عليك بالمشورة
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْحَزْمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ لَا يُبْرِمَ أَمْرًا وَلَا يُمْضِيَ عَزْمًا إلَّا بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ النَّاصِحِ، وَمُطَالَعَةِ ذِي الْعَقْلِ الرَّاجِحِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَشُورَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ إرْشَادِهِ، وَوَعَدَ بِهِ مِنْ تَأْيِيدِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَرَهُ بِمُشَاوِرَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ فِيهَا مِنْ الْفَضْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيَسْتَنَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَتْبَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَشُورَتِهِمْ غَنِيًّا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نِعْمَ الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُسَدِّدُهَا بِرَأْيِهِ، وَرَجُلٌ يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ أَهْلُ الرَّأْيِ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بِأَمْرِهِ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ مُرْشِدًا.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ: مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُشَاوِرْ، وَمَنْ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ كَانَ مِنْ الصَّوَابِ بَعِيدًا. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْمُشَاوَرَةُ رَاحَةٌ لَك وَتَعَبٌ عَلَى غَيْرِك. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنْ اسْتَشَارَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْيِهِ آرَاءَ الْعُقَلَاءِ، وَيَجْمَعَ إلَى عَقْلِهِ عُقُولَ الْحُكَمَاءِ، فَالرَّأْيُ الْفَذُّ رُبَّمَا زَلَّ وَالْعَقْلُ الْفَرْدُ رُبَّمَا ضَلَّ.
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً ... فَإِنَّ الْخَوَافِيَ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ ارْتَادَ لَهَا مِنْ أَهْلِهَا مَنْ قَدْ اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ:
إحْدَاهُنَّ: عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ تَجْرِبَةٍ سَالِفَةٍ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ: احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقَ إلَيْك مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ. وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ: مَا أَكْثَرَ صَوَابَكُمْ! قَالَ: نَحْنُ أَلْفُ رَجُلٍ وَفِينَا حَازِمٌ وَنَحْنُ نُطِيعُهُ فَكَأَنَّا أَلْفُ حَازِمٍ.
وَكَانَ يُقَالُ: إيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ رَجُلَيْنِ: شَابٌّ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ قَلِيلُ التَّجَارِبِ فِي غَيْرِهِ، أَوْ كَبِيرٌ قَدْ أَخَذَ الدَّهْرُ مِنْ عَقْلِهِ كَمَا أَخَذَ مِنْ جِسْمِهِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْأَيَّامُ تَهْتِكُ لَك عَنْ الْأَسْتَارِ الْكَامِنَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: التَّجَارِبُ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ، وَالْعَاقِلُ مِنْهَا فِي زِيَادَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ اسْتَعَانَ بِذَوِي الْعُقُولِ فَازَ بِدَرَكِ الْمَأْمُولِ.
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
وَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيك نُصْحَهُ ... وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وَلَكِنْ إذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ صَاحِبٍ ... فَحُقَّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ
وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقًى، فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ. وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ.
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا وَدُودًا، فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يُصَدِّقَانِ الْفِكْرَةَ وَيُمَحِّضَانِ الرَّأْيَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا تُشَاوِرْ إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ، وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ الْحَازِمِ ظَفَرٌ، وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَصْف ضَمِيرًا لِمَنْ تُعَاشِرُهُ ... وَاسْكُنْ إلَى نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ
وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي مَوَدَّتِهِ ... بِمَا يُؤَدِّي إلَيْك ظَاهِرُهُ
مَنْ يَكْشِفْ النَّاسَ لَا يَجِدْ أَحَدًا ... تَصِحُّ مِنْهُمْ لَهُ سَرَائِرُهُ
أَوْشَكَ أَنْ لَا يَدُومَ وَصْلُ أَخٍ ... فِي كُلِّ زَلَّاتِهِ تُنَافِرُهُ
وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ، وَغَمٍّ شَاغِلٍ، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رَأْيٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ خَاطِرٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ. وَكَانَ كِسْرَى إذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ بَعَثَ إلَى مَرَازِبَتِهِ فَاسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ قَصَّرُوا فِي الرَّأْيِ ضَرَبَ قَهَارِمَتِهِ وَقَالَ: أَبْطَأْتُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ فَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
وَلَا مُشِيرَ كَذِي نُصْحٍ وَمَقْدِرَةٍ ... فِي مُشْكِلِ الْأَمْرِ فَاخْتَرْ ذَاكَ مُنْتَصِحًا
وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ غَرَضٌ يُتَابِعُهُ، وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ، فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ وَالْهَوَى صَادٌّ، وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ الْأَغْرَاضُ فَسَدَ. وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
وَقَدْ يَحْكُمُ الْأَيَّامَ مَنْ كَانَ جَاهِلًا ... وَيُرْدِي الْهَوَى ذَا الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبُ
وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى وَهُوَ مُخْطِئٌ ... وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبُ
فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا لِلرَّأْيِ، فَلَا تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَضْلِ رَأْيِك، وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ رَوِيَّتِك، فَإِنَّ رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ، وَهُوَ مِنْ الصَّوَابِ أَقْرَبُ، لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ الْهَوَى وَارْتِفَاعِ الشَّهْوَةِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ. وَقَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ لِابْنِهِ: شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ فَإِنَّهُ يُعْطِيك مِنْ رَأْيِهِ مَا قَامَ عَلَيْهِ بِالْغَلَاءِ وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: نِصْفُ رَأْيِك مَعَ أَخِيك فَشَاوِرْهُ لِيَكْمُلَ لَك الرَّأْيُ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ ضَلَّ، وَمَنْ اكْتَفَى بِعَقْلِهِ زَلَّ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْخَطَأُ مَعَ الِاسْتِرْشَادِ أَحْمَدُ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الِاسْتِبْدَادِ.
=============
لامية ابن الوردي في الأخلاق والحكم
اعتزل ذكر الغواني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الـذكـرَ لأيـام الـصــبــا فــلأيــام الصـبــا نـجـمٌ أفــل
إن أهــنـا عـيشـة قضيتهـا ذهـبـت لـذاتـها والإثــم حــل
واتـرك الغـادة لا تحـفل بها تُمس في عِـز وتـُرفَـع وتُجل
وانه عـن آلـة لهـو أطـربت وعـن الأمـرد مـرتــج الـكفـل
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تـهـواه تـجـد أمــراً جلل
واهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنونٍ مَن عقل
واتـق الله فـتــقوى الله مـا جـاورت قـلب امـرئ إلا وصـل
ليس من يقطع طرقاً بطـلاً إنـمـا مـن يـتـقي الله البـطـل
صَدِّق الشرع ولا تركن إلى رجـل يـرصـد في اللـيل زحـل
حارت الأفكار في قدرة من قـد هـدانـا سـبلـنـا عـز وجـل
أي بُنيَّ اسْمَعْ وصايا جَمَعَتْ حِـكَمـاً خُـَّصت بها خيرُ المِلَل
اطلب العـلـم ولا تكسل فما أبعد الخير على أهـل الكسل
واحتفل للفقه في الدين ولا تـشـتـغل عـنه بـمـال وخـول
واهـجر الـنوم وحصـله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تـقـل قـد ذهـبـت أربـابـه كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العِدا وجـمـال الـعلـم إصلاح العمل
جَمِّـل الـمـنطق بالنحو فمن يحرم الإعراب بالنطق اختبـل
مات أهل الفضل لم يبق سوى مقرف أو من على الأصل اتكل
أنـا لا أخــتـار تــقـبـيــل يـــدٍ قـطعـهـا أجـمل من تلك القبل
إن جزتني عن مديحي صرت في رقـها أو لا فيـكفيني الخجل
مُلك كسرى تُغني عنه كسرةٌ وعن البحر اجتزاء بالوشل
أعـذب الألـفاظ قولي لك خــذ وَأَمــرُّ اللـفـظ نطـقي بلعل
اعـتـبر نـحـن قسـمـنـا بينهـم تلقــه حـقـاً وبـالـحـق نـزل
ليس ما يحوي الفتى من عزمه لا ولا ما فات يوماً بالكسـل
اطـرح الـدنـيا فـمـن عـاداتـهـا تخفض العالي وتعلي من سفل
عـيشة الراغب في تحصيلـها عيشة الجاهد فيها أو أقل
كـم جـهـول وهــو مُـثرٍ مـكـثر وعلـيـم مــات مـنها بالعلل
كم شجاع لم ينل فيها المنى وجـبــان نـال غـايات الأمل
أيُّ كـف لـم تَـفـد مـمـا تُــفــد فــرمــاهـا الله منه بالشلل
لا تـقـل أصـلي وفصـلي أبـداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
قـد يسـود الـمـرء مـن غير أبٍ وبحسن السبك قد ينفى الزغل
وكذا الـورد مـن الشـوك ومــا يطلـع النـرجـس إلا من بصل
قيـمـة الإنسـان مـا يـحسـنـه أكـثـرَ الإنـسـانُ مـنـه أو أقـل
اكـتـم الأمـريـن فـقـراً وغـنى واكسب الفلس وحاسب من بطل
وادَّرع جــداً وكــداً واجــتـنـب صحبة الحمقى وأرباب الخلل
بـيـن تـبـذيـرٍ وبُــخـل رتـبــةٌ.. وكـــلا هـذيـن إن دام قــتــل
لا تخض في سب سادات مضوا إنـهــم لــيـسـوا بأهل للزلل
وتَــغَــافــل عــن أمــــور إنه لـم يـفـز بالحمد إلا مـن غفل
ليس يخلو المرء من ضدٍ وإن حـاول العزلة في رأس جـبل
مِـل عن النَّـمـام وازجره فما بَـلَّــغَ الــمكــروه إلا مـن نقل
دارِ جَــار السّـوء بالـصبر وإن لم تجد صبراً فما أحلى النُقل
جانب السلطان واحذر بطشه لا تـعـانـد مـن إذا قال فعل
لا تَلِ الحُكــم وإن هـم سـألوا رغبة فيك وخالف من عذل
إنَّ نِصــفَ النــاس أعـداءٌ لِمَن ولي الأحـكام هذا إن عـدل
فـهـو كالمـحبــوس عـن لذاته وَكِلا كَفَّيه في الحـشر تُغَل
إن للنـقص والاسـتـثـقال في لفظة القاضي لوعظاً ومثل
لا تـوازي لـذة الـحــكـم بــمـا ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل
فـالـولايـات وإن طــابـت لمن ذاقها فالسم في ذاك العسل
نَصَبُ المنصب أوهى جـلدي وعنائي مـن مداراة السِفل
قصِّر الآمــال في الــدنيـا تفز فـدلـيـل العقل تقصير الأمل
غِـبْ وَزُرْ غِـبـاً تـزد حُـباً فَمَـن أكـثـر التـرداد أقـصـاه المـلل
خذ بحد السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحُلل
لا يــضـر الفضــلَ إقـلالٌ كما لا يضر الشمس إطباق الطفل
حبــك الأوطــان عجـز ظاهرٌ فاغـترب تلقَ عن الأهـل بـدل
فبمُكثِ الـمـاء يبــقى آسـناً وسُـرى البـدر به البدر اكتمـل
لا يــغرنـك لـيـن مــن فـتـى إن للــحــيات لــيــنــاً يُــعـتزل
أنا مـثـــل الماء سهل سائغٌ ومـتى سُـــخِّــن آذى وقــتـل
أنا كالخـيـزور صــعب كسره وهــو لينٌ كيفما شـئت انفتل
غير أني في زمــان من يكن فيه ذا مال هو المولى الأجل
واجـب عـند الـورى إكـرامــه وقـلـيـل الـمـال فيهـم يستقل
كلُّ أهــل العـصـر غـمـرٌ وأنا مـنـهـم فاترك تفاصيل الجُـمل
=======================
البشاشة مصيدة المودة
حين تلقى إنساناً فتشعر أنه قد فرح بلقائك؛ فيبتسم في وجهك ويتلطف في معاملتك ويبدو عليه السرور فإنك لا شك تفرح وتأنس، أما إن كان يلقاك عابساً فإنك تنفر منه ولا تحب لقاءه حتى وإن كان في هذا اللقاء شيء من المنفعة .
قال ابن حبان: (البَشَاشَة إدام العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأنَّ البِشْر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي).
وعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطًا، وكلمتك طيبة، تكن أحبَّ إلى النَّاس من الذي يعطيهم العطاء).
إن صاحب البشر والبشاشة قريب من القلوب حبيب إلى الناس، ينتشر بينهم الثناء عليه ومدحه، قال أبو جعفر المنصور: (إنْ أحببت أنْ يكثر الثَّناء الجميل عليك من النَّاس بغير نائل، فالْقَهُمْ ببِشْر حسن).
من أجل ذلك ندب الشرع إلى البشر والبشاشة التي هي السرور الذي يظهر في الوجه بما يدل على حب اللقاء والفرح بالمقابلة .
وقد عد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاء الإخوان بالبشاشة والفرح عده من المعروف:
"كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق...". الحديث ( رواه الترمذي وقال : حسن).
كما قال صلى الله عليه وسلم: "ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف". (رواه أبو داود ، وصححه الألباني).
وإذا ما أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وجدته مستبشراً بشوشاً؛ فعن جرير رضي الله عنه قال: ما حجبني النَّبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي.
بل كان كذلك حتى مع الجفاة الشداد، فذاك رجل أعرابي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيجبذه بردائه جبذة شديدة تؤثر في عاتقه ، ثم يقول له في غلظة: يا محمد ، مر لي من مال الله الذي عندك ، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقابل هذه الغلظة والجفاء ببشاشة ورحابة صدر ثم يأمر له بعطاء .
إن هذه البشاشة التي يلقى بها المسلم إخوانه تزرع له في قلوبهم وداً ومحبة ، تجعلهم راغبين في لقائه والأنس به .
ولقد صدق والله القائل :
أزور خـليـلي مـا بـدا لي هشُّـه وقابـلني منـه البشــاشــة والبشرُ
فإن لم يكن هشٌ، وبشٌ، تركته ولو كان في اللقيا الولاية والبشرُ
وحق الـذي ينتاب داري زائراً طعــامٌ وبِــر وقــد تَـقَـدَّمـه بشــرُ
إننا - بلا شك - لا نستطيع أن نسع الناس بأموالنا، لكننا أيضا نستطيع أن نأسرهم ببسط الوجه والبشاشة وحسن الخلق؛ ففي الحديث: "إنَّكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم، ولكنْ يَسَعُهم منكم بَسْطُ الوَجهِ وحُسنُ الخُلُقِ".
وتزداد الحاجة إلى البشاشة وطلاقة والوجه إذا كان للناس حاجة وطلبوا قضاءها، قال بعض الحكماء: (الْقَ صاحب الحاجة بالبِشْر، فإنْ عدمت شكره، لم تعدم عذره).
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوانى عن خدمة المسلمين وقضاء حوائجهم ببشاشة وسعة صدر، وإنه لأحق الناس بقول الشاعر :
تعــود بســط الكف حتى لو أنه ثناهــا لقـبض لـم تطعـه أنامـله
تــراه إذا مـا جـئـتـــه مـتـهــللاً كأنك تعـطـيـه الذي أنت سائـله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجـاد بـهـا .. فلـيـتق الله سـائـله
وقد اهتم العلماء والصالحون رحمهم الله بهذا الخلق ورغبوا فيه وكثرت نصائحهم للمسلمين أن يتحلوا به.
قال ابن عيينة رحمه الله: (والبَشَاشَة مصيدة المودَّة، و البِرُّ شيء هيِّن، وجه طليق، وكلام ليِّن. وفيه رَدٌّ على العالم الذي يصَعِّر خدَّه للناس، كأنَّه معرض عنهم، وعلى العابد الذي يعبِّس وجهه ويقطِّب جبينه، كأنَّه منزَّهٌ عن النَّاس، مستقذر لهم، أو غضبان عليهم).
قال الغزالي رحمه الله: (ولا يعلم المسكين أنَّ الورع ليس في الجبهة حتى يُقَطَّب، ولا في الوجه حتى يُعَفَّر، ولا في الخدِّ حتى يُصَعَّر، ولا في الظَّهر حتى ينحني، ولا في الذَّيل حتى يُضَمَّ، إنَّما الورع في القلب).
وقد سئل أعرابي عن الكرم، فقال: أما الكرم في اللِّقاء فالبَشَاشَة، وأما في العِشْرة فالهَشَاشَة، وأمَّا في الأخلاق فالسَّماحة، وأمَّا في الأفعال فالنَّصاحة، وأما في الغنى فالمشاركة، وأما في الفقر فالمواساة.
لقد حث الشرع على لقيا الناس بالبشر والتبسم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة".
قال ابن بطَّال: (فيه أنَّ لقاء النَّاس بالتَّبسُّم، وطلاقة الوجه، من أخلاق النُّبوة، وهو مناف للتكبُّر، وجالب للمودَّة).
فكن أخي بشوشاً هيناً لينا طلق الوجه ولا تكن عابساً، هذا وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير محمد سيد ولد أدم أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
======================
زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين 4 .
قال ابن شبرمة: عجبت لمن يحتمي من الطيبات مخافة الداء، كيف لا يحتمي من المعاصي مخافة النار. فأخذ ذلك بعض الشعراء فقال:
جسمك قد أفنيته بالحمى ... دهرا من البارد والحار
وكان أولى بك أن تحتمي ... من المعاصي حذر النار
وقال ابن صباوة: إنا نظرنا فوجدنا الصبر على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذاب الله تعالى.
وقال آخر: اصبروا عباد الله على عمل لا غنى بكم عن ثوابه، واصبروا عن عمل لا صبر لكم على عقابه.
وقيل للفضيل بن عياض - رحمه الله -: رضي الله عنك. فقال: كيف يرضى عني ولم أرضه.
وقال حماد بن زيد: عجبت لمن يحتمي من الأطعمة لمضراتها، كيف لا يحتمي من الذنوب لمعراتها.
وقال بعض الصلحاء : أهل الذنوب مرضى القلوب. وقيل للفضيل بن عياض - رحمه الله -: ما أعجب الأشياء؟ فقال: قلب عرف الله عز وجل ثم عصاه.
وقال رجل لابن عباس - رضي الله عنه -: أيما أحب إليك رجل قليل الذنوب قليل العمل، أو رجل كثير الذنوب كثير العمل؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنه: لا أعدل بالسلامة شيئا . وقيل لبعض الزهاد: ما تقول في صلاة الليل؟ فقال: خف الله بالنهار ونم بالليل. وسمع بعض الزهاد رجلا يقول لقوم: أهلككم النوم. فقال: بل أهلكتكم اليقظة.
وقيل لأبي هريرة - رضي الله عنه -: ما التقوى؟ فقال: أجزت في أرض فيها شوك؟ فقال: نعم. فقال: كيف كنت تصنع؟ فقال: كنت أتوقى. قال: فتوق الخطايا.
وقال عبد الله بن المبارك:
أيضمن لي فتى ترك المعاصي ... وأرهنه الكفالة بالخلاص
أطاع الله قوم واستراحوا ... ولم يتجرعوا غصص المعاصي
وقال بكر بن عبد الله: رحم الله امرأ كان قويا فأعمل قوته في طاعة الله تعالى أو كان ضعيفا فكف عن معصية الله تعالى.
وقال عبد الأعلى بن عبد الله الشامي - رحمه الله تعالى -:
العمر ينقص والذنوب تزيد ... وتقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد ... رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي ... تقليلها وعن الممات يحيد
وقال بعض السلف : ضاحك معترف بذنبه، خير من باك مدل على ربه، وباك نادم على ذنبه خير من ضاحك معترف بلهوه.
وقال الفضيل بن عياض : رهبة المرء من الله تعالى على قدر علمه بالله تعالى.
وقال الحكماء: ما بينك وبين أن لا يكون فيك خير إلا أن ترى أن فيك خيرا. وقيل لرابعة العدوية - رحمها الله -: هل عملت عملا قط ترين أنه يقبل منك؟ قالت: إن كان شيء فخوفي أن يرد علي عملي.
وقال بزرجمهر : إن يكن الشغل مجهدة، فالفراغ مفسدة .
وقال بعض البلغاء: لا تمض يومك في غير منفعة، ولا تضع مالك في غير صنعة؛ فالعمر أقصر من أن ينفد في غير المنافع، والمال أقل من أن يصرف في غير الصنائع.
قال الحسن البصري - رحمه الله -: ما أطال عبد الأمل، إلا أساء العمل. وقال رجل لبعض الزهاد بالبصرة: ألك حاجة ببغداد؟ قال: ما أحب أن أبسط أملي إلى أن تذهب إلى بغداد وتجيء. وقال بعض الحكماء: الجاهل يعتمد على أمله، والعاقل يعتمد على عمله. وقال بعض البلغاء: الأمل كالسراب غر من رآه، وخاب من رجاه.
وقال محمد بن يزدان: دخلت على المأمون وكنت يومئذ وزيره فرأيته قائما وبيده رقعة فقال: يا محمد أقرأت ما فيها؟ فقلت : هي في يد أمير المؤمنين.
فرمى بها إلي فإذا فيها مكتوب:
إنك في دار لها مدة ... يقبل فيها عمل العامل
أما ترى الموت محيطا بها ... قطع فيها أمل الآمل
تعجل بالذنب لما تشتهي ... وتأمل التوبة من قابل
والموت يأتي بعد ذا بغتة ... ما ذاك فعل الحازم العاقل
فلما قرأتها قال المأمون - رحمه الله تعالى -: هذا من أحكم شعر قرأته. وقال أبو حازم الأعرج: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتى نموت.
قال عبد الله بن المبارك: أفضل الزهد إخفاء الزهد.
ومر أبو أمامة ببعض المساجد فإذا رجل يصلي وهو يبكي فقال له: أنت أنت لو كان هذا في بيتك.
والعرب تقول: لولا الوئام لهلك الأنام. أي لولا أن الناس يرى بعضهم بعضا فيقتدي بهم في الخير لهلكوا. ولذلك قال بعض البلغاء: من خير الاختيار صحبة الأخيار، ومن شر الاختيار مودة الأشرار.
وهذا صحيح؛ لأن للمصاحبة تأثيرا في اكتساب الأخلاق، فتصلح أخلاق المرء بمصاحبة أهل الصلاح وتفسد بمصاحبة أهل الفساد. ولذلك قال الشاعر:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم عند الفساد إذا فسد
يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
وأنشدني بعض أهل الأدب لأبي بكر الخوارزمي:
لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وقال بعض البلغاء: الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة،..، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى. وقال بعض الحكماء: انظر إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق لها، ولا تتأملها تأمل العاشق الوامق بها.
وقال علي رضي الله عنه يصف الدنيا : أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أمن ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
وقال وهب بن منبه: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. وقال عبد الحميد: الدنيا منازل، فراحل ونازل.
وقال بعض الحكماء : الدنيا إما نقمة نازلة، وإما نعمة زائلة.وقال الشاعر:
تمتع من الأيام إن كنت حازما ... فإنك منها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
فلن تعدل الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن ذر من جناح لطائر
فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ... ولا رضي الدنيا جزاء لكافر
========================
زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين 3 .
طلب العلم
قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: ذللت طالبا فعززت مطلوبا. وقال بعض الحكماء: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال بعض حكماء الفرس: إذا قعدت وأنت صغير حيث تحب، قعدت وأنت كبير حيث لا تحب.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لا يعرف فضل أهل العلم إلا أهل الفضل.
وقال بعض الشعراء:
إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما
وأنشدني بعض أهل الأدب لأبي بكر بن دريد:
لا تَحْقِرَنَّ عَالِمًا وَإِنْ خَلِقَتْ ... أَثْوَابُهُ فِي عُيُونِ رَامِقِهِ
وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ ذِي أَدَبٍ ... مُهَذَّبِ الرَّأْيِ فِي طَرَائِقِهِ
فَالْمِسْكُ بَيِّنًا تَرَاهُ مُمْتَهَنًا ... بِفِهْرِ عَطَّارِهِ وَسَاحِقِهِ
حَتَّى تَرَاهُ فِي عَارِضَيْ مَلِكٍ ... وَمَوْضِعِ التَّاجِ مِنْ مَفَارِقِهِ
وقال صالح بن عبد القدوس:
وإن عناء أن تعلم جاهلا ... فيحسب أهلا أنه منك أعلم
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
متى ينتهي عن سيئ من أتى به ... إذا لم يكن منه عليه تندم
وقد قيل لابن عباس - رضي الله عنهما -: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سئول وقلب عقول.
وقد قالت العرب في أمثالها: العالم كالكعبة يأتيها البعداء، ويزهد فيها القرباء.
وأنشدني بعض شيوخنا لمسيح بن حاتم:
لا ترى عالما يحل بقوم ... فيحلوه غير دار الهوان
قل ما توجد السلامة ... والصحة مجموعتين في إنسان
فإذا حلتا مكانا سحيقا ... فهما في النفوس معشوقتان
هذه مكة المنيعة بيت الله ... يسعى لحجها الثقلان
ويرى أزهد البرية في الحج لها ... أهلها لقرب المكان
آداب العلماء
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمونه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم.
وقال بعض السلف: من تكبر بعلمه وترفع وضعه الله به، ومن تواضع بعلمه رفعه به.
وقال الشعبي: ما رأيت مثلي وما أشاء أن ألقى رجلا أعلم مني إلا لقيته.
لم يذكر الشعبي هذا القول تفضيلا لنفسه فيستقبح منه، وإنما ذكره تعظيما للعلم عن أن يحاط به. فينبغي لمن علم أن ينظر إلى نفسه بتقصير ما قصر فيه ليسلم من عجب ما أدرك منه.
وقد قيل في منثور الحكم: إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال، ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء.
قال الشعبي: العلم ثلاثة أشبار فمن نال منه شبرا شمخ بأنفه وظن أنه ناله. ومن نال الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد أبدا.
وقال بعض الحكماء: من العلم أن لا تتكلم فيما لا تعلم بكلام من يعلم فحسبك جهلا من عقلك أن تنطق بما لا تفهم.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: وما أبردها على القلب إذا سئل أحدكم فيما لا يعلم أن يقول الله أعلم، وإن العالم من عرف أن ما يعلم فيما لا يعلم قليل.
وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقاتله.
وقال بعض العلماء: هلك من ترك لا أدري. وقال بعض الحكماء: ليس لي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست أعلم.
وروى عون بن عبد الله عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا. أما طالب العلم فإنه يزداد للرحمن رضى، ثم قرأ {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28). وأما طالب الدنيا فإنه يزداد طغيانا ثم قرأ: {كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى} (العلق: 6-7).
قال أبو الدرداء: أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله أن يقول: قد علمتَ فماذا عملت إذ علمت؟ وكان يقال: خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله، وخير من العلم حامله.
وقال بعض العلماء: ثمرة العلم أن يعمل به، وثمرة العمل أن يؤجر عليه. وقال بعض الصلحاء: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه أقام وإلا ارتحل.
وقال بعض العلماء: خير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع.
وقال حاتم الطائي:
ولم يحمدوا من عالم غير عامل ... خلافا ولا من عامل غير عالم
رأوا طرقات المجد عوجا قطيعة ... وأفظع عجز عندهم عجز حازم
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا، حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَهْدَ أَنْ يُعَلِّمُوا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إذَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ بَذْلُ مَا يَنْقُصُهُ الْبَذْلُ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوَاعِدِهَا بَذْلُ مَا يَزِيدُهُ الْبَذْلُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَمَا أَنَّ الِاسْتِفَادَةَ نَافِلَةٌ لِلْمُتَعَلِّمِ، كَذَلِكَ الْإِفَادَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى الْمُعَلِّمِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ كَتَمَ عِلْمًا فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: إنِّي لَأَفْرَحُ بِإِفَادَتِي الْمُتَعَلِّمَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِي بِاسْتِفَادَتِي مِنْ الْمُعَلِّمِ.
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: اجْعَلْ تَعْلِيمَك دِرَاسَةً لِعِلْمِك، وَاجْعَلْ مُنَاظَرَةَ الْمُتَعَلِّمِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَك.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: النَّارُ لَا يَنْقُصُهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا، وَلَكِنْ يُخْمِدُهَا أَنْ لَا تَجِدَ حَطَبًا.
وحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
يَقُولُونَ لِي فِيك انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي ... وَلَا كُلُّ مَنْ لَاقَيْت أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
أنزهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَشِينُهَا ... مَخَافَةَ أَقْوَالِ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لِمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي ... لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْت لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْحَزْمِ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ أَنْ لَا يُبْرِمَ أَمْرًا وَلَا يُمْضِيَ عَزْمًا إلَّا بِمَشُورَةِ ذِي الرَّأْيِ النَّاصِحِ، وَمُطَالَعَةِ ذِي الْعَقْلِ الرَّاجِحِ. فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْمَشُورَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَ مَا تَكَفَّلَ بِهِ مِنْ إرْشَادِهِ، وَوَعَدَ بِهِ مِنْ تَأْيِيدِهِ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
قَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ تَأَلُّفًا لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِأَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمَرَهُ بِمُشَاوِرَتِهِمْ لِمَا عَلِمَ فِيهَا مِنْ الْفَضْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَمَرَهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ لِيَسْتَنَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ وَيَتْبَعَهُ فِيهَا الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانَ عَنْ مَشُورَتِهِمْ غَنِيًّا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نِعْمَ الْمُؤَازَرَةُ الْمُشَاوَرَةُ وَبِئْسَ الِاسْتِعْدَادُ الِاسْتِبْدَادُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرِّجَالُ ثَلَاثَةٌ: رَجُلٌ تَرِدُ عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَيُسَدِّدُهَا بِرَأْيِهِ، وَرَجُلٌ يُشَاوِرُ فِيمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَيَنْزِلُ حَيْثُ يَأْمُرُهُ أَهْلُ الرَّأْيِ، وَرَجُلٌ حَائِرٌ بِأَمْرِهِ لَا يَأْتَمِرُ رُشْدًا وَلَا يُطِيعُ مُرْشِدًا.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ: مَنْ أُعْجِبَ بِرَأْيِهِ لَمْ يُشَاوِرْ، وَمَنْ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ كَانَ مِنْ الصَّوَابِ بَعِيدًا. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: الْمُشَاوَرَةُ رَاحَةٌ لَك وَتَعَبٌ عَلَى غَيْرِك. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ، وَلَا نَدِمَ مَنْ اسْتَشَارَ.
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مِنْ حَقِّ الْعَاقِلِ أَنْ يُضِيفَ إلَى رَأْيِهِ آرَاءَ الْعُقَلَاءِ، وَيَجْمَعَ إلَى عَقْلِهِ عُقُولَ الْحُكَمَاءِ، فَالرَّأْيُ الْفَذُّ رُبَّمَا زَلَّ وَالْعَقْلُ الْفَرْدُ رُبَّمَا ضَلَّ.
وَقَالَ بَشَّارُ بْنُ بُرْدٍ:
إذَا بَلَغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ ... بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلْ الشُّورَى عَلَيْك غَضَاضَةً ... فَإِنَّ الْخَوَافِيَ قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
فَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْمُشَاوَرَةِ ارْتَادَ لَهَا مِنْ أَهْلِهَا مَنْ قَدْ اسْتَكْمَلَتْ فِيهِ خَمْسُ خِصَالٍ:
إحْدَاهُنَّ: عَقْلٌ كَامِلٌ مَعَ تَجْرِبَةٍ سَالِفَةٍ فَإِنَّ بِكَثْرَةِ التَّجَارِبِ تَصِحُّ الرَّوِيَّةُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ لِابْنِهِ مُحَمَّدٍ: احْذَرْ مَشُورَةَ الْجَاهِلِ وَإِنْ كَانَ نَاصِحًا كَمَا تَحْذَرُ عَدَاوَةَ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ عَدُوًّا فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُوَرِّطَك بِمَشُورَتِهِ فَيَسْبِقَ إلَيْك مَكْرُ الْعَاقِلِ وَتَوْرِيطُ الْجَاهِلِ. وَقِيلَ لِرَجُلٍ مِنْ عَبْسٍ: مَا أَكْثَرَ صَوَابَكُمْ! قَالَ: نَحْنُ أَلْفُ رَجُلٍ وَفِينَا حَازِمٌ وَنَحْنُ نُطِيعُهُ فَكَأَنَّا أَلْفُ حَازِمٍ.
وَكَانَ يُقَالُ: إيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ رَجُلَيْنِ: شَابٌّ مُعْجَبٌ بِنَفْسِهِ قَلِيلُ التَّجَارِبِ فِي غَيْرِهِ، أَوْ كَبِيرٌ قَدْ أَخَذَ الدَّهْرُ مِنْ عَقْلِهِ كَمَا أَخَذَ مِنْ جِسْمِهِ. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ، وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: الْأَيَّامُ تَهْتِكُ لَك عَنْ الْأَسْتَارِ الْكَامِنَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: التَّجَارِبُ لَيْسَ لَهَا غَايَةٌ، وَالْعَاقِلُ مِنْهَا فِي زِيَادَةٍ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ اسْتَعَانَ بِذَوِي الْعُقُولِ فَازَ بِدَرَكِ الْمَأْمُولِ.
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ:
وَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيك نُصْحَهُ ... وَلَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وَلَكِنْ إذَا مَا اسْتَجْمَعَا عِنْدَ صَاحِبٍ ... فَحُقَّ لَهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ
وَالْخَصْلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَا دِينٍ وَتُقًى، فَإِنَّ ذَلِكَ عِمَادُ كُلِّ صَلَاحٍ وَبَابُ كُلِّ نَجَاحٍ. وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الدِّينُ فَهُوَ مَأْمُونُ السَّرِيرَةِ مُوَفَّقُ الْعَزِيمَةِ.
وَالْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ نَاصِحًا وَدُودًا، فَإِنَّ النُّصْحَ وَالْمَوَدَّةَ يُصَدِّقَانِ الْفِكْرَةَ وَيُمَحِّضَانِ الرَّأْيَ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: لَا تُشَاوِرْ إلَّا الْحَازِمَ غَيْرَ الْحَسُودِ، وَاللَّبِيبَ غَيْرَ الْحَقُودِ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَشُورَةُ الْمُشْفِقِ الْحَازِمِ ظَفَرٌ، وَمَشُورَةُ غَيْرِ الْحَازِمِ خَطَرٌ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
أَصْف ضَمِيرًا لِمَنْ تُعَاشِرُهُ ... وَاسْكُنْ إلَى نَاصِحٍ تُشَاوِرُهُ
وَارْضَ مِنْ الْمَرْءِ فِي مَوَدَّتِهِ ... بِمَا يُؤَدِّي إلَيْك ظَاهِرُهُ
مَنْ يَكْشِفْ النَّاسَ لَا يَجِدْ أَحَدًا ... تَصِحُّ مِنْهُمْ لَهُ سَرَائِرُهُ
أَوْشَكَ أَنْ لَا يَدُومَ وَصْلُ أَخٍ ... فِي كُلِّ زَلَّاتِهِ تُنَافِرُهُ
وَالْخَصْلَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ سَلِيمَ الْفِكْرِ مِنْ هَمٍّ قَاطِعٍ، وَغَمٍّ شَاغِلٍ، فَإِنَّ مَنْ عَارَضَتْ فِكْرَهُ شَوَائِبُ الْهُمُومِ لَا يَسْلَمُ لَهُ رَأْيٌ وَلَا يَسْتَقِيمُ لَهُ خَاطِرٌ. وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: كُلُّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى الْعَقْلِ وَالْعَقْلُ يَحْتَاجُ إلَى التَّجَارِبِ. وَكَانَ كِسْرَى إذَا دَهَمَهُ أَمْرٌ بَعَثَ إلَى مَرَازِبَتِهِ فَاسْتَشَارَهُمْ فَإِنْ قَصَّرُوا فِي الرَّأْيِ ضَرَبَ قَهَارِمَتِهِ وَقَالَ: أَبْطَأْتُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ فَأَخْطَئُوا فِي آرَائِهِمْ. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
وَلَا مُشِيرَ كَذِي نُصْحٍ وَمَقْدِرَةٍ ... فِي مُشْكِلِ الْأَمْرِ فَاخْتَرْ ذَاكَ مُنْتَصِحًا
وَالْخَصْلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ فِي الْأَمْرِ الْمُسْتَشَارِ غَرَضٌ يُتَابِعُهُ، وَلَا هَوًى يُسَاعِدُهُ، فَإِنَّ الْأَغْرَاضَ جَاذِبَةٌ وَالْهَوَى صَادٌّ، وَالرَّأْيُ إذَا عَارَضَهُ الْهَوَى وَجَاذَبَتْهُ الْأَغْرَاضُ فَسَدَ. وَقَدْ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ:
وَقَدْ يَحْكُمُ الْأَيَّامَ مَنْ كَانَ جَاهِلًا ... وَيُرْدِي الْهَوَى ذَا الرَّأْيِ وَهُوَ لَبِيبُ
وَيُحْمَدُ فِي الْأَمْرِ الْفَتَى وَهُوَ مُخْطِئٌ ... وَيُعْذَلُ فِي الْإِحْسَانِ وَهُوَ مُصِيبُ
فَإِذَا اسْتَكْمَلَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ الْخَمْسُ فِي رَجُلٍ كَانَ أَهْلًا لِلْمَشُورَةِ وَمَعْدِنًا لِلرَّأْيِ، فَلَا تَعْدِلْ عَنْ اسْتِشَارَتِهِ اعْتِمَادًا عَلَى مَا تَتَوَهَّمُهُ مِنْ فَضْلِ رَأْيِك، وَثِقَةً بِمَا تَسْتَشْعِرُهُ مِنْ صِحَّةِ رَوِيَّتِك، فَإِنَّ رَأْيَ غَيْرِ ذِي الْحَاجَةِ أَسْلَمُ، وَهُوَ مِنْ الصَّوَابِ أَقْرَبُ، لِخُلُوصِ الْفِكْرِ وَخُلُوِّ الْخَاطِرِ مَعَ عَدَمِ الْهَوَى وَارْتِفَاعِ الشَّهْوَةِ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الِاسْتِشَارَةُ عَيْنُ الْهِدَايَةِ وَقَدْ خَاطَرَ مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ. وَقَالَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ لِابْنِهِ: شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ فَإِنَّهُ يُعْطِيك مِنْ رَأْيِهِ مَا قَامَ عَلَيْهِ بِالْغَلَاءِ وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: نِصْفُ رَأْيِك مَعَ أَخِيك فَشَاوِرْهُ لِيَكْمُلَ لَك الرَّأْيُ. وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَنْ اسْتَغْنَى بِرَأْيِهِ ضَلَّ، وَمَنْ اكْتَفَى بِعَقْلِهِ زَلَّ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: الْخَطَأُ مَعَ الِاسْتِرْشَادِ أَحْمَدُ مِنْ الصَّوَابِ مَعَ الِاسْتِبْدَادِ.
=============
لامية ابن الوردي في الأخلاق والحكم
اعتزل ذكر الغواني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
ودع الـذكـرَ لأيـام الـصــبــا فــلأيــام الصـبــا نـجـمٌ أفــل
إن أهــنـا عـيشـة قضيتهـا ذهـبـت لـذاتـها والإثــم حــل
واتـرك الغـادة لا تحـفل بها تُمس في عِـز وتـُرفَـع وتُجل
وانه عـن آلـة لهـو أطـربت وعـن الأمـرد مـرتــج الـكفـل
وافتكر في منتهى حسن الذي أنت تـهـواه تـجـد أمــراً جلل
واهجر الخمرة إن كنت فتى كيف يسعى في جنونٍ مَن عقل
واتـق الله فـتــقوى الله مـا جـاورت قـلب امـرئ إلا وصـل
ليس من يقطع طرقاً بطـلاً إنـمـا مـن يـتـقي الله البـطـل
صَدِّق الشرع ولا تركن إلى رجـل يـرصـد في اللـيل زحـل
حارت الأفكار في قدرة من قـد هـدانـا سـبلـنـا عـز وجـل
أي بُنيَّ اسْمَعْ وصايا جَمَعَتْ حِـكَمـاً خُـَّصت بها خيرُ المِلَل
اطلب العـلـم ولا تكسل فما أبعد الخير على أهـل الكسل
واحتفل للفقه في الدين ولا تـشـتـغل عـنه بـمـال وخـول
واهـجر الـنوم وحصـله فمن يعرف المطلوب يحقر ما بذل
لا تـقـل قـد ذهـبـت أربـابـه كل من سار على الدرب وصل
في ازدياد العلم إرغام العِدا وجـمـال الـعلـم إصلاح العمل
جَمِّـل الـمـنطق بالنحو فمن يحرم الإعراب بالنطق اختبـل
مات أهل الفضل لم يبق سوى مقرف أو من على الأصل اتكل
أنـا لا أخــتـار تــقـبـيــل يـــدٍ قـطعـهـا أجـمل من تلك القبل
إن جزتني عن مديحي صرت في رقـها أو لا فيـكفيني الخجل
مُلك كسرى تُغني عنه كسرةٌ وعن البحر اجتزاء بالوشل
أعـذب الألـفاظ قولي لك خــذ وَأَمــرُّ اللـفـظ نطـقي بلعل
اعـتـبر نـحـن قسـمـنـا بينهـم تلقــه حـقـاً وبـالـحـق نـزل
ليس ما يحوي الفتى من عزمه لا ولا ما فات يوماً بالكسـل
اطـرح الـدنـيا فـمـن عـاداتـهـا تخفض العالي وتعلي من سفل
عـيشة الراغب في تحصيلـها عيشة الجاهد فيها أو أقل
كـم جـهـول وهــو مُـثرٍ مـكـثر وعلـيـم مــات مـنها بالعلل
كم شجاع لم ينل فيها المنى وجـبــان نـال غـايات الأمل
أيُّ كـف لـم تَـفـد مـمـا تُــفــد فــرمــاهـا الله منه بالشلل
لا تـقـل أصـلي وفصـلي أبـداً إنما أصل الفتى ما قد حصل
قـد يسـود الـمـرء مـن غير أبٍ وبحسن السبك قد ينفى الزغل
وكذا الـورد مـن الشـوك ومــا يطلـع النـرجـس إلا من بصل
قيـمـة الإنسـان مـا يـحسـنـه أكـثـرَ الإنـسـانُ مـنـه أو أقـل
اكـتـم الأمـريـن فـقـراً وغـنى واكسب الفلس وحاسب من بطل
وادَّرع جــداً وكــداً واجــتـنـب صحبة الحمقى وأرباب الخلل
بـيـن تـبـذيـرٍ وبُــخـل رتـبــةٌ.. وكـــلا هـذيـن إن دام قــتــل
لا تخض في سب سادات مضوا إنـهــم لــيـسـوا بأهل للزلل
وتَــغَــافــل عــن أمــــور إنه لـم يـفـز بالحمد إلا مـن غفل
ليس يخلو المرء من ضدٍ وإن حـاول العزلة في رأس جـبل
مِـل عن النَّـمـام وازجره فما بَـلَّــغَ الــمكــروه إلا مـن نقل
دارِ جَــار السّـوء بالـصبر وإن لم تجد صبراً فما أحلى النُقل
جانب السلطان واحذر بطشه لا تـعـانـد مـن إذا قال فعل
لا تَلِ الحُكــم وإن هـم سـألوا رغبة فيك وخالف من عذل
إنَّ نِصــفَ النــاس أعـداءٌ لِمَن ولي الأحـكام هذا إن عـدل
فـهـو كالمـحبــوس عـن لذاته وَكِلا كَفَّيه في الحـشر تُغَل
إن للنـقص والاسـتـثـقال في لفظة القاضي لوعظاً ومثل
لا تـوازي لـذة الـحــكـم بــمـا ذاقه الشخص إذا الشخص انعزل
فـالـولايـات وإن طــابـت لمن ذاقها فالسم في ذاك العسل
نَصَبُ المنصب أوهى جـلدي وعنائي مـن مداراة السِفل
قصِّر الآمــال في الــدنيـا تفز فـدلـيـل العقل تقصير الأمل
غِـبْ وَزُرْ غِـبـاً تـزد حُـباً فَمَـن أكـثـر التـرداد أقـصـاه المـلل
خذ بحد السيف واترك غمده واعتبر فضل الفتى دون الحُلل
لا يــضـر الفضــلَ إقـلالٌ كما لا يضر الشمس إطباق الطفل
حبــك الأوطــان عجـز ظاهرٌ فاغـترب تلقَ عن الأهـل بـدل
فبمُكثِ الـمـاء يبــقى آسـناً وسُـرى البـدر به البدر اكتمـل
لا يــغرنـك لـيـن مــن فـتـى إن للــحــيات لــيــنــاً يُــعـتزل
أنا مـثـــل الماء سهل سائغٌ ومـتى سُـــخِّــن آذى وقــتـل
أنا كالخـيـزور صــعب كسره وهــو لينٌ كيفما شـئت انفتل
غير أني في زمــان من يكن فيه ذا مال هو المولى الأجل
واجـب عـند الـورى إكـرامــه وقـلـيـل الـمـال فيهـم يستقل
كلُّ أهــل العـصـر غـمـرٌ وأنا مـنـهـم فاترك تفاصيل الجُـمل
=======================
البشاشة مصيدة المودة
حين تلقى إنساناً فتشعر أنه قد فرح بلقائك؛ فيبتسم في وجهك ويتلطف في معاملتك ويبدو عليه السرور فإنك لا شك تفرح وتأنس، أما إن كان يلقاك عابساً فإنك تنفر منه ولا تحب لقاءه حتى وإن كان في هذا اللقاء شيء من المنفعة .
قال ابن حبان: (البَشَاشَة إدام العلماء، وسجيَّة الحكماء؛ لأنَّ البِشْر يطفئ نار المعاندة، ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصين من الباغي، ومنجاة من الساعي).
وعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: (مكتوب في الحكمة: ليكن وجهك بسطًا، وكلمتك طيبة، تكن أحبَّ إلى النَّاس من الذي يعطيهم العطاء).
إن صاحب البشر والبشاشة قريب من القلوب حبيب إلى الناس، ينتشر بينهم الثناء عليه ومدحه، قال أبو جعفر المنصور: (إنْ أحببت أنْ يكثر الثَّناء الجميل عليك من النَّاس بغير نائل، فالْقَهُمْ ببِشْر حسن).
من أجل ذلك ندب الشرع إلى البشر والبشاشة التي هي السرور الذي يظهر في الوجه بما يدل على حب اللقاء والفرح بالمقابلة .
وقد عد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقاء الإخوان بالبشاشة والفرح عده من المعروف:
"كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق...". الحديث ( رواه الترمذي وقال : حسن).
كما قال صلى الله عليه وسلم: "ولا تحقرن شيئاً من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف". (رواه أبو داود ، وصححه الألباني).
وإذا ما أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وجدته مستبشراً بشوشاً؛ فعن جرير رضي الله عنه قال: ما حجبني النَّبي صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسَّم في وجهي.
بل كان كذلك حتى مع الجفاة الشداد، فذاك رجل أعرابي يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيجبذه بردائه جبذة شديدة تؤثر في عاتقه ، ثم يقول له في غلظة: يا محمد ، مر لي من مال الله الذي عندك ، وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يقابل هذه الغلظة والجفاء ببشاشة ورحابة صدر ثم يأمر له بعطاء .
إن هذه البشاشة التي يلقى بها المسلم إخوانه تزرع له في قلوبهم وداً ومحبة ، تجعلهم راغبين في لقائه والأنس به .
ولقد صدق والله القائل :
أزور خـليـلي مـا بـدا لي هشُّـه وقابـلني منـه البشــاشــة والبشرُ
فإن لم يكن هشٌ، وبشٌ، تركته ولو كان في اللقيا الولاية والبشرُ
وحق الـذي ينتاب داري زائراً طعــامٌ وبِــر وقــد تَـقَـدَّمـه بشــرُ
إننا - بلا شك - لا نستطيع أن نسع الناس بأموالنا، لكننا أيضا نستطيع أن نأسرهم ببسط الوجه والبشاشة وحسن الخلق؛ ففي الحديث: "إنَّكم لن تَسَعوا الناسَ بأموالِكم، ولكنْ يَسَعُهم منكم بَسْطُ الوَجهِ وحُسنُ الخُلُقِ".
وتزداد الحاجة إلى البشاشة وطلاقة والوجه إذا كان للناس حاجة وطلبوا قضاءها، قال بعض الحكماء: (الْقَ صاحب الحاجة بالبِشْر، فإنْ عدمت شكره، لم تعدم عذره).
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوانى عن خدمة المسلمين وقضاء حوائجهم ببشاشة وسعة صدر، وإنه لأحق الناس بقول الشاعر :
تعــود بســط الكف حتى لو أنه ثناهــا لقـبض لـم تطعـه أنامـله
تــراه إذا مـا جـئـتـــه مـتـهــللاً كأنك تعـطـيـه الذي أنت سائـله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجـاد بـهـا .. فلـيـتق الله سـائـله
وقد اهتم العلماء والصالحون رحمهم الله بهذا الخلق ورغبوا فيه وكثرت نصائحهم للمسلمين أن يتحلوا به.
قال ابن عيينة رحمه الله: (والبَشَاشَة مصيدة المودَّة، و البِرُّ شيء هيِّن، وجه طليق، وكلام ليِّن. وفيه رَدٌّ على العالم الذي يصَعِّر خدَّه للناس، كأنَّه معرض عنهم، وعلى العابد الذي يعبِّس وجهه ويقطِّب جبينه، كأنَّه منزَّهٌ عن النَّاس، مستقذر لهم، أو غضبان عليهم).
قال الغزالي رحمه الله: (ولا يعلم المسكين أنَّ الورع ليس في الجبهة حتى يُقَطَّب، ولا في الوجه حتى يُعَفَّر، ولا في الخدِّ حتى يُصَعَّر، ولا في الظَّهر حتى ينحني، ولا في الذَّيل حتى يُضَمَّ، إنَّما الورع في القلب).
وقد سئل أعرابي عن الكرم، فقال: أما الكرم في اللِّقاء فالبَشَاشَة، وأما في العِشْرة فالهَشَاشَة، وأمَّا في الأخلاق فالسَّماحة، وأمَّا في الأفعال فالنَّصاحة، وأما في الغنى فالمشاركة، وأما في الفقر فالمواساة.
لقد حث الشرع على لقيا الناس بالبشر والتبسم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة".
قال ابن بطَّال: (فيه أنَّ لقاء النَّاس بالتَّبسُّم، وطلاقة الوجه، من أخلاق النُّبوة، وهو مناف للتكبُّر، وجالب للمودَّة).
فكن أخي بشوشاً هيناً لينا طلق الوجه ولا تكن عابساً، هذا وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير محمد سيد ولد أدم أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
======================
زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين 4 .
قال ابن شبرمة: عجبت لمن يحتمي من الطيبات مخافة الداء، كيف لا يحتمي من المعاصي مخافة النار. فأخذ ذلك بعض الشعراء فقال:
جسمك قد أفنيته بالحمى ... دهرا من البارد والحار
وكان أولى بك أن تحتمي ... من المعاصي حذر النار
وقال ابن صباوة: إنا نظرنا فوجدنا الصبر على طاعة الله تعالى أهون من الصبر على عذاب الله تعالى.
وقال آخر: اصبروا عباد الله على عمل لا غنى بكم عن ثوابه، واصبروا عن عمل لا صبر لكم على عقابه.
وقيل للفضيل بن عياض - رحمه الله -: رضي الله عنك. فقال: كيف يرضى عني ولم أرضه.
وقال حماد بن زيد: عجبت لمن يحتمي من الأطعمة لمضراتها، كيف لا يحتمي من الذنوب لمعراتها.
وقال بعض الصلحاء : أهل الذنوب مرضى القلوب. وقيل للفضيل بن عياض - رحمه الله -: ما أعجب الأشياء؟ فقال: قلب عرف الله عز وجل ثم عصاه.
وقال رجل لابن عباس - رضي الله عنه -: أيما أحب إليك رجل قليل الذنوب قليل العمل، أو رجل كثير الذنوب كثير العمل؟ فقال ابن عباس - رضي الله عنه: لا أعدل بالسلامة شيئا . وقيل لبعض الزهاد: ما تقول في صلاة الليل؟ فقال: خف الله بالنهار ونم بالليل. وسمع بعض الزهاد رجلا يقول لقوم: أهلككم النوم. فقال: بل أهلكتكم اليقظة.
وقيل لأبي هريرة - رضي الله عنه -: ما التقوى؟ فقال: أجزت في أرض فيها شوك؟ فقال: نعم. فقال: كيف كنت تصنع؟ فقال: كنت أتوقى. قال: فتوق الخطايا.
وقال عبد الله بن المبارك:
أيضمن لي فتى ترك المعاصي ... وأرهنه الكفالة بالخلاص
أطاع الله قوم واستراحوا ... ولم يتجرعوا غصص المعاصي
وقال بكر بن عبد الله: رحم الله امرأ كان قويا فأعمل قوته في طاعة الله تعالى أو كان ضعيفا فكف عن معصية الله تعالى.
وقال عبد الأعلى بن عبد الله الشامي - رحمه الله تعالى -:
العمر ينقص والذنوب تزيد ... وتقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد ... رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي ... تقليلها وعن الممات يحيد
وقال بعض السلف : ضاحك معترف بذنبه، خير من باك مدل على ربه، وباك نادم على ذنبه خير من ضاحك معترف بلهوه.
وقال الفضيل بن عياض : رهبة المرء من الله تعالى على قدر علمه بالله تعالى.
وقال الحكماء: ما بينك وبين أن لا يكون فيك خير إلا أن ترى أن فيك خيرا. وقيل لرابعة العدوية - رحمها الله -: هل عملت عملا قط ترين أنه يقبل منك؟ قالت: إن كان شيء فخوفي أن يرد علي عملي.
وقال بزرجمهر : إن يكن الشغل مجهدة، فالفراغ مفسدة .
وقال بعض البلغاء: لا تمض يومك في غير منفعة، ولا تضع مالك في غير صنعة؛ فالعمر أقصر من أن ينفد في غير المنافع، والمال أقل من أن يصرف في غير الصنائع.
قال الحسن البصري - رحمه الله -: ما أطال عبد الأمل، إلا أساء العمل. وقال رجل لبعض الزهاد بالبصرة: ألك حاجة ببغداد؟ قال: ما أحب أن أبسط أملي إلى أن تذهب إلى بغداد وتجيء. وقال بعض الحكماء: الجاهل يعتمد على أمله، والعاقل يعتمد على عمله. وقال بعض البلغاء: الأمل كالسراب غر من رآه، وخاب من رجاه.
وقال محمد بن يزدان: دخلت على المأمون وكنت يومئذ وزيره فرأيته قائما وبيده رقعة فقال: يا محمد أقرأت ما فيها؟ فقلت : هي في يد أمير المؤمنين.
فرمى بها إلي فإذا فيها مكتوب:
إنك في دار لها مدة ... يقبل فيها عمل العامل
أما ترى الموت محيطا بها ... قطع فيها أمل الآمل
تعجل بالذنب لما تشتهي ... وتأمل التوبة من قابل
والموت يأتي بعد ذا بغتة ... ما ذاك فعل الحازم العاقل
فلما قرأتها قال المأمون - رحمه الله تعالى -: هذا من أحكم شعر قرأته. وقال أبو حازم الأعرج: نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتى نموت.
قال عبد الله بن المبارك: أفضل الزهد إخفاء الزهد.
ومر أبو أمامة ببعض المساجد فإذا رجل يصلي وهو يبكي فقال له: أنت أنت لو كان هذا في بيتك.
والعرب تقول: لولا الوئام لهلك الأنام. أي لولا أن الناس يرى بعضهم بعضا فيقتدي بهم في الخير لهلكوا. ولذلك قال بعض البلغاء: من خير الاختيار صحبة الأخيار، ومن شر الاختيار مودة الأشرار.
وهذا صحيح؛ لأن للمصاحبة تأثيرا في اكتساب الأخلاق، فتصلح أخلاق المرء بمصاحبة أهل الصلاح وتفسد بمصاحبة أهل الفساد. ولذلك قال الشاعر:
رأيت صلاح المرء يصلح أهله ... ويعديهم عند الفساد إذا فسد
يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ... ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد
وأنشدني بعض أهل الأدب لأبي بكر الخوارزمي:
لا تصحب الكسلان في حالاته ... كم صالح بفساد آخر يفسد
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ... والجمر يوضع في الرماد فيخمد
وقال بعض البلغاء: الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة،..، فأعرض عنها قبل أن تعرض عنك، واستبدل بها قبل أن تستبدل بك، فإن نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى. وقال بعض الحكماء: انظر إلى الدنيا نظر الزاهد المفارق لها، ولا تتأملها تأمل العاشق الوامق بها.
وقال علي رضي الله عنه يصف الدنيا : أولها عناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب، من صح فيها أمن ومن مرض فيها ندم، ومن استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن.
وقال وهب بن منبه: مثل الدنيا والآخرة مثل ضرتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. وقال عبد الحميد: الدنيا منازل، فراحل ونازل.
وقال بعض الحكماء : الدنيا إما نقمة نازلة، وإما نعمة زائلة.وقال الشاعر:
تمتع من الأيام إن كنت حازما ... فإنك منها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
فلن تعدل الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن ذر من جناح لطائر
فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ... ولا رضي الدنيا جزاء لكافر
========================
زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين 3 .
طلب العلم
قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: ذللت طالبا فعززت مطلوبا. وقال بعض الحكماء: من لم يحتمل ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبدا. وقال بعض حكماء الفرس: إذا قعدت وأنت صغير حيث تحب، قعدت وأنت كبير حيث لا تحب.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لا يعرف فضل أهل العلم إلا أهل الفضل.
وقال بعض الشعراء:
إن المعلم والطبيب كلاهما ... لا ينصحان إذا هما لم يكرما
فاصبر لدائك إن أهنت طبيبه ... واصبر لجهلك إن جفوت معلما
وأنشدني بعض أهل الأدب لأبي بكر بن دريد:
لا تَحْقِرَنَّ عَالِمًا وَإِنْ خَلِقَتْ ... أَثْوَابُهُ فِي عُيُونِ رَامِقِهِ
وَانْظُرْ إلَيْهِ بِعَيْنِ ذِي أَدَبٍ ... مُهَذَّبِ الرَّأْيِ فِي طَرَائِقِهِ
فَالْمِسْكُ بَيِّنًا تَرَاهُ مُمْتَهَنًا ... بِفِهْرِ عَطَّارِهِ وَسَاحِقِهِ
حَتَّى تَرَاهُ فِي عَارِضَيْ مَلِكٍ ... وَمَوْضِعِ التَّاجِ مِنْ مَفَارِقِهِ
وقال صالح بن عبد القدوس:
وإن عناء أن تعلم جاهلا ... فيحسب أهلا أنه منك أعلم
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
متى ينتهي عن سيئ من أتى به ... إذا لم يكن منه عليه تندم
وقد قيل لابن عباس - رضي الله عنهما -: بم نلت هذا العلم؟ قال: بلسان سئول وقلب عقول.
وقد قالت العرب في أمثالها: العالم كالكعبة يأتيها البعداء، ويزهد فيها القرباء.
وأنشدني بعض شيوخنا لمسيح بن حاتم:
لا ترى عالما يحل بقوم ... فيحلوه غير دار الهوان
قل ما توجد السلامة ... والصحة مجموعتين في إنسان
فإذا حلتا مكانا سحيقا ... فهما في النفوس معشوقتان
هذه مكة المنيعة بيت الله ... يسعى لحجها الثقلان
ويرى أزهد البرية في الحج لها ... أهلها لقرب المكان
آداب العلماء
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم وتواضعوا لمن تعلمون وليتواضع لكم من تعلمونه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فلا يقوم علمكم بجهلكم.
وقال بعض السلف: من تكبر بعلمه وترفع وضعه الله به، ومن تواضع بعلمه رفعه به.
وقال الشعبي: ما رأيت مثلي وما أشاء أن ألقى رجلا أعلم مني إلا لقيته.
لم يذكر الشعبي هذا القول تفضيلا لنفسه فيستقبح منه، وإنما ذكره تعظيما للعلم عن أن يحاط به. فينبغي لمن علم أن ينظر إلى نفسه بتقصير ما قصر فيه ليسلم من عجب ما أدرك منه.
وقد قيل في منثور الحكم: إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال، ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء.
قال الشعبي: العلم ثلاثة أشبار فمن نال منه شبرا شمخ بأنفه وظن أنه ناله. ومن نال الشبر الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنه لم ينله، وأما الشبر الثالث فهيهات لا يناله أحد أبدا.
وقال بعض الحكماء: من العلم أن لا تتكلم فيما لا تعلم بكلام من يعلم فحسبك جهلا من عقلك أن تنطق بما لا تفهم.
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: وما أبردها على القلب إذا سئل أحدكم فيما لا يعلم أن يقول الله أعلم، وإن العالم من عرف أن ما يعلم فيما لا يعلم قليل.
وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: إذا ترك العالم قول لا أدري أصيبت مقاتله.
وقال بعض العلماء: هلك من ترك لا أدري. وقال بعض الحكماء: ليس لي من فضيلة العلم إلا علمي بأني لست أعلم.
وروى عون بن عبد الله عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا. أما طالب العلم فإنه يزداد للرحمن رضى، ثم قرأ {إنما يخشى الله من عباده العلماء} (فاطر: 28). وأما طالب الدنيا فإنه يزداد طغيانا ثم قرأ: {كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى} (العلق: 6-7).
قال أبو الدرداء: أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله أن يقول: قد علمتَ فماذا عملت إذ علمت؟ وكان يقال: خير من القول فاعله، وخير من الصواب قائله، وخير من العلم حامله.
وقال بعض العلماء: ثمرة العلم أن يعمل به، وثمرة العمل أن يؤجر عليه. وقال بعض الصلحاء: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه أقام وإلا ارتحل.
وقال بعض العلماء: خير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع.
وقال حاتم الطائي:
ولم يحمدوا من عالم غير عامل ... خلافا ولا من عامل غير عالم
رأوا طرقات المجد عوجا قطيعة ... وأفظع عجز عندهم عجز حازم
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَخَذَ اللَّهُ الْعَهْدَ عَلَى أَهْلِ الْجَهْلِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا، حَتَّى أَخَذَ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الْعَهْدَ أَنْ يُعَلِّمُوا.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: إذَا كَانَ مِنْ قَوَاعِدِ الْحِكْمَةِ بَذْلُ مَا يَنْقُصُهُ الْبَذْلُ فَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوَاعِدِهَا بَذْلُ مَا يَزِيدُهُ الْبَذْلُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَمَا أَنَّ الِاسْتِفَادَةَ نَافِلَةٌ لِلْمُتَعَلِّمِ، كَذَلِكَ الْإِفَادَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى الْمُعَلِّمِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: مَنْ كَتَمَ عِلْمًا فَكَأَنَّهُ جَاهِلٌ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ صَفْوَانَ: إنِّي لَأَفْرَحُ بِإِفَادَتِي الْمُتَعَلِّمَ أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِي بِاسْتِفَادَتِي مِنْ الْمُعَلِّمِ.
قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: اجْعَلْ تَعْلِيمَك دِرَاسَةً لِعِلْمِك، وَاجْعَلْ مُنَاظَرَةَ الْمُتَعَلِّمِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا لَيْسَ عِنْدَك.
وَقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: النَّارُ لَا يَنْقُصُهَا مَا أُخِذَ مِنْهَا، وَلَكِنْ يُخْمِدُهَا أَنْ لَا تَجِدَ حَطَبًا.
وحُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: تَعَلَّمْنَا الْعِلْمَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَبَى أَنْ يَكُونَ إلَّا لِلَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: طَلَبْنَا الْعِلْمَ لِلدُّنْيَا فَدَلَّنَا عَلَى تَرْكِ الدُّنْيَا.
وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ لِعَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
يَقُولُونَ لِي فِيك انْقِبَاضٌ وَإِنَّمَا ... رَأَوْا رَجُلًا عَنْ مَوْقِفِ الذُّلِّ أَحْجَمَا
أَرَى النَّاسَ مَنْ دَانَاهُمْ هَانَ عِنْدَهُمْ ... وَمَنْ أَكْرَمَتْهُ عِزَّةُ النَّفْسِ أُكْرِمَا
وَلَمْ أَقْضِ حَقَّ الْعِلْمِ إنْ كَانَ كُلَّمَا ... بَدَا طَمَعٌ صَيَّرْتُهُ لِي سُلَّمَا
وَمَا كُلُّ بَرْقٍ لَاحَ لِي يَسْتَفِزُّنِي ... وَلَا كُلُّ مَنْ لَاقَيْت أَرْضَاهُ مُنْعِمَا
إذَا قِيلَ هَذَا مَنْهَلٌ قُلْت قَدْ أَرَى ... وَلَكِنَّ نَفْسَ الْحُرِّ تَحْتَمِلُ الظَّمَا
أنزهُهَا عَنْ بَعْضِ مَا لَا يَشِينُهَا ... مَخَافَةَ أَقْوَالِ الْعِدَا فِيمَ أَوْ لِمَا
وَلَمْ أَبْتَذِلْ فِي خِدْمَةِ الْعِلْمِ مُهْجَتِي ... لِأَخْدُمَ مَنْ لَاقَيْت لَكِنْ لِأُخْدَمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً ... إذًا فَاتِّبَاعُ الْجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ ... وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانَ وَدَنَّسُوا ... مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق