتب الأمر له قام المنذر بمساعدة كسرى انوشروان ببعض الحروب ضد الدولة البيزنطية. فمثاو في عام 531 م زحف المنذر بجيوشه على مملكة الروم لينجد كسرى ويسانده حيث أن كسرى كان في بداية تأسيس حكمه، وكانت دولة الروم مشغولة حينذاك بالفتح في أوروبا فقد اضطر القيصر جوستنيان إلى مصالحة انوشروان. ولكن في سنة 532م تجدد القتال وذلك أثر مهاجمة المنذر للحارث الغساني، فانتصر كسرى للمنذر وأمده بجيوش جرارة فأوغل المنذر إلى داخل أراضي الشام، بينما انتصر الروم للحارث واشتعلت الحرب بين الفرس والروم حتى كاد كسرى أن يحتل القسطنطينية لولا توصل الطرفين إلى عقد الصلح ثانية.

وهكذا نجد انه في النصف الأول من القرن السادس الميلادي كانت الحياة الاقتصادية متدهورة في إقليم البحرين خاصة وجزيرة العرب عامة وذلك بسبب الحروب التي نشبت بين قبائل العرب بعضهم البعض من جهة وبين ملوك دولتي الفرس والروم في صراعهم بغية السيطرة على طرق التجارة البرية والبحرية من جهة ثانية. فمثاو ركز الروم جل جهدهم في اليمن التي تسيطر بحكم موقعها على باب المندب مفتاح البحر الأحمر، ومن جراء ذلك أخذت قوافل المبشرين بالدين المسيحي تنتشر في جزيرة العرب عامة واليمن بصورة خاصة وبعض أولئك كانوا يدعون إلى الدين بنية صالحة والبعض الآخر يتظاهر بالدين فيمهد للسيطرة التي لأجلها فتحت الأديرة وبعض الكنائس وقد كان لجزيرة البحرين نصيب من ذلك حيث أسس أحد الرهبان الدير المعروف في جزيرة المحرق، ولا تزال هذه القرية تحمل نفس الاسم -الدير. وحول هذا الدير تل عليه آثار بناء يسميه أهل القرية الراهب.

وكان مركز التبشير الرئيسي في نجران حيث اعتنق كثير من أهلها النصرانية، ولهذه الأخيرة هناك جذور قديمة منذ أيام ثورة عبد كلال (455-460م) كما سبق أن أسلفنا. كما كانت الدولة الحبشية المجاورة تغذي تلك الحركة التبشيرية دعماً للديانة المسيحية التي تدين بها ولكون الحبشة كذلك الحليف الديني المخلص لدولة الروم. هذا وكانت لليهود جالية كبيرة متأصلة في اليمن حيث تبشر هي بدورها بالديانة اليهودية. وكان لتلك الجاليات انتشار واسع في أقاليم جزيرة العرب بين الحجاز والبحرين، ولها ارتباطات ببعضها البعض. وبحكم المصلحة الدينية والتجارية فقد كانت اليهودية حليفة للدولة الفارسية ، لان سيطرة الروم على طريق التجارة تضعف من المركز التجاري لليهود الذين كانت أعمالهم ومعاملاتهم تدور في الخفاء كما هو معروف عنهم.

لم تقو الوثنية العربية على الصمود أمام الحركة التبشيرية بالديانتين السماويتين اليهودية والمسيحية اللتين ازداد اتباعهما في اليمن خاصة ويلاحظ معالم التشكك في شعراء العرب المعاصرين أمثال امرئ القيس في أصنام أجدادهم، حتى أن بعضهم أخذ يدعو للحنيفية نسبة إلى ديانة إبراهيم الحنيف. ويبدو أن ذ لك الصراع بين القبائل قد أضعف من مركز التبابعه في اليمن والذين اخذوا يخشون من ازدياد قوة المسيحيين، فاستغل اليهود كعادتهم تلك الظروف لصالحهم. ففي عام 514م وبعد وفاة معدي كرب يعفر تولى الحكم ذونواس راجع الجدول الزمني لملوك الدولة الحميرية الثانية الذي اضطرته الظروف السياسية والاقتصادية حينذاك إلى اتباع الديانة اليهودية لكي يضمن مناصرة اليهود له بتجارتهم وبأموالهم في مقاومته ضد الروم الذين كانوا يسيطرون على الطرق التجارية مما أدى إلى إضعاف تجارة اليمن. ولهذا أخذ ذونواس على عاتقه محاربة الروم، فهاجمهم بحرا وتعرض لسفنهم كما هاجم نجران مركز النصرانية في جزيرة العرب وتغلب على أهلها بل وعاملهم بدون رحمة ولا شفقة حينما حفر لهم الأخاديد وأشعل النيران فيها ثم رمى أسراهم بداخلها. وقد ذكر القرآن تلك الحادثة في سورة البروج: (قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُود، النَّار ذَات الوَقُود، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُود، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُود، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُم إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ، الذِي لَهُ مُلْكُ السَّمواتِ وَالأَرْض، وَالله عَلَى كُلِ شَيٍء شَهِيد).

ونتيجة للهجمات التي شنها ذونواس توقفت حركة التجارة الرومانية مع الهند والشرق الأقصى. كما تركت المذابح التي قام بها أسوأ الأثر في قلوب المسيحيين، فأوعز الرومان إلى إمبراطور الحبشة بأن يهاجم اليمن ويقتص من ذى نواس. وفعلا جهز الأحباش جيشاً عظيما بقيادة أكابر قوادهم عام 525م وتمكنوا بعد حروب دامية من السيطرة على اليمن وقتل ملكها ذى نواس.

وبعد أن احتل الأحباش أرض اليمن تعرضت بقية أجزاء شبه الجزيرة لفاقة اقتصادية وركود تجاري وذلك بسبب انقطاع الطرق التجارية البرية بين اليمن والشام وبين سواحل الخليج والشام أيضا حيث تنقل من هناك إلى أوروبا. وقد طالت مدة الاحتلال مما جلب الفوضى وعدم استقرار الأمن في جزيرة العرب التي أخذت الخلافات والمعارك تزداد فيها بين القبائل.

وبعد موت الملك المنذر عام 554م تولى ابنه عمرو بن هند، وكان ملكاً شديداً قاسيا على أعدائه حتى لقبه العرب بمضرط الحجارة، ولكن بطشه وقسوته أردياه قتيلا على يد عمرو بن كلثوم عام 569م. وكان نفوذ المناذرة في تلك الفترة يمتد إلى إقليم البحرين، ولى ليلنا على ذلك قصة أمره لأميره على البحرين بقتل شاعرها طرفة بن العبد

البحرين خلال العصور الإسلامية



دخول البحرين في الإسلام في الفصول السابقة لاحظنا أنه منذ العصور القديمة حتى فجر الإسلام مرت بالبحرين هجرات من الشعوب وعبرت مناطقها بما في ذلك جزيرة البحرين أمم مختلفة تركت جميعها من معالمها مادة غزيرة للباحثين والمنقبين في محتويات الأرض وتواريخها. فإنسان العصر الحجري لم تزل نتف من أثاره باقية على جبل الدخان وسط جزيرة البحرين بينما خلف الشعب الزراعي بعض معالمه على ساحلها الغربي، وحول قريتي باربار والدراز بقايا معابد يتراكم التراب عليها عاما بعد عام، والرحلات التجارية تسطر ببعض نقودها ما كان من مبادلات بين سكان دلمون البحرين وبلالى الهندوس، وأساطير السومريين والبابليين تحتفظ ببعض أسرار نصوص أرض الحياة، ومنتجات الآشوريين تشهد لسرجون ببطولته، وحدود العياوميين في دولة أرض البحر امتدت إلى جزائر البحرين وحروب فارس والاسكندر لم يزل الخليج يرددها في مده وجزره. وطاف اليونانيون بعلومهم حول البحرين فدون مؤرخهم هيرودتس نظريته بأن أصل الفينيقياينما(1) من بلاد البحرين بجزيرة العرب. وأخيراً برزت بين أولئك جميعا الشعوب السامية التي يرجح الباحثون المعاصرون بتسميتها العربية نسبة إلى جزيرة العرب موطنهم بصورة خاصة. ومن هؤلاء كانت سلالة إبراهيم الخليل وكانت منها قبائل ثمود وعدنان وقحطان وطسم العمالقة وربيعة والازد ووائل وعبدالقيس ممن كانت لهم السيادة في البحرين وما جاورها في عصور إمبراطوريات فارس والروم في الشمال والحبشة في الجنوب.

وقبل الإسلام ومع ظهور الإسلام قامت دولة العرب المسلمين وأرست قواعد إمبراطوريتهم في شرق الأرض ومغربها. ولسنا في حاجة إلى أن نذكر أن جزيرة البحرين أو أوال كما قال الاخباريون كانت جزءا لا يتجزأ من الدولة العربية الإسلامية في مختلف عصورها، بل أن البحرين قد شاركت جزيرة العرب في فترة ما قبل الإسلام في عادات العرب وأديانهم وتقاليدهم وحضارتهم. لذا سنتحاشى ما سبق إليه غيرنا من المؤرخين الإخباريين وكذلك الكتاب المعاصرين عن تسلسل الحوادث التاريخية للبحرين خلال العصور الإسلامية تلافيا للتكرار، ونوجه عنايتنا إلى بعض المسائل التاريخية خلال تلك الحقبة الزمنية.

وقبيل دخول البحرين في الإسلام كانت هناك أديان أخرى تحيط بمنطقة الخليج أهمها النصرانية والمجوسية والوثنية واليهودية. ومن الطبيعي أن تتأثر البحرين بحكم موقعها الجغرافي والتمازج الثقافي المشترك بتلك الأديان فيكون لها أتباع من اليهود والنصارى والوثنيين. ولعل هذا ما يفسر جانبا من ظاهرة التسامح الديني في البحرين بجانب الانفتاح الفكري. ولقد كانت الوثنية منتشرة في أغلب أجزاء الجزيرة العربية قبيل فجر الإسلام. وقد عرفت البحرين باسم جزيرة أوال أو آوال نسبة إلى صنم كانت تعبده قبيلة بكر بن وائل. ويحضرنا هنا ثانية ما ذكرناه في الفصل السابق عن علاقة اسم امرئ القيس بصنم كانت العرب تعبده. وبالمثل كذلك فانه يرجح أن اسم قبيلة عبد القيس يرجع إلى عبادة الأصنام. ولعل الانتساب إلى أسماء الأصنام كان أمرا مألوفا كما يدل من أسماء الأعراب(1) قبل الإسلام مثل عبد جد أو عبد ود وعبداللات وعبد مناف.

وقد ذكر العلامة جواد علي جانبا من وصف المحرق(2) مقرونا باسم امرئ القيس الذي كان يوصف بالمحرق كما نعت أيضا بمحرق الحرب. ونصادف كلمة المحرق ومحرق وال محرق في مواضيع من التواريخ المتعلقة بالحيرة. وقد أطلقها بعض الإخباريين على الغساسنة أيضا، وهم يرون أن كلمة محرق لقب أُلحق بأولئك الملوك لانهم عاقبوا أعداءهم في أثناء غزوهم لهم بحرق أماكنهم بالنار. ويرى "روتشتاين" أن هذا تفسير لظاهر الكلمة، وهو تفسير مغلوط. والصحيح في نظره أنها اسم علم لأشخاص عرفوا بمحرق ولذلك قيل "آل محرق" لا "آل المحرق". والمنذر بن حارثة المنذر الثاني الأصغر جعل لقبه "المحرق"، وذكر أت (هو الذي احرق الحيرة وبه سموا "آل محرق").

ويستفاد في هذا المقام أيضا أن من بين أصنام الجاهليين صنما يدعى محرق والمحرق، تعبدت له بعض القبائل مثل بكر بن وائل وربيعة في موضع سلمان. وقد ورد بين أسماء الجاهليين اسم له علاقة بهذا الصنم هو عبد محرق، أفلا يجوز أن يكون للمحرق إذن علاقة بهذا الصنم ويظهر أن محرقاً من الشخصيات الجاهلية القديمة الواردة في الأساطير وقد اقترن اسمه ببعض الدروع. وقد ورد "بردى محرق" كما اقترن اسمه "بنسيج داوود" مما يدل على أن هذا الاسم قد يكون من الأسماء القديمة المعروفة في أساطير الجاهليين.

وبينما كانت الوثنية منتشرة في أجزاء الجزيرة العربية سطع نور الإسلام في أواخر القرن السادس الميلادي بولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم حوالي عام 571 م. ومع أواخر هذا القرن بدأت معالم حياة جديدة تبرز في تاريخ البحرين ضمن منطقة الخليج وشرقي الجزيرة العربية. لنتذكر هنا مرة أخرى نعمتي السلام والحرية اللتين فضلهما سكان دلمون البحرين على دفع الجزية للملك انطيخوس الثالث عام 205 قبل الميلاد. وحينما جاء الإسلام إلى "ارض البحر" والى مياه "زهرة الخلود" وجد بين أهالي البحرين صدورا ترحب بنوره وتتعاطف مع سلامه المشبع بحرية الإنسان وكرامته.

وفي أوائل القرن السادس الميلادي أخذت اللغة العربية تتبلور في الظهور عند عرب الشمال خاصة. وبهذه اللغة نزل القرآن الكريم بسوره وآياته في قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْأَنَاً عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُم تَعْقِلُون) سورة يوسف الآية الثانية، و (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) سورة فصلت الآية الثالثة. وبهذه اللغة كان شعراء ما قبل الإسلام يقرضون الشعر، ومن هم من كان في بلاط ملوك الحيرة كالنابغة الذبيانى والمنخل اليشكري، وطرقة بن العبد شاعر البحرين. والى الحيرة ينسب الخط العربي المعروف بالجزم لأن أهلها أول من استنبطوه وكانت لهم عناية بعلوم الكلدان والروم التي نقلوها بدورهم إلى العرب.

وحتى أوائل القرن السابع الميلادي كان الاتصال وثيقا بين البحرين والمناذرة اللخميين. حوالي عام 613 ميلادي ولت الدولة الفارسية من قبلها حكاما على البحرين من سكانها العرب فكان آخرهم المنذر بن ساوى التميمي. وبقيت الحال كذلك إلى حين ظهور الإسلام. بل أن الاستقلال الذاتي للبحرين قد أكدته في حينه موقعة ذى قار عام 611 ميلادي حينما انتصر العرب وأكثرهم من بني بكر بن وائل وعبدالقيس على الفرس، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم ذى قار: هذا أوضاعها يوم انتصفت العرب من العجم وبي نصروا.

وبعد أن انتصر العرب على حملة أبرهة الحبشي عام 571 م جاء الإسلام يؤكد انتصارهم على الروم والفرس معاً. وامتدت الفتوحات الإسلامية العربية شرقاً وغرباً فكانت البحرين أوضاعها من شملتها أنوار دين الحق فسجلت يذلك تحولا في تاريخ منطقة الخليج. وكأي جزء من أطراف جريرة العرب فمن الطبيعي أن يرسل إليها رسول الله أحد قادته وهو العلاء الحضرمي ليدعو أهل البحرين إلى الإسلام، وكان ذلك في عام 630 م.

أرسل معه كتاباً إلى المنذر بن ساوى والى سيبخت مرزبان(2) هجر يدعوهما إلى الإسلام أو الجزية فأسلما واسلم من معهما من القبائل العربية. وأما غير العرب من المجوس (1) خاصة فقد اختاروا الجزية، فقبلها منهم.

وقد تبودلت عدة مراسلات(2) بين رسول الله ص وأهل البحرين اختتمت بزيارة وفد منهم له يترأسهم عبد الله بن عوف الاشج. وقد كان هذا الأخير دميماً، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحه بسمتين هما الحلم والأناة. وفي أثناء زيارة وفد البحرين كان عبد الله بن عوف الاشج يسائل رسول الله (ص) عن الفقه والقرآن فتعلم منه الكثير من أمور الدين.

وبموت النبي محمد صلى الله عليه وسلم ارتد من في البحرين كما ارتدت أطراف جزيرة العرب عن الإسلام(3). ولكن الجارود وهو بشر بن عمرو العبدي قام في بني قومه من عبد القيس يدعوهم للتمسك بالإسلام حتى نجح في إقناعهم وثبتوا على دين الحق. أما بقية أهل البحرين بزعامة الحطم بن ضبيعة فقد ارتدوا عن الإسلام وملكوا عليهم المنذر بن النعمان الملقب بالغرور. ولما بلغ ذلك الخليفة أبو بكر أرسل إليهم العلاء بن الحضرمي(4) الذي سار إليهم ونزل برجاله في جواثا حصن البحرين حينذاك. ولما زحفت إليه ربيعة تحاصره خرج الضوء إليها واشتد القتال الذي دام سجالا لبضعة أيام. وفى ذلك قال عبد الله الكلابي: ألا أبلغ أبا بكر الوكا وفتيان المدينة اجمعينا فهل لك في شباب منك امسوا اسارى في جواث محاصرينا وبعد ذلك الحصار خرج العلاء ذات ليلة وبيت ربيعة وانتصر عليهم فقتل الحطم -وقيل انه فر ثم قتل واندحرت ربيعة إلى الخط فتبعهم العلاء وانتصر عليهم ثم قتل المنذر الغرور كذلك. وهكذا عادت البحرين إلى طريق الإسلام بقيادة العلاء حتى أن أهل البحرين قد طلبوا من ابي بكر أن يرده إليهم حاكماً.

وفي عهد عمر بن الخطاب واصل العلاء متابعته لفلول المرتدين فهزم الكفار في دارين، كما انتصر على المكعبر الفارسي ومجوسييه في القطيف.

صورة رسالة الرسول (ص) إلى المنذر بن ساوى التميمي والي البحرين بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المنذر بن ساوى سلام عليك فإني أحمد الله إليك الذي لا اله غيره واشهد أن لا اله إلا الله و أن محمدا عبده ورسوله. أما بعد فإني أذكرك الله عز وجل فانه من ينصح إنما ينصح لنفسه وانه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني ومن نصح لهم فقد نصح لي وان رسلي قد اثنوا عليك خيرا وإني قد شفعتك في فاترك المسلمين ما أسلموا عليه وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم وانك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ومن أقام على يهوديته أو مجوسيته فعليه الجزية. محمد رسول الله

اسلم المنذر بن ساوى حين بعث الرسول مع العلاء كتابه لأهل البحرين سنة 8 هـ - 630م

فتح فارس ويبدو أن العلاء كان ينوي استكمال فتوح منطقة الخليج في الوقت الذي كان ينافسه في انتصاراته سعد بن أبي وقاص. ولعل فوز الأخير بمعركة القادسية عام 15 هـ 636م كانت الدافع الرئيسي في اتخاذ العلاء قرارا بعبور جيشه مياه الخليج العربي إلى أصطخر بساحل فارس. ففي عام 17 للهجرة استنفر العلاء الناس وقسم قيادتهم بين الجارود بن المعلى والسواربن همام وخليد بن المنذر. وبالرغم من التعليمات المعروفة عن أمير المؤمنين عمر بعدم عبور البحر فقد اجتاز جيش العلاء الخليج وتقابلوا مع جيش الفرس الذي كان يقوده الهربذ. وبعد اقتتال شديد انتصر المسلمون في عقبة الطاووس، وعن تلك المعركة أنشد خليد بن المنذر قائلا: بطاووس ناهبنا الملوك وخيلنا عشية شهراك علون الرواسيا أطاحت جموع الفرس من رأس حالق تراهم لموار السحاب مناغيا فلا يعبدون الله قوماً تتابعوا فقد خضبوا يوم اللقاء العواليا

ولكن انتصار العلاء لم يدم طويلا إذ أن الفرس قد أسرعوا ثانية فقطعوا الطريق على المسلمين إلى البصرة وذلك بعد أن أغرقوا أكثر سفنهم. ولما سمع عمر بذلك غضب على العلاء فأمر بعزله، ثم كتب إلى عتبة بن غزوان أمير البصرة يأمره بنجدة المسلمين. فأرسل هذا الأخير جيشا بقيادة ابي سبره بن ابي درهم الذي ساحل بالناس حتى انضم إلى خليد بن المنذر، ثم اشتبكوا في قتال ضد المشركين فانتصروا عليهم، وعادوا إلى البصرة محملين بالغنائم.

وكانت تلك الحادثة هي السبب في عزل العلاء عن حكم البحرين. وعلى أثر ذلك مرض العلاء وهو في طريقه إلى البصرة، وتوفى رحمه الله في موضع يسمى العدان(1) عام 24 هـ أو 25 هـ على الأرجح. وبعد وفاته ولى عمر عثمان ابن أبي العاص الثقفي على البحرين. ولكن أمير المؤمنين عزله لفترة حكم خلالها كل من قدامة بن مظعون ومعه أبو هريرة بن أميمة كذلك واليا على الصلاة والخراج. ثم عاد عثمان بن ابي العاص الثقفي يحكم البحرين إلى عمان. وفي أثناء حكمه تمكن ثانية من فتح اصطخر بفارس، كما أرسل جيشا من بني عبد القيس إلى "نانة" القريبة من بومباي بالهند. ثم تتابعت جيوش بني عبد القيس على الهند حتى استطاعت فتح جزيرة سيلان أيضا في عهد الفاروق عمر بن الخطاب.

وفي بداية خلافة عثمان بق عفان عام 24 هـ انتفضت اصطخر ثانية بزعامة ملكها شهرك، فأرسل عثمان بن ابي العاص من البحرين أخاه الحكم بن أبي العاص. وبعد أن واتت الأخير الإمدادات بقيادة عبيد الله بن يعمر استطاع جيش المسلمين فتح مدينة اصطخر وقتل ملكها الفارسي كما أتموا بعد ذلك فتح سابور وكازرون وجنابه. ولما قتل عثمان بن عفان كان على البصرة والبحرين عبد الله بن عامر يساعده عبد الله بن قيس الفزارى.

وبعد أن بويع علي ابن ابي طالب رضي الله عنه عام 35 هـ كانت جماعة من بني عبدالقيس تؤيده وتحارب في صفه ضد معارضيه. وفي عهد الإمام علي عين عمرو بن أبي سلمه لحكم البحرين ثم عزله وولى عليها النعمان بن العجلان الأنصاري.

البحرين خلال العصور الإسلامية دخول البحرين في الإسلام، البحرين في عصر حركات المعارضة البحرين في عصر حركات المعارضة من القرن السابع إلى القرن الثالث عشر الميلادي في تاريخ أية أمة من الأمم المتطورة نصادف عددا من حركات المعارضة، وما تلك القوى أو الحركات إلا دليل على نزوع الفكر إلى تحريك المجتمع وتغيير بنيته في فترات متباعدة من شأنها أن تدفع به نحو التبدل والتجديد.

ومنذ صدر الإسلام والمعارضة السياسية الدينية تبرز من حين لآخر بين مد وجزر بين ضعف وقوة في تباين ملحوظ من الحصر تارة ومن الشمول أحياناً. وبعض تلك الحركات كانت خاصة بطبقة معينة من الناس والبعض الآخر منها شاملة لكل طبقات المجتمع تقريبا. وكما أن قوى المعارضة لم تقتصر على حاضرة الدعوة الإسلامية في مكة، كذلك نلاحظ اثارها في القول والرأي والعمل منتشرة بين المسلمين وغير المسلمين أيضا مع امتداد الفتوحات الإسلامية. ولذا تنوعت أصول المعارضة وأهدافها في مختلف أصقاع الدولة الإسلامية. ثم بين ردة ومحاورة، وبين دفع وجذب اتضحت أبعاد المعارضة السياسية الدينية بل والاجتماعية الاقتصادية أحيانا بين جماعات وفرق وبين طوائف وأحزاب وبين مدارس فكرية ومذاهب دينية.

والذي يعنينا هنا في تلك المعارضة الذاتية الداخلية بين صفوف المسلمين خاصة والتي كانت بتياراتها تحرك جسم المجتمع وتدفعه بنشاط قوى قد تكون فيه زعزعة لبعض جوانبه وتقاليده وقد يكون فيه عامل نضج يساعد أعضاء المجتمع على التغير فالتطور. وأمثلة التاريخ عديدة متباينة: فالمعارضة هي التي أسالت دم عثمان بن عفان، ومجدت الحسين بن علي في استشهاده للحق، وسلحت الخوارج بالبطش والاستعراض وشيدت مدارس الكوفة مقابل مدارس البصرة. وفجرت غوغائية الزنج، وأبرزت جهابذة المعتزلة وإخوان الصفا، وجندت القرامطة للفوز على خلافة العباسيين، وأرست حضارة الأندلس في المغرب. وغير ذلك مما قد أهمله التاريخ.

وقد تأثرت منطقة الخليج بتيارات من قوى المعارضة وكان للبحرين منها نصيب ثنى بعض تلك الحركات 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المسارعة في الخيرات المسارعةُ في الخيراتِ والمسابقةُ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ للفوزِ برِضا اللهِ - عزَّ وجلَّ -

بعضه  من الالوكة    قلت المدون لقد أغفل المسلمون أهم مطلوب ساد علي كل المطلوبات الالهية والتكليفات الربانية هو[عمل الصالحات بغير قيد وو تخصي...