حسن الاستماع أساس الانتفاع
مما لا شك فيه أن الله تعالى قد خلق للإنسان لسانا واحدا وأذنين، وقد ذكر بعض العلماء أن ذلك ليستمع العبد أكثر مما يتكلم.
اسْمَعْ مُخَاطَبة الجليس ولا تكن عَجِـلا بنطقـك قبلما تتفهـمُ
لم تُعْطَ مع أُذنيك نُطـقـا واحـدا إلا لتَسمعَ ضِعفَ ما تتكلم
ولا شك أن العقلاء يتفقون على أنه من حسن الأدب ومن مكارم الأخلاق حسن الإصغاء للمتكلم. وإنك لتعجب حين ترى بعض الناس حريصا على تعلم مهارات وفنون التحدث أمام الناس بينما لا يهتمون بتعلم مهارات الاستماع الجيد.
يقول إيليا أبوماضي:
إن بعض القول فنٌ فاجعل الإصغاء فنا
تــكُ كالحقــل يـــردُّ الكيـل للزراع طنــا
منزلة السماع:
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: (أمر الله بالسّماع في كتابه، وأثنى على أهله، وأخبر أنّ البشرى لهم، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} (المائدة/ 108) . وقال: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (التغابن/ 16) .
وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ} (النساء/ 46) . وقال: {فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} (الزمر/ 17- 18) . وقال: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (الأعراف/ 204) . وقال: {وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (المائدة/ 83) .
وجعل السّماع منه والسّماع منهم دليلا على علم الخير فيهم، وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم. فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنفال/ 23) .
وأخبر عن أعدائه أنّهم هجروا السّماع ونهوا عنه. فقال: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ }(فصلت/ 26) .
فالسّماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلّمه. وكم في القرآن من قوله أَفَلا يَسْمَعُونَ؟ وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها} (الحج/ 46) الآية.
فالسّماع أصل العقل، وأساس الإيمان الّذي انبنى عليه. وهو رائده وجليسه ووزيره).
وهذا خير البشر وسيدهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كان يستمع إلى محدثه وينصت إليه باهتمام شديد ولا يقاطعه حتى يفرغ من كلامه، فحين أرسلت قريش عتبة بن ربيعة - وهو رجل رزين هادئ - ليرده عن دعوته أنصت إليه النبي صلى الله عليه وسلم باهتمام شديد حتى إذا فرغ من قوله تماما تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام صدر سورة فصلت.
ويجلس صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها فتقص عليه خبر إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، فينصت إليها ولا يقاطعها حتى إذا فرغت قال لها: "كنت لكِ كأبي زرع لأم زرع".
حسن الاستماع أساس الانتفاع:
كان من وصايا الصالحين والحكماء لمن ينصحونهم أن يحسنوا الاستماع لينتفعوا، قال الحسن بن علي رضي الله عنه مؤدباً ابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يُمسِك.
وقال الله تعالى في آياته المشهودة: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق/ 36- 37) . قال ابن القيّم- رحمه الله-: (النّاس ثلاثة: رجل قلبه ميّت. فذلك الّذي لا قلب له. فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقّه.
الثّاني: رجل له قلب حيّ مستعدّ، لكنّه غير مستمع للآيات المتلوّة، الّتي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة: إمّا لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكنّ قلبه مشغول عنها بغيرها. فهو غائب القلب، ليس حاضرا. فهذا أيضا لا تحصل له الذّكرى، مع استعداده ووجود قلبه.
والثّالث: رجل حيّ القلب مستعدّ. تليت عليه الآيات. فأصغى بسمعه، وألقى السّمع وأحضر قلبه.
ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه. فهو شاهد القلب. ملق السّمع. فهذا القسم هو الّذي ينتفع بالآيات المتلوّة والمشهودة.
فالأوّل بمنزلة الأعمى الّذي لا يبصر.
والثّاني بمنزلة البصير الطّامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثّالث بمنزلة البصير الّذي قد حدّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره وقابله على توسّط من البعد والقرب. فهذا هو الّذي يراه. فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصّدور).
حسن الاستماع للخطبة سبب للمغفرة:
عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر:
رجل حضرها يلغو وهو حظّه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله- عزّ وجلّ-: إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخطّ رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفّارة إلى الجمعة الّتي تليها وزيادة ثلاثة أيّام، وذلك بأنّ الله- عزّ وجلّ- يقول: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}(الأنعام/ 160)".
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام".
بحسن الاستماع يحبك الناس ويمدحونك:
إن الناس عادة يحبون من يستمع إليهم ويظهر اهتمامه بحديثهم ويقدر آراءهم.
قال بعض الكتاب: (لم أجد أسهل جهدا ولا أحسن تأثيرا في تملك قلوب الناس من الإنصات إليهم، والإنصات إلى الناس يجذبهم إلينا وهو من أكثر الوسائل التي تظهر احترامنا للطرف الآخر).
قال الشّعبيّ فيما يصف به عبد الملك بن مروان: والله ما علمته إلّا آخذا بثلاث... آخذا بحسن الحديث إذا حَدَّث، وبحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خولف.
وقالت الحكماء: رأس الأدب كلّه حسن الفهم والتّفهّم والإصغاء للمتكلّم.
و قالوا: من حسن الأدب أن لا تغالب أحدا على كلامه، وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه وإذا حدّث بحديث فلا تنازعه إيّاه، ولا تقتحم عليه فيه ولا تره أنّك تعلمه، وإذا كلّمت صاحبك فأخذته حجّتك فحسّن مخرج ذلك عليه، ولا تظهر الظّفر به وتعلّم حسن الاستماع، كما تعلّم حسن الكلام.
ومن عجيب أمر عطاء بن رباح رحمه الله ما أخبر به معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح، فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء: سبحان الله! ما هذه الأخلاق؟! ما هذه الأخلاق؟! إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأريه أني لا أحسن منه شيئًا.
قال أبو تمّام:
من لي بإنسـان إذا خاصـمته وجهلت كان الحلم ردَّ جوابهِ
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبـقـلـبـه ولـعـلــه أدرى بـه ====================================
السخاء
مما لا شك فيه أن السخاء من شيم الكرام، وأصحابه محمودون في الدنيا والآخرة، وهو خلق يستر الله به عيوب صاحبه إن كان به عيوب، قال الشاعر:
ويُظهر عيبَ المرء في النّاس بُخلُه … ويستره عنهم جميعا سخـاؤه
تـغــطّ بأثــــواب السّــــخــاء فــإنّني …أرى كلّ عيب بالسّخاء غطاؤه
فما هو السخاء؟
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: السّخاء بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض.
وقال الماورديّ- رحمه الله تعالى-: حدّ السّخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل إلى مستحقّه بقدر الطّاقة.
وإذا كان السخاء بهذا المعنى فلا شك أنه يتفاوت من إنسان لآخر؛ ولهذا فإن السخاء درجات.
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: (إذا كان السّخاء محمودا فمن وقف على حدّه سمّي كريما وكان للحمد مستوجبا، ومن قصّر عنه كان بخيلا وكان للذّمّ مستوجبا.
والسّخاء نوعان: فأشرفهما سخاؤك عمّا بيد غيرك، والثّاني سخاؤك ببذل ما في يدك، فقد يكون الرّجل من أسخى النّاس، وهو لا يعطيهم شيئا لأنّه سخا عمّا في أيديهم، وهذا معنى قول بعضهم:
السّخاء أن تكون بمالك متبرّعا، وعن مال غيرك متورّعا).
وقال ابن قدامة المقدسيّ- رحمه الله تعالى-:
(اعلم أنّ السّخاء والبخل درجات: فأرفع درجات السّخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه.
وأشدّ درجات البخل، أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشّهوة فيمنعه منها البخل.
فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين من يؤثر على نفسه مع الحاجة. فالأخلاق عطايا يضعها الله- عزّ وجلّ- حيث يشاء. وليس بعد الإيثار درجة في السّخاء. وقد أثنى الله- تعالى- على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإيثار، فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} (الحشر: 9) ، وكان سبب نزول هذه الآية قصّة أبي طلحة، لمّا آثر ذلك الرّجل بقوته وقوت صبيانه).
الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الأسخياء:
فقد روى البخاري رحمه الله في باب حسن الخلق والسخاء..عن جابر رضي الله عنه قال: " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قط فقال: لا".
وروى مسلم رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
نماذج من سخاء الصالحين:
لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم سادة الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين، ولقد كانوا رضي الله عنهم يتأسون بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ومن ذلك جوده وسخاؤه.
وقد ذكر العلماء من ذلك شيئا كثيرا، وعلى سبيل المثال:
روى الإمام مالك- رحمه الله تعالى- عن مولاة لعائشة- رضي الله عنها-: أنّ مسكينا سأل عائشة وهي صائمة، وليس في بيتها إلّا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إيّاه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه. فقالت أعطيه إيّاه. ففعلت، فلمّا أمسينا، أهدى لها أهل بيت أو إنسان- ما كان يهدي لها شاة وكفنها (أي ما يغطيها من الأقراص والرّغف) فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا. هذا خير من قرصك.
وذكر ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق أن محمّد بن المهلّب- رحمه الله تعالى- قال: بعث مروان وهو على المدينة ابنه عبد الملك إلى معاوية فدخل عليه فقال: إنّ لنا مالا إلى جنب مالك بموضع كذا وكذا من الحجاز، لا يصلح مالنا إلّا بمالك، ومالك إلّا بمالنا، فإمّا تركت لنا مالك فأصلحنا به مالنا، وإمّا تركنا لك مالنا فأصلحت به مالك، فقال له: يا ابن مروان: إنّي لا أخدع عن القليل ولا يتعاظمني ترك الكثير، وقد تركنا لكم مالنا فأصلحوا به مالكم.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد بلغ درجة عالية من السخاء حتى إنه كان يقول: ما أدري أي النعمتين أعظم عليّ مِنّةً: من رجلٍ بذل مُصاص وجهه إليه فرآني موضعاً لحاجته، وأجرى الله قضاءها أو يسّره على يديّ، ولأن أقضي لامرئٍ مسلمٍ حاجةً أحبّ إلي من ملء الأرض ذهباً وفضةً.
وكان يقول: إذا أقبلت عليك الدّنيا فأنفق منها فإنّها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنّها لا تبقى.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: إذا مات السّخيّ، قالت الأرض والحفظة: ربّ تجاوز عن عبدك في الدّنيا بسخائه.
وقال محمّد بن المنكدر- رحمه الله تعالى-: كان يقال: إذا أراد الله بقوم خيرا أمّر عليهم خيارهم، وجعل أرزاقهم بأيدي سمحائهم.
ومن عجائب الأسخياء:
ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله تعالى- فقال:
(خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخل لقوم فيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط (الحديقة) كلب، فدنا من الغلام فرمى إليه قرصا فأكله، ثمّ رمى إليه قرصا آخر فأكله، ثمّ رمى إليه ثالثا فأكله، وعبد الله ينظر. فقال: يا غلام كم قوتك كلّ يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: إنّ أرضنا ما هي بأرض كلاب، وأظنّ أنّ هذا الكلب قد جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت ردّه، قال: فما أنت صانع؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: أُلام على السّخاء وهذا أسخى منّي!!. فاشترى الحائط وما فيه من الآلات واشترى الغلام وأعتقه ووهبه له).
وقال أيضا: (اجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم أرغفة معدودة لا تكفيهم فكسروا الرّغفان، وأطفأوا السّراج، وجلسوا للأكل، فلمّا رفع الطّعام إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا لأصحابه).
وقال الشّافعيّ- رحمه الله-: (لا أزال احبّ حمّاد بن سليمان لشيء بلغني عنه، أنّه كان ذات يوم راكبا حماره، فحرّكه فانقطع زرّه، فمرّ على خيّاط، فأراد أن ينزل إليه ليسوّي زرّه، فقال الخيّاط: والله لا نزلت، فقام الخيّاط إليه فسوّى زرّه، فأخرج إليه صرّة فيها عشرة دنانير فسلّمها إلى الخيّاط واعتذر إليه من قلّتها). وأنشد الشّافعيّ- رحمه الله- لنفسه:
يا لهف قلبي على مال أجود به على المقلّين من أهل المروءات
إنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي، لمن إحدى المصيبات
وقال الغزاليّ- رحمه الله تعالى-: (اعلم أنّ المال إن كان مفقودا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة، وقلّة الحرص، وإن كان موجودا فينبغي أن يكون حاله الإيثار، واصطناع المعروف، والتّباعد عن الشّحّ والبخل، فإنّ السّخاء من أخلاق الأنبياء- عليهم السّلام- وهو أصل من أصول النّجاة).
وأخيرا ، قال إبراهيم اليشكريّ منشدا:
يقول رجال قد جمعت دراهما … وكيف ولم أخلق لجمع الدّراهم
أبى الله إلّا أن تكون دراهمي … بذا الدّهر نهبا في صديق وغارم
وما النّاس إلّا جامع أو مضيّع … وذو نصب يسعى لآخر نائم
يلوم أناس في المكارم والعلا … وما جاهل في أمره مثل عالم
لقد أَمِنَت منّي الدّراهم جَمعَها … كما أَمِن الأضيافُ من بخل حاتم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
==============
ير الأمور الوسط
مما لا شك فيه أن أي أمر من الأمور له طرفان ووسط ، ولا شك أن الوسط في كل شيء ممدوح ومطلوب، قال ابن الأثير- رحمه الله تعالى- في بيان أفضليّة التّوسّط: (كلّ خصلة محمودة لها طرفان مذمومان: فالسّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنّب كلّ وصف مذموم، وتجنّبه يكون بالتّعرّي منه، والبعد عنه، فكلّما ازداد منه بعدا ازداد إلى الوسط تقرّبا؛ ولذلك فإنّ أبعد الجهات والمقادير والمعاني من كلّ طرفين وسطها، فإذا كان في الوسط، فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان).
ولقد صدق القائل:
عليك بأوساط الأمور فإنّها … نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
الأمة الوسط
أمة الإسلام وسط بين الأمم؛ فهذه الأمة لم تغلُ غلوَّ النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم.
قال ابن جرير: (إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط؛ لتوسُّطهم في الدِّين، فلا هم أهل غلو فيه - غلوَّ النصارى الذين غالوا بالتَّرهب، وقيلِهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه).
قال الله تعالى:{ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..}(البقرة: 142-143).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (ولما جعل الله هذه الأمَّة وسطًا، خصّها بأكمل الشرائع، وأقوم المفاهيم، وأوضح المذاهب).
وسطية الشريعة:
قال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: (الشّريعة جارية في التّكليف بمقتضاها على الطّريق الوسط الأعدل الآخذ من الطّرفين بقسط لا ميل فيه، الدّاخل تحت كسب العبد من غير مشقّة عليه ولا انحلال؛ بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلّفين غاية الاعتدال.. ، فإن كان التّشريع لأجل انحراف المكلّف، أو وجود مظنّة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطّرفين، كان التّشريع رادّا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، وفعل الطّبيب الرّفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوّة مرضه وضعفه، حتّى إذا استقلّت صحّته هيّأ له طريقا في التّدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله، فهكذا تجد الشّريعة أبدا في مواردها ومصادرها جارية على هذا التّرتيب الوسط المعتدل، فإذا نظرت إلى كلّيّة من كلّيّات الشّريعة فتأمّلتها وجدتها حاملة على التّوسّط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك لعلاج انحراف واقع أو متوقّع في أحد الجانبين، فطرف التّشديد- وعامّة ما يكون في التّخويف والتّرهيب والزّجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدّين، وطرف التّخفيف- وعامّة ما يكون في التّرجية والتّرغيب والتّرخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التّشديد، فإذا لم يكن انحراف إلى هذا أو ذاك رأيت التّوسّط لائحا، ومسلك الاعتدال واضحا، وهو الأصل الّذي يرجع إليه والمعقل الّذي يلجأ إليه).
التوسط في النفقات:
قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}(الإسراء: 29).
قال الإمام ابن كثير عند تفسيرها: (يقول تعالى آمرا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل، ناهيا عن الإسراف، أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا شيئا، ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا).
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً}(الفرقان: 67).
قال ابن كثير: (أي : ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، (وكان بين ذلك قواما ).
وقال ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}: (لمّا أمر الله بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون وسطا).
ومن ذلك قوله – تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31).
قال القرطبي رحمه الله بعد سوقه لبعض الأقوال: (فعلى هذا تكون الصَّدقة بجميع المال، ومنعُ إخراج حقِّ المساكين - داخلَيْن في حكم السَّرَف، والعدلُ خلاف هذا، فيتصدق ويُبقي؛ كما قال عليه السلام: "خيْرُ الصدقة ما كان عن ظهر غنى" ).
التوسط في العبادة:
عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة ، قال: "من هذه؟" . قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: "مه، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يملّ الله حتّى تملّوا، وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه".
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلّي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا.
فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: "أنتم الّذين قلتم كذا وكذا. أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي".
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا حبل ممدود بين السّاريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:"حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد".
وقال صلى الله عليه وسلم: "سدّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدّلجة. والقصد القصد تبلغوا".
قال ابن رجب رحمه الله: (والتسديد: العمل بالسداد، والقصد والتوسط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيق).
كما بين الإمام النووي معنى التسديد والمقاربة فقال: (سددوا وقاربوا، اطلبوا السداد، واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه؛ أي: اقتربوا منه، والسداد: الصواب، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا).
وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- أنّه قال: كنت أصلّي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا.
وعن أبي جحيفة- رضي الله عنه- قال: آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين سلمان وأبي الدّرداء، فزار سلمان أبا الدّرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدّرداء ليس له حاجة في الدّنيا. فجاء أبو الدّرداء فصنع له طعاما فقال له:كل. قال: فإنّي صائم. قال: ما أنا بآكل حتّى تأكل.
قال: فأكل. فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء يقوم.قال: نم. فنام. ثمّ ذهب يقوم. فقال: نم. فلمّا كان من آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، فصلّيا. فقال له سلمان: إنّ لربّك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "صدق سلمان".
السلف والتوسط:
كان السلف يوصون بالتوسط في الأمور، ومن وصاياهم في ذلك:
قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: خير النّاس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التّالي ويرجع إليهم الغالي.
قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: ما عال مقتصد قطّ.
قال وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى-: إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان فعليكم بالأوسط من الأشياء.
قال الحسن البصريّ رحمه الله تعالى:خير الأمور أوساطها.
وأخيرا: لا تذهبنّ في الأمور فرطا … لا تسألنّ إن سألت شططا
وكن من النّاس جميعا وسطا
==========================
مما لا شك فيه أن الله تعالى قد خلق للإنسان لسانا واحدا وأذنين، وقد ذكر بعض العلماء أن ذلك ليستمع العبد أكثر مما يتكلم.
اسْمَعْ مُخَاطَبة الجليس ولا تكن عَجِـلا بنطقـك قبلما تتفهـمُ
لم تُعْطَ مع أُذنيك نُطـقـا واحـدا إلا لتَسمعَ ضِعفَ ما تتكلم
ولا شك أن العقلاء يتفقون على أنه من حسن الأدب ومن مكارم الأخلاق حسن الإصغاء للمتكلم. وإنك لتعجب حين ترى بعض الناس حريصا على تعلم مهارات وفنون التحدث أمام الناس بينما لا يهتمون بتعلم مهارات الاستماع الجيد.
يقول إيليا أبوماضي:
إن بعض القول فنٌ فاجعل الإصغاء فنا
تــكُ كالحقــل يـــردُّ الكيـل للزراع طنــا
منزلة السماع:
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: (أمر الله بالسّماع في كتابه، وأثنى على أهله، وأخبر أنّ البشرى لهم، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا} (المائدة/ 108) . وقال: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (التغابن/ 16) .
وقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ} (النساء/ 46) . وقال: {فَبَشِّرْ عِبادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ} (الزمر/ 17- 18) . وقال: {وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} (الأعراف/ 204) . وقال: {وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} (المائدة/ 83) .
وجعل السّماع منه والسّماع منهم دليلا على علم الخير فيهم، وعدم ذلك دليلا على عدم الخير فيهم. فقال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} (الأنفال/ 23) .
وأخبر عن أعدائه أنّهم هجروا السّماع ونهوا عنه. فقال: {وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ }(فصلت/ 26) .
فالسّماع رسول الإيمان إلى القلب وداعيه ومعلّمه. وكم في القرآن من قوله أَفَلا يَسْمَعُونَ؟ وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها} (الحج/ 46) الآية.
فالسّماع أصل العقل، وأساس الإيمان الّذي انبنى عليه. وهو رائده وجليسه ووزيره).
وهذا خير البشر وسيدهم محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام كان يستمع إلى محدثه وينصت إليه باهتمام شديد ولا يقاطعه حتى يفرغ من كلامه، فحين أرسلت قريش عتبة بن ربيعة - وهو رجل رزين هادئ - ليرده عن دعوته أنصت إليه النبي صلى الله عليه وسلم باهتمام شديد حتى إذا فرغ من قوله تماما تلا رسول الله عليه الصلاة والسلام صدر سورة فصلت.
ويجلس صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها فتقص عليه خبر إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، فينصت إليها ولا يقاطعها حتى إذا فرغت قال لها: "كنت لكِ كأبي زرع لأم زرع".
حسن الاستماع أساس الانتفاع:
كان من وصايا الصالحين والحكماء لمن ينصحونهم أن يحسنوا الاستماع لينتفعوا، قال الحسن بن علي رضي الله عنه مؤدباً ابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص على أن تقول، وتعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ولا تقطع على أحد حديثاً وإن طال حتى يُمسِك.
وقال الله تعالى في آياته المشهودة: {وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (ق/ 36- 37) . قال ابن القيّم- رحمه الله-: (النّاس ثلاثة: رجل قلبه ميّت. فذلك الّذي لا قلب له. فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقّه.
الثّاني: رجل له قلب حيّ مستعدّ، لكنّه غير مستمع للآيات المتلوّة، الّتي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة: إمّا لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكنّ قلبه مشغول عنها بغيرها. فهو غائب القلب، ليس حاضرا. فهذا أيضا لا تحصل له الذّكرى، مع استعداده ووجود قلبه.
والثّالث: رجل حيّ القلب مستعدّ. تليت عليه الآيات. فأصغى بسمعه، وألقى السّمع وأحضر قلبه.
ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه. فهو شاهد القلب. ملق السّمع. فهذا القسم هو الّذي ينتفع بالآيات المتلوّة والمشهودة.
فالأوّل بمنزلة الأعمى الّذي لا يبصر.
والثّاني بمنزلة البصير الطّامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثّالث بمنزلة البصير الّذي قد حدّق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره وقابله على توسّط من البعد والقرب. فهذا هو الّذي يراه. فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصّدور).
حسن الاستماع للخطبة سبب للمغفرة:
عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: "يحضر الجمعة ثلاثة نفر:
رجل حضرها يلغو وهو حظّه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله- عزّ وجلّ-: إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت، ولم يتخطّ رقبة مسلم، ولم يؤذ أحدا، فهي كفّارة إلى الجمعة الّتي تليها وزيادة ثلاثة أيّام، وذلك بأنّ الله- عزّ وجلّ- يقول: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها}(الأنعام/ 160)".
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة، وزيادة ثلاثة أيام".
بحسن الاستماع يحبك الناس ويمدحونك:
إن الناس عادة يحبون من يستمع إليهم ويظهر اهتمامه بحديثهم ويقدر آراءهم.
قال بعض الكتاب: (لم أجد أسهل جهدا ولا أحسن تأثيرا في تملك قلوب الناس من الإنصات إليهم، والإنصات إلى الناس يجذبهم إلينا وهو من أكثر الوسائل التي تظهر احترامنا للطرف الآخر).
قال الشّعبيّ فيما يصف به عبد الملك بن مروان: والله ما علمته إلّا آخذا بثلاث... آخذا بحسن الحديث إذا حَدَّث، وبحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا خولف.
وقالت الحكماء: رأس الأدب كلّه حسن الفهم والتّفهّم والإصغاء للمتكلّم.
و قالوا: من حسن الأدب أن لا تغالب أحدا على كلامه، وإذا سئل غيرك فلا تجب عنه وإذا حدّث بحديث فلا تنازعه إيّاه، ولا تقتحم عليه فيه ولا تره أنّك تعلمه، وإذا كلّمت صاحبك فأخذته حجّتك فحسّن مخرج ذلك عليه، ولا تظهر الظّفر به وتعلّم حسن الاستماع، كما تعلّم حسن الكلام.
ومن عجيب أمر عطاء بن رباح رحمه الله ما أخبر به معاذ بن سعيد قال: كنا عند عطاء بن أبي رباح، فتحدث رجل بحديث فاعترض له آخر في حديثه، فقال عطاء: سبحان الله! ما هذه الأخلاق؟! ما هذه الأخلاق؟! إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به، فأريه أني لا أحسن منه شيئًا.
قال أبو تمّام:
من لي بإنسـان إذا خاصـمته وجهلت كان الحلم ردَّ جوابهِ
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبـقـلـبـه ولـعـلــه أدرى بـه ====================================
السخاء
مما لا شك فيه أن السخاء من شيم الكرام، وأصحابه محمودون في الدنيا والآخرة، وهو خلق يستر الله به عيوب صاحبه إن كان به عيوب، قال الشاعر:
ويُظهر عيبَ المرء في النّاس بُخلُه … ويستره عنهم جميعا سخـاؤه
تـغــطّ بأثــــواب السّــــخــاء فــإنّني …أرى كلّ عيب بالسّخاء غطاؤه
فما هو السخاء؟
قال ابن حجر- رحمه الله تعالى-: السّخاء بمعنى الجود، وهو بذل ما يقتنى بغير عوض.
وقال الماورديّ- رحمه الله تعالى-: حدّ السّخاء بذل ما يحتاج إليه عند الحاجة، وأن يوصل إلى مستحقّه بقدر الطّاقة.
وإذا كان السخاء بهذا المعنى فلا شك أنه يتفاوت من إنسان لآخر؛ ولهذا فإن السخاء درجات.
قال ابن القيّم- رحمه الله تعالى-: (إذا كان السّخاء محمودا فمن وقف على حدّه سمّي كريما وكان للحمد مستوجبا، ومن قصّر عنه كان بخيلا وكان للذّمّ مستوجبا.
والسّخاء نوعان: فأشرفهما سخاؤك عمّا بيد غيرك، والثّاني سخاؤك ببذل ما في يدك، فقد يكون الرّجل من أسخى النّاس، وهو لا يعطيهم شيئا لأنّه سخا عمّا في أيديهم، وهذا معنى قول بعضهم:
السّخاء أن تكون بمالك متبرّعا، وعن مال غيرك متورّعا).
وقال ابن قدامة المقدسيّ- رحمه الله تعالى-:
(اعلم أنّ السّخاء والبخل درجات: فأرفع درجات السّخاء الإيثار، وهو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه.
وأشدّ درجات البخل، أن يبخل الإنسان على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال، ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشّهوة فيمنعه منها البخل.
فكم بين من يبخل على نفسه مع الحاجة، وبين من يؤثر على نفسه مع الحاجة. فالأخلاق عطايا يضعها الله- عزّ وجلّ- حيث يشاء. وليس بعد الإيثار درجة في السّخاء. وقد أثنى الله- تعالى- على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالإيثار، فقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ} (الحشر: 9) ، وكان سبب نزول هذه الآية قصّة أبي طلحة، لمّا آثر ذلك الرّجل بقوته وقوت صبيانه).
الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الأسخياء:
فقد روى البخاري رحمه الله في باب حسن الخلق والسخاء..عن جابر رضي الله عنه قال: " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم قط فقال: لا".
وروى مسلم رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
نماذج من سخاء الصالحين:
لقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم سادة الصالحين بعد الأنبياء والمرسلين، ولقد كانوا رضي الله عنهم يتأسون بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، ومن ذلك جوده وسخاؤه.
وقد ذكر العلماء من ذلك شيئا كثيرا، وعلى سبيل المثال:
روى الإمام مالك- رحمه الله تعالى- عن مولاة لعائشة- رضي الله عنها-: أنّ مسكينا سأل عائشة وهي صائمة، وليس في بيتها إلّا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إيّاه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه. فقالت أعطيه إيّاه. ففعلت، فلمّا أمسينا، أهدى لها أهل بيت أو إنسان- ما كان يهدي لها شاة وكفنها (أي ما يغطيها من الأقراص والرّغف) فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا. هذا خير من قرصك.
وذكر ابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق أن محمّد بن المهلّب- رحمه الله تعالى- قال: بعث مروان وهو على المدينة ابنه عبد الملك إلى معاوية فدخل عليه فقال: إنّ لنا مالا إلى جنب مالك بموضع كذا وكذا من الحجاز، لا يصلح مالنا إلّا بمالك، ومالك إلّا بمالنا، فإمّا تركت لنا مالك فأصلحنا به مالنا، وإمّا تركنا لك مالنا فأصلحت به مالك، فقال له: يا ابن مروان: إنّي لا أخدع عن القليل ولا يتعاظمني ترك الكثير، وقد تركنا لكم مالنا فأصلحوا به مالكم.
أما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقد بلغ درجة عالية من السخاء حتى إنه كان يقول: ما أدري أي النعمتين أعظم عليّ مِنّةً: من رجلٍ بذل مُصاص وجهه إليه فرآني موضعاً لحاجته، وأجرى الله قضاءها أو يسّره على يديّ، ولأن أقضي لامرئٍ مسلمٍ حاجةً أحبّ إلي من ملء الأرض ذهباً وفضةً.
وكان يقول: إذا أقبلت عليك الدّنيا فأنفق منها فإنّها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنّها لا تبقى.
وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه: إذا مات السّخيّ، قالت الأرض والحفظة: ربّ تجاوز عن عبدك في الدّنيا بسخائه.
وقال محمّد بن المنكدر- رحمه الله تعالى-: كان يقال: إذا أراد الله بقوم خيرا أمّر عليهم خيارهم، وجعل أرزاقهم بأيدي سمحائهم.
ومن عجائب الأسخياء:
ما ذكره ابن قدامة - رحمه الله تعالى- فقال:
(خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له، فنزل على نخل لقوم فيها غلام أسود يعمل فيها، إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط (الحديقة) كلب، فدنا من الغلام فرمى إليه قرصا فأكله، ثمّ رمى إليه قرصا آخر فأكله، ثمّ رمى إليه ثالثا فأكله، وعبد الله ينظر. فقال: يا غلام كم قوتك كلّ يوم؟ قال: ما رأيت. قال: فلم آثرت به هذا الكلب؟ قال: إنّ أرضنا ما هي بأرض كلاب، وأظنّ أنّ هذا الكلب قد جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت ردّه، قال: فما أنت صانع؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر: أُلام على السّخاء وهذا أسخى منّي!!. فاشترى الحائط وما فيه من الآلات واشترى الغلام وأعتقه ووهبه له).
وقال أيضا: (اجتمع جماعة من الفقراء في موضع لهم وبين أيديهم أرغفة معدودة لا تكفيهم فكسروا الرّغفان، وأطفأوا السّراج، وجلسوا للأكل، فلمّا رفع الطّعام إذا هو بحاله، لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا لأصحابه).
وقال الشّافعيّ- رحمه الله-: (لا أزال احبّ حمّاد بن سليمان لشيء بلغني عنه، أنّه كان ذات يوم راكبا حماره، فحرّكه فانقطع زرّه، فمرّ على خيّاط، فأراد أن ينزل إليه ليسوّي زرّه، فقال الخيّاط: والله لا نزلت، فقام الخيّاط إليه فسوّى زرّه، فأخرج إليه صرّة فيها عشرة دنانير فسلّمها إلى الخيّاط واعتذر إليه من قلّتها). وأنشد الشّافعيّ- رحمه الله- لنفسه:
يا لهف قلبي على مال أجود به على المقلّين من أهل المروءات
إنّ اعتذاري إلى من جاء يسألني ما ليس عندي، لمن إحدى المصيبات
وقال الغزاليّ- رحمه الله تعالى-: (اعلم أنّ المال إن كان مفقودا فينبغي أن يكون حال العبد القناعة، وقلّة الحرص، وإن كان موجودا فينبغي أن يكون حاله الإيثار، واصطناع المعروف، والتّباعد عن الشّحّ والبخل، فإنّ السّخاء من أخلاق الأنبياء- عليهم السّلام- وهو أصل من أصول النّجاة).
وأخيرا ، قال إبراهيم اليشكريّ منشدا:
يقول رجال قد جمعت دراهما … وكيف ولم أخلق لجمع الدّراهم
أبى الله إلّا أن تكون دراهمي … بذا الدّهر نهبا في صديق وغارم
وما النّاس إلّا جامع أو مضيّع … وذو نصب يسعى لآخر نائم
يلوم أناس في المكارم والعلا … وما جاهل في أمره مثل عالم
لقد أَمِنَت منّي الدّراهم جَمعَها … كما أَمِن الأضيافُ من بخل حاتم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
==============
ير الأمور الوسط
مما لا شك فيه أن أي أمر من الأمور له طرفان ووسط ، ولا شك أن الوسط في كل شيء ممدوح ومطلوب، قال ابن الأثير- رحمه الله تعالى- في بيان أفضليّة التّوسّط: (كلّ خصلة محمودة لها طرفان مذمومان: فالسّخاء وسط بين البخل والتّبذير، والشّجاعة وسط بين الجبن والتّهوّر، والإنسان مأمور أن يتجنّب كلّ وصف مذموم، وتجنّبه يكون بالتّعرّي منه، والبعد عنه، فكلّما ازداد منه بعدا ازداد إلى الوسط تقرّبا؛ ولذلك فإنّ أبعد الجهات والمقادير والمعاني من كلّ طرفين وسطها، فإذا كان في الوسط، فقد بعد عن الأطراف المذمومة بقدر الإمكان).
ولقد صدق القائل:
عليك بأوساط الأمور فإنّها … نجاة ولا تركب ذلولا ولا صعبا
الأمة الوسط
أمة الإسلام وسط بين الأمم؛ فهذه الأمة لم تغلُ غلوَّ النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم.
قال ابن جرير: (إنَّما وصفهم بأنَّهم وسط؛ لتوسُّطهم في الدِّين، فلا هم أهل غلو فيه - غلوَّ النصارى الذين غالوا بالتَّرهب، وقيلِهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هم أهل تقصير فيه - تقصير اليهود، الذين بدلوا كتاب الله وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم وكفروا به - ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه).
قال الله تعالى:{ سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً..}(البقرة: 142-143).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: (ولما جعل الله هذه الأمَّة وسطًا، خصّها بأكمل الشرائع، وأقوم المفاهيم، وأوضح المذاهب).
وسطية الشريعة:
قال الشّاطبيّ- رحمه الله تعالى-: (الشّريعة جارية في التّكليف بمقتضاها على الطّريق الوسط الأعدل الآخذ من الطّرفين بقسط لا ميل فيه، الدّاخل تحت كسب العبد من غير مشقّة عليه ولا انحلال؛ بل هو تكليف جار على موازنة تقتضي في جميع المكلّفين غاية الاعتدال.. ، فإن كان التّشريع لأجل انحراف المكلّف، أو وجود مظنّة انحرافه عن الوسط إلى أحد الطّرفين، كان التّشريع رادّا إلى الوسط الأعدل، لكن على وجه يميل فيه إلى الجانب الآخر ليحصل الاعتدال فيه، وفعل الطّبيب الرّفيق يحمل المريض على ما فيه صلاحه بحسب حاله وعادته، وقوّة مرضه وضعفه، حتّى إذا استقلّت صحّته هيّأ له طريقا في التّدبير وسطا لائقا به في جميع أحواله، فهكذا تجد الشّريعة أبدا في مواردها ومصادرها جارية على هذا التّرتيب الوسط المعتدل، فإذا نظرت إلى كلّيّة من كلّيّات الشّريعة فتأمّلتها وجدتها حاملة على التّوسّط، فإن رأيت ميلا إلى جهة طرف من الأطراف فذلك لعلاج انحراف واقع أو متوقّع في أحد الجانبين، فطرف التّشديد- وعامّة ما يكون في التّخويف والتّرهيب والزّجر- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الانحلال في الدّين، وطرف التّخفيف- وعامّة ما يكون في التّرجية والتّرغيب والتّرخيص- يؤتى به في مقابلة من غلب عليه الحرج في التّشديد، فإذا لم يكن انحراف إلى هذا أو ذاك رأيت التّوسّط لائحا، ومسلك الاعتدال واضحا، وهو الأصل الّذي يرجع إليه والمعقل الّذي يلجأ إليه).
التوسط في النفقات:
قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}(الإسراء: 29).
قال الإمام ابن كثير عند تفسيرها: (يقول تعالى آمرا بالاقتصاد في العيش ذامّا للبخل، ناهيا عن الإسراف، أي لا تكن بخيلا منوعا لا تعطي أحدا شيئا، ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فتقعد ملوما محسورا).
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً}(الفرقان: 67).
قال ابن كثير: (أي : ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلا خيارا، وخير الأمور أوسطها، لا هذا ولا هذا، (وكان بين ذلك قواما ).
وقال ابن كثير- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}: (لمّا أمر الله بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه بل يكون وسطا).
ومن ذلك قوله – تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} (الأعراف: 31).
قال القرطبي رحمه الله بعد سوقه لبعض الأقوال: (فعلى هذا تكون الصَّدقة بجميع المال، ومنعُ إخراج حقِّ المساكين - داخلَيْن في حكم السَّرَف، والعدلُ خلاف هذا، فيتصدق ويُبقي؛ كما قال عليه السلام: "خيْرُ الصدقة ما كان عن ظهر غنى" ).
التوسط في العبادة:
عن عائشة- رضي الله عنها- أنّها قالت: إنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها وعندها امرأة ، قال: "من هذه؟" . قالت: فلانة تذكر من صلاتها. قال: "مه، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يملّ الله حتّى تملّوا، وكان أحبّ الدّين إليه ما داوم عليه صاحبه".
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألون عن عبادة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؟ قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال أحدهم: أمّا أنا فأنا أصلّي اللّيل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدّهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدا.
فجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: "أنتم الّذين قلتم كذا وكذا. أما والله إنّي لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي".
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: دخل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا حبل ممدود بين السّاريتين، فقال: "ما هذا الحبل؟" قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلّقت به. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:"حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد".
وقال صلى الله عليه وسلم: "سدّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدّلجة. والقصد القصد تبلغوا".
قال ابن رجب رحمه الله: (والتسديد: العمل بالسداد، والقصد والتوسط في العبادة، فلا يقصِّر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيق).
كما بين الإمام النووي معنى التسديد والمقاربة فقال: (سددوا وقاربوا، اطلبوا السداد، واعملوا به، وإن عجزتم عنه فقاربوه؛ أي: اقتربوا منه، والسداد: الصواب، وهو بين الإفراط والتفريط، فلا تغلوا ولا تقصروا).
وعن جابر بن سمرة- رضي الله عنه- أنّه قال: كنت أصلّي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا.
وعن أبي جحيفة- رضي الله عنه- قال: آخى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين سلمان وأبي الدّرداء، فزار سلمان أبا الدّرداء، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدّرداء ليس له حاجة في الدّنيا. فجاء أبو الدّرداء فصنع له طعاما فقال له:كل. قال: فإنّي صائم. قال: ما أنا بآكل حتّى تأكل.
قال: فأكل. فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء يقوم.قال: نم. فنام. ثمّ ذهب يقوم. فقال: نم. فلمّا كان من آخر اللّيل قال سلمان: قم الآن، فصلّيا. فقال له سلمان: إنّ لربّك عليك حقّا، ولنفسك عليك حقّا، ولأهلك عليك حقّا، فأعط كلّ ذي حقّ حقّه. فأتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "صدق سلمان".
السلف والتوسط:
كان السلف يوصون بالتوسط في الأمور، ومن وصاياهم في ذلك:
قال عليّ بن أبي طالب- رضي الله عنه-: خير النّاس هذا النمط الأوسط، يلحق بهم التّالي ويرجع إليهم الغالي.
قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما-: ما عال مقتصد قطّ.
قال وهب بن منبّه- رحمه الله تعالى-: إنّ لكلّ شيء طرفين ووسطا، فإذا أمسك بأحد الطّرفين مال الآخر، فإذا أمسك بالوسط اعتدل الطّرفان فعليكم بالأوسط من الأشياء.
قال الحسن البصريّ رحمه الله تعالى:خير الأمور أوساطها.
وأخيرا: لا تذهبنّ في الأمور فرطا … لا تسألنّ إن سألت شططا
وكن من النّاس جميعا وسطا
==========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق