التيسير ورفع الحرج في شريعة الإسلام
237016 10928
30/01/2024
582
الكاتب: إسلام ويب
التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن المتأمل في نصوص الشريعة الغراء سيجدها مبنية على السماحة واليسر ورفع الحرج، بل إن التيسير ورفع الحرج أصل من أصول الشريعة الإسلامية، فكما قال الإمام الشاطبي: (إن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة بلغت مبلغ القطع).
وقد نقل الإمام ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف: (إن دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه).
إن الله تبارك وتعالى وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة محببة إلى نفوس الخلق، ولو عملوا بخلاف ذلك لدخل عليهم من الحرج والمشقة والعنت ما لايعلمه إلا الله، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (الحجرات: 7) فقد حبب الله إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه.
أولا: من أدلة القرآن على التيسير ورفع الحرج:
لا شك أن هناك الكثير من الآيات المباركات في كتاب الله تعالى أفادت صراحة أو بالدلالة على التيسير ورفع الحرج وسماحة هذه الشريعة، ومنها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيرها: (أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله. وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهَّله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات. وهذه جملة لا يمكن تفصيلها، لأن تفاصيلها، جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات).
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28). قال السعدي: (أي: بسهولة ما أمركم به وما نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه..).
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(المائدة: 6). فهذا الجزء من الآية المباركة جاء ختاما للكلام عن أحكام الوضوء والغسل من الجنابة وإباحة التيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله.
ونحو ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78).
وقوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:91). وهي أصل في سقوط التكليف عن العاجز، والله عز وجل يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286).
وغيرها من الآيات الدالة على رفع الحرج والتيسير على المؤمنين.
ثانيا: من أدلة السنة على التيسير ورفع الحرج:
كثرت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الأدلة على هذه القاعدة الجليلة، ومن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ...".
والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيُغلب، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، " فَسَدِّدُوا " أي الزموا الصواب من غير إفراط ولا تفريط.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا"رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا". وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خُيِّرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُما أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فإنْ كانَ إثْمًا، كانَ أَبْعَدَ النَّاسِ منه".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يترك بعض العمل خشية المشقة على أمته، وفي قصة صلاة التراويح حين صلى ذات ليلة فاجتمع الناس وصلوا بصلاته، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، واجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: " قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". كما كان يدخل الصلاة وهو ينوي إطالتها فيتجوز فيها حين يسمع بكاء الصبي كراهية أن يشق على أمه.
كما كان ينكر على من يترك هديه ويشدد على نفسه، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: "أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي"رواه البخاري.
وقال أنس أيضا: دَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقالَ: "ما هذا الحَبْلُ؟". قالوا: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ"متفق عليه.
ومن ذلك ما حدث مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما -فيما رواه البخاري- حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عَبْدَ اللَّهِ، ألَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وتَقُومُ اللَّيْلَ؟"، فَقُلتُ: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ قَالَ: "فلا تَفْعَلْ صُمْ وأَفْطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ بحَسْبِكَ أنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، فإنَّ لكَ بكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا، فإنَّ ذلكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ"، قال عبد الله: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قَالَ: "فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ، ولَا تَزِدْ عليه"، قُلتُ: وما كانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ؟ قَالَ: "نِصْفَ الدَّهْرِ"، فَكانَ عبدُ اللَّهِ يقولُ بَعْدَ ما كَبِرَ: يا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
هذه سنته صلى الله عليه وسلم وسط بين الغالي والجافي، وشريعته مبنية على التيسير ورفع الحرج والبعد عن التكلف والتعمق والتنطع الذي يؤدي إلى الضيق والحرج، وإن طريق تحصيل الثواب في شريعة الإسلام لا يكون بالقصد إلى المشقة والغلو، ولكن بالتوسط واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والإخلاص لله رب العالمين.
237016 10928
30/01/2024
582
الكاتب: إسلام ويب
التصنيف:محاسن الأخلاق
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن المتأمل في نصوص الشريعة الغراء سيجدها مبنية على السماحة واليسر ورفع الحرج، بل إن التيسير ورفع الحرج أصل من أصول الشريعة الإسلامية، فكما قال الإمام الشاطبي: (إن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة بلغت مبلغ القطع).
وقد نقل الإمام ابن القيم رحمه الله عن بعض السلف: (إن دين الله بين الغالي فيه والجافي عنه).
إن الله تبارك وتعالى وضع هذه الشريعة المباركة حنيفية سمحة سهلة محببة إلى نفوس الخلق، ولو عملوا بخلاف ذلك لدخل عليهم من الحرج والمشقة والعنت ما لايعلمه إلا الله، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (الحجرات: 7) فقد حبب الله إلينا الإيمان بتيسيره وتسهيله، وزينه في قلوبنا بذلك، وبالوعد الصادق بالجزاء عليه.
أولا: من أدلة القرآن على التيسير ورفع الحرج:
لا شك أن هناك الكثير من الآيات المباركات في كتاب الله تعالى أفادت صراحة أو بالدلالة على التيسير ورفع الحرج وسماحة هذه الشريعة، ومنها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 185). قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسيرها: (أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله. وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهَّله تسهيلا آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات. وهذه جملة لا يمكن تفصيلها، لأن تفاصيلها، جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات).
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28). قال السعدي: (أي: بسهولة ما أمركم به وما نهاكم عنه، ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم، كالميتة والدم ونحوهما للمضطر، وكتزوج الأمة للحر بتلك الشروط السابقة. وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل، وعلمه وحكمته بضعف الإنسان من جميع الوجوه..).
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(المائدة: 6). فهذا الجزء من الآية المباركة جاء ختاما للكلام عن أحكام الوضوء والغسل من الجنابة وإباحة التيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله.
ونحو ذلك قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78).
وقوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (التوبة:91). وهي أصل في سقوط التكليف عن العاجز، والله عز وجل يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286).
وغيرها من الآيات الدالة على رفع الحرج والتيسير على المؤمنين.
ثانيا: من أدلة السنة على التيسير ورفع الحرج:
كثرت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم الأدلة على هذه القاعدة الجليلة، ومن ذلك:
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ...".
والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيُغلب، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل، " فَسَدِّدُوا " أي الزموا الصواب من غير إفراط ولا تفريط.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا، وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمًا مُيَسِّرًا"رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري حين بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا". وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ما خُيِّرَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ بيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُما أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فإنْ كانَ إثْمًا، كانَ أَبْعَدَ النَّاسِ منه".
وقد كان صلى الله عليه وسلم يترك بعض العمل خشية المشقة على أمته، وفي قصة صلاة التراويح حين صلى ذات ليلة فاجتمع الناس وصلوا بصلاته، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، واجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: " قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم". كما كان يدخل الصلاة وهو ينوي إطالتها فيتجوز فيها حين يسمع بكاء الصبي كراهية أن يشق على أمه.
كما كان ينكر على من يترك هديه ويشدد على نفسه، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إلى بُيُوتِ أزْوَاجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، يَسْأَلُونَ عن عِبَادَةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقالوا: وأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟! قدْ غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ، قالَ أحَدُهُمْ: أمَّا أنَا فإنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أبَدًا، وقالَ آخَرُ: أنَا أصُومُ الدَّهْرَ ولَا أُفْطِرُ، وقالَ آخَرُ: أنَا أعْتَزِلُ النِّسَاءَ فلا أتَزَوَّجُ أبَدًا، فَجَاءَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهِم، فَقالَ: "أنْتُمُ الَّذِينَ قُلتُمْ كَذَا وكَذَا؟! أَمَا واللَّهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وأَتْقَاكُمْ له، لَكِنِّي أصُومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأَرْقُدُ، وأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي"رواه البخاري.
وقال أنس أيضا: دَخَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَقالَ: "ما هذا الحَبْلُ؟". قالوا: هذا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "لا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ"متفق عليه.
ومن ذلك ما حدث مع عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما -فيما رواه البخاري- حين قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عَبْدَ اللَّهِ، ألَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ، وتَقُومُ اللَّيْلَ؟"، فَقُلتُ: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ قَالَ: "فلا تَفْعَلْ صُمْ وأَفْطِرْ، وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وإنَّ بحَسْبِكَ أنْ تَصُومَ كُلَّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، فإنَّ لكَ بكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أمْثَالِهَا، فإنَّ ذلكَ صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ"، قال عبد الله: فَشَدَّدْتُ، فَشُدِّدَ عَلَيَّ قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي أجِدُ قُوَّةً، قَالَ: "فَصُمْ صِيَامَ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ، ولَا تَزِدْ عليه"، قُلتُ: وما كانَ صِيَامُ نَبِيِّ اللَّهِ دَاوُدَ عليه السَّلَامُ؟ قَالَ: "نِصْفَ الدَّهْرِ"، فَكانَ عبدُ اللَّهِ يقولُ بَعْدَ ما كَبِرَ: يا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
هذه سنته صلى الله عليه وسلم وسط بين الغالي والجافي، وشريعته مبنية على التيسير ورفع الحرج والبعد عن التكلف والتعمق والتنطع الذي يؤدي إلى الضيق والحرج، وإن طريق تحصيل الثواب في شريعة الإسلام لا يكون بالقصد إلى المشقة والغلو، ولكن بالتوسط واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والإخلاص لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق