بالعدل تستقيم الحياة
إن العدل هو ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق؛ فهو إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه.
والعدل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، به تعمر البلاد وتنمو الأموال، ومعه يكبر النسل، ويأمن السلطان.
قال الماورديّ في أدب الدنيا والدين: (إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان.
وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل).
ولهذا قيل: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم تكن لصاحبها في الآخرة من خلاق. ومتى لم تقم بعدلٍ لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة).
وقال: (إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم لا يباح بحال).
وقد روى الطبراني عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقدس الله أمة لا يقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُتَعتَع".
ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ العدل من المنجيات حين قال: " وأما المنجيات: فالعدل في الرضا والغضب.."
ولما كان العدل بهذه المكانة السامية والمنزلة العالية والمكانة الرفيعة، رأينا الشريعة المطهرة تأمر به وتُعلي من شأنه وتحث عليه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء:135)، وقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة:8).
ونجد هنا أمرًا من الله تعالى للمؤمنين أن يكون العدل خلقًا من أخلاقهم، وسجية من سجاياهم؛ وذلك لأن صيغة (قوَّام) هي صيغة مبالغة، تدل على أن العدل من الأخلاق المتمكنة فيه.
وفي نصٍ كُلِّي جامع يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90).
بعض المجالات التي يدخل فيها العدل:
إننا مطالبون بالعدل في كل شيء، لكننا نشير هنا إلى بعض المجالات التي ينبغي فيها الحرص على تحري العدل والعمل به، ومنها:
الولاية على الناس وحكمهم:
فيجب أن نتبع فيها قواعد العدل، ومن العدل فيها: إعطاء المستحقين ومنع غيرهم، وإتاحة الفرص لجميع الأفراد بحسب كفاياتهم.
ومن العدل فيها: إسناد الأعمال إلى أهلها القادرين على القيام بها.
ولهذا كان من الذين يظلهم الله في ظله: "إمامٌ عادل". وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من يعدلون في ولايتهم بالمكانة العالية والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى حين قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا". ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بإجابة دعوتهم إن عدلوا في حكمهم وسياستهم لرعيتهم: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم.".
العدل في القضاء:
ويكون بالفصل بين الخصماء على أساس العدل لا على المحاباة، والتسوية بين الخصوم في مجلس القضاء، فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم، يعني على سبيل المساواة بينهما في المجلس، وكذا يكون العدل في القضاء بإقامة الحدود والجزاءات والقصاص.
يقول الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}(النساء:58).
وقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكمتم فاعدلوا..".
ويقول صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم ، فهو في النار..".
العدل في الشهادة:
ويكون العدل فيها بأن يشهد بما رأى أو سمع ولا يكتم الشهادة، {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(البقرة:283).
ويشهد بالحق فلا يحمله على مخالفة الحق قرابة أو حب أو بغض لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا..}(الأنعام:152). ولا يشهد بما يخالف الواقع، فإن شهد بما يخالف ذلك فهو شاهد زور، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}(الفرقان:72). وقد عد النبي شهادة الزور من أكبر الكبائر.
العدل في معاملة الزوجات:
بأن يعطي كلاً منهنَّ نصيبها من النفقة والسكن والمبيت، وقد حذر النبي صَلى الله عليه وسلم من ترك العدل بين الزوجات: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهنَّ جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل". وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفضِّل بعضنا على بعض في القَسْم من مُكثه عندنا". وعنها رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: "اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني القلب.
العدل في معاملة الأولاد:
وذلك بأن يسوي بينهم في العطية والتربية، وغير ذلك مما يملكه الإنسان. قال صَلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".
ولما جاء والد النعمان بن بشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهده على عطيته للنعمان من ماله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فكل بنيك نحلت مثل الذي نحلت النعمان؟" قال: لا، قال: "فأَشْهِد على هذا غيري" قال: "أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟" قال: بلى، قال: "فلا إذاً".
إن هذه المجالات التي سبق الإشارة إليها ليست إلا نماذج وأمثلة لما يكون فيه العدل، وإلا فإن المسلم مطالب بالعدل في أموره كلها، بل إنه مطالب بالعدل حتى مع أعدائه: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}(الشورى:15).
وحين أرسل النبي صَلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، أرادوا رشوته، فقال: "والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض".
إننا كمسلمين حين نلتزم بالعدل خلقًا وسلوكًا ومنهج حياة، فإننا نشيع الأمن والطمأنينة، ونعمل على رفاهية مجتمعاتنا.
كما إننا بالعدل نبين للآخرين عظمة الإسلام وسموه، فيرغبون في التعرف على هذا الدين والدخول فيه، كما حدث مع السابقين، فاللهم ارزقنا العدل في الرضا والغضب.
==================================================================
من أخلاقيات الحرب في الإسلام
"إن حسن الخلق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب تفعله كلأمة في أوقات السلم مهما أوغلت في الهمجية، ولكن حسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به؛ إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين؛ فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(المائدة:27).
وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على قادة حضارتنا، عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين؛ إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشد المعارك احتداما، وفي أحلك الأوقات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء، وأقسم لو أن التاريخ يتحدث عن هذه المعجزة الفريدة في تاريخ الأخلاق الحربية بصدق لا مجال للشك فيه لقلت إنها خرافة من الخرافات، وأسطورة لا ظل لها على الأرض!".
فإذا كان السلم هو الأصل في الإسلام، وإذا شرعت الحرب في الإسلام لأسباب وأهداف محددة، فإن الإسلام كذلك لم يترك الحرب هكذا دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحد مما يصاحبها، وبهذا جعل الحروب مضبوطة بالأخلاق ولا تسيرها الشهوات، كما جعلها ضد الطغاة والمعتدين لا ضد البرآء والمسالمين.
وتتمثل أبرز هذه القيود الأخلاقية فيما يلي:
أولا: عدم قتل الشيوخ والنساء والأطفال:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله تعالى ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه يأمرهم بتجنب قتل الولدان؛ فيروي بريدة فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، وكان مما يقوله: "..ولا تقتلوا وليدا.."(رواه مسلم) وفي رواية أبي داود: " ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة..".
ثانيا: عدم قتل المتعبدين:
فقد أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه يقول لهم: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع".
وكانت وصيته للجيش كما نقلها ابن عباس رضي الله عنهما: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا بَعثَ جيوشَهُ قالَ : "اخرُجوا باسمِ اللَّهِ قاتِلوا في سبيلِ اللَّهِ من كفرَ باللَّهِ ، ولا تعتَدوا ، ولا تغلُّوا ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا تقتُلوا الوِلدانَ ، ولا أصحابَ الصَّوامعِ".(أحمد).
ثالثا: عدم الغدر:
فكما مر معنا، كان من وصيته للجيش: "ولا تغدروا". ولم تكن هذه الوصية في معاملات المسلمين مع إخوانهم المسلمين، بل كانت مع عدو يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه! وقد وصلت أهمية هذا الأمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبرأ من الغادرين، ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدور كافرا؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أمَّن رجلا على دمه ثفقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا".(البخاري وغيره).
وقد ترسخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة رضي الله عنهم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه في ولايته أن أحد المقاتلين قال لمحارب من الفرس لا تخف. ثم قتله، فكتب رضي لله عنه إلى قائد الجيش: إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج(الكافر)، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع يقول له: لا تخف. فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا قطعت عنقه.
رابعا: عدم الإفساد في الأرض:
فلم تكن حروب المسلمين حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشد الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، لو كان ببلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحا في كلمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما وصى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، وكان مما جاء فيها: "ولا تفسدوا في الأرض". وهو شمول عظيم لكل أمر حميد.
وجاء أيضا في وصيته: " ولا تُغرقُن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة..".
وهذه تفصيلات توضح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض؛ لكيلا يظن قائد الجيش ان عداوة القوم تبيح بعض صور الفساد؛ فالفساد بشتى صوره أمر مرفوض في الإسلام.
خامسا: الإنفاق على الأسير:
إن الإنفاق على الأسير ومساعدته مما يثاب عليه المسلم، وذلك بحكم ضعف الأسير وانقطاعه عن أهله وقومه، وشدة حاجته للمساعدة، وقد قرن القرآن الكريم بِر لأسير ببر اليتامى والمساكين؛ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(الإنسان:8). ( ولعلنا نفرد لمعاملة الأسير في الإسلام مقالا آخر إن شاء الله).
سادسا:عدم التمثيل بالميت:
فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَة، فروى عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَى، وَالمُثْلَةِ ".(البخاري).(النُّهْبَى: أَخذ المرء ما ليس له جهارًا، والمُثْلَة: التنكيل بالمقتول، بقطع بعض أعضائه). وقال عمران بن الحصين رضي الله عنه: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ المُثْلَةِ".(أبو داود وغيره).
ورغم ما حدث في غزوة أُحُد من تمثيل المشركين بحمزة عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُغيِّر مبدأه، بل إنه صلى الله عليه وسلم هدَّد المسلمين تهديدًا خطيرًا إن قاموا بالتمثيل بأجساد قتلى الأعداء، فقال: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلاَلَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْـمُمَثِّلِينَ"(أحمد). ولم تَرِدْ في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم حادثةٌ واحدة تقول بأن المسلمين مثَّلوا بأَحَدٍ من أعدائهم.
هذه هي أخلاق الحروب عند المسلمين.. تلك التي لا تُلْغِي الشرف في الخصومة، أو العدل في المعاملة، ولا الإنسانية في القتال أو ما بعد القتال.
==========================================================
العلاقة الوطيدة بين الأخلاق والعقيدة
(إن من المُسلّمات في دين الإسلام شموله وتكامله، حتى عدت من خصائصه ومزاياه، فقد شمل هذا الدين الإنسان كله؛ جسمه وعقله وروحه، كما شمل سلوكه وفكره ومشاعره، كما شمل دنياه وآخرته، وليس في كيان الإنسان ولا في حياته شيء لا يتصل بعقيدة الإسلام ولا تتصل عقيدة الإسلام به، ومن ذلك الصلة بين العقيدة والأخلاق، فالعقيدة الصحيحة تستلزم التحلي بكل خلق فاضل والتخلي عن كل خلق ذميم).(البيان، العدد : 359).
ومن المقرر في الإسلام أن كل أموره المشروعة لا تقوم إلا على أصل الإيمان بالله؛ فإذا انتفى الإيمان انتفى العمل، ومن ذلك الأخلاق.
لذلك نجد في القرآن الكريم العلاقة واضحة بين العقيدة والأخلاق (فعندما يطالب القرآن أتباعه بالعدل، يذكر قبل الطلب وصف الإيمان للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي العدل فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8).
وعندما يأمر الإسلام بالصدق يقول القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119).
وهناك آيات كثيرة توضح هذه العلاقة العظيمة بين الإيمان والأخلاق، فحينما يأمر بالقول السديد يربط بينه وبين الإيمان، يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الأحزاب: 70).
وحين يأمر المؤمن أن يجتنب الظن السيئ والغيبة يبين أن من مقتضى الإيمان ترك تلك الأخلاق السيئة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} (الحجرات: 12).
ويبين الرسول العظيم في كثير من أحاديثه هذه العلاقة القوية بين العقيدة والأخلاق فحينما يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القسم: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن" قيل ومن يا رسول الله. قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". فهذا يبين بجلاء تام العلاقة الوطيدة بين الأخلاق والعقيدة، وحين يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره".
وحين يقول – عليه الصلاة والسلام -: "ليس بمؤمن من يشبع وجاره إلى جنبه طاوٍ". فهو يؤكد نفس المعنى.
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين كثيرا من الجوانب الأخلاقية ويربطها بالعقيدة والإيمان فيقول– عليه الصلاة والسلام -: "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة ويترك المراء وإن كان صادقًا".
ويبين أن من كمال الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه من الخير بل للناس، قال – عليه الصلاة والسلام -: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير". وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب للناس ما يحب لنفسه وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله – عز وجل -".
كما ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والحياء، "الحياء والإيمان قرنًا جميعًا فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر". وقال: "الحياء شعبة من شعب الإيمان ولا إيمان لمن لا حياء له...".
ومن كمال الإيمان أن يكون المرء المسلم رحيمًا للصغير والكبير عارفًا لكل واحد منهما حقه؛ إذ الرحمة معهما تدل على خلق عظيم نابع من إيمان صادق، ففي الحديث: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا". ومن كمال الإيمان أن يكون المؤمن صابرًا راضيًا بقدر الله فلا يتبرم ولا يتسخط بل يسلم ويرضى هذا التسليم خلق عظيم، منبعه الإيمان بالله مما يدل على ارتباط الإيمان بالأخلاق.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
وقال – عليه الصلاة والسلام -: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له".
عن عمرو بن عبسة قال قلت يا رسول الله: ما الإيمان؟. قال: "الصبر والسماحة" قلت: فأي الإيمان أفضل؟. قال: "خلق حسن".
وعن جابر بن عبد الله قال سئل النبي صلى الله عليه وسلمعن الإيمان قال: "الصبر والسماحة".
وقد نهى الإسلام أن يكون بين المؤمن وأخيه تشاحن وهجران؛ ذلك لأن العلاقة بينهما علاقة إيمانية فلا يحق لمن كان هذا حالهم أن يتهاجروا، لذلك جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من مقتضى الإيمان ترك الهجر فوق ثلاثة أيام: "لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
بل حتى الكلام يجب أن يكون ضمن المنظومة الأخلاقية؛ إذ من مقتضى الإيمان بالله أن يكون كلام الشخص طيبًا فلا فحش ولا لغو ولا سب ولا شتم؛ لأن الإيمان يحتم عليه الانضباط ضمن أمر الشرع وحكمه قال – عليه الصلاة والسلام -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
قال ابن رجب عند هذا الحديث: (فقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" فليفعل كذا وكذا ويدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان).
وقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
ومن كمال الإيمان أن يكون المرء كريمًا سخيًا لأن الإيمان والبخل لا ينبغي أن يجتمعا في قلب مؤمن. قال – عليه الصلاة والسلام -: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
وإن من كمال الإيمان أن يبتعد المؤمن عن الأخلاق الدنيئة من زنا وشرب خمر وسرقة ولعن؛ لأنها خصال تنقص الإيمان ولا تصلح للمؤمن. قال – عليه الصلاة والسلام -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المؤمنون إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".
وإنما أراد – والله أعلم - "وهو مؤمن" مطلق الإيمان لكنه ناقص الإيمان بما ارتكب من الكبيرة وترك من الانزجار عنها ولا يوجب ذلك تكفيرًا بالله – عز وجل.
(إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان).
وإننا نجد أن الأخلاق الحسنة من مكملات عقيدة المؤمن مما يدل على الارتباط الوثيق بينهما.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فجعل كمال الإيمان في كمال الخلق). وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام إسلام المرء ومن واجبات الإيمان وحقوقه وخصاله كف اليد واللسان وأداء الحقوق للآخرين في الدم والمال وهي قيم أخلاقية عظيمة مما يدل على ارتباطها بالإيمان.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وزاد الترمذي والنسائي: "والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم".
وقد ذكر أبو عثمان الصابوني أن من عقيدة أهل السنة والجماعة، التخلق بالأخلاق الكريمة والسجايا العظيمة مما يدل على أنها منبثقة من عقيدتهم التي يدينون لله بها ويختلفون بها عن غيرهم من الطوائف المنحرفة. فهم يأمرون (بصلة الأرحام على اختلاف الحالات وإفشاء السلام وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام والاهتمام بأمور المسلمين والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف والسعي في الخيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبدار إلى فعل الخيرات أجمع واتقاء شر عاقبة الطمع ويتواصلون بالحق والصبر).
وقال ابن القيم رحمه الله: (حسن الخلق هو الدين كله وهو من حقائق الإيمان وشرائع الإسلام... وقال الدين كله خلق ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين).
قال أبو العتاهية:
ليس دنيا بغير دين وليس الدين إلا مكارم الأخلاق
وإننا نجد في كتاب ربنا أن بين العقيدة والأخلاق ترابطًا قويًا لا ينفصل عنها بحال.
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(الأنعام: 151-153).
(ذلك هو الميثاق الأخلاقي الشامل الذي يلتزم به المؤمن اتباعًا لصراط الله المستقيم، فهو إذن جزء من العقيدة مرتبط بها ارتباطًا أساسيًا لا ينفصل عنه بحال).
قال ابن سعدي رحمه الله مبينًا ذلك أحسن بيان:
(ومن ثمرات الإيمان الصادق أن يقوي الرغبة في فعل الخيرات والتزود من الأعمال الصالحات ويدعو إلى الرحمة والشفقة على المخلوقات وذلك بسبب داعي الإيمان وبما يحتسبه العبد عن الله من الثواب الجزيل).
(ومن ثمراته أيضًا أنه ينهى عن الشرور والفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن ويحذر من كل خلق رذيل.. فهذه الأخلاق الحميدة هل يتوصل إليها بغير الإيمان وهل يعصم العبد من الانحلال الأخلاق المؤدية إلى الهلاك إلا الإيمان؟
وهل أودت بكثير من الخلق الأمور المادية والشهوات البهيمية والأخلاق السبعية، وهبطت بهم إلى الهلاك إلا حين فقدت روح الإيمان؟ وهل تؤدي الأمانات والحقوق الواجبة بغير وازع الإيمان؟ وهل تثبت القلوب عند المزعجات وتطمئن النفوس عند الكريهات إلا بعدة الإيمان؟ وهل تقنع النفوس برزق الله وتتم لها الراحة والحياة الطيبة في هذه الدار إلا بقوة الإيمان؟ وهل يتحقق العبد بالصدق في أقواله وأفعاله ومعاملاته ويكون أمينًا شريفًا معتبرًا عند الله وعند خلقه إلا بالإيمان؟ فكل أساس تنبني عليه هذه الأمور الجليلة سوى الإيمان فهو منهار، وكل رقي مادي لا يصحبه الإيمان فهو هبوط ودمار.
ألا وإن الإيمان يحمل العبد على الصبر على قضاء الله، والشكر لنعم الله، والشفقة على عباد الله، والتخلق بكل خلق جميل والتخلي عن كل خلق رذيل... والمؤمن يكون متصفًا بصفة التواضع للخلق والحق.. سليم القلب من الغش والغل والحقد، صدوق اللسان حسن المعاملة ،وصفة الحلم والوقار والسكينة والصبر والرحمة والوفاء والثبات... فهذه الخصال الجميلة من عقائد صادقة وأخلاق راقية وآداب سامية هل يمكن أن يتصف بها إلا المؤمن حقًا؟ وهي من أكبر البراهين على أن الدين بعقائده وأخلاقه هو الدين الحق...).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستزادة:بناء الأخلاق،د.عبد الله بن سليم القرشي.
==================================================
الفطنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس، وقال: "إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنْيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أمنَّ النَّاس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا -غير ربِّي- لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر". (رواه البخاري ).
ولا شك أن هذا من فطنة الصديق رضي الله عنه؛ إذ الفِطْنَة تعني العلم بالشَّيء من وجه غامض. أو التَّنَـبُّه للشَّيء الذي يُقْصد معرفته.
من أمثلة الفطنة في القرآن الكريم
قال الله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ . وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ . وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}.(الأنبياء:78-81).
وقد ورد في تفسيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كَرْمٌ قد أنبتت عَنَاقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تَدْفَع الكَرْم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكَرْم، فيصيب منها، حتى إذا كان الكَرْم كما كان، دفعت الكَرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}.(تفسير ابن كثير).
- قال الحسن رحمه الله: فحَمد سليمانَ، ولم يَلُم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين، لرأيت أنَّ القضاة هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.
- عن أمِّ سلمة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أَلْحَن بحجَّته من بعض، فمن قضيت له بحقِّ أخيه شيئًا، بقوله: فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار فلا يأخذها". (البخاري، ومسلم). قال المناوي: "أَلْحَن -بفتح الحاء-: الفَطَانَة، أي: أَبْلغ وأَفْصح وأعلم في تقرير مقصوده، وأَفْطن ببيان دليله، وأقدر على الـبَرْهنة على دفع دعوى خصمه، بحيث يُظنُّ أنَّ الحقَّ معه، فهو كاذب، ويُحْتمل كونه من اللَّحن، وهو الصَّرْف عن الصَّواب، أي: يكون أَعْجز عن الإِعْرَاب بحجَّته من بعض".
نماذج في الفِطْنَة
- قال ابن عبَّاس: (لما شبَّ إسماعيل، تزوَّج امرأة من جُرْهم، فجاء إبراهيم فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثمَّ سألها عن عَيْشهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، في ضيق وشدَّة، وشكت إليه. فقال: فإذا جاء زوجك فاقرئي -عليه السَّلام- وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء فأخبرته، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السَّلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّه بينكما. فقالت الصُّغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصُّغرى".(رواه مسلم).
قال ابن الجوزي: (أمَّا داود عليه السَّلام فرأى استواءهما في اليد، فقدم الكبرى لأجل السِّنِّ، وأما سليمان عليه السَّلام فرأى الأمر محتملًا، فاستنبط، فأَحْسَن، فكان أَحَدَّ فِطْنَةً من داود، وكلاهما حَكَم بالاجتهاد، لأنَّه لو كان داود حكم بالنَّص، لم يسع سليمان أن يحكم بخلافه، ولو كان ما حَكَم به نصًّا، لم يَخْفَ على داود، وهذا الحديث يدل على أنَّ الفِطْنَة والفهم موهبة لا بمقدار السِّنِّ ).
ومن فِطْنَة النَّبي صلى الله عليه وسلم الفِطْرِيَّة ما كان في غزوة بدر وأخبر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما قدمنا المدينة، أصبنا من ثمارها فاجتَوَيناها (أي كرهنا المقام بها)، وأصابنا بها وَعْكٌ، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يتخبَّر عن بدر، فلمَّا بلغنا أنَّ المشركين قد أقبلوا، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر -وبدر بئر-، فسبقنا المشركون إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم، رجلًا من قريش، ومولى لعقبة بن أبي مُعَيط، فأمَّا القرشي: فانفلت، وأمَّا مولى عقبة: فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هُمْ -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم، فجعل المسلمون -إذ قال ذلك- ضربوه حتى انتهوا به إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "كم القوم؟" قال: هُمْ -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم. فجهد النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم؟ فأبَى، ثمَّ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سأله: "كم ينحرون من الجُزر؟" فقال: عشرًا كلَّ يوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، كلُّ جَزُور لمائة وتبعها".
ومن أمثلة الفطنة ما كان من عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من الشَّجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مَثَل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟" فوقع النَّاس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: "هي النَّخلة". قال: فذكرت ذلك لعمر. قال: لأن تكون قلت: هي النَّخلة، أحبُّ إليَّ من كذا وكذا. (رواه مسلم).
من فوائد الفِطْنَة
1- أنَّها تدلُّ العبد على حكم الله وسننه الشَّرعية والكونيَّة، فتبصِّره بها، كما أنَّها تدعوه إلى التَّفكر في آلاء الله، فيزداد خشوعًا لله وتعظيمًا له، وإيمانًا ويقينًا به.
قال علي رضي الله عنه: (اليقين على أربع شعب: تبصرة الفِطْنَة، وتأويل الحِكْمة، ومعرفة العبرة، وسنَّة الأولين، فمن تبصَّر الفِطْنَة، تأوَّل الحِكْمة، ومن تأوَّل الحِكْمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنَّما كان في الأوَّلين).
2- الفطنة من أسباب السلامة والخروج من المآزق.
3- أنَّها تدعو إلى فعل صنائع المعروف، وتقديم الفضل إلى محتاجيه:
قال الأبشيهي: (يُستدلُّ على عقل الرَّجل بأمور متعدِّدة منها: ميله إلى محاسن الأخلاق، وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنُّبه ما يكسبه عارًا، ويورثه سوء السُّمعة).
ويقول الرَّازي: (العقل يدعو إلى الله تعالى، والهوى يدعو إلى الشَّيطان، ... فالفِطْنَة توقفك على معايب الدُّنْيا، والشَّهوة تحركك إلى لذات الدُّنْيا، ثمَّ إنَّ الرُّوح أمدَّ الفِطْنَة بالفكرة لتقوى الفِطْنَة بالفكرة).
4- الفطن ينتفع بفطنته، وينتفع بها غيره، ويفيدون منها.
5- ومن فوائدها وفضائلها -في نفس الوقت-: أنَّها ميَّزت هذه الأمَّة عن سواها، قال ابن الجوزي: (اعلم أنَّ فضيلة هذه الأمَّة على الأمم المتقدِّمة، وإنْ كان ذلك باختيار الحقِّ لها وتقديمه إيَّاها، إلَّا أنَّه جعل لذلك سببًا، كما جعل سبب سجود الملائكة لآدم علمه بما جهلوا، فكذلك جعل لتقديم هذه الأمَّة سببًا هو الفِطْنَة والفهم واليقين وتسليم النُّفوس).
ولا يعني هذا أنَّ هذه الأمَّة اختصت بالفِطْنَة دون غيرها من الأمم، وإنَّما المقصود هو: أنَّ الله حباهم من الفِطْنَة ما يميِّزون به بين الحقِّ والباطل، والخير والشَّرِّ، والهداية والضَّلال.
7- هي مقوِّم من مقوِّمات الشَّخصية النَّاجحة، فقد يتمتَّع الرَّجل بالقوَّة والأمانة، إلَّا أنَّه لا يتمتَّع بالفِطْنَة، وفي هذه الحالة قد لا يستطيع أن يسيِّر أعماله بالطَّريقة المطلوبة، قال الرَّازي: (القُوَّة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضمَّ إليهما الفِطْنَة والكَيَاسة).
أقسام الفِطْنَة
تنقسم الفِطْنَة إلى قسمين:
1- فِطْنَة موهوبة من الله -تبارك وتعالى-، يهبها الله من يشاء من عباده، فينير بصيرته، ويُفَهِّمه ما لا يفهم غيره، فتراه قويَّ الملاحظة، سريع الفهم، نافذ البصيرة، ذكيَّ القلب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
2- فِطْنَة مكتسبة تجريبيَّة تتحصَّل للمرء باجتهاده، وكثرة تجاربه، ومعاشرته لأهل العلم والذَّكاء والفِطْنَة والاستفادة منهم ومن تجاربهم، فيتولَّد عنده من الذَّكاء والفِطْنَة ومعرفة الأمور ما لم يكن لديه. ولعلَّنا نستشهد بقول الإبشيهي عن العقل الغريزيِّ والعقل المكتسب قال الإبشيهي: (العقل: ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزِّيادة والنُّقصان، وقسم يقبلهما، فأمَّا الأوَّل: فهو العقل الغريزيُّ المشترك بين العقلاء، وأما الثَّاني: فهو العقل التجريبيُّ، وهو مكتسب، وتحصل زيادته بكثرة التَّجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة، يقال: إنَّ الشَّيخ أكمل عقلًا، وأتمُّ دِرَاية، وإنَّ صاحب التَّجارب، أكثر فهمًا وأرجح معرفة).
من الوسائل المعينة على اكتساب الفِطْنَة
1- الإيمان:
الإيمان طريق عظيم من طرق اكتساب الفِطْنَة، يقول الطَّاهر بن عاشور: (الإيمان يزيد الفِطْنَة؛ لأنَّ أصول اعتقاده مبنيَّة على نَبْذ كلِّ ما من شأنه تضليل الرَّأي، وطمس البصيرة).
ومن وسائل اكتسابها -أيضًا-: التَّفقُّه في الدِّين، وطلب العلم الذي ينير البصيرة، ويُعْمِل الفِكَر، وينمِّي الفِطْنَة.
2- إعمال الفكر ومحاولة الفهم:
ومن الوسائل -أيضًا-: محاولة التَّفكر في الأشياء وفهمها، وإعمال الفِكْرة فيها، فإنَّ ذلك ينمِّي الفِطْنَة. يقول ابن القيِّم: (الفِكْر هو الذي ينقل من موت الفِطْنَة إلى حياة اليَقَظَة).
3- ترك فضول الطعام والشراب والنوم:
فإنَّ فضول هذه الأشياء تجعل الفِكْر راكدًا خاملًا، لا يكاد يَتَفَطَّن للأشياء، إلَّا بصعوبة بالغة، ومشقَّة شديدة.
عن مكحول قال: (خصال ثلاث يحبُّها الله عزَّ وجلَّ وثلاث يبغضها الله عزَّ وجلَّ، فأما اللاتي يحبُّها: فقلَّة الأكل، وقلَّة النَّوم، وقلَّة الكلام، وأمَّا اللاتي يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النَّوم، فأمَّا النَّوم، فإنَّ في مداومته طول الغفلة، وقلَّة العقل، ونقصان الفِطْنَة، وسهوة القلب).
قال شمس الدِّين السَّفاريني: (والبِطْنَة تُذْهِب الفِطْنَة، وتجلب أمراضًا عَسِرة، ومقام العدل أن لا يأكل حتى تُصدَّ الشَّهوة، وأن يرفع يده، وهو يشتهي الطعام). وقال أبو حامد الغزالي: (الشِّبَع يثقل البدن ويقسِّي القلب، ويزيل الفِطْنَة، ويجلب النَّوم، ويُضعف صاحبه عن العبادة).
و(الجوع إِذَا ساعدته القناعة، فَهُوَ من مزرعة الفِكْر، وينبوع الحِكْمة، وحياة الفِطْنَة، ومصباح القلب).
4- محاسبة النفس:
ومن وسائل اكتساب هذه الصِّفة: محاسبة النَّفس، قال الحارث بن أسد: (المحاسَبة تورث الزِّيادة في البصيرة، والكَيْس في الفِطْنَة، والسُّرعة إلى إثبات الحجَّة، واتِّساع المعرفة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(للاستزادة: نضرة النعيم)
========================================================================
الطموح
ينبغي على العاقل اللبيب ألاَّ يقنع بما عليه حاله، بل ينزع إلى معالي الأمور ويعمل على تغيير حاله إلى ما هو أرقى وأسمى وأنفع، فكلما نال مرتبة نظر إلى ما فوقها في غير ركون إلى الدنيا أو مخالفة لشرع ربه.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه لن تكون له غاية دون الجنة، وهذا هو الطموح: أن تتطلع النفس إلى ما هو أكمل وأحسن وأسمى.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل الأمة دائمًا على تطلب المعالي والتنزه عن الدنايا، فها هو يقول: " إن الله -تعالى - يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها ".
وكان يحث أمته على أعلى درجات الطموح حين قال: "الجنةُ مائةُ درجة، ما بين كلِّ درجتَينِ كما بين السماءِ والأرضِ، والفردوسُ أعلى الجنةِ، وأوسطُها، وفوقَه عرشُ الرَّحمنِ، ومنها يتفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ، فإذا سألتُمُ اللهَ فاسألوه الفِرْدَوسَ".
الفرق بين الطموح وعلو الهمة
مما لا شك فيه أن الطموح وعلو الهمة يشتركان في الهدف وهو تطلب معالي الأمور، غير أنهما يختلفان في الباعث والوسيلة، فإن الباعث في علو الهمة قد يكون الأنفة من خمول الضعة، أو دفع مهانة النقص، أما الباعث على الطموح فهو نزوع النفس دائمًا نحو الأعلى، وأما من حيث الوسيلة فإن علو الهمة لا يسلك بصاحبه إلا الدروب الشريفة الموافقة لشرع رب العالمين، بينما نجد أن الطموح قد يجنح بصاحبه إلى الغلو والإسراف.
والذي لا شك فيه أيضًا أن صاحب الطموح إن لم يبذل جهده للوصول إلى غايته، فهي مجرد أماني، لكن الطَّمُوح حقًا هو الذي يسعى لنيل ما يريد، بل ويُتعب نفسه في هذا:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسامُ
وما أحسن ما قال بعضهم:
لا يدرك المجد من لا يركب الخطرا ولا يـنال العـُلاَ مــن قـدَّم الحـذرا
ومـن أراد العــُلا صـفــوًا بــلا كَــدَرٍ قَضَى ولم يقضِ من إدراكه وَطَرا
إن معالي الأمور وعرة المسالك محفوفة بالمكاره؛ ولهذا قال معاوية -رضي الله عنه- لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-: " من طلب عظيمًا خاطر بعظيمته ".
وكان عمرو بن العاص يقول: " عليكم بكل أمرٍ مَزْلَقَةٍ مَهْلَكَةٍ ". يعني عليكم بجسام الأمور وعظيمها.
هل للطموح حدود؟
يجيب الأستاذ عبد الله العثمان على هذا السؤال فيقول في كتابه "نجوم السماء" باختصار:
(اطمح لأبعد الحدود وبكلّ شيء جميل ونافع، وشمِّر عن سواعد الجدّ والمثابرة، وضعْ لك أهدافًا حالمة، وأطلق عنان خيول الطموح تعانق السماء، وأزل عنها القيود والأغلال، وابدأ الخطوة الأولى ولا تؤجلها فمسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، ولكن لا بد أن تعرف القيمة المضافة إليك وراء كلّ حلم تحلم به أو شيء تطمح إليه، واختر من الطموحات والأحلام ما يقربك من الله تعالى، وثق بأن كل ما تحلم به سيتحقق في يوم من الأيام).
يقول الأستاذ علي الجارم:
لا ترسموا للطموحِ حداً فالمجدُ لا يَعْرفُ الحدودا
ويقول سومرست موم: لعله من عجائب الحياة أنك إذا رفضت كل ما هو دون مستوى القمة فإنك دائما تصل إليها.
إياك واليأس:
إن الطَّموح الذي يسعى لنيل ما يصبو إليه لا يعرف اليأس ولا العجز، وكلما كبا نهض سريعا فهو لا يعرف للفشل معنى إلا الانقطاع.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذا المعنى فيقول: "الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وإنْ أَصَابَكَ شيءٌ، فلا تَقُلْ لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".
لابد من عمل كبير مع التحلي بالصبر للوصول إلى ما تطمح إليه، واعلم أن قطرة الماء تثقب الحجر لا بالعنف لكن بتواصل السقوط، فاعمل وثابر وجد واجتهد واصبر:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر في صورة معبرة عن حوار بين الماء والزيت إذ قال الماء للزيت مُنكرا: (لِم ترتفع عليَّ وقد أنبت شجرتك؟ أين الأدب؟ فقال الزيت: لأني صبرت على ألم العصر والطحن، بينما أنت تجري في رضراض من الأنهار على طلب السلامة، وبالصبر يرتفع القدر).
لقد نجح وارنر في صنع القذائف ذاتية الدفع بعد قرابة 70000 تجربة خاطئة لكنه في النهاية وصل لأنه لم ييأس ولم يستسلم.
يقول هنري وادسورث: (العظماء لم يبلغوا القمم ويحافظوا عليها بمحض صُدْفة مفاجئة، ولكنّهم كانوا يكدحون الليل ليصلوا إلى العُلا بينما كان رفاقهم يَغُطّون في نومٍ عميق).
كان الإمام البخاري يستيقظ في الليل قرابة العشرين مرة يوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، وهو الذي رحل في طلب العلم ومنعته عفة نفسه أن يسأل الناس شيئا حين نفدت نفقته فأكل من حشيش الأرض.
يقول الدكتور عبد الرحمن السميط الذي تعرفه دروب وغابات وأيتام وفقراء إفريقيا: (لا نجاح أبدا بدون فشل، النملة لا تستطيع تسلق الحائط بدون أن تسقط أكثر من مرة، والطريق إلى النجاح يمر دائما بمحطات من الفشل، ولا خير فيمن يستسلم في المعركة الأولى).
طموح الشرفاء والأكابر
إن الكبار دائمًا يتطلعون إلى المعالي ويتنزهون عن السفاسف والدنايا؛ لذا تجدهم طامحين إلى:
1-الاستزادة من العلم:
لما علموا أن العلم أرفع المقامات التي تتطلع إليها الهمم، وأشرف الغايات التي تتسابق إليها الأمم بذلوا فيه أوقاتهم وأموالهم، ولم يضيعوا بما وصلوا إليه، وقد تحملوا في سبيل ذلك الشدائد والصعاب من شظف العيش وخشونته، والغربة عن الأوطان والأهل ومجافاة النوم واللهو، حتى كان الواحد منهم يرحل من بلده إلى بلدٍ آخر طلبًا لحديث واحدٍ، بعزم لا يبلى، وحرصٍ على الاستفادة من كل لحظة.
2- الشهادة:
لما علم أصحاب الهمم العالية بما أعده الله تعالى لمن يموت في سبيله شهيدا تسابقوا إليها، ولم يؤثروا غيرهم بها، فقد أخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال يوم أحدٍ لأخيه: " خُذ درعي يا أخي، فقال: أريد من الشهادة مثل الذي تريد فتركاها جميعًا " .
وهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يعقر فرسه ويقاتل القوم وهو يقول:
يا حـبذا الجـنةُ واقترابـُها طـيبة وباردٌ شـرابُها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كـافـرةٌ بعـيدةٌ أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتها ضرابُها
حتى قتل في سبيل الله رضي الله عنه.
3-الطموح إلى الجنة:
فقد قيل للعَتَّابي: فلانٌ بعيد الهمة، قال: إذن لا يكون له غايةٌ دون الجنة.
فكل غاية دون الجنة فهي بالنسبة إليها حقيرة.
ولا يمنع ذلك من طموح إلى الترقي في أمور الدنيا مع الالتزام بشرع الله والوقوف عند حدوده واستصحاب النية الصالحة في ذلك كله.
من أسباب اكتساب محاسن الأخلاق
صلة الأرحام.. فضلها وأثرها
=============================================
من آداب الدعاء
إن الله تعالى يحب من عباده أن يدعوه ويسألوه، ورضاه سبحانه في سؤاله وطاعته، قال ابن القيم :
( إنّ اللهَ لَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، بَلْ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ ).
وقال أيضا :
( وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالا، وهو يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه ).
فللدعاء فضل عظيم، دل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل العبادة الدعاء".(الحاكم، وصححه).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء".(رواه أحمد وغيره، وحسنه الألباني).
وقال أيضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين".( رواه أحمد، وغيره، وصححه الألباني).
وهناك آداب للدعاء يرجى لمن حافظ عليه إجابة دعائه، ومنها:
الأول: أن يفتتح الدعاء بذكر الله والثناء عليه وأن يختمه بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو وهو يقولُ: اللهم إني أسألُك بأني أشهدُ أنك أنت اللهُ لا إلَه إلا أنتَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ. قال: فقال: "والذي نفسي بيدِه لقد سألَ اللهُ باسمِه الأعظمِ الذي إذا دُعيَ به أجابَ وإذا سُئِلَ به أعطى".(رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني).
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن علي موقوفاً، وحسنه الألباني).
قال أبو سلمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يسأله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
الثاني: أن يترصد لدعائه الأوقات والأحوال الشريفة كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع ووقت السحر من ساعات الليل.
ومن هذه الأوقات والأحوال التي فيها يستجاب الدعاء:
1- وقت التنزل الإلهي:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك في كل ليلة" (مسلم) .
وروى ابن خزيمة في التوحيد عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزلُ اللهُ تبارك وتعالَى إلى سماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ فيقولُ : هل من داعٍ فأستجيبَ له ؟ هل من سائلٍ فأُعطيَه ؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟".
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن".(الترمذي وغيره وصححه الألباني).
2- في السجود:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِن (أي جدير) أن يستجاب لكم". (مسلم).
3- أن يبيت طاهرا على ذكر فيتعار من الليل فيدعو:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعار من الليل(أي يتقلب ويستيقظ) فيسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" (أحمد وغيره) .
4- عند الأذان:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (صححه الألباني في صحيح الجامع) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (صححه الألباني
).
5-بين الأذان والإقامة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب فادعوا" (صححه الألباني) .
6، 7، 8- عند نزول المطر، وعند التقاء الجيوش، وعند إقامة الصلاة:قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر" (الحاكم وحسنه الألباني) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث" (صححه الألباني) .
9- آخر ساعة من نهار الجمعة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" (صححه الألباني) .
10- دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لايرد".(صححه الألباني).
(الثالث): عدم العجلة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يُستجب لي"(البخاري ومسلم).
(الرابع): التضرع والخشوع والرغبة والرهبة:
قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}(الأعراف:55).
وقال تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً...) (الأنبياء:90).
(الخامس) أن يجزم بالدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" (رواه الترمذي، وصححه الألباني) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يعظم عليه شيء أعطاه" (مسلم) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت فليعزم المسألة فإنه لا مكره له" (البخاري وسلم) .
قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين} (الحجر: 36-37).
(السادس): أن يلح في الدعاء ويعظم المسألة ويكرر الدعاء ثلاثاً:
قال ابن مسعود: "كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً".
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه" (الطبراني وصححه الألباني).
قال المناوي: "إذا تمنى أحدكم خيراً من خير الدارين فليكثر الأماني فإنما يسأل ربه الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه، فيعظم الرغبة ويوسع المسألة، ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لا يتيسر، فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحاء الليل والنهار ولا يفنيها عطاء وإن جل وعظم فعطاؤه بين الكاف والنون، وليس ذا بمناقض لقوله سبحانه: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) فإن ذلك نهى عن تمنى ما لأخيه بغياً وحسداً، وهذا تمنى على الله سبحانه خيراً في دينه ودنياه وطلب من خزائنه فهو نظير (واسألوا الله من فضله) .
(السابع): استقبال القبلة ورفع اليدين:
روى مسلم عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ " فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ . . . الحديث .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : فِيهِ اِسْتِحْبَاب اسْتِقبال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء ، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ.
(الثامن): إطابة المأكل والملبس:
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، وَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ".
قال ابن رجب رحمه الله : فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجِبٌ لإجابة الدعاء ا.هـ .
إن العدل هو ميزان الله الذي وضعه للخلق، ونصبه للحق؛ فهو إحدى قواعد الدنيا التي لا انتظام لها إلا به، ولا صلاح فيها إلا معه.
والعدل يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطاعة، به تعمر البلاد وتنمو الأموال، ومعه يكبر النسل، ويأمن السلطان.
قال الماورديّ في أدب الدنيا والدين: (إنّ ممّا تصلح به حال الدّنيا قاعدة العدل الشّامل، الّذي يدعو إلى الألفة، ويبعث على الطّاعة، وتعمر به البلاد، وتنمو به الأموال، ويكبر معه النّسل، ويأمن به السّلطان.
وليس شيء أسرع في خراب الأرض، ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور؛ لأنّه ليس يقف على حدّ، ولا ينتهي إلى غاية، ولكلّ جزء منه قسط من الفساد حتّى يستكمل).
ولهذا قيل: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم تكن لصاحبها في الآخرة من خلاق. ومتى لم تقم بعدلٍ لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة).
وقال: (إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال، والظلم محرم لا يباح بحال).
وقد روى الطبراني عن معاوية رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يقدس الله أمة لا يقضى فيها بالحق، ويأخذ الضعيف حقه من القوي غير مُتَعتَع".
ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ العدل من المنجيات حين قال: " وأما المنجيات: فالعدل في الرضا والغضب.."
ولما كان العدل بهذه المكانة السامية والمنزلة العالية والمكانة الرفيعة، رأينا الشريعة المطهرة تأمر به وتُعلي من شأنه وتحث عليه.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (النساء:135)، وقال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}(المائدة:8).
ونجد هنا أمرًا من الله تعالى للمؤمنين أن يكون العدل خلقًا من أخلاقهم، وسجية من سجاياهم؛ وذلك لأن صيغة (قوَّام) هي صيغة مبالغة، تدل على أن العدل من الأخلاق المتمكنة فيه.
وفي نصٍ كُلِّي جامع يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل:90).
بعض المجالات التي يدخل فيها العدل:
إننا مطالبون بالعدل في كل شيء، لكننا نشير هنا إلى بعض المجالات التي ينبغي فيها الحرص على تحري العدل والعمل به، ومنها:
الولاية على الناس وحكمهم:
فيجب أن نتبع فيها قواعد العدل، ومن العدل فيها: إعطاء المستحقين ومنع غيرهم، وإتاحة الفرص لجميع الأفراد بحسب كفاياتهم.
ومن العدل فيها: إسناد الأعمال إلى أهلها القادرين على القيام بها.
ولهذا كان من الذين يظلهم الله في ظله: "إمامٌ عادل". وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم من يعدلون في ولايتهم بالمكانة العالية والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى حين قال: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن -عز وجل- وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا". ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بإجابة دعوتهم إن عدلوا في حكمهم وسياستهم لرعيتهم: " ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم.".
العدل في القضاء:
ويكون بالفصل بين الخصماء على أساس العدل لا على المحاباة، والتسوية بين الخصوم في مجلس القضاء، فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم، يعني على سبيل المساواة بينهما في المجلس، وكذا يكون العدل في القضاء بإقامة الحدود والجزاءات والقصاص.
يقول الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}(النساء:58).
وقال الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا حكمتم فاعدلوا..".
ويقول صلى الله عليه وسلم: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ، ورجل عرف الحق فجار في الحكم ، فهو في النار..".
العدل في الشهادة:
ويكون العدل فيها بأن يشهد بما رأى أو سمع ولا يكتم الشهادة، {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}(البقرة:283).
ويشهد بالحق فلا يحمله على مخالفة الحق قرابة أو حب أو بغض لقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا..}(الأنعام:152). ولا يشهد بما يخالف الواقع، فإن شهد بما يخالف ذلك فهو شاهد زور، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}(الفرقان:72). وقد عد النبي شهادة الزور من أكبر الكبائر.
العدل في معاملة الزوجات:
بأن يعطي كلاً منهنَّ نصيبها من النفقة والسكن والمبيت، وقد حذر النبي صَلى الله عليه وسلم من ترك العدل بين الزوجات: "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهنَّ جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل". وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُفضِّل بعضنا على بعض في القَسْم من مُكثه عندنا". وعنها رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل، ويقول: "اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني القلب.
العدل في معاملة الأولاد:
وذلك بأن يسوي بينهم في العطية والتربية، وغير ذلك مما يملكه الإنسان. قال صَلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".
ولما جاء والد النعمان بن بشير إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهده على عطيته للنعمان من ماله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فكل بنيك نحلت مثل الذي نحلت النعمان؟" قال: لا، قال: "فأَشْهِد على هذا غيري" قال: "أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟" قال: بلى، قال: "فلا إذاً".
إن هذه المجالات التي سبق الإشارة إليها ليست إلا نماذج وأمثلة لما يكون فيه العدل، وإلا فإن المسلم مطالب بالعدل في أموره كلها، بل إنه مطالب بالعدل حتى مع أعدائه: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ}(الشورى:15).
وحين أرسل النبي صَلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم، أرادوا رشوته، فقال: "والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض".
إننا كمسلمين حين نلتزم بالعدل خلقًا وسلوكًا ومنهج حياة، فإننا نشيع الأمن والطمأنينة، ونعمل على رفاهية مجتمعاتنا.
كما إننا بالعدل نبين للآخرين عظمة الإسلام وسموه، فيرغبون في التعرف على هذا الدين والدخول فيه، كما حدث مع السابقين، فاللهم ارزقنا العدل في الرضا والغضب.
==================================================================
من أخلاقيات الحرب في الإسلام
"إن حسن الخلق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب تفعله كلأمة في أوقات السلم مهما أوغلت في الهمجية، ولكن حسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به؛ إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين؛ فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}(المائدة:27).
وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على قادة حضارتنا، عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين؛ إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشد المعارك احتداما، وفي أحلك الأوقات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك الدماء، وأقسم لو أن التاريخ يتحدث عن هذه المعجزة الفريدة في تاريخ الأخلاق الحربية بصدق لا مجال للشك فيه لقلت إنها خرافة من الخرافات، وأسطورة لا ظل لها على الأرض!".
فإذا كان السلم هو الأصل في الإسلام، وإذا شرعت الحرب في الإسلام لأسباب وأهداف محددة، فإن الإسلام كذلك لم يترك الحرب هكذا دون قيود أو قانون، وإنما وضع لها ضوابط تحد مما يصاحبها، وبهذا جعل الحروب مضبوطة بالأخلاق ولا تسيرها الشهوات، كما جعلها ضد الطغاة والمعتدين لا ضد البرآء والمسالمين.
وتتمثل أبرز هذه القيود الأخلاقية فيما يلي:
أولا: عدم قتل الشيوخ والنساء والأطفال:
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي قادة الجند بالتقوى ومراقبة الله تعالى ليدفعهم إلى الالتزام بأخلاق الحروب، ومن ذلك أنه يأمرهم بتجنب قتل الولدان؛ فيروي بريدة فيقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا، وكان مما يقوله: "..ولا تقتلوا وليدا.."(رواه مسلم) وفي رواية أبي داود: " ولا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا صغيرا، ولا امرأة..".
ثانيا: عدم قتل المتعبدين:
فقد أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث جيوشه يقول لهم: "لا تقتلوا أصحاب الصوامع".
وكانت وصيته للجيش كما نقلها ابن عباس رضي الله عنهما: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا بَعثَ جيوشَهُ قالَ : "اخرُجوا باسمِ اللَّهِ قاتِلوا في سبيلِ اللَّهِ من كفرَ باللَّهِ ، ولا تعتَدوا ، ولا تغلُّوا ، ولا تُمَثِّلوا ، ولا تقتُلوا الوِلدانَ ، ولا أصحابَ الصَّوامعِ".(أحمد).
ثالثا: عدم الغدر:
فكما مر معنا، كان من وصيته للجيش: "ولا تغدروا". ولم تكن هذه الوصية في معاملات المسلمين مع إخوانهم المسلمين، بل كانت مع عدو يكيد لهم، ويجمع لهم، وهم ذاهبون لحربه! وقد وصلت أهمية هذا الأمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تبرأ من الغادرين، ولو كانوا مسلمين، ولو كان المغدور كافرا؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أمَّن رجلا على دمه ثفقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا".(البخاري وغيره).
وقد ترسخت قيمة الوفاء في نفوس الصحابة رضي الله عنهم حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلغه في ولايته أن أحد المقاتلين قال لمحارب من الفرس لا تخف. ثم قتله، فكتب رضي لله عنه إلى قائد الجيش: إنه بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج(الكافر)، حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع يقول له: لا تخف. فإذا أدركه قتله، وإني والذي نفسي بيده لا يبلغني أن أحدا فعل ذلك إلا قطعت عنقه.
رابعا: عدم الإفساد في الأرض:
فلم تكن حروب المسلمين حروب تخريب كالحروب المعاصرة التي يحرص فيها المتقاتلون من غير المسلمين على إبادة مظاهر الحياة لدى خصومهم، بل كان المسلمون يحرصون أشد الحرص على الحفاظ على العمران في كل مكان، لو كان ببلاد أعدائهم، وظهر ذلك واضحا في كلمات أبي بكر الصديق رضي الله عنه عندما وصى جيوشه المتجهة إلى فتح الشام، وكان مما جاء فيها: "ولا تفسدوا في الأرض". وهو شمول عظيم لكل أمر حميد.
وجاء أيضا في وصيته: " ولا تُغرقُن نخلا ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة..".
وهذه تفصيلات توضح المقصود من وصية عدم الإفساد في الأرض؛ لكيلا يظن قائد الجيش ان عداوة القوم تبيح بعض صور الفساد؛ فالفساد بشتى صوره أمر مرفوض في الإسلام.
خامسا: الإنفاق على الأسير:
إن الإنفاق على الأسير ومساعدته مما يثاب عليه المسلم، وذلك بحكم ضعف الأسير وانقطاعه عن أهله وقومه، وشدة حاجته للمساعدة، وقد قرن القرآن الكريم بِر لأسير ببر اليتامى والمساكين؛ {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(الإنسان:8). ( ولعلنا نفرد لمعاملة الأسير في الإسلام مقالا آخر إن شاء الله).
سادسا:عدم التمثيل بالميت:
فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَة، فروى عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: "نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّهْبَى، وَالمُثْلَةِ ".(البخاري).(النُّهْبَى: أَخذ المرء ما ليس له جهارًا، والمُثْلَة: التنكيل بالمقتول، بقطع بعض أعضائه). وقال عمران بن الحصين رضي الله عنه: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنِ المُثْلَةِ".(أبو داود وغيره).
ورغم ما حدث في غزوة أُحُد من تمثيل المشركين بحمزة عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يُغيِّر مبدأه، بل إنه صلى الله عليه وسلم هدَّد المسلمين تهديدًا خطيرًا إن قاموا بالتمثيل بأجساد قتلى الأعداء، فقال: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ قَتَلَهُ نَبِيٌّ، أَوْ قَتَلَ نَبِيًّا، وَإِمَامُ ضَلاَلَةٍ، وَمُمَثِّلٌ مِنَ الْـمُمَثِّلِينَ"(أحمد). ولم تَرِدْ في تاريخ رسول الله صلى الله عليه وسلم حادثةٌ واحدة تقول بأن المسلمين مثَّلوا بأَحَدٍ من أعدائهم.
هذه هي أخلاق الحروب عند المسلمين.. تلك التي لا تُلْغِي الشرف في الخصومة، أو العدل في المعاملة، ولا الإنسانية في القتال أو ما بعد القتال.
==========================================================
العلاقة الوطيدة بين الأخلاق والعقيدة
(إن من المُسلّمات في دين الإسلام شموله وتكامله، حتى عدت من خصائصه ومزاياه، فقد شمل هذا الدين الإنسان كله؛ جسمه وعقله وروحه، كما شمل سلوكه وفكره ومشاعره، كما شمل دنياه وآخرته، وليس في كيان الإنسان ولا في حياته شيء لا يتصل بعقيدة الإسلام ولا تتصل عقيدة الإسلام به، ومن ذلك الصلة بين العقيدة والأخلاق، فالعقيدة الصحيحة تستلزم التحلي بكل خلق فاضل والتخلي عن كل خلق ذميم).(البيان، العدد : 359).
ومن المقرر في الإسلام أن كل أموره المشروعة لا تقوم إلا على أصل الإيمان بالله؛ فإذا انتفى الإيمان انتفى العمل، ومن ذلك الأخلاق.
لذلك نجد في القرآن الكريم العلاقة واضحة بين العقيدة والأخلاق (فعندما يطالب القرآن أتباعه بالعدل، يذكر قبل الطلب وصف الإيمان للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي العدل فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة: 8).
وعندما يأمر الإسلام بالصدق يقول القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119).
وهناك آيات كثيرة توضح هذه العلاقة العظيمة بين الإيمان والأخلاق، فحينما يأمر بالقول السديد يربط بينه وبين الإيمان، يقول الله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} (الأحزاب: 70).
وحين يأمر المؤمن أن يجتنب الظن السيئ والغيبة يبين أن من مقتضى الإيمان ترك تلك الأخلاق السيئة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} (الحجرات: 12).
ويبين الرسول العظيم في كثير من أحاديثه هذه العلاقة القوية بين العقيدة والأخلاق فحينما يقسم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القسم: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن" قيل ومن يا رسول الله. قال: "الذي لا يأمن جاره بوائقه". فهذا يبين بجلاء تام العلاقة الوطيدة بين الأخلاق والعقيدة، وحين يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره".
وحين يقول – عليه الصلاة والسلام -: "ليس بمؤمن من يشبع وجاره إلى جنبه طاوٍ". فهو يؤكد نفس المعنى.
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين كثيرا من الجوانب الأخلاقية ويربطها بالعقيدة والإيمان فيقول– عليه الصلاة والسلام -: "لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب من المزاحة ويترك المراء وإن كان صادقًا".
ويبين أن من كمال الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه من الخير بل للناس، قال – عليه الصلاة والسلام -: "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير". وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب للناس ما يحب لنفسه وحتى يحب المرء لا يحبه إلا لله – عز وجل -".
كما ربط الرسول صلى الله عليه وسلم بين الإيمان والحياء، "الحياء والإيمان قرنًا جميعًا فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر". وقال: "الحياء شعبة من شعب الإيمان ولا إيمان لمن لا حياء له...".
ومن كمال الإيمان أن يكون المرء المسلم رحيمًا للصغير والكبير عارفًا لكل واحد منهما حقه؛ إذ الرحمة معهما تدل على خلق عظيم نابع من إيمان صادق، ففي الحديث: "ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا". ومن كمال الإيمان أن يكون المؤمن صابرًا راضيًا بقدر الله فلا يتبرم ولا يتسخط بل يسلم ويرضى هذا التسليم خلق عظيم، منبعه الإيمان بالله مما يدل على ارتباط الإيمان بالأخلاق.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية".
وقال – عليه الصلاة والسلام -: "عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له".
عن عمرو بن عبسة قال قلت يا رسول الله: ما الإيمان؟. قال: "الصبر والسماحة" قلت: فأي الإيمان أفضل؟. قال: "خلق حسن".
وعن جابر بن عبد الله قال سئل النبي صلى الله عليه وسلمعن الإيمان قال: "الصبر والسماحة".
وقد نهى الإسلام أن يكون بين المؤمن وأخيه تشاحن وهجران؛ ذلك لأن العلاقة بينهما علاقة إيمانية فلا يحق لمن كان هذا حالهم أن يتهاجروا، لذلك جعل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من مقتضى الإيمان ترك الهجر فوق ثلاثة أيام: "لا يحل للمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام".
بل حتى الكلام يجب أن يكون ضمن المنظومة الأخلاقية؛ إذ من مقتضى الإيمان بالله أن يكون كلام الشخص طيبًا فلا فحش ولا لغو ولا سب ولا شتم؛ لأن الإيمان يحتم عليه الانضباط ضمن أمر الشرع وحكمه قال – عليه الصلاة والسلام -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".
قال ابن رجب عند هذا الحديث: (فقوله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" فليفعل كذا وكذا ويدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان).
وقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
ومن كمال الإيمان أن يكون المرء كريمًا سخيًا لأن الإيمان والبخل لا ينبغي أن يجتمعا في قلب مؤمن. قال – عليه الصلاة والسلام -: "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".
وإن من كمال الإيمان أن يبتعد المؤمن عن الأخلاق الدنيئة من زنا وشرب خمر وسرقة ولعن؛ لأنها خصال تنقص الإيمان ولا تصلح للمؤمن. قال – عليه الصلاة والسلام -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المؤمنون إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن".
وإنما أراد – والله أعلم - "وهو مؤمن" مطلق الإيمان لكنه ناقص الإيمان بما ارتكب من الكبيرة وترك من الانزجار عنها ولا يوجب ذلك تكفيرًا بالله – عز وجل.
(إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان).
وإننا نجد أن الأخلاق الحسنة من مكملات عقيدة المؤمن مما يدل على الارتباط الوثيق بينهما.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فجعل كمال الإيمان في كمال الخلق). وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من تمام إسلام المرء ومن واجبات الإيمان وحقوقه وخصاله كف اليد واللسان وأداء الحقوق للآخرين في الدم والمال وهي قيم أخلاقية عظيمة مما يدل على ارتباطها بالإيمان.
قال – عليه الصلاة والسلام -: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".
وزاد الترمذي والنسائي: "والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم".
وقد ذكر أبو عثمان الصابوني أن من عقيدة أهل السنة والجماعة، التخلق بالأخلاق الكريمة والسجايا العظيمة مما يدل على أنها منبثقة من عقيدتهم التي يدينون لله بها ويختلفون بها عن غيرهم من الطوائف المنحرفة. فهم يأمرون (بصلة الأرحام على اختلاف الحالات وإفشاء السلام وإطعام الطعام والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام والاهتمام بأمور المسلمين والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف والسعي في الخيرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبدار إلى فعل الخيرات أجمع واتقاء شر عاقبة الطمع ويتواصلون بالحق والصبر).
وقال ابن القيم رحمه الله: (حسن الخلق هو الدين كله وهو من حقائق الإيمان وشرائع الإسلام... وقال الدين كله خلق ومن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين).
قال أبو العتاهية:
ليس دنيا بغير دين وليس الدين إلا مكارم الأخلاق
وإننا نجد في كتاب ربنا أن بين العقيدة والأخلاق ترابطًا قويًا لا ينفصل عنها بحال.
قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }(الأنعام: 151-153).
(ذلك هو الميثاق الأخلاقي الشامل الذي يلتزم به المؤمن اتباعًا لصراط الله المستقيم، فهو إذن جزء من العقيدة مرتبط بها ارتباطًا أساسيًا لا ينفصل عنه بحال).
قال ابن سعدي رحمه الله مبينًا ذلك أحسن بيان:
(ومن ثمرات الإيمان الصادق أن يقوي الرغبة في فعل الخيرات والتزود من الأعمال الصالحات ويدعو إلى الرحمة والشفقة على المخلوقات وذلك بسبب داعي الإيمان وبما يحتسبه العبد عن الله من الثواب الجزيل).
(ومن ثمراته أيضًا أنه ينهى عن الشرور والفواحش كلها ما ظهر منها وما بطن ويحذر من كل خلق رذيل.. فهذه الأخلاق الحميدة هل يتوصل إليها بغير الإيمان وهل يعصم العبد من الانحلال الأخلاق المؤدية إلى الهلاك إلا الإيمان؟
وهل أودت بكثير من الخلق الأمور المادية والشهوات البهيمية والأخلاق السبعية، وهبطت بهم إلى الهلاك إلا حين فقدت روح الإيمان؟ وهل تؤدي الأمانات والحقوق الواجبة بغير وازع الإيمان؟ وهل تثبت القلوب عند المزعجات وتطمئن النفوس عند الكريهات إلا بعدة الإيمان؟ وهل تقنع النفوس برزق الله وتتم لها الراحة والحياة الطيبة في هذه الدار إلا بقوة الإيمان؟ وهل يتحقق العبد بالصدق في أقواله وأفعاله ومعاملاته ويكون أمينًا شريفًا معتبرًا عند الله وعند خلقه إلا بالإيمان؟ فكل أساس تنبني عليه هذه الأمور الجليلة سوى الإيمان فهو منهار، وكل رقي مادي لا يصحبه الإيمان فهو هبوط ودمار.
ألا وإن الإيمان يحمل العبد على الصبر على قضاء الله، والشكر لنعم الله، والشفقة على عباد الله، والتخلق بكل خلق جميل والتخلي عن كل خلق رذيل... والمؤمن يكون متصفًا بصفة التواضع للخلق والحق.. سليم القلب من الغش والغل والحقد، صدوق اللسان حسن المعاملة ،وصفة الحلم والوقار والسكينة والصبر والرحمة والوفاء والثبات... فهذه الخصال الجميلة من عقائد صادقة وأخلاق راقية وآداب سامية هل يمكن أن يتصف بها إلا المؤمن حقًا؟ وهي من أكبر البراهين على أن الدين بعقائده وأخلاقه هو الدين الحق...).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للاستزادة:بناء الأخلاق،د.عبد الله بن سليم القرشي.
==================================================
الفطنة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس، وقال: "إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدُّنْيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال: فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خُيِّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخَيَّر، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أمنَّ النَّاس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا -غير ربِّي- لاتَّخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا سُدَّ، إلا باب أبي بكر". (رواه البخاري ).
ولا شك أن هذا من فطنة الصديق رضي الله عنه؛ إذ الفِطْنَة تعني العلم بالشَّيء من وجه غامض. أو التَّنَـبُّه للشَّيء الذي يُقْصد معرفته.
من أمثلة الفطنة في القرآن الكريم
قال الله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ . وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ . وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}.(الأنبياء:78-81).
وقد ورد في تفسيرها عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كَرْمٌ قد أنبتت عَنَاقيده، فأفسدته. قال: فقضى داود بالغنم لصاحب الكَرْم، فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! قال: وما ذاك؟ قال: تَدْفَع الكَرْم إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحب الكَرْم، فيصيب منها، حتى إذا كان الكَرْم كما كان، دفعت الكَرْم إلى صاحبه، ودفعت الغنم إلى صاحبها، فذلك قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}.(تفسير ابن كثير).
- قال الحسن رحمه الله: فحَمد سليمانَ، ولم يَلُم داود، ولولا ما ذكر الله من أمر هذين، لرأيت أنَّ القضاة هلكوا، فإنَّه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده.
- عن أمِّ سلمة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنَّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضكم أَلْحَن بحجَّته من بعض، فمن قضيت له بحقِّ أخيه شيئًا، بقوله: فإنَّما أقطع له قطعة من النَّار فلا يأخذها". (البخاري، ومسلم). قال المناوي: "أَلْحَن -بفتح الحاء-: الفَطَانَة، أي: أَبْلغ وأَفْصح وأعلم في تقرير مقصوده، وأَفْطن ببيان دليله، وأقدر على الـبَرْهنة على دفع دعوى خصمه، بحيث يُظنُّ أنَّ الحقَّ معه، فهو كاذب، ويُحْتمل كونه من اللَّحن، وهو الصَّرْف عن الصَّواب، أي: يكون أَعْجز عن الإِعْرَاب بحجَّته من بعض".
نماذج في الفِطْنَة
- قال ابن عبَّاس: (لما شبَّ إسماعيل، تزوَّج امرأة من جُرْهم، فجاء إبراهيم فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثمَّ سألها عن عَيْشهم، فقالت: نحن بِشَرٍّ، في ضيق وشدَّة، وشكت إليه. فقال: فإذا جاء زوجك فاقرئي -عليه السَّلام- وقولي له يغير عتبة بابه. فلما جاء فأخبرته، قال: ذاك أبي، وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك).
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنت. وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السَّلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أشقُّه بينكما. فقالت الصُّغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها. فقضى به للصُّغرى".(رواه مسلم).
قال ابن الجوزي: (أمَّا داود عليه السَّلام فرأى استواءهما في اليد، فقدم الكبرى لأجل السِّنِّ، وأما سليمان عليه السَّلام فرأى الأمر محتملًا، فاستنبط، فأَحْسَن، فكان أَحَدَّ فِطْنَةً من داود، وكلاهما حَكَم بالاجتهاد، لأنَّه لو كان داود حكم بالنَّص، لم يسع سليمان أن يحكم بخلافه، ولو كان ما حَكَم به نصًّا، لم يَخْفَ على داود، وهذا الحديث يدل على أنَّ الفِطْنَة والفهم موهبة لا بمقدار السِّنِّ ).
ومن فِطْنَة النَّبي صلى الله عليه وسلم الفِطْرِيَّة ما كان في غزوة بدر وأخبر به علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما قدمنا المدينة، أصبنا من ثمارها فاجتَوَيناها (أي كرهنا المقام بها)، وأصابنا بها وَعْكٌ، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يتخبَّر عن بدر، فلمَّا بلغنا أنَّ المشركين قد أقبلوا، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر -وبدر بئر-، فسبقنا المشركون إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم، رجلًا من قريش، ومولى لعقبة بن أبي مُعَيط، فأمَّا القرشي: فانفلت، وأمَّا مولى عقبة: فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هُمْ -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم، فجعل المسلمون -إذ قال ذلك- ضربوه حتى انتهوا به إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: "كم القوم؟" قال: هُمْ -والله- كثير عددهم، شديد بأسهم. فجهد النَّبي صلى الله عليه وسلم أن يخبره كم هم؟ فأبَى، ثمَّ إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم سأله: "كم ينحرون من الجُزر؟" فقال: عشرًا كلَّ يوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القوم ألف، كلُّ جَزُور لمائة وتبعها".
ومن أمثلة الفطنة ما كان من عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من الشَّجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنَّها مَثَل المسلم، فحدِّثوني ما هي؟" فوقع النَّاس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنَّها النَّخلة، فاستحييت. ثم قالوا: حدِّثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: فقال: "هي النَّخلة". قال: فذكرت ذلك لعمر. قال: لأن تكون قلت: هي النَّخلة، أحبُّ إليَّ من كذا وكذا. (رواه مسلم).
من فوائد الفِطْنَة
1- أنَّها تدلُّ العبد على حكم الله وسننه الشَّرعية والكونيَّة، فتبصِّره بها، كما أنَّها تدعوه إلى التَّفكر في آلاء الله، فيزداد خشوعًا لله وتعظيمًا له، وإيمانًا ويقينًا به.
قال علي رضي الله عنه: (اليقين على أربع شعب: تبصرة الفِطْنَة، وتأويل الحِكْمة، ومعرفة العبرة، وسنَّة الأولين، فمن تبصَّر الفِطْنَة، تأوَّل الحِكْمة، ومن تأوَّل الحِكْمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنَّما كان في الأوَّلين).
2- الفطنة من أسباب السلامة والخروج من المآزق.
3- أنَّها تدعو إلى فعل صنائع المعروف، وتقديم الفضل إلى محتاجيه:
قال الأبشيهي: (يُستدلُّ على عقل الرَّجل بأمور متعدِّدة منها: ميله إلى محاسن الأخلاق، وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنُّبه ما يكسبه عارًا، ويورثه سوء السُّمعة).
ويقول الرَّازي: (العقل يدعو إلى الله تعالى، والهوى يدعو إلى الشَّيطان، ... فالفِطْنَة توقفك على معايب الدُّنْيا، والشَّهوة تحركك إلى لذات الدُّنْيا، ثمَّ إنَّ الرُّوح أمدَّ الفِطْنَة بالفكرة لتقوى الفِطْنَة بالفكرة).
4- الفطن ينتفع بفطنته، وينتفع بها غيره، ويفيدون منها.
5- ومن فوائدها وفضائلها -في نفس الوقت-: أنَّها ميَّزت هذه الأمَّة عن سواها، قال ابن الجوزي: (اعلم أنَّ فضيلة هذه الأمَّة على الأمم المتقدِّمة، وإنْ كان ذلك باختيار الحقِّ لها وتقديمه إيَّاها، إلَّا أنَّه جعل لذلك سببًا، كما جعل سبب سجود الملائكة لآدم علمه بما جهلوا، فكذلك جعل لتقديم هذه الأمَّة سببًا هو الفِطْنَة والفهم واليقين وتسليم النُّفوس).
ولا يعني هذا أنَّ هذه الأمَّة اختصت بالفِطْنَة دون غيرها من الأمم، وإنَّما المقصود هو: أنَّ الله حباهم من الفِطْنَة ما يميِّزون به بين الحقِّ والباطل، والخير والشَّرِّ، والهداية والضَّلال.
7- هي مقوِّم من مقوِّمات الشَّخصية النَّاجحة، فقد يتمتَّع الرَّجل بالقوَّة والأمانة، إلَّا أنَّه لا يتمتَّع بالفِطْنَة، وفي هذه الحالة قد لا يستطيع أن يسيِّر أعماله بالطَّريقة المطلوبة، قال الرَّازي: (القُوَّة والأمانة لا يكفيان في حصول المقصود ما لم ينضمَّ إليهما الفِطْنَة والكَيَاسة).
أقسام الفِطْنَة
تنقسم الفِطْنَة إلى قسمين:
1- فِطْنَة موهوبة من الله -تبارك وتعالى-، يهبها الله من يشاء من عباده، فينير بصيرته، ويُفَهِّمه ما لا يفهم غيره، فتراه قويَّ الملاحظة، سريع الفهم، نافذ البصيرة، ذكيَّ القلب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
2- فِطْنَة مكتسبة تجريبيَّة تتحصَّل للمرء باجتهاده، وكثرة تجاربه، ومعاشرته لأهل العلم والذَّكاء والفِطْنَة والاستفادة منهم ومن تجاربهم، فيتولَّد عنده من الذَّكاء والفِطْنَة ومعرفة الأمور ما لم يكن لديه. ولعلَّنا نستشهد بقول الإبشيهي عن العقل الغريزيِّ والعقل المكتسب قال الإبشيهي: (العقل: ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزِّيادة والنُّقصان، وقسم يقبلهما، فأمَّا الأوَّل: فهو العقل الغريزيُّ المشترك بين العقلاء، وأما الثَّاني: فهو العقل التجريبيُّ، وهو مكتسب، وتحصل زيادته بكثرة التَّجارب والوقائع، وباعتبار هذه الحالة، يقال: إنَّ الشَّيخ أكمل عقلًا، وأتمُّ دِرَاية، وإنَّ صاحب التَّجارب، أكثر فهمًا وأرجح معرفة).
من الوسائل المعينة على اكتساب الفِطْنَة
1- الإيمان:
الإيمان طريق عظيم من طرق اكتساب الفِطْنَة، يقول الطَّاهر بن عاشور: (الإيمان يزيد الفِطْنَة؛ لأنَّ أصول اعتقاده مبنيَّة على نَبْذ كلِّ ما من شأنه تضليل الرَّأي، وطمس البصيرة).
ومن وسائل اكتسابها -أيضًا-: التَّفقُّه في الدِّين، وطلب العلم الذي ينير البصيرة، ويُعْمِل الفِكَر، وينمِّي الفِطْنَة.
2- إعمال الفكر ومحاولة الفهم:
ومن الوسائل -أيضًا-: محاولة التَّفكر في الأشياء وفهمها، وإعمال الفِكْرة فيها، فإنَّ ذلك ينمِّي الفِطْنَة. يقول ابن القيِّم: (الفِكْر هو الذي ينقل من موت الفِطْنَة إلى حياة اليَقَظَة).
3- ترك فضول الطعام والشراب والنوم:
فإنَّ فضول هذه الأشياء تجعل الفِكْر راكدًا خاملًا، لا يكاد يَتَفَطَّن للأشياء، إلَّا بصعوبة بالغة، ومشقَّة شديدة.
عن مكحول قال: (خصال ثلاث يحبُّها الله عزَّ وجلَّ وثلاث يبغضها الله عزَّ وجلَّ، فأما اللاتي يحبُّها: فقلَّة الأكل، وقلَّة النَّوم، وقلَّة الكلام، وأمَّا اللاتي يبغض: فكثرة الأكل، وكثرة الكلام، وكثرة النَّوم، فأمَّا النَّوم، فإنَّ في مداومته طول الغفلة، وقلَّة العقل، ونقصان الفِطْنَة، وسهوة القلب).
قال شمس الدِّين السَّفاريني: (والبِطْنَة تُذْهِب الفِطْنَة، وتجلب أمراضًا عَسِرة، ومقام العدل أن لا يأكل حتى تُصدَّ الشَّهوة، وأن يرفع يده، وهو يشتهي الطعام). وقال أبو حامد الغزالي: (الشِّبَع يثقل البدن ويقسِّي القلب، ويزيل الفِطْنَة، ويجلب النَّوم، ويُضعف صاحبه عن العبادة).
و(الجوع إِذَا ساعدته القناعة، فَهُوَ من مزرعة الفِكْر، وينبوع الحِكْمة، وحياة الفِطْنَة، ومصباح القلب).
4- محاسبة النفس:
ومن وسائل اكتساب هذه الصِّفة: محاسبة النَّفس، قال الحارث بن أسد: (المحاسَبة تورث الزِّيادة في البصيرة، والكَيْس في الفِطْنَة، والسُّرعة إلى إثبات الحجَّة، واتِّساع المعرفة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(للاستزادة: نضرة النعيم)
========================================================================
الطموح
ينبغي على العاقل اللبيب ألاَّ يقنع بما عليه حاله، بل ينزع إلى معالي الأمور ويعمل على تغيير حاله إلى ما هو أرقى وأسمى وأنفع، فكلما نال مرتبة نظر إلى ما فوقها في غير ركون إلى الدنيا أو مخالفة لشرع ربه.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه لن تكون له غاية دون الجنة، وهذا هو الطموح: أن تتطلع النفس إلى ما هو أكمل وأحسن وأسمى.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدل الأمة دائمًا على تطلب المعالي والتنزه عن الدنايا، فها هو يقول: " إن الله -تعالى - يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها ".
وكان يحث أمته على أعلى درجات الطموح حين قال: "الجنةُ مائةُ درجة، ما بين كلِّ درجتَينِ كما بين السماءِ والأرضِ، والفردوسُ أعلى الجنةِ، وأوسطُها، وفوقَه عرشُ الرَّحمنِ، ومنها يتفجَّرُ أنهارُ الجنَّةِ، فإذا سألتُمُ اللهَ فاسألوه الفِرْدَوسَ".
الفرق بين الطموح وعلو الهمة
مما لا شك فيه أن الطموح وعلو الهمة يشتركان في الهدف وهو تطلب معالي الأمور، غير أنهما يختلفان في الباعث والوسيلة، فإن الباعث في علو الهمة قد يكون الأنفة من خمول الضعة، أو دفع مهانة النقص، أما الباعث على الطموح فهو نزوع النفس دائمًا نحو الأعلى، وأما من حيث الوسيلة فإن علو الهمة لا يسلك بصاحبه إلا الدروب الشريفة الموافقة لشرع رب العالمين، بينما نجد أن الطموح قد يجنح بصاحبه إلى الغلو والإسراف.
والذي لا شك فيه أيضًا أن صاحب الطموح إن لم يبذل جهده للوصول إلى غايته، فهي مجرد أماني، لكن الطَّمُوح حقًا هو الذي يسعى لنيل ما يريد، بل ويُتعب نفسه في هذا:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسامُ
وما أحسن ما قال بعضهم:
لا يدرك المجد من لا يركب الخطرا ولا يـنال العـُلاَ مــن قـدَّم الحـذرا
ومـن أراد العــُلا صـفــوًا بــلا كَــدَرٍ قَضَى ولم يقضِ من إدراكه وَطَرا
إن معالي الأمور وعرة المسالك محفوفة بالمكاره؛ ولهذا قال معاوية -رضي الله عنه- لعمرو بن العاص -رضي الله عنه-: " من طلب عظيمًا خاطر بعظيمته ".
وكان عمرو بن العاص يقول: " عليكم بكل أمرٍ مَزْلَقَةٍ مَهْلَكَةٍ ". يعني عليكم بجسام الأمور وعظيمها.
هل للطموح حدود؟
يجيب الأستاذ عبد الله العثمان على هذا السؤال فيقول في كتابه "نجوم السماء" باختصار:
(اطمح لأبعد الحدود وبكلّ شيء جميل ونافع، وشمِّر عن سواعد الجدّ والمثابرة، وضعْ لك أهدافًا حالمة، وأطلق عنان خيول الطموح تعانق السماء، وأزل عنها القيود والأغلال، وابدأ الخطوة الأولى ولا تؤجلها فمسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة، ولكن لا بد أن تعرف القيمة المضافة إليك وراء كلّ حلم تحلم به أو شيء تطمح إليه، واختر من الطموحات والأحلام ما يقربك من الله تعالى، وثق بأن كل ما تحلم به سيتحقق في يوم من الأيام).
يقول الأستاذ علي الجارم:
لا ترسموا للطموحِ حداً فالمجدُ لا يَعْرفُ الحدودا
ويقول سومرست موم: لعله من عجائب الحياة أنك إذا رفضت كل ما هو دون مستوى القمة فإنك دائما تصل إليها.
إياك واليأس:
إن الطَّموح الذي يسعى لنيل ما يصبو إليه لا يعرف اليأس ولا العجز، وكلما كبا نهض سريعا فهو لا يعرف للفشل معنى إلا الانقطاع.
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذا المعنى فيقول: "الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ ، احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وإنْ أَصَابَكَ شيءٌ، فلا تَقُلْ لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ، فإنَّ لو تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".
لابد من عمل كبير مع التحلي بالصبر للوصول إلى ما تطمح إليه، واعلم أن قطرة الماء تثقب الحجر لا بالعنف لكن بتواصل السقوط، فاعمل وثابر وجد واجتهد واصبر:
لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر في صورة معبرة عن حوار بين الماء والزيت إذ قال الماء للزيت مُنكرا: (لِم ترتفع عليَّ وقد أنبت شجرتك؟ أين الأدب؟ فقال الزيت: لأني صبرت على ألم العصر والطحن، بينما أنت تجري في رضراض من الأنهار على طلب السلامة، وبالصبر يرتفع القدر).
لقد نجح وارنر في صنع القذائف ذاتية الدفع بعد قرابة 70000 تجربة خاطئة لكنه في النهاية وصل لأنه لم ييأس ولم يستسلم.
يقول هنري وادسورث: (العظماء لم يبلغوا القمم ويحافظوا عليها بمحض صُدْفة مفاجئة، ولكنّهم كانوا يكدحون الليل ليصلوا إلى العُلا بينما كان رفاقهم يَغُطّون في نومٍ عميق).
كان الإمام البخاري يستيقظ في الليل قرابة العشرين مرة يوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطره، وهو الذي رحل في طلب العلم ومنعته عفة نفسه أن يسأل الناس شيئا حين نفدت نفقته فأكل من حشيش الأرض.
يقول الدكتور عبد الرحمن السميط الذي تعرفه دروب وغابات وأيتام وفقراء إفريقيا: (لا نجاح أبدا بدون فشل، النملة لا تستطيع تسلق الحائط بدون أن تسقط أكثر من مرة، والطريق إلى النجاح يمر دائما بمحطات من الفشل، ولا خير فيمن يستسلم في المعركة الأولى).
طموح الشرفاء والأكابر
إن الكبار دائمًا يتطلعون إلى المعالي ويتنزهون عن السفاسف والدنايا؛ لذا تجدهم طامحين إلى:
1-الاستزادة من العلم:
لما علموا أن العلم أرفع المقامات التي تتطلع إليها الهمم، وأشرف الغايات التي تتسابق إليها الأمم بذلوا فيه أوقاتهم وأموالهم، ولم يضيعوا بما وصلوا إليه، وقد تحملوا في سبيل ذلك الشدائد والصعاب من شظف العيش وخشونته، والغربة عن الأوطان والأهل ومجافاة النوم واللهو، حتى كان الواحد منهم يرحل من بلده إلى بلدٍ آخر طلبًا لحديث واحدٍ، بعزم لا يبلى، وحرصٍ على الاستفادة من كل لحظة.
2- الشهادة:
لما علم أصحاب الهمم العالية بما أعده الله تعالى لمن يموت في سبيله شهيدا تسابقوا إليها، ولم يؤثروا غيرهم بها، فقد أخرج الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال يوم أحدٍ لأخيه: " خُذ درعي يا أخي، فقال: أريد من الشهادة مثل الذي تريد فتركاها جميعًا " .
وهذا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يعقر فرسه ويقاتل القوم وهو يقول:
يا حـبذا الجـنةُ واقترابـُها طـيبة وباردٌ شـرابُها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كـافـرةٌ بعـيدةٌ أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتها ضرابُها
حتى قتل في سبيل الله رضي الله عنه.
3-الطموح إلى الجنة:
فقد قيل للعَتَّابي: فلانٌ بعيد الهمة، قال: إذن لا يكون له غايةٌ دون الجنة.
فكل غاية دون الجنة فهي بالنسبة إليها حقيرة.
ولا يمنع ذلك من طموح إلى الترقي في أمور الدنيا مع الالتزام بشرع الله والوقوف عند حدوده واستصحاب النية الصالحة في ذلك كله.
من أسباب اكتساب محاسن الأخلاق
صلة الأرحام.. فضلها وأثرها
=============================================
من آداب الدعاء
إن الله تعالى يحب من عباده أن يدعوه ويسألوه، ورضاه سبحانه في سؤاله وطاعته، قال ابن القيم :
( إنّ اللهَ لَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ، بَلْ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ، وَيَغْضَبُ إِذَا لَمْ يُسْأَلْ ).
وقال أيضا :
( وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالا، وهو يحب الملحين في الدعاء، وكلما ألح العبد عليه في السؤال أحبه وقربه وأعطاه ).
فللدعاء فضل عظيم، دل على ذلك قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفضل العبادة الدعاء".(الحاكم، وصححه).
وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء".(رواه أحمد وغيره، وحسنه الألباني).
وقال أيضا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن الله حيى كريم يستحي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين".( رواه أحمد، وغيره، وصححه الألباني).
وهناك آداب للدعاء يرجى لمن حافظ عليه إجابة دعائه، ومنها:
الأول: أن يفتتح الدعاء بذكر الله والثناء عليه وأن يختمه بالصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فعن بريدة الأسلمي رضي الله عنه قال: سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو وهو يقولُ: اللهم إني أسألُك بأني أشهدُ أنك أنت اللهُ لا إلَه إلا أنتَ الأحدُ الصمدُ الذي لم يلدْ ولم يولدْ ولم يكن له كُفُوًا أحدٌ. قال: فقال: "والذي نفسي بيدِه لقد سألَ اللهُ باسمِه الأعظمِ الذي إذا دُعيَ به أجابَ وإذا سُئِلَ به أعطى".(رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني).
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -" (رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن أنس، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن علي موقوفاً، وحسنه الألباني).
قال أبو سلمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يسأله حاجته، ثم يختم بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.
الثاني: أن يترصد لدعائه الأوقات والأحوال الشريفة كيوم عرفة من السنة، ورمضان من الأشهر، ويوم الجمعة من الأسبوع ووقت السحر من ساعات الليل.
ومن هذه الأوقات والأحوال التي فيها يستجاب الدعاء:
1- وقت التنزل الإلهي:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إن في الليل لساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى فيها خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك في كل ليلة" (مسلم) .
وروى ابن خزيمة في التوحيد عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ينزلُ اللهُ تبارك وتعالَى إلى سماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ فيقولُ : هل من داعٍ فأستجيبَ له ؟ هل من سائلٍ فأُعطيَه ؟ هل من مستغفرٍ فأغفرَ له؟".
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن".(الترمذي وغيره وصححه الألباني).
2- في السجود:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِن (أي جدير) أن يستجاب لكم". (مسلم).
3- أن يبيت طاهرا على ذكر فيتعار من الليل فيدعو:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ما من مسلم يبيت على ذكر طاهراً فيتعار من الليل(أي يتقلب ويستيقظ) فيسأل الله تعالى خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه" (أحمد وغيره) .
4- عند الأذان:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (صححه الألباني في صحيح الجامع) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا نودي بالصلاة فتحت أبواب السماء واستجيب الدعاء" (صححه الألباني
).
5-بين الأذان والإقامة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب فادعوا" (صححه الألباني) .
6، 7، 8- عند نزول المطر، وعند التقاء الجيوش، وعند إقامة الصلاة:قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر" (الحاكم وحسنه الألباني) .
وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اطلبوا استجابة الدعاء عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث" (صححه الألباني) .
9- آخر ساعة من نهار الجمعة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" (صححه الألباني) .
10- دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب لايرد".(صححه الألباني).
(الثالث): عدم العجلة:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يُستجب لي"(البخاري ومسلم).
(الرابع): التضرع والخشوع والرغبة والرهبة:
قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعاً وخفية}(الأعراف:55).
وقال تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً...) (الأنبياء:90).
(الخامس) أن يجزم بالدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه:
قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" (رواه الترمذي، وصححه الألباني) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، وليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يعظم عليه شيء أعطاه" (مسلم) .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت فليعزم المسألة فإنه لا مكره له" (البخاري وسلم) .
قال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين} (الحجر: 36-37).
(السادس): أن يلح في الدعاء ويعظم المسألة ويكرر الدعاء ثلاثاً:
قال ابن مسعود: "كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً".
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إذا تمنى أحدكم فليكثر، فإنما يسأل ربه" (الطبراني وصححه الألباني).
قال المناوي: "إذا تمنى أحدكم خيراً من خير الدارين فليكثر الأماني فإنما يسأل ربه الذي رباه وأنعم عليه وأحسن إليه، فيعظم الرغبة ويوسع المسألة، ويسأله الكثير والقليل حتى شسع النعل فإنه إن لم ييسره لا يتيسر، فينبغي للسائل إكثار المسألة ولا يختصر ولا يقتصر فإن خزائن الجود سحاء الليل والنهار ولا يفنيها عطاء وإن جل وعظم فعطاؤه بين الكاف والنون، وليس ذا بمناقض لقوله سبحانه: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض) فإن ذلك نهى عن تمنى ما لأخيه بغياً وحسداً، وهذا تمنى على الله سبحانه خيراً في دينه ودنياه وطلب من خزائنه فهو نظير (واسألوا الله من فضله) .
(السابع): استقبال القبلة ورفع اليدين:
روى مسلم عن عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلا ، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ : "اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ " فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ . . . الحديث .
قال النووي رحمه الله في شرح مسلم : فِيهِ اِسْتِحْبَاب اسْتِقبال الْقِبْلَة فِي الدُّعَاء ، وَرَفْع الْيَدَيْنِ فِيهِ.
(الثامن): إطابة المأكل والملبس:
روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا ، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، وَقَالَ : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ".
قال ابن رجب رحمه الله : فأكل الحلال وشربه ولبسه والتغذي به سبب موجِبٌ لإجابة الدعاء ا.هـ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق