زهور ورياحين من أدب الدنيا والدين 2 .
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
هذا هو المقال الثاني مما اقتبسناه واختصرناه من كتاب أدب الدنيا والدين نذكر فيه شيئا مما ذكره المؤلف رحمه الله في باب أدب التعلم.
اعلم أن العلم أشرف ما رغب فيه الراغب، وأفضل ما طلب وجد فيه الطالب، وأنفع ما كسبه واقتناه الكاسب؛ لأن شرفه يثمر على صاحبه، وفضله ينمي على طالبه. قال الله تعالى:{قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر: 9). فمنع المساواة بين العالم والجاهل لما قد خص به العالم من فضيلة العلم.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: الناس أبناء ما يحسنون. وقال مصعب بن الزبير: تعلم العلم فإن يكن لك مال كان لك جمالا وإن لم يكن لك مال كان لك مالا. وقال عبد الملك بن مروان لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن كنتم سادة فقتم، وإن كنتم وسطا سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم.
وقال بعض الحكماء: العلم شرفٌ لا قدر له، والأدب مالٌ لا خوف عليه. وقال بعض الأدباء: العلم أفضل خلف، والعمل به أكمل شرف. وقال بعض البلغاء: تعلم العلم فإنه يقومك ويسددك صغيرا، ويقدمك ويسودك كبيرا، ويصلح زيفك وفاسدك، ويرغم عدوك وحاسدك، ويقوم عوجك وميلك، ويصحح همتك، وأملك.
وقال علي - رضي الله تعالى عنه -: قيمة كل امرئ ما يحسن. فأخذه الخليل فنظمه شعرا فقال:
لا يكون العلي مثل الدني ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبي
قيمة المرء قدر ما يحسن المرء ... قضاء من الإمام علي
وقد قال ابن المعتز في منثور الحكم: العالم يعرف الجاهل؛ لأنه كان جاهلا، والجاهل لا يعرف العالم؛ لأنه لم يكن عالما.
وأنشدني ابن لنكك لأبي بكر بن دريد:
جهلت فعاديت العلوم وأهلها ... كذاك يعادي العلم من هو جاهله
ومن كان يهوى أن يرى متصدرا ... ويكره لا أدري أصيبت مقاتله
وقيل لبزرجمهر: العلم أفضل أم المال؟ فقال: بل العلم . قيل: فما بالنا نرى العلماء على أبواب الأغنياء ولا نكاد نرى الأغنياء على أبواب العلماء؟ فقال: ذلك لمعرفة العلماء بمنفعة المال وجهل الأغنياء لفضل العلم . وقيل لبعض الحكماء: لم لا يجتمع العلم والمال؟ فقال : لعز الكمال. فأنشدت لبعض أهل هذا العصر:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسامهم قبل القبور قبور
وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت ... فليس له حتى النشور نشور
وقال يحيى بن خالد لابنه: عليك بكل نوع من العلم فخذ منه؛ فإن المرء عدو ما جهل، وأنا أكره أن تكون عدو شيء من العلم، وأنشد:
تفنن وخذ من كل علم فإنما ... يفوق امرؤ في كل فن له علم
فأنت عدو للذي أنت جاهل ... به ولعلم أنت تتقنه سلم
قال بعض الأدباء: كل عز لا يوطده علم مذلة، وكل علم لا يؤيده عقل مضلة.
وقال بعض علماء السلف: إذا أراد الله بالناس خيرا جعل العلم في ملوكهم، والملك في علمائهم. وقال بعض البلغاء: العلم عصمة الملوك؛ لأنه يمنعهم من الظلم، ويردهم إلى الحلم، ويصدهم عن الأذية، ويعطفهم على الرعية، فمن حقهم أن يعرفوا حقه، ويستبطنوا أهله. فأما المال فظل زائل وعارية مسترجعة وليس في كثرته فضيلة، ولو كانت فيه فضيلة لخص الله به من اصطفاه لرسالته، واجتباه لنبوته. وقد كان أكثر أنبياء الله تعالى مع ما خصهم الله به من كرامته وفضلهم على سائر خلقه، فقراء لا يجدون بلغة ولا يقدرون على شيء حتى صاروا في الفقر مثلا.
قال علي بن أبي طالب: العلم خير من المال. العلم يحرسك، وأنت تحرس المال. العلم حاكم والمال محكوم عليه. مات خزان الأموال وبقي خزان العلم أعيانهم مفقودة، وأشخاصهم في القلوب موجودة. وسئل بعض العلماء: أيما أفضل المال أم العلم؟ فقال: الجواب عن هذا أيما أفضل المال أم العقل .
وقال صالح بن عبد القدوس:
لا خير فيمن كان خير ثنائه ... في الناس قولهم غني واجد
قيل في منثور الحكم: جهل الصغير معذور، وعلمه محقور، فأما الكبير فالجهل به أقبح، ونقصه عليه أفضح؛ لأن علو السن إذا لم يكسبه فضلا ولم يفده علما وكانت أيامه في الجهل ماضية، ومن الفضل خالية، كان الصغير أفضل منه؛ لأن الرجاء له أكثر، والأمل فيه أظهر، وحسبك نقصا في رجل يكون الصغير المساوي له في الجهل أفضل منه.
وقال بعض العلماء: من أحب العلم أحاطت به فضائله. وقال بعض الحكماء: من صاحب العلماء وقر، ومن جالس السفهاء حقر.
وقال رجل لأبي هريرة - رضي الله عنه -: أريد أن أتعلم العلم، وأخاف أن أضيعه. فقال: كفى بترك العلم إضاعة.
قال أبو تمام:
ينال الفتى من عيشه وهو جاهل ... ويكدي الفتى من دهره وهو عالم
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا ... هلكن إذن من جهلهن البهائم
على أن العلم والعقل سعادة وإقبال، وإن قل معهما المال، وضاقت معهما الحال.
والجهل والحمق حرمان وإدبار وإن كثر معهما المال، واتسعت فيهما الحال؛ لأن السعادة ليست بكثرة المال؛ فكم من مكثر شقي ومُقل سعيد. وكيف يكون الجاهل الغني سعيدا والجهل يضعه؟. أم كيف يكون العالم الفقير شقيا والعلم يرفعه؟ وقد قيل في منثور الحكم: كم من ذليل أعزه علمه، ومن عزيز أذله جهله.
وقال بعض الحكماء: كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا. وقال بعض العلماء لبنيه: يا بني تعلموا العلم فإن لم تنالوا به من الدنيا حظا فلأن يذم الزمان لكم أحب إلي من أن يذم الزمان بكم. وقال بعض الأدباء: من لم يفد بالعلم مالا كسب به جمالا، وأنشد بعض أهل الأدب لابن طباطبا:
حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحى كئيب البال عندي حزينه
يلوم علي أن رحت للعلم طالبا ... أجمع من عند الرواة فنونه
فأعرف أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يكسب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كل الناس ما يحسنونه
وقال الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شرا أعطاهم الجدل، ومنعهم العمل. وأنشد الرياشي لمصعب بن عبد الله:
أجادل كل معترض ظنين ... وأجعل دينه غرضا لديني
وأترك ما عملت لرأي غيري ... وليس الرأي كالعلم اليقين
وما أنا والخصومة وهي شيء ... يصرف في الشمال وفي اليمين
فأما ما علمت فقد كفاني ... وأما ما جهلت فجنبوني
وقد قالت الحكماء: أصل العلم الرغبة وثمرته السعادة، وأصل الزهد الرهبة وثمرته العبادة فإذا اقترن الزهد والعلم فقد تمت السعادة وعمت الفضيلة، وإن افترقا فيا ويح مفترقين ما أضر افتراقهما، وأقبح انفرادهما.
وقال مالك بن دينار: من لم يؤت من العلم ما يقمعه، فما أوتي منه لا ينفعه. وقال بعض الحكماء: الفقيه بغير ورع كالسراج يضيء البيت ويحرق نفسه.
ترق إلى صغير الأمر حتى ... يرقيك الصغير إلى الكبير
فتعرف بالتفكر في صغير ... كبيرا بعد معرفة الصغير
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: قلب الحدث كالأراضي الخالية ما ألقي فيها من شيء قبلته وإنما كان كذلك؛ لأن الصغير أفرغ قلبا، وأقل شغلا، وأيسر تبذلا، وأكثر تواضعا.
وقد قيل في منثور الحكم: المتواضع من طلاب العلم أكثرهم علما، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماء. فأما أن يكون الصغير أضبط من الكبير إذا عري من هذه الموانع، وأوعى منه إذا خلا من هذه القواطع فلا.
حكي أن الأحنف بن قيس سمع رجلا يقول: التعليم في الصغر كالنقش على الحجر. فقال الأحنف: الكبير أكثر عقلا ولكنه أشغل قلبا.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعُلُومُ مَطَالِعُهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: قَلْبٌ مُفَكِّرُ، وَلِسَانٌ مُعَبِّرٌ، وَبَيَانٌ مُصَوِّرٌ.
قال بعض العلماء: من أكثر المذاكرة بالعلم لم ينس ما علم واستفاد ما لم يعلم. وقال الشاعر:
إذا لم يذاكر ذو العلوم بعلمه ... ولم يستفد علما نسي ما تعلما
فكم جامع للكتب في كل مذهب ... يزيد مع الأيام في جمعه عمى.
قيل في منثور الحكم: من الفراغ تكون الصبوة. وقال بعض البلغاء: من أمضى يومه في غير حقٍ قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله أو حمد حصله، أو خير أسسه أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه . قال بعض الشعراء:
لقد أهاج الفراغ عليك شغلا ... وأسباب البلاء من الفراغ
قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: أَتْعِبْ قَدَمَك، فَإِنْ تَعِبَ قَدَّمَك. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: إذَا اشْتَدَّ الْكَلَفُ، هَانَتْ الْكُلَفُ. وَأَنْشَدَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه:
لَا تَعْجِزَنَّ وَلَا يَدْخُلْك مُضْجِرَةٌ ... فَالنُّجْحُ يَهْلِكُ بَيْنَ الْعَجْزِ وَالضَّجَرِ
وقد قيل: طلب الراحة قلة الاستراحة. وقال بعض الحكماء: أكمل الراحة ما كانت عن كد التعب، وأعز العلم ما كان عن ذل الطلب.
======================================================================
ضع بصمتك في مجتمعك
إنَّ مِن الحِرمانِ العظيمِ والخسرانِ المبين أَنْ يكونَ العبدُ في حياتِهِ وبعدَ مماتِهِ مجردَ رقمٍ في قائمةٍ طويلةٍ منَ البشرِ، ليسَ لهُم وزن في قيمِ الأخلاقِ ولا يُشكِلون َثِقلًا في مسيرةِ السلوك، فهيَ البصمةُ الباقية في عمرِكَ واللوحةِ الأخيرةِ من حياتِكَ، فاصنع لنفسِكَ أثرًا يكونُ لك بعدَ مماتك، فكيف سيكونُ رحيلُك؟ وما الذي خلفتَهُ وراءك؟ هل تركتَ ثمرًا يدومُ عطاءُهُ وذكرًا حسنًا أم شوكًا يستمِرُ وخزَهُ وذِكرًا سيئًا؟
وقبلَ الإجابةِ ينبغي أنْ نعيَ أنَ اللهَ خلقَ الخلقَ متباينين، وكما أنهم مختلفونَ في الألوانِ والأحجامِ، كذلك هم مختلفون في الصفاتِ والطِباعِ والسلوكِ والأخلاق، ولم يجعلْ اللهُ طبعًا جبليًّا أو خُلُقًا فطريًّا فحسب بحيثُ يعجزُ الإنسانُ عن تغييرِ طبعهِ أو تعديلِ سلوكِهِ أو لا يتمكنُ من تزكيةِ نفسهِ، ومنِ الغريبِ أن يغادرَ المرء دنياهُ دون أن يتركَ لهُ بصمةً يُثنى عليها ويُقتدى بها، والأغربُ من ذلك أن يتركَ شرًا محضًا كالسمعةِ السيئةِ كالحاصلِ في السوشل ميديا من سبٍ ولعنٍ والطعنِ في الأعراضِ والسخريةِ والتشهير، فقد يغفرُ اللهُ لعبدهِ لتقصيرِهِ بينهُ وبين ربه ولكن حقوق البشر تبقى معلقةً في رقبةِ العبدِ يوم القيامة، فيجبُ أن يدركَ هؤلاء أن أثارهُم السيئة مدعاةً لبغضِهم والدعاءِ عليهم مّمن اكتوى بنارِ سلوكِهم، ناهيكَ أن منِ الخلقِ سيحييها ويمارسها ويروجُ لها، قال تعالى: (( لِيحمِلوا أوزارَهُم كاملةً يومَ القيامةِ ومن أوزارِ الذينَ يُضِّلّونَهُم بغيرِ علمٍ أَلا ساء ما يزِرون)) [النحلِ:25 ].
إن السيرةَ الحسنةَ والأثارَ الطيبة هي عمرٌ ثاني ويشكلُ رغبةً لدى الآخرين في محاكاتهِ وحبًا في الاتصاف بهِ والترحمِ عليهِ بعدَ مماتهِ، فهي كنزٌ لا يقتسِمُهُ أهله بل يستفيدُ منهُ القريبُ والبعيد، وتركتُهُ لا يقتَسِمُ أنصبتُها ورثتهُ فقط ، بل يجني أسهمها من انتفعَ بها فأثارَهم لا زالت ترسمُ صورةً ذهنيةً للمجتمع وإن كانت أجسادهم واراها الثرى يذكرونها ويحتذون بها، فهوَ استمرار للعطاءِ وبقاءِ الخير وتدفعُ بالمجتمعِ إلى المحافظةِ على الباقياتِ الصالحات والتمسكِ بمكارم الصفات قال تعالى: ((من عمِلَ صالِحًا من ذكرٍ او أُنثى وهو مؤمنٌ فلنحييَّنهُ حياةً طيبةً ولنجزيَنهُّم أجرَهُم بأحسنِ ما كانوا يعملون)) [النحل:97]، فليس لحياةِ الإنسان قيمة دون أن يترك لهُ أثرًا بعد رحيلِهِ بخلافِ الناجحِ فإنهُ يدرك كيف يصنعُ لهُ مجدًا تليدًا وتاريخًا زاخرًا.
ومن الشخصياتِ التي برزت في عصرنا الحاضر هو الشيخ عبد الرحمن السميط ولد في الكويتِ عام 1947 ميلادي، وكان ملتزمٌا بالصلاةِ من صغرهِ وكان يحبُ القراءة فكان يقرأُ سيرةَ الرسول وأصحابهِ العظام والسلف الصالح فنشأَ على حبِ هذا الدين الذي يصنعُ من محبيهِ رجالًا عظامًا قلَّ نظيرهم في التاريخ، وفي أثناءِ دراستهِ لمرحلةِ الثانويةِ لاحظَ العمال وهم ينتظرون المواصلاتِ العامةِ تحت لهيبِ شمس الكويت المحرقة، فقررَ هو وزملاءهِ جمع المالِ ليشتروا سيارةِ لنقلِ العمال من العملِ إلى منازلهم بدون أي مقابل ابتغاء وجه اللهِ تعالى، ثم جاءت مرحلة الجامعة فدرس البكالوريوس في الطب في العراق َ والماجستير في بريطانيا والدكتوراه في كندا وقرر العودة للكويتِ ليعملَ بها طبيبًا، إلا أن زوجته الصالحةِ أشارت عليهِ أن يشتغلا في مجالِ الدعوةِ إلى اللهِ في شرقِ آسيا، فشاء اللهُ وقدرَ أن يستقرا في أفريقيا في مدينةِ ملاوي وسبب ذلك طلب أحدى النساء الخيراتِ بناءِ مسجد خارج الكويت وبالفعلِ قام بتلبيةِ رغبتها، فصُعِقَ ممَّا رآهُ فوجدَ الكثير من المسلمين لا يعلمون كيفيةِ الوضوء ولا تعاليم الإسلام في حينِ رأى نشاط المنصرين الأُوربيين وقد نجحوا في تنصيرهم فقررَ السميط هو وزوجته المكوثَ هناك للدعوةِ إلى اللهِ تعالى، فتركا الحياة المترفة واستقرا في إحدى القرى النائية في جزيرةِ مدغشقر في قريةِ مدكارى في بيتٍ متواضع، وشكلَ فريقًا من الدعاةِ والأئمةِ لينشروا الإسلام في دولِ القارةِ السمراء بعدَ أن دربَهم على طرقِ الدعوةِ الحكيمة وأساليب التعامل مع الثقافات المختلفة فانتشرَ تلاميذهُ في أدغالِها وفيافيها فتكونت لهُ شبكةً متكاملة من الشبابِ المخلصين الذين كانوا يتنقلون من قريةٍ إلى قريةٍ مشيٍ على الأقدامِ لنشرِ الإسلام بين شعوبها فقد أسلمَ على يدِهِ أعداد هائلة وساهم في إنشاءِ المساجد ما يقارب 5700 مسجد بالإضافةِ إلى رعايةِ الأيتام وكفالتهم فقد كفلَ 15000 يتيم وحفر أكثر من 9500 بئر ارتوازي وأنشأَ 860 مدرسة وبنى 4 جامعات وأنشأَ 204 مراكز إسلامية ولقد أنشأَ جمعية وأسماها العون المباشر لينتفعَ منها الجميع سواءً كان مسلمين أو نصارى أو وثنيين، رحمكَ اللهُ يا أبا صهيب وأسكنك فسيح جناته . قال تعالى : ((إنا نحنُ نحيِي الموتى ونكتُبُ ما قدَّموا وآثارَهُمْ وكل شيء أحصيناهُ في إِمامٍ مبين)) [يس:12].
متى تتركُ أثَرَك يامن أنعمَ اللهُ عليكَ بالإسلام؟ وكفى بها نعمة يامن أضاء أجدادُكَ للعالمِ ظلمتِهِ وصنعوا حضارةً سطرها التاريخ أوَما راعك حال أمتك؟ أوَما أفزعك إن كانت الدنيا لغيرِكَ يعبثُ بها؟ ويجعلها سِلاحًا يصوَبُ نحو صدور أُمتك، أَلست الأحق في السبقِ لحرفةِ البناءٍ؟، انهضْ ودعْ عنك أغلال الخمول وتعرف على هويتِك وانظُر إلى ماضي أُمتِك تستلهِمُ منه جذوةً تُضيءُ لك الطريق، فحَّي على العملِ وضع بصمتُكَ في الحياةِ فما هيَ إلا أنفاس تُعدُّ وتحصى لا تدري متى يتوقفُ لها العدُ والإحصاء، حينئذ لن يبقى لك فيها إلا أثرك فإن لم يكنْ لك طوى التاريخُ صفحتَك وإن كان لك وقفوا على أعتابِها =======================
الادب عنوان السعادة
إن أدب العبد، وحسن خلقه، وسمو نفسه لهو عنوان سعادة العبد المؤمن في الدنيا والآخرة.
قال ابن القيم رحمه الله: (وآداب المرء: عنوان سعادته وفلاحه. وقلّة أدبه: عنوان شقاوته وبواره. فما استُجلب خير الدّنيا والآخرة بمثل الأدب، ولا استجلب حرمانها بمثل قلّة الأدب. فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجّى صاحبه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصّخرة؟
والإخلال به مع الأمّ- تأويلا- وإقبالا على الصّلاة كيف امتحن صاحبه بهدم صومعته وضرب النّاس له، ورميه بالفاحشة؟.
وتأمّل أحوال كلّ شقيّ ومُفتر ومُدْبِر: كيف تجد قلّة الأدب هي الّتي ساقته إلى الحرمان؟ ).
ونقصد بالأدب: استعمال ما يُحمد قولا وفعلا، وبتعبير آخر: الأخذ بمكارم الأخلاق.
قال عبد الله بن المبارك: (قد أكثر النّاس القول في الأدب ونحن نقول: إنّه معرفة النّفس ورعوناتها، وتجنّب تلك الرّعونات).
إنّ حسن الخلق والأدب هو مقام الاقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم واتّباع سنّته، والله الّذي أمرنا بذلك في قوله جلّ وعلا: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}(الأحزاب/ 21).
إنّ هذا هو مقام من أراد التّخلّق بأخلاق الشّرع الحنيف وتأدّب بآداب الله الّتي أدّب بها عباده في كتابه الكريم، وما اتّصف به الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم؛ حيث قال الله- عزّ وجلّ- لرسوله عليه الصّلاة والسّلام: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم/ 4). والرّسول صلّى الله عليه وسلّم هو القائل "إنّما بعثت لأتمّم صالح الأخلاق".
ووصفت خلقَه صلّى الله عليه وسلّم أمُّ المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- بقولها: (فإنّ خلق نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم كان القرآن). وعن القرآن قال ابن مسعود- رضي الله عنه- (إنّ هذا القرآن مأدبة الله فتعلّموا من مأدبته).
هذا هو الحال في هذه الدّنيا وأمّا في الآخرة فلا يوجد جائزة لمن كان حسن الخلق إلّا الجنّة ونعيمها برفقة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث يقول: "إنّ أحبّكم إليّ وأقربكم منّي مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا، الموطّئون أكنافا، الّذين يألفون ويؤلفون، وإنّ أبعدكم منّي مجلسا يوم القيامة الثّرثارون المتشدّقون المتفيهقون ".
وقال عليه الصّلاة والسّلام: "ما من شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق".
وقال عليه الصّلاة والسّلام: "إنّ أحسن النّاس إسلاما أحسنهم خلقا".
وقال عليه الصّلاة والسّلام: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا".
ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعو الله عزّ وجلّ "اللهمّ كما أحسنت خلقي أحسن خلقي".
إنّ العلاقة بين الأدب في التّعامل مع الخلق وحسن الخلق علاقة واضحة لا ريب فيها لأنّ حسن الخلق هو الجانب النّفسي الّذي تنتج عنه الآداب الحميدة وأنواع السّلوك المَرْضيّة، وحسن الخلق هو الّذي يشكّل قواعد السّلوك أو الأدب مع الخلق.
وجماع ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه".
إنّ الإنسان إذا أحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه جاهد نفسه وطرح عنها مطامع النّفس الأمّارة بالسّوء وحبَّها للكنز والتّكاثر، وما يجلبه ذلك من مذموم الأخلاق من طمع وكبر وحسد وظلم وغيرها من الصّفات السّالبة لمكارم الأخلاق ومحمودها، واستبدل عوضا عنها الحبّ في الله ورسوله والإيثار والكرم والجود والسّخاء بالمال والتّواضع وأثراها بالإنفاق والزّكاة، والصّدقة والجهاد، وغذّاها بالإحسان والرّحمة والشّفقة والرّأفة والعفو والرّفق والوفاء والتّناصر والمداراة والسّتر، وتوّجها بالعدل والقسط والأمانة والصّدق.
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك محموده عن النسب
ويتجلى أدب العبد في مجموعة من الصور، ومنها:
1- مجانبة الكبر والإعجاب، وما ذلك إلّا لأنّهما يسلبان الفضائل، ويكسبان الرّذائل، وليس لمن استوليا عليه إصغاء لنصح، ولا قبول لتأديب، لأنّ الكبر يكون بالمنزلة، والعجب يكون بالفضيلة، فالمتكبّر يُجلّ نفسه عن رتبة المتعلّمين، والمعجب يستكثر فضله عن استزادة المتأدّبين، وعلاوة على ذلك فإنّ الكبر يكسب المقت، ويلهي عن التّألّف ويوغر صدور الإخوان، وأمّا الإعجاب فيخفي المحاسن، ويظهر المساويء، ويصدّ عن الفضائل.
2- التّحلّي بحسن الخلق: ذلك أنّ الإنسان إذا حسنت أخلاقه كثر مصافوه وقلّ معادوه، فتسهّلت عليه الأمور الصّعاب ولانت له القلوب الغضاب، ومعنى حسن الخلق أن يكون المسلم: سهل العريكة، ليّن الجانب، طلق الوجه، قليل النّفور، طيّب الكلمة.
3- التّحلّي ب "الحياء" : الخير والشّرّ معان كامنة تعرف بسمات دالّة. وسمة الخير: الدّعة والحياء، وسمة الشّرّ: القحة والبذاء، وكفى بالحياء خيرا أن يكون على الخير دليلا، وكفى بالقحة والبذاء شرّا أن يكونا إلى الشّرّ سبيلا، وليس لمن سلب الحياء صادّ عن قبيح، ولا زاجر عن محظور، فهو يقدم على ما يشاء، ويأتي ما يهوى.
4- التّحلّي ب "الحلم" : ذلك أنّ الحلم من أشرف الأخلاق، وأحقّها بذوي الألباب، لما فيه من سلامة العرض والجسد واجتلاب الحمد.
وللحلم أسباب تبعث عليه منها: الرّحمة والقدرة على الانتصار والتّرفّع عن السّباب.
5- التّحلّي بصفة الصّدق والتّخلّي عن الكذب.
6- التّخلّي عن الحسد: ذلك أنّ الحسد خلق ذميم يضرّ بالبدن، وفيه إفساد للدّين ولو لم يكن من ذمّ الحسد إلّا أنّه خلق دنيء لكانت النّزاهة عنه كرما والسّلامة منه مغنما، فكيف وهو بالنّفس مضرّ، وعلى الهمّ مصرّ، حتّى ربّما أفضى بصاحبه إلى التّلف، من غير نكاية في عدوّ، ولا إضرار بمحسود.
القرآن يربي أتباعه على الأدب:
إنك إذا قرأت كتاب الله تعالى لوجدته يربي المؤمنين على الآداب الراقية ومحاسن الأخلاق، ومن ذلك:
{وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ }( فصلت:34-35).
{وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} (النساء:86).
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النور:27).
{وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} (الفرقان:63).
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}(الحجرات: 11-12).
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المجادلة:9).
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}(المجادلة: 11).
{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ. وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}(لقمان:19). وغير ذلك كثير في كتاب الله تعالى.
أما السنة النبوية فإنها زاخرة بالكثير من الأدلة التي تحث على الأدب في التعامل مع الناس، وإليك هذه الطائفة من الأحاديث النبوية التي تدل على الأدب الراقي في كل جوانب المعاملة:
عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما؛ فإنّ ذلك يحزنه".
عن أبي موسى الأشعريّ-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إنّ من إجلال الله إكرام ذي الشّيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السّلطان المقسط".
عن أبي سعيد الخدريّ- رضي الله عنه- أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "إيّاكم والجلوس في الطّرقات" . فقالوا يا رسول الله، مالنا بدّ من مجالسنا؛ نتحدّث فيها، فقال: "فإذا أبيتم إلّا المجلس فأعطوا الطّريق حقّه" . قالوا: وما حقّ الطّريق يا رسول الله؟ قال: "غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السّلام، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر".
عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- أنّ رجلا سأل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الإسلام خير؟. قال: "تطعم الطّعام، وتقرأ السّلام على من عرفت ومن لم تعرف".
عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "رحم الله رجلا سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى".
عن عمر بن أبي سلمة- رضي الله عنه- قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت يدي تطيش في الصّحفة فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "يا غلام، سمّ الله، وكل بيمينك، وكل ممّا يليك".
عن أبي أيّوب الأنصاريّ- رضي الله عنه- أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا يحلّ لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الّذي يبدأ بالسّلام".
عن أنس- رضي الله عنه- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: "لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه".
عن المعرور قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة وعليه وعلى غلامه حلّة فسألته عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلا فعيّرته بأمّه، فقال لي النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "يا أبا ذرّ، أعيّرته بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهليّة. إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم".
عن حسين بن عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "من لا يشكر النّاس لا يشكر الله".
عن حنظلة بن حذيم- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعجبه أن يدعو الرّجل بأحبّ أسمائه إليه وأحبّ كناه.
عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: ما عاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم طعاما قطّ، إن اشتهاه أكله، وإن كرهه تركه.
ونختم بقول عبد الله بن المبارك- رحمه الله-:
(من تهاون بالأدب عوقب بحرمان السّنن، ومن تهاون بالسّنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة).
================================================
التواضع خلق الكبار
ما من فضيلة من الفضائل إلا دعا إليها الإسلام وحث عليها، ومن رذيلة إلا نهى عنها، ومن أهم الفضائل وأسمى الأخلاق وأنبل الصفات التي اهتم بها الشرع ودعا إليها وحث عليها: التواضع.
معنى التواضع:
قال ابن المبارك: (رأس التَّواضُع أن تضع نفسك عند مَن هو دونك في نعمة الدُّنْيا حتى تُعْلِمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمَّن هو فوقك في نعمة الدُّنْيا، حتى تُعْلِمه أنَّه ليس له بدنياه عليك فضل).
وسُئِل الفضيل بن عياض عن التَّواضُع، فقال: (يخضع للحقِّ، وينقاد له، ويقبله ممَّن قاله).
وعن صالح المرِّيِّ قال: (خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التَّواضُع، فقال لهما الحسن: وهل تدرون ما التَّواضُع؟ التَّواضُع: أن تخرج مِن منزلك فلا تلقى مسلمًا إلَّا رأيت له عليك فضلًا).
وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: (إنَّكم لتغفلون أفضل العبادة: التَّواضُع).
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (لا يبلغ عبدٌ ذُرَى الإيمان حتى يكون التَّواضُع أحبَّ إليه مِن الشَّرف، وما قلَّ مِن الدُّنْيا أحبَّ إليه ممَّا كَثُر، ويكون مَن أحبَّ وأبغض في الحقِّ سواء، يحكم للنَّاس كما يحكم لنفسه وأهل بيته).
الترغيب في التواضع:
ورد في القرآن والسنة الكثير من الأدلة التي ترغب في التواضع وتحث عليه وتبين فضله، ومن ذلك:
قول الله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا} (الفرقان: 63)، قال ابن القيِّم رحمه الله: (أي: سكينة ووقارًا، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبِّرين، قال الحسن: علماء حلماء. وقال محمَّد بن الحنفيَّة: أصحاب وقار وعفَّة، لا يسفِّهون، وإن سُفِه عليهم حلموا).
وقال الله تعالى مخاطبًا رسوله صلى الله عليه وسلم، ممتنًّا عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمَّته المتَّبعين لأمره، التَّاركين لزجره، وأطاب لهم لفظه: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آل عمران: 159).
كما أمره الله سبحانه وتعالى أن يلين جانبه للمؤمنين، وأن يتواضع لهم، فقال: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (الحجر: 88).
قال القرطبيُّ: (أي: أَلِن جانبك لمن آمن بك، وتواضعْ لهم).
وقال عزَّ وجل: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشُّعراء: 215).
ووصف الله سبحانه وتعالى أصحاب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّهم (يُظهرون العطف والحُنُوَّ والتَّواضُع للمؤمنين، ويظهرون الشِّدَّة والغلظة والتَّرفُّع على الكافرين) حيث قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة: 54 ).
قال ابن كثير رحمه الله: (هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا لأخيه ووليِّه، متعزِّزًا على خصمه وعدوِّه، كما قال تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29).
وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (الإسراء: 24)، (حيث أمر الله بالتَّواضُع للوالدين ذلًّا لهما ورحمة واحتسابًا للأجر).
وقال سبحانه: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص: 83).
قال ابن كثير: (يخبر تعالى أنَّ الدَّار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ}، أي: ترفُّعًا على خلق الله وتعاظمًا عليهم وتجبُّرًا بهم، ولا فسادًا فيهم).
الرفعة في التواضع
قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقصت صدقة مِن مال، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلَّا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله".
قال القاضي عياض في قوله صلى الله عليه وسلم "وما تواضع أحد لله إلَّا رفعه الله": (فيه وجهان: أحدهما: أنَّ الله تعالى يمنحه ذلك في الدُّنْيا جزاءً على تواضعه له، وأنَّ تواضعه يُثْبِتُ له في القلوب محبَّةً ومكانةً وعزَّةً.
والثَّاني: أن يكون ذلك ثوابه في الآخرة على تواضعه).
تواضع إذا ما نلت في الناس رفعة فإن رفيع القوم من يتواضع
وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد، ولا يبغي أحدٌ على أحدٍ".
(يعني: أن يتواضع كلُّ واحد للآخر، ولا يترفَّع عليه، بل يجعله مثله أو يكرمه أكثر، وكان مِن عادة السَّلف رحمهم الله أنَّ الإنسان منهم يجعل مَن هو أصغر منه مثل ابنه، ومَن هو أكبر مثل أبيه، ومَن هو مثله مثل أخيه، فينظر إلى من هو أكبر منه نظرة إكرام وإجلال، وإلى مَن هو دونه نظرة إشفاق ورحمة، وإلى مَن هو مثله نظرة مساواة، فلا يبغي أحدٌ على أحد، وهذا مِن الأمور التي يجب على الإنسان أن يتَّصف بها، أي بالتَّواضُع لله عزَّ وجلَّ ولإخوانه مِن المسلمين).
وعن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن ترك اللِّباس تواضعًا للَّه، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق حتى يخيِّره مِن أيِّ حلل الإيمان شاء يلبسها".
وأحسن مقرونَين في عين ناظر جلالة قدر في خمولِ تواضعِ
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (وهذا يعني أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس متوسِّطي الحال لا يستطيعون اللِّباس الرَّفيع، فتواضع وصار يلبس مثلهم، لئلَّا تنكسر قلوبهم، ولئلَّا يفخر عليهم، فإنَّه ينال هذا الأجر العظيم، أمَّا إذا كان بين أناس قد أنعم عليهم، ويلبسون الثِّياب الرَّفيعة لكنَّها غير محرَّمة، فإنَّ الأفضل أن يلبس مثلهم؛ لأنَّ الله تعالى جميل يحبُّ الجمال، ولا شكَّ أنَّ الإنسان إذا كان بين أناس رفيعي الحال، يلبسون الثِّياب الجميلة، ولبس دونهم فإنَّ هذا يُعَدُّ لباسَ شهرة؛ فالإنسان ينظر ما تقتضيه الحال).
من صور التواضع:
أولا: تواضع الإنسان في نفسه:
ويكون ذلك بألَّا يظنَّ أنَّه أعلم مِن غيره، أو أتقى مِن غيره، أو أكثر ورعًا مِن غيره، أو أكثر خشية لله مِن غيره، ولا يظنّ أنَّه قد أخذ صكًّا بالغفران!! وآخر بدخول الجنَّة!! لأنَّ القلوب بين إصبعين مِن أصابع الرَّحمن، يقلِّبها كيف يشاء، يقول الله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال: 24).
وقال أبو زيد: ما دام العبد يظنُّ أنَّ في الخَلْق مَن هو شرٌّ منه فهو متكبِّر، فقيل له: فمتى يكون متواضعًا؟ قال: إذا لم ير لنفسه مقامًا ولا حالًا.
ومِن التَّواضُع ألَّا يَعْظُم في عينك عملك، إن عملت خيرًا، أو تقرَّبت إلى الله تعالى بطاعة، فإنَّ العمل قد لا يُقْبَل، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (المائدة: 27) ولهذا قال بعض السَّلف: لو أعلم أنَّ الله قبل منِّي تسبيحة لتمنَّيت أن أموت الآن!.
ومِن ذلك: التَّواضُع عندما تسمع نصيحة، فإنَّ الشَّيطان يدعوك إلى ردِّها، وسوء الظَّنِّ بالنَّاصح؛ لأنَّ معنى النَّصيحة أنَّ أخاك يقول لك: إنَّ فيك مِن العيوب كيت وكيت.
ثانيا: التَّواضُع في التعلُّم:
قال الشَّافعي: لا يطلب هذا العلم أحدٌ بالملْك وعزَّة النَّفس فيفلح، لكن مَن طلبه بذلَّة النَّفس، وضيق العيش، وخدمة العلم، وتواضع النَّفس أفلح.
وعن الأصمعي قال: مَن لم يتحمَّل ذلَّ التَّعلُّم ساعة، بقي في ذلِّ الجهل أبدًا.
قال عبد الله بن المعتز: المتواضع في طلب العلم أكثرهم علمًا، كما أنَّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماء.
كذلك ينبغي أن يتحمَّل الطَّالب ما يكون مِن الشَّيخ أو مِن بقيَّة الطَّلبة لئلَّا يفوته العلم، فتفوته الدُّنْيا والآخرة.
قال الشَّافعي: غضب الأعمش يومًا على رجل مِن الطَّلبة، فقال آخر: لو غضب عليَّ مثلك لم أعد إليه. فقال له الأعمش: إذًا هو أحمق مثلك، يترك ما ينفعه لسوء خلقي.
ثالثا: التَّواضُع مع النَّاس:
فالمسلم يخالط النَّاس ويدعوهم إلى الخير، وإلى الأخلاق الإسلاميَّة، ومِن طبيعة النَّاس أنَّهم لا يقبلون قول مَن يعظِّم نفسه ويحقرهم، ويرفع نفسه ويضعهم، وإن كان ما يقوله حقًّا، بل عليه أن يعرف أنَّ جميع ما عنده هو فضلٌ مِن الله، فالمسلم المتواضع هو الذي لا يعطي لنفسه حظًّا في كلامه مع الآخرين، ومِن تواضع المسلم مع النَّاس: أن يجالس كلَّ طبقات المجتمع، ويكلِّم كلًّا بما يفهمه، ويجالس الفقراء والأغنياء.
قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28).
رابعا: التَّواضُع مع الأقران:
ومِن التَّواضُع: تواضع المسلم مع قرينه؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تشتعل المنافسة ويقع التَّحاسد بينهم، وربَّما يؤدي ذلك إلى نوع من استعلاء بعضهم على بعض، ثم محاولة الحط من قدر قرينه، والتنقص منه بأي صورة من الصور، أو السعي في النيل منه، وقد يلبس عليه الشيطان ذلك ويلبسه لبوس النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامسا: تواضع الإنسان مع مَن هو دونه:
مِن التَّواضُع: التواضع مع من هو أقل منك، بل لا يُتصوَّر التواضع إلا مع من هو دونك، سواء في العلم أو الفهم أو المال أو الجاه ومن هو أصغر منك سنا وغير ذلك، بل إذا رأيت من وقع في معصية فلا تتعالى عليه وتعجب بنفسك وعملك، فربما كانت معصيته سببًا في توبة وإنابة، وذل وانكسار، وربما كان إعجاب الإنسان بعمله سببًا في حبوط عمله.
عن جندب رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حدَّث: "أنَّ رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان. وأنَّ الله تعالى قال: مَن ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟! فإنِّي قد غفرت لفلان وأحبطت عملك".
سادسا: تواضع صاحب المال:
فإنَّ مَن مَنَّ الله عليهم بالمال، والجاه، والقوَّة، والنُّفوذ، أحوج الخَلْق إلى خُلُق التَّواضُع؛ لأنَّ هذه النِّعم مدعاة إلى الكِبْر والفخر.
وأكثر ما يكون الكبر في الأمَّة مِن هؤلاء إلا ما رحم ربي، ولو نظر صاحب المال -مثلًا- إلى سالف أمره، لكان أجدر به إذا ما رُزِق مالًا أن يشكر ربَّه الذي أغناه بعد فقر، وأعطاه بعد حرمان، وأشبعه بعد جوع، وأمَّنه بعد خوف، وأن يجعل التَّواضُع فراشه، ودثاره، وزينته، هذا هو الشُّكر العملي الحقيقي.
سابعا: تواضع القائد مع الأفراد:
القائد النَّاجح هو الذي يخفض جناحه للأفراد الذين تحت إمرته؛ لأنَّه كلَّما تواضع لهم وخفض لهم جناحه كان أقرب إلى نفوسهم، وكان أمره لهم محببًّا إليهم، فهم يطيعونه عن حبٍّ وإخلاص، يقول تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشُّعراء: 215).
ومِن مظاهر هذا التَّواضُع، عدم الاستبداد بالرَّأي والانفراد باتخاذ القرار، وذلك أنَّ استفراغ ما عند الأفراد مِن آراء وأفكار لا شكَّ أنَّ ذلك يفتح أبوابًا كانت مغلقة على القادة، والاستماع إليها والنُّزول عن الرَّأي إليها – إذا كانت صحيحة – تقلِّل مِن نسبة الخطأ في القرار، وببركة الشُّورى قد يجبر الله ما بها مِن قصور، ولله درُّ القائل:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
وومن مظاهر التواضع التي ينبغي أن يتصف بها القادة ألَّا يجدوا في نفوسهم شيئًا إذا تحوَّلوا إلى جنود أو أفراد في الصَّفِّ بعد أن كانوا قادة؛ وذلك لأنَّ الأجر والثَّواب يكون بالإخلاص والتجرُّد، والصِّدق مع الله.
وكما يقول الفضيل بن عياض: (مَن أحبَّ الرِّياسة لم يفلح أبدًا)، ولا شكَّ أنَّ المؤمن كلَّما ازداد تواضعًا ازداد إيمانًا بالله وقربًا منه، وكلَّما ازداد عتوًّا وترفُّعًا على النَّاس، ازداد مقتًا وبعدًا منه سبحانه.
الرسول سيد المتواضعين
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمَّ التَّواضُع، لا يعتريه كِبرٌ ولا بَطَرٌ على رِفْعَة قَدْرِه وعلوِّ منزلته، يخفض جناحه للمؤمنين ولا يتعاظم عليهم، ويجلس بينهم كواحد منهم، ولا يُعْرَف مجلسه مِن مجلس أصحابه؛ لأنَّه كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويجلس بين ظهرانيهم فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل عنه، روى أبو داود في سننه عن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين ظهري أصحابه فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجعل له مجلسًا يعرفه الغريب إذا أتاه".
وقال له رجل: يا محمَّد، أيا سيِّدنا وابن سيِّدنا، وخيرنا وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيُّها النَّاس، عليكم بتقواكم، ولا يستهوينَّكم الشَّيطان، أنا محمَّد بن عبد الله، أنا عبد الله ورسوله، ما أحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلنيها الله".
وكان مِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، القيام بخدمة أصحابه، روى مسلم في صحيحه مِن حديث أبي قتادة، وفيه في قصَّة نومهم عن صلاة الفجر، قال: ودعا بالميضأة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأبو قتادة يسقيهم -أي أصحابه- فلم يَعْدُ أن رأى النَّاس ماءً في الميضأة تكابُّوا عليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحسنوا الْمَلَأَ كلُّكم سيَرْوى". قال: ففعلوا. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبُّ وأسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ثمَّ صبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "اشرب". فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله. قال: "إنَّ ساقي القوم آخرهم شربًا". قال: فشربت، وشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتى النَّاس الماء جامِّين رِوَاء. أي: مستريحين قد رووا من الماء.
ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم، أنَّه إذا مرَّ على الصِّبيان، سلَّم عليهم، فقد روى البخاريُّ ومسلم عن أنس رضي الله عنه أنَّه مرَّ على صبيان فسلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يفعله.
وكان صلى الله عليه وسلم يزور الأنصار، ويسلِّم على صبيانهم، ويمسح رؤوسهم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخالطنا حتى يقول لأخٍ لي صغير: "يا أبا عُمَيْر، ما فعل النُّغَير؟".
ومِن تواضعه صلى الله عليه وسلم: استجابته للدَّعوة، وقبوله الهديَّة مهما قلَّت قيمتها، روى البخاريُّ مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لو دُعِيت إلى ذراع أو كُرَاع لأجبت، ولو أُهْدِي إليَّ ذراع أو كراع لقَبِلت".
هذا تواضعه صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم أجمعين، فهلا تأسينا به؟!.
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا فكم تحتها قــوم هم منك أرفــع
فـإن كـنت في عـز وخـير ومـنـعـة فكم مات من قوم هم منك أمنع
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيد المتواضعين وإمام المتقين، وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
======================================================================
من أقوال الشعراء في الأخلاق
لقد حث ديننا الحنيف على التحلي بمكارم الأخلاق والتنزه عن الأخلاق السيئة، وبين نبينا صلى الله عليه وسلم أن صاحب الخلق الحسن من أكمل المؤمنين إيمانا وأعلاهم منزلة عند الله تعالى.
ولقد تسابق الشعراء إلى الإشادة بحسن الخلق والترغيب فيه، وخلفوا لنا ثراثا عظيما في هذا الباب وأبياتا يتغنى بها العرب.
وفي هذا المقال سنشير إلى شيء من هذا الإرث من خلال أبيات الشعر التي نطقوا بها.
قال المتنبي :
وما الحسن في وجه الفتى شرفا له إذا لم يكن في فعله والخلائق
وقال أبو تمام:
إذا جاريت في خُلق دنيئا فأنت ومن تُجَاريه سواء
رأيت الحُر يجتنب المخازي ويحميه عن الغدر الوفاء
....
يعيش المرءُ ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللحاء
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستح فاصنع ما تشاء
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي :
والصدق أرفع ما اهتز الرجال له وخير ما عَوَّد ابنا في الحياة أبُ
وإنـما الأمــم الأخــــلاق ما بقيت فـإن هـم ذهـبت أخلاقهم ذهـبوا
وقال:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
وقال أيضا:
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
أما الشاعر معروف الرصافي فقال:
هي الاخلاقُ تنبتُ كالنبات إذا سقيت بماء المـكرمات
تـقوم إذا تعـهـدهــا المُربي على ساق الفضيلة مُثمِرات
وتسـمـو للـمـكارم بـاتسـاق كما اتســقت أنابـيبُ الـقنـاة
وتنعش من صميم المجد رُوحا بأزهــارٍ لهـا متضوعـات
وأما محمود الأيوبي فيقول:
والمرء بالأخلاق يسمو ذكره وبها يُفضل في الورى ويُوقر
ويقول شاعر النيل حافظ إبراهيم في قصيدته " كم ذا يكابد عاشق ويلاقي ":
فَإِذا رُزِقتَ خَــليقَةً مَحمــودَةً فَقَدِ اِصطَفاكَ مُقَسِّمُ الأَرزاقِ
فَالـناسُ هَــذا حَظُّهُ مـالٌ وَذا عِـلمٌ وَذاكَ مَـكارِمُ الأَخــلاقِ
وَالمالُ إِن لَم تَدَّخِرهُ مُحَصَّنا بِالعِـلمِ كانَ نِهــايَةَ الإِمــلاقِ
وَالعِلمُ إِن لَــم تَكتَنِفهُ شَمائِـلٌ تُعليهِ كـانَ مَـطِيَّةَ الإِخــفـاقِ
لا تَحسَـبَنَّ العِـلمَ يَنفَعُ وَحـدَهُ مــا لَـم يُتَــوَّج رَبُّـهُ بِخَــلاقِ
وبعد أن بين ضرر العالم والفقيه والطبيب اللذين لا يتحلون بمكارم الأخلاق قال:
لَو كانَ ذا خُلُقٍ لَأَسعَدَ قَومَـهُ بِبَيــانِــهِ وَيَــراعِــهِ السَبّــاقِ
مَن لي بِتَربِيَةِ النِســاءِ فَإِنَّهـا في الشَرقِ عِلَّةُ ذَلِكَ الإِخفاقِ
الأُمُّ مَـدرَسَــــةٌ إِذا أَعـدَدتَـها أَعدَدتَ شَعباً طَيِّبَ الأَعـراقِ
وقال أبو الأسود الدؤلي :
لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتَأتيَ مِثلَهُ عارٌ عَلَيكَ إِذا فَعَلتَ عَظيمُ
ابدأ بِنَفسِكَ وَانَها عَن غِيّهـا فَإِذا انتَهَت عَنهُ فَأَنتَ حَكيمُ
فَهُناكَ يُقبَل ما وَعَظتَ وَيُقتَدى بِالعِلمِ مِنكَ وَيَنفَــعُ التَعليـمُ
وقال السموأل :
إِذا المَرءُ لَم يُدنَس مِنَ اللُؤمِ عِرضُـهُ فَكُلُّ رِداءٍ يَــرتَــديهِ جَميلُ
وَإِن هُوَ لَم يَحمِل عَلى النَفسِ ضَيمَها فَلَيسَ إِلى حُسنِ الثَناءِ سَبيلُ
وقال صفي الدين الحلي :
إنّا لَقَــوْمٌ أبَتْ أخــلاقُنا شَــرفا أن نبتَدي بالأذى من ليسَ يوذينا
بِيضٌ صَنائِعُنا ، سـودٌ وقائِعُنا خضرٌ مَرابعُنا ، حُمـرٌ مَواضِينا
وقالت عائشة التيمورية :
ما الحـظ إلا امــتلاك المـرء عفته وما السعادة إلا حسن أخلاق
ويقول الحسين بن مطير الأسدي:
أحـب مـكـارم الأخـلاق جـهـدي وأكـره أن أعـيـب وأن أعـابا
وأصـفـح عن سباب الناس حلماً وشر الناس من يهوى السبابا
وهذه أبيات تنسب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - :
صُنِ النَفسَ وَاِحمِلها عَلى ما يزيِنُها تَعِش سالِما وَالقَولُ فيكَ جَميـلُ
وَلا تُــرِيــنَّ النــاسَ إِلّا تَـــجَــمُّــلا .. نَبا بِكَ دَهــرٌ أَو جَفـاكَ خَليــلُ
وَإِن ضاقَ رِزقُ اليَومِ فَاِصبِر إِلى غَد عَسى نَكَبات الدَهرِ عَنكَ تَزولُ
يَــعِـزُّ غَنِيُّ النَفــسِ إِن قَــلَّ مــالُــهُ ويَغنى غَنِيُّ الـمالِ وَهــوَ ذَليـلُ
وَلا خَــيرَ فـي وِدِّ اِمــرِئٍ مُـتَلَّــون إِذا الريحُ مالَت مالَ حَيثُ تَميلُ
جَــوادٌ إِذا اِســتَغنَيتَ عَن أَخذِ مالِهِ وَعِندَ اِحتِمالِ الفَقرِ عَنكَ بَخيـلُ
فَما أَكثَرَ الإِخــوان حــينَ تَـعـدّهُـم وَلَــكِنَهُم فـي النـائِبــاتِ قَــليــلُ
ونختم بما نسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله إذ يقول:
النـاس بالنـاس مـا دام الحيــاء بهم والسـعد لا شــك تارات وهبـات
وأفضل الناس ما بين الورى رجل تقضى علي يـده للنـاس حاجات
لا تـمنعن يـد المعـروف عـن أحـد ما دمت مـقتدرا فالســعد تارات
واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت إليـك لا لك عنـد الناس حاجـات
قد مات قوم وما مـاتـت مكارمهـم وعاش قوم وهم في الناس أموات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق