دغاء الوعيد

وأفوض أمري إلي الله إن الله بصير بالعباد في أمري كله

Translate

الأربعاء، 4 سبتمبر 2024

شجاعة الاعتذار وكتمان السر/ ونصرة المظلوم واجب شرعي وإنساني /الحرص علي البكور/و علو همة الشباب/ زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين5.






شجاعة الاعتذار



إن الاعتذار عما بدر منا من خطأ ليس ضعفا كما يظنه بعض الناس، بل هو في الحقيقة قوة وشجاعة وثقة، ونقاء وصفاء نفس، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد، ويقضي على الحسد، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به والارتياب في تصرفاته، فشجاعة الاعتذار لا يتقنها إلَّا الكِبار، ولا يحافظ عليها إلا الأخيار، ولا يغذِّيها وينمِّيها إلَّا الأبرار، لأنها صِفة نابعة من قَلبٍ أبيض، لا يَحمل غشًّا، ولا يضمر شرًّا، فمَن عرَف خطأَه واعتذر عنه، فهو كبير في نَظر الكثير، والرُّجوعُ إلى الحقِّ فضيلة؛ وما أجمَلَ أن تكون مسارعًا إلى الخير، رجَّاعًا إلى الحق.
وإذا كان الخطأ من طبع ابن آدم فإن ما يمحو أثر الخطأ هو الاعتذار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ".
وقد قيل: ماء الاعتراف يمحو دنس الاقتراف.

وإذا رجعت إلى هذه الثلة المباركة أنبياء الله ورسله الذين هم خير البشر وصفوتهم لوجدتهم لا يتكبرون عن الاعتذار حين يُحتاج إليه.
هذا نبي الله موسى عليه السلام حين صحب الخضر عليه السلام فنهاه الخضر عن سؤاله عن شيء حتى يحدثه به ويوقفه على حقيقة الأمر، فلما خالف نبي الله موسى عليه السلام الشرط اعتذر عن ذلك فقال: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا}(الكهف: 73).

وهذا نبي الله نوح عليه السلام اعتذر لربه تعالى من سؤاله النجاة لولده الذي لم يكن مؤمنا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ}(هود: 47).
وهكذا كان الصالحون لا يتكبرون عن الاعتذار إذا بدر منهم ما يستدعيه.

وروى أهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف في غزوة بدر وكان في يده شيء يسوي به الصفوف، فرأى سواد بن غزية بارزا فطعنه في بطنه وقال له: "استو يا سواد". فقال سواد رضي الله عنه: يا رسولَ اللهِ أوجَعْتَني وقد بعثك اللهُ بالحقِّ والعدلِ فأقِدْني قال فكشف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عن بطنِه وقال: "استقِدْ". فاعتنقَه سواد فقبَّل بطنَه، فقال: "ما حملكَ على هذا يا سوادُ؟". قال: يا رسولَ اللهِ حضَر ما ترى فأردتُ أن يكون آخرُ العهدِ بك أن يمَسَّ جلدي جلدَك فدعا له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بخيرٍ.
فلم يمنعه كونه رسول الله، ولا كونه قائد الجيش من الاعتذار تطييبا لنفس ذلك الرجل.

وعندما فتح الله عليه مكة خشي الأنصار أن يميل النبي صلى الله عليه وسلم للإقامة في مكة ، فقالوا: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته. قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء الوحي لا يخفى علينا، فإذا جاء فليس أحد يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي الوحي، فلما انقضى الوحي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار" قالوا: لبيك يا رسول الله، قال: "قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته؟" قالوا: قد كان ذاك، قال: "كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، والمحيا محياكم والممات مماتكم". فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله، ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدقانكم، ويعذرانكم".
فلم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموقف يمر دون أن يبين لهم موقفه وهذا أطيب لنفوسهم، ولما سمع الأنصار ما قاله صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقبل منهم وصدقهم.

وعن أبي الدّرداء- رضي الله عنه- قال: كانت بين أبي بكر وعمر محاورة، فأغضب أبو بكر عمر، فانصرف عنه مغضبا، فاتّبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له، فلم يفعل حتّى أغلق بابه في وجهه، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن عنده- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أمّا صاحبكم فقد غامر" - أي: خاصَمَ -، وندم عمر على ما كان منه، فأقبل حتّى سلّم وجلس إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقصّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخبر. قال أبو الدّرداء: وغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجعل أبو بكر يقول: والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم.
فهذا الصديق يعتذر عما بدر ولا تمنعه مكانته وسابقته من تقديم الاعتذار عند الحاجة.
إذا اعتذر الجاني محا العذرُ ذنبَه … وكان الّذي لا يقبل العذر جانيا

الله يحب العذر
فتح الله عز وجل للتوبة بابا لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها، وما ذاك إلا لأنه يحب أن يرحم عباده ويحب العذر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ المَدْحُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، مِن أَجْلِ ذلكَ مَدَحَ نَفْسَهُ، وَليسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ، وَليسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ العُذْرُ مِنَ اللهِ، مِن أَجْلِ ذلكَ أَنْزَلَ الكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرُّسُلَ".
وعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "التّأنّي من الله، والعجلة من الشّيطان، وما أحد أكثر معاذير من الله (يعني لا يؤاخذ عبيده بما ارتكبوه حتى يعذر إليهم المرة بعد الأخرى)، وما من شيء أحبّ إلى الله من الحمد".

إياك وما يعتذر منه
لئن كان الله تبارك وتعالى يحب العذر، ولئن ندب الشرع والأدب إلى تقديم الاعتذار عند الخطأ فإن الأولى أن يجتنب العبد ما يوجب الاعتذار قدر طاقته، فعن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "إيّاك وكلّ أمر يعتذر منه".
وقال صلى الله عليه وسلم: "ولا تتكلمْ بكلامٍ تعتذرُ منه".
وقد قيل: إيّاك وعزّة الغضب فإنّها تفضي إلى ذلّ ‌الاعتذار. وقال الشاعر:
وإذا ما اعتراك في الغضب العزّة فاذكر تذلّل ‌الاعتذار

قبول الأعذار من شيم الكرام
ومن المروءة وكرم النفس أن يقبل الكريم اعتذار المخطئ وأن يقيل عثرته.
هؤلاء إخوة يوسف عليه السلام حين عرفوه ورأوا ما من الله به عليه وتذكروا ذنبهم قالوا معتذرين: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ}(سورة يوسف: 91). فما لامهم ولا عنفهم، بل قبل اعتذارهم وأقال عثرتهم ودعا لهم: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(سورة يوسف: 92).

اعتذر رجل إلى إبراهيم النّخعيّ رحمه الله تعالى، فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إنّ المعاذير يشوبها الكذب.
يقول الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما يُروى عنه : لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه، واعتذر إليَّ في الأخرى لقبلت عذره.
ويقول الأحنف بن قيس رحمه الله : إن اعتذر إليك معتذر تلقه بالبِشْر.
واعتذر رجل إلى الحسن بن سهل من ذنب كان له، فقال له الحسن: تقدّمت لك طاعة، وحدثت لك توبة، وكانت بينهما منك نبوة، ولن تغلب سيّئة حسنتين.

نحتاج أن نتقن فن الاعتذار، فكم من عداوات كان يمكن تجنبها بكلمة اعتذار، وكم من بيوت تهدمت لغياب ثقافة الاعتذار، وكم من نفوس تغيرت وصدور أوغرت حين غابت عن بعضنا شجاعة الاعتذار.
نسأل الله تعالى أن يعفو عنا ويقيل عثراتنا وأن يتجاوز عن سيئاتنا إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.

=========================================================
كتمان السر



اعْلَمْ أَنَّ كِتْمَانَ الْأَسْرَارِ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ النَّجَاحِ، وَأَدْوَم لِأَحْوَالِ الصَّلَاحِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه: سِرُّك أَسِيرُك فَإِنْ تَكَلَّمْت بِهِ صِرْت أَسِيرَهُ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ كُنْ جَوَادًا بِالْمَالِ فِي مَوْضِعِ الْحَقِّ، ضَنِينًا بِالْأَسْرَارِ عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ. فَإِنَّ أَحْمَدَ جُودِ الْمَرْءِ الْإِنْفَاقُ فِي وَجْهِ الْبِرِّ، وَالْبُخْلُ بِمَكْتُومِ السِّرِّ.
وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ، وَمَنْ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ: مَا أَسَرَّك مَا كَتَمْت سِرَّك. وَقَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ: مَا لَمْ تُغَيِّبْهُ الْأَضَالِعُ فَهُوَ مَكْشُوفٌ ضَائِعٌ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ، وَهُوَ أَنَسُ بْنُ أُسَيْدٍ:
وَلَا تُفْشِ سِرَّك إلَّا إلَيْك ... فَإِنَّ لِكُلِّ نَصِيحٍ نَصِيحَا
فَإِنِّي رَأَيْتُ وُشَاةَ الرِّجَالِ ... لَا يَتْرُكُونَ أَدِيمًا صَحِيحَا
وَكَمْ مِنْ إظْهَارِ سِرٍّ أَرَاقَ دَمَ صَاحِبِهِ، وَمَنَعَ مِنْ نَيْلِ مَطَالِبِهِ، وَلَوْ كَتَمَهُ كَانَ مِنْ سَطْوَتِهِ آمِنًا، وَفِي عَوَاقِبِهِ سَالِمًا، وَلِنَجَاحِ حَوَائِجِهِ رَاجِيًا.
نشر أسرار الغير خيانة
وَإِظْهَارُ الرَّجُلِ سِرَّ غَيْرِهِ أَقْبَحُ مِنْ إظْهَارِهِ سِرَّ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ يَبُوءُ بِإِحْدَى وَصْمَتَيْنِ: الْخِيَانَةُ إنْ كَانَ مُؤْتَمَنًا، أَوْ النَّمِيمَةُ إنْ كَانَ مُسْتَوْدَعًا. فَأَمَّا الضَّرَرُ فَرُبَّمَا اسْتَوَيَا فِيهِ وَتَفَاضَلَا. وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ، وَهُوَ فِيهِمَا مَلُومٌ. وَفِي الِاسْتِرْسَالِ بِإِبْدَاءِ السِّرِّ دَلَائِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ مَذْمُومَةٍ:
إحْدَاهَا: ضِيقُ الصَّدْرِ، وَقِلَّةُ الصَّبْرِ، حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَتَّسِعْ لِسِرٍّ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى صَبْرٍ.
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إذَا الْمَرْءُ أَفْشَى سِرَّهُ بِلِسَانِهِ ... وَلَامَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ فَهُوَ أَحْمَقُ
إذَا ضَاقَ صَدْرُ الْمَرْءِ عَنْ سِرِّ نَفْسِهِ ... فَصَدْرُ الَّذِي يُسْتَوْدَعُ السِّرَّ أَضْيَقُ
وَالثَّانِيَةُ: الْغَفْلَةُ عَنْ تَحَذُّرِ الْعُقَلَاءِ، وَالسَّهْوُ عَنْ يَقِظَةِ الْأَذْكِيَاءِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: انْفَرِدْ بِسِرِّك وَلَا تُودِعْهُ حَازِمًا فَيَزِلَّ، وَلَا جَاهِلًا فَيَخُونَ.

وَالثَّالِثَةُ: مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْغَدْرِ، وَاسْتَعْمَلَهُ مِنْ الْخَطَرِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: سِرُّك مِنْ دَمِك فَإِذَا تَكَلَّمْت بِهِ فَقَدْ أَرَقْتَهُ.

حفظ المال أيسر من كتم الأسرار
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ الْأَسْرَارِ مَا لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ مُطَالَعَةِ صَدِيقٍ مُسَاهِمٍ، وَاسْتِشَارَةِ نَاصِحٍ مُسَالِمٍ. فَلْيَخْتَرْ الْعَاقِلُ لِسِرِّهِ أَمِينًا إنْ لَمْ يَجِدْ إلَى كَتْمِهِ سَبِيلًا، وَلْيَتَحَرَّ فِي اخْتِيَارِ مَنْ يَأْتَمِنُهُ عَلَيْهِ وَيَسْتَوْدِعُهُ إيَّاهُ. فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَمْوَالِ أَمِينًا كَانَ عَلَى الْأَسْرَارِ مُؤْتَمَنًا. وَالْعِفَّةُ عَنْ الْأَمْوَالِ أَيْسَرُ مِنْ الْعِفَّةِ عَنْ إذَاعَةِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُذِيعَ سِرَّ نَفْسِهِ بِبَادِرَةِ لِسَانِهِ، وَسَقَطِ كَلَامِهِ، وَيَشحُّ بِالْيَسِيرِ مِنْ مَالِهِ، حِفْظًا لَهُ وَضَنًّا بِهِ، وَلَا يَرَى مَا أَذَاعَ مِنْ سِرِّهِ كَبِيرًا فِي جَنْبِ مَا حَفِظَهُ مِنْ يَسِيرِ مَالِهِ مَعَ عِظَمِ الضَّرَرِ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ.
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ أُمَنَاءُ الْأَسْرَارِ أَشَدَّ تَعَذُّرًا وَأَقَلَّ وُجُودًا مِنْ أُمَنَاءِ الْأَمْوَالِ. وَكَانَ حِفْظُ الْمَالِ أَيْسَرَ مِنْ كَتْمِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّ إحْرَازَ الْأَمْوَالِ مَنِيعَةٌ وَإِحْرَازَ الْأَسْرَارِ بَارِزَةٌ يُذِيعُهَا لِسَانٌ نَاطِقٌ، وَيُشِيعُهَا كَلَامٌ سَابِقٌ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَحمه اللَّهُ -: الْقُلُوبُ أَوْعِيَةُ الْأَسْرَارِ، وَالشِّفَاه أَقْفَالُهَا وَالْأَلْسُنُ مَفَاتِيحُهَا، فَلْيَحْفَظْ كُلُّ امْرِئٍ مِفْتَاحَ سِرِّهِ.

صفات أمين السر
وَمِنْ صِفَاتِ أَمِينِ السِّرِّ أَنْ يَكُونَ ذَا عَقْلٍ صَادٍّ، وَدِينٍ حَاجِزٍ، وَنُصْحٍ مَبْذُولٍ، وَوُدٍّ مَوْفُورٍ، وَكَتُومًا بِالطَّبْعِ. فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ تَمْنَعُ مِنْ الْإِذَاعَةِ، وَتُوجِبُ حِفْظَ الْأَمَانَةِ، فَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ فَهُوَ عَنْقَاءُ مُغْرِبٍ.(قيل: إنه طائر يُضرَب به المثل في طلب المُحال الذي لا يُنال).
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: قُلُوبُ الْعُقَلَاءِ حُصُونُ الْأَسْرَارِ. وَلْيَحْذَرْ صَاحِبُ السِّرِّ أَنْ يُودِعَ سِرَّهُ مَنْ يَتَطَلَّعُ إلَيْهِ، وَيُؤْثِرُ الْوُقُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ طَالِبَ الْوَدِيعَةِ خَائِنٌ.
وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: لَا تُنْكِحْ خَاطِبَ سِرِّك. وَقَالَ صَالِحُ بْنُ عَبْدِ الْقُدُّوسِ:
لَا تَدَعْ سِرًّا إلَى طَالِبِهِ ... مِنْك فَالطَّالِبُ لِلسِّرِّ مُذِيعُ
وَلْيَحْذَرْ كَثْرَةَ الْمُسْتَوْدَعِينَ لِسِرِّهِ فَإِنَّ كَثْرَتَهُمْ سَبَبُ الْإِذَاعَةِ، وَطَرِيقٌ إلَى الْإِشَاعَةِ؛ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فِي الْعَدَدِ الْكَثِيرِ عزيز، وَلَا بُدَّ إذَا كَثُرُوا مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ أَخَلَّ بِبَعْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجِدُ سَبِيلًا إلَى نَفْيِ الْإِذَاعَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ ذَنْبٌ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ عَتْبٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: كُلَّمَا كَثُرَتْ خِزَانُ الْأَسْرَارِ ازْدَادَتْ ضَيَاعًا. وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ ... وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِي
وَقَالَ آخَرُ:
فَلَا تَنْطِقْ بِسِرِّك كُلُّ سِرٍّ ... إذَا مَا جَاوَزَ الِاثْنَيْنِ فَاشِي

ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنْ إذَاعَتِهِمْ لَمْ يَسْلَمْ مِنْ إدْلَالِهِمْ وَاسْتِطَالَتِهِمْ، فَإِنَّ لِمَنْ ظَفِرَ بِسِرٍّ مِنْ فَرْطِ الْإِدْلَالِ وَكَثْرَةِ الِاسْتِطَالَةِ، مَا إنْ لَمْ يَحْجِزْهُ عَنْهُ عَقْلٌ وَلَمْ يَكُفَّهُ عَنْهُ فَضْلٌ، كَانَ أَشَدَّ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ وَخُضُوعِ الْعَبْدِ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ أَفْشَى سِرَّهُ كَثُرَ عَلَيْهِ الْمُتَأَمِّرُونَ.
فَإِذَا اخْتَارَ وَأَرْجُو أَنْ يُوَفَّقَ لِلِاخْتِيَارِ، وَاضْطَرَّ إلَى اسْتِيدَاعِ سِرِّهِ وَلَيْتَهُ كُفِيَ الِاضْطِرَارُ، وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ لَهُ أَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِيهِ بِالتَّحَفُّظِ وَالتَّنَاسِي لَهُ حَتَّى لَا يَخْطِرَ لَهُ بِبَالٍ وَلَا يَدُورَ لَهُ فِي خَلَدٍ. ثُمَّ يَرَى ذَلِكَ حُرْمَةً يَرْعَاهَا وَلَا يُدِلُّ إدْلَالَ اللِّئَامِ.
وَحُكِيَ أَنَّ رَجُلًا أَسَرَّ إلَى صَدِيقٍ لَهُ حَدِيثًا ثُمَّ قَالَ: أَفَهِمْت؟ قَالَ: بَلْ جَهِلْتُ. قَالَ: أَحَفِظْت؟ قَالَ: بَلْ نَسِيتُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ:
وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى نِسْيَانِ مَا اشْتَمَلَتْ ... مِنِّي الضُّلُوعُ عَلَى الْأَسْرَارِ وَالْخَبَرِ
لَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ يَنْسَى سَرَائِرَهُ ... إذَا كُنْتُ مِنْ نَشْرِهَا يَوْمًا عَلَى خَطَرِ
وَحُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ تَذَاكَرَ النَّاسُ فِي مَجْلِسِهِ حِفْظَ السِّرِّ فَقَالَ ابْنُهُ:
وَمُسْتَوْدَعِي سِرًّا تَضَمَّنْتُ سِرَّهُ ... فَأَوْدَعْتُهُ مِنْ مُسْتَقَرِّ الْحَشَى قَبْرَا
وَلَكِنَّنِي أُخْفِيهِ عَنِّي كَأَنَّنِي ... مِنْ الدَّهْرِ يَوْمًا مَا أَحَطْتُ بِهِ خُبْرَا
وَمَا السِّرُّ فِي قَلْبِي كَمَيْتٍ بِحُفْرَةٍ ... لِأَنِّي أَرَى الْمَدْفُونَ يَنْتَظِرُ النَّشْرَا

=========================================================



نصرة المظلوم واجب شرعي وإنساني



كم في الناس من ذوي الحاجات وأصحاب الهموم وصرعى المظالم وجرحى القلوب ‍!! الذين لم يجدوا من يطرق بابهم، أو يسأل عن حالهم، أو يسعى في كشف الغم عنهم بدافع من خُلُق النُّصرة.
ونعني بالنصرة تلك الغيرة الإيمانية التي تدفع المسلم لرفع الظلم عن أخيه المسلم المستضعف، أو لمدّ يد العون إليه.
وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبع كان منها (نصر المظلوم) ففي الحديث الشريف : "أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع ..، فذكر عيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وردّ السلام، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإبرار القسم".(رواه البخاري).
وليس من شأن المسلم أن يرتضي لنفسه إيقاع الظلم بأخيه، أو أن يدع أخاه فريسة بيد ظالم يذله، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : "المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمـًا ستره الله يوم القيامة".(رواه البخاري).
فهل بعد هذا ترى مصيبة واقعة بأخيك وتُسْلِمه لها وتخذله فيها؟ أم تحتقن دماؤك في عروقك ولا يروق لك نوم حتى تبذل ما تستطيع من جهد لكشف ما نزل من ضرّ بأخيك؟

كيف ينصر الله أمة لاتنصر ضعيفها
إن الأمة التي لا تنتصر للضعفاء ولا يؤخذ فيها على أيدي الظالمين لهي أمة غير جديرة بنصرة الله ومعيته وتطهيره لها من الآثام، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: لما رَجَعَت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهَاجرة البحر، قال: "ألا تُحَدِّثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟". قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس مرَّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قُلَّة من ماء، فمرَّت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثمَّ دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قلَّتها، فلمَّا ارتفعت، التفتت إليه، فقالت: سوف تعلم -يا غُدر- إذا وضع الله الكرسيَّ، وجمع الأولين والآخرين، وتكلَّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدًا، قال: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَت صَدَقَت، كيف يقدِّس الله أمَّة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم؟".
قال السِّندي: (يقدِّس الله) أي: يُطَهِّرهم من الدَّنس والآثام.
وقال المناوي: (استخبار فيه إنكار وتعجُّب، أي: أخبروني كيف يُطهِّر الله قومًا لا ينصرون العاجز الضَّعيف على الظَّالم القويِّ، مع تمكُّنهم من ذلك؟ أي: لا يطهِّرهم الله أبدًا).

من نَصر نُصر ومن خَذل خُذل
والقائم بحق النصرة أو المتخاذل عنها؛ كل منهما يلقى ثمرة ذلك - في الدنيا والآخرة - جزاء وفاقـًا كما جاء في قوله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من امرئٍ يخذل امرءًا مسلمـًا عند موطن تُنتهَك فيه حُرمتُه ، ويُنتَقَص فيه من عِرضه، إلا خذله الله عز وجل في موطن يحب فيه نُصرته، وما من امرئٍ ينصر امرءًا مسلمـًا في موطن ينتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته إلاَّ نصره الله في موطن يحب فيه نصرته".(رواه أحمد وحسنه الألباني).
نصرة الظالم بمنعه من الظلم:
لقد كان أبناء الجاهلية يتناصرون في الخير والشر، وأراد الإسلام لهذا الخلق أن يستمر بوجهه الخيّر معطيـًا له معنى جديدًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "انصر أخاك ظالمـًا أو مظلومـًا ، فقال رجل : يا رسول الله أنصره إذا كان مظلومـًا ، أفرأيت إذا كان ظالمـًا كيف أنصره ؟ قال : تحجزه - أو تمنعه - من الظلم فإن ذلك نصرَه". (رواه البخاري).
ولله در القائل:
وكم ظالم نالته مني غضاضة لنصرة مظلوم ضعيف جَنان
فإن كنت تنصر قومك وعشيرتك وعصبتك، وتمنعهم بكل الوسائل من إيقاع ظلم بمسلم - منهم أو من غيرهم - فتلك هي النصرة، وإلا فهي العصبية المقيتة المنتنة التي أُمرنا بأن ندعها، وقد قال في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشبهـًا حال صاحب العصبية ببعير هلك: "من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي رُدّي، فهو ينزع بذَنَبِه". (رواه أبي داود).
والقادر على النصرة لأخيه المسلم بكلمة أو شفاعة أو إشارة بخير، إن لم يقدّمها مع قدرته على ذلك وهو يرى بعينه إذلال أخيه، ألبسه الله لباس ذلّ أمام الخلق يوم القيامة؛ لتقصيره في نصرة أخيه، ورفع الذل عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "مَن أُذلّ عنده مؤمن فلم ينصره - وهو قادر على أن ينصره - أذله الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة". (رواه أحمد) .
نصرة المسلم في غيبته:
والمبادرة إلى نصرة الأخ في الله في الدنيا - وخاصة في حال غيابه حيث تسقط المجاملات وتظهر حقيقة المشاعر، وتخلص النصرة لله - يكون من ثمرتها أن يسخر الله للناصر مَن يقف إلى جانبه وينصره في الدنيا ويتولاه الله في الآخرة، كما في الحديث : "مَن نصر أخاه بظهر الغيب، نصره الله في الدنيا والآخرة".(صحيح الجامع/6574).

منع الظلم يمدح به غير المسلم ؛ فالمسلم أولى:
وإذا كان منع ظلم الملوك بنصرة المستضعفين خُلُقـًا يتجمل به غير المسلمين ، فالمسلمون به أولى وأحرى ، وقد وصف عمرو بن العاص الروم بخصال استحسنها فيهم، فقال : " إن فيهم لخصالاً أربعـًا : إنّهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرّة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك".
في الإعانة على الباطل غضب الله:
ومَن كانت نصرته بصورته الجاهلية نصرة على الباطل، ودورانًا مع العصبية، وإعانة على الظلم، فقد غضب الله عليه، كما في الحديث: "مَن أعان على خصومة بظلم - أو يعين على ظلم - لم يزل في سخط الله حتى ينزع" .
وإذا نظرت إلى حال أكثر الخلق اليوم وجدت أنه قد صدق فيهم قول القاضي سعد بن محمَّد الدَّيْري (ت 867):
ذهب الأُلى كان التفاضل بينهم بالحلم والإفضال والمعروف
يتجشمون متـاعبا لإعـانـة الــ ـمظلوم أو لإغاثة الملهـوف
وأتى الذين الفخر فيهم منعهـم للسائلين وظلـم كل ضعـيف
فتراهـم يتـرددون مـع الهـوى قد أعرضوا عن أكثر التكليف.

===============================================
الحرص على البكور



الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:
فعن طَارِقِ بْنِ أَشْيَمَ الأَشْجَعِيِّ قَالَ : كُنَّا نَغْدُو إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَيَجِيءُ الرَّجُلُ وَتَجِيءُ الْمَرْأَةُ، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللهِ: كَيْفَ أَقُولُ إِذَا صَلَّيْتُ ؟ فَيَقُولُ : قُلِ : "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي فَقَدْ جَمَعَتْ لَكَ دُنْيَاكَ وَآخِرَتَكَ ".
الغُدُو: هو الوقت الباكر في أول النهار ما بين طلوع الفجر إلى ما قبل طلوع الشمس، فهذا يقال له: الغَداة، ويقال له: الغُدو. وهو باكورة اليوم وأوله. وهذا يدل على حرصهم رضي الله عنهم على الخير وعلى التبكير بالذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كيف لا وهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا للأمة في هذا الوقت بالبركة؛ كما جاء في الحديث: "بورك لأمتي في بكورها".
وكما ورد في حديث صخر بن وداعة الغامدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللهمَ باركْ لأمتي في بكورِها" . قال : وكان إذا بعث سريةً أو جيشًا، بعثهم أولَ النهارِ .
وكان صخرُ رجلًا تاجرًا . وكان إذا بعث تجارةً بعثهم أولَ النهارِ، فأثرى وكثر مالُه.
وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ.رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ.لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }(النور:36-38). والغدو في الآية البكور وقت صلاة الصبح، والآصال وقت العصر.

المقصود بالبكور:
جاء في فتاوى إسلام ويب: (والظاهر أن المراد بأول النهار ما كان في وقت صلاة الصبح، بعد انتشار ضوء الفجر الصادق وأداء صلاة الفجر، وينتهي عند شروق الشمس وارتفاعها وابتداء انتشار حرها، أي عند ابتداء وقت الضحى، قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (آل عمران:41) وأما الإبكار فإنه مصدر من قول القائل: أبكَرَ فلان في حاجة فهو يُبْكِر إبكارًا، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضُّحى فذلك إبكار، يقال فيه: أَبكَرَ فلان وبَكَرَ يَبكُر بُكورًا.
وذلك، لأن بين هذينِ كان وقت ابتداء العمل في زمن النبوة وما بعده إلى عصرٍ قريب، ولهذا خُصَّ بالدعاء، قال ابن بطال: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك لأمتي في بكورها ـ لا يدل أن غير البكور لا بركة فيه، لأن كل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ففيه البركة ولأمته فيه أكبر الأسوة، وإنما خص صلى الله عليه وسلم البكور بالدعاء بالبركة فيه من بين سائر الأوقات ـ والله أعلم ـ لأنه وقت يقصده الناس بابتداء أعمالهم وهو وقت نشاط وقيام من دَعَة فخصه بالدعاء، لينال بركة دعوته جميع أمته. اهـ.
قال ابن عثيمين في شرح رياض الصالحين عند شرح هذا الحديث: لكن وللأسف أكثرُنا اليوم ينامون في أول النهار ولا يستيقظون إلا في الضحى فيفوت عليهم أول النهار الذي فيه بركة. اهـ. وقوله: فيفوت عليهم أول النهار الذي فيه بركة ـ يعني البركة الخاصة التي دعا بها النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الوقت).

ولهذا؛ فهو وقتٌ ثمين نفيس ينبغي على المسلم أن يحرص على الفوز ببركته باستيقاظه في هذا الوقت لصلاة الفجر وقضاء الوقت إلى الشروق في الأذكار، ولا يُضيِّعه في النوم والكسل أو في غير ذلك.
والعادة أن ما يكون من الإنسان في أول اليوم ينسحب على بقية اليوم؛ إِنْ نشاطا فنشاط وإِنْ كسلا فكسل، ولهذا قال بعض السلف: "يومك مثل جملك إن أمسكت أوله تبعك آخره" أي إذا حفظتَ أول اليوم فإنَّ بقية اليوم يُحفظ لك.
ولهذا؛ جاء في صحيح مسلم أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخذ يُسبِّح الله -تبارك وتعالى- حتى طلعت الشمس، فلما طلعت قال: "الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا، ولم يعذبنا بذنوبنا".، قال هذا الكلام: "الحمد لله الذي أقالنا يومنا هذا" مع أنه في أول اليوم ! وهذا فيه شاهد على أنَّ العبد إذا حفظ أول اليوم بالذكر والطاعة سَلِم له يومه، وحُفِظ له يومه كاملا، وهذا معنى قول بعض السلف: "يومك مثل جملك إن أمسكت أوله تبعك آخره".
ولهذا؛ يقول بعض العلماء كلامًا لطيفًا في هذا الباب: "أول اليوم شبابه وآخر اليوم شيخوخته ومن شبَّ على شيءٍ شابَ عليه"، فإذا شبَّ الإنسان في أول اليوم على الذِّكر بقي اليوم محفوظًا، وإذا كان في خلاف ذلك؛ في الكسل أو في النوم أو في الفتور.. أو في غير ذلك من الأمور؛ فإنه يشبُّ عليها ويأتي عليه آخِر اليوم وهو كذلك.
وقد كانت العادة عند المسلمين أن يناموا مبكرا ويستيقظوا مبكرا فيصلون الفجر ويذكرون الله تعالى ثم يذهبون إلى أعمالهم وتجاراتهم ففازوا ببركة عجيبة، بخلاف أكثر المتأخرين الذين ينامون متأخرين ويستيقظون متأخرين؛ فيحرمون من بركة هذا الوقت العظيم الذي دعا النبي بالبركة فيه لأمته.
والنائِمُ إلى ما بعد صلاةِ الفجر يُصبح خبيثَ النَّفْس كسلان، ومَن استيقظَ ساعتها يُصبح نشيطًا، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "يَعقِد الشيطانُ على قافيةِ رأس أحدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقدٍ، يضرب كلَّ عقدةٍ: عليك ليل طويل فارقدْ، فإنِ استيقظَ فذكَر الله انحلَّتْ عُقدة، فإنْ توضَّأ انحلَّتْ عُقدة، فإنْ صلَّى انحلَّت عُقدة فأصبح نشيطًا طيِّبَ النفْس، وإلاَّ أصبحَ خبيثَ النَّفْس كسلان".
كما أنَّ مَن قام في البُكور وصلَّى الفجرَ فهو في ذِمَّة الله، وكفَى بها نِعمة؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "مَن صلَّى الصُّبحَ فهو في ذِمَّةِ اللهِ"، أي في أمانه وضمانته، فأيُّ فضلٍ وأيُّ خير أعظمُ مِن هذا الفضل.
ومن ثمرات وفوائد الاستيقاظ في هذا الوقت المبارك الفوز ببشارة النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "لن يلجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غُروبِها".
ومن أعجب الأجور وأحلاها وأعظمها عند المؤمنين، المحرضة على اغتنام هذا الوقت المبارك والحرص على صلاة الفجر والعصر، ذلك الحديث الذي يبشر من حافظ على هاتين الصلاتين في وقتها، بأنه يرى ربه يوم القيامة، وهذه من أعظم البشارات، ولو لم يكن من فضل المحافظة على صلاتي الفجر والعصر في أوقاتهما إلا رؤية الله تعالى لكفى، وقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو الله تعالى أن يرزقه النظر إلى وجهه الكريم، وهو أعلى نعيم على أهل الجنة، وأقسى عذاب أهل النار حجابهم عن رؤية الله تعالى، قال جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترون ربكم، كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، فافعلوا". ولا يمكن لمن كانت عادته النوم في وقت البكور أن يتمكن من صلاة الفجر.
ونختم في التحذير من تضييع هذا الوقت المبارك بقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
(ونوم الصبحة يمنع الرزق، لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق، فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وهو مُضر جداً بالبدن لإرخائه البدن، وإفساده للعضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسراً وعِيّاً وضعفاً...).
والحمد لله رب العالمين.
ججججججججججججج=================================

علو همة الشباب





إن فترة الشباب في حياة الإنسان هي أحفل أطوار العمر بالمشاعر الحارة والعواطف الفائرة، لكنها ليست عهد العافية المكتملة في البدن الناضج فقط، بل إنها كذلك عهد النزعات النفسية الجياشة، يمدها الخيال الخصب والرجاء البعيد.
والأمم تستغل في شبانها هذه القوى المذخورة وتجندها في ميادين الحرب والسلم ؛ لتذلل بها الصعب وتقرب بها البعيد.
ونجاح الأمم يرجع إلى مقدار علو همم شبابها، وإلى مقدار آمالهم وأعمالهم.
إن فترة الشباب فترة متميزة في حياة كل منا بسبب يسير جداً، وهو أن الشباب فترة قوة بين ضعفين، فهو فترة قوة بين ضعف الشيخوخة وضعف الطفولة. والذي يقدر على الإنجاز هو الشاب، وليس الطفل أو العجوز، فلا شك أن فترة العمل والإنجاز وخدمة الإسلام هي فترة الشباب، فالشباب هو زمن العمل، فمن ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك". وتأمل جيداً كلمة (اغتنم) أي إن الفرصة سانحة، وسرعان ما تفر منك. فالشباب ضيف زائر، وصيف عابر، سرعان ما يولي.
وتأمل -أيضاً- هذه الكلمة للإمام أحمد حيث يقول رحمه الله: ما شبهت الشباب إلا بشيء كان في كمي(أي: جيبي) فسقط.
فيبدو أنه يمثل الشباب بوضع شيء في جيب مثقوب، فحين وضعه في كمه سقط فوراً من أسفل الكم، فكذلك الشباب يمكث معك مثل هذه الفترة الوجيزة.
فمن ثمّ يسأل الله عز وجل كل عبد من عباده عن نعمة الشباب، ومع أن العمر يشمل الشباب، لكن خص الشباب بالذكر لأن له هذه الخصيصة التي ذكرناها، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه ، وعن شبابه فيما أبلاه...".

وعد صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الشاب العابد، فقال عليه الصلاة والسلام: "وشاب نشأ في عبادة الله".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما آتى الله عز وجل علماً إلا شاباً، والخير كله في الشباب، ثم تلا قوله عز وجل: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60]).
وقال تعالى في أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13].
وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
قالت حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا؛ فإنما العمل في الشباب.
وقد كان جل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا به وعزروه ونصوره واتبعوا النور الذي أنزل معه شباباً.
فهذا مصعب بن عمير الفتى المدلل المُنَعَّم الذي كان يُشترى له الطيب ويعرف مروره من الطريق ببقاء رائحة العطر فيه، آمن بالله تعالى واتبع الرسول فأرسله النبي صلى الله عليه وسلم سفيرا إلى المدينة فما مر عام إلا وبيوت المدينة لا تخلو من توحيد الله تعالى وتلاوة آياته وهو الذي أسلم على يديه سادة الأنصار.

وهذا أسامه بن زيد رضي الله تعالى عنهما أمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجيش وكان عمره ثماني عشرة سنة. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أمَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة على قوم فطعنوا في إمارته، فقال: " إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله لقد كان خليقا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده".
وهذا عتاب بن أسيد رضي الله تعالى عنه استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على مكة لما سار إلى حنين وعمره خمس وعشرون سنة.
ومعاذ بن جبل ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن وعمره قريب من الثلاثين.
ومات سيبويه إمام النحو وحجة العرب وله من العمر اثنتان وثلاثون سنة.
وهناك نماذج أخرى للشباب الذين أبلوا أحسن البلاء في حمل رسالة الإسلام ونشر نوره في العالمين.
هذا محمد بن القاسم الثقفي الذي فتح بلاد السند والهند( الهند وباكستان وبنجلاديش) وعمره سبعة عشر عاما، وبينما كان يتنقل من فتح إلى فتح ومن نصر إلى نصر عُزل وحُمل مقيدا إلى العراق، فقال متمثلا:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
وهو الذي قال فيه حمزة الحنفي:
إن المروءة والسماحة والندى لمحمد بن القاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجة يا قُرب ذلك سؤددا من مولد
فرحمه الله رحمة واسعة.
وهذا محمد الفاتح العثماني الذي تحققت على يديه بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية وهو قد جاوز العشرين بقليل
وهذا الشافعي الي سماه أهل مكة: (ناصر الحديث) ، وتواترت أخباره إلى علماء عصره فكانوا يفدون إلى مكة للحج فيناظرونه ويأخذون عنه في حياة شيوخه ، حتى إن أحمد بن حنبل كان يترك مجلس سفيان ويجلس إلى الشافعي فلما عوتب في ذلك قال لمن يعاتبه: اسكت ؛ إنك إن فاتك حديث بعلو أدركته بنزول، وإن فاتك عقل هذا أخاف ألا تجده، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى.
ولقد جلس الإمام الشافعي للإفتاء وهو لا يتجاوز العشرين من عمره، وملأ الدنيا علما فلله دره.
أما الإمام النووي رحمه الله تعالى فهو الذي كان في صغره يهرب من الصبيان وهم يكرهونه عل اللعب، فيبكي لإكراههم ويقرأ القرآن في تلك الحال.
وقد جعله أبوه في دكان فجعل لا يشتغل بالبيع والشراء عن القرآن فأتى الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي إلى معلم القرآن وقال له: هذا الصبي يُرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع به الناس فقال له: أمنجم أنت؟ فقا: لا، وإنما أنطقني الله بذلك، فذكر ذلك لوالده فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الحلم.
وصدقت فراسة الشيخ فقد كان الإمام النووي من أعلم أهل زمانه وأزهدهم وقد انتفعت الأمة بعلمه ولا تزال.
بمثل هذه الهمم العالية في جميع الميادين سادت الأمة وعزت وكتبت على صفحات التاريخ بمداد الذهب صحائف المجد.
فيا شباب الإسلام:
إذا لم تكونا أنتم حفظة القرآن وحملة السنة، فمن؟
إذا لم تكونوا أنتم مصابيح الهدى ومشاعل النور وسط هذا الظلام الحالك، فمن؟
إذا لم تكونوا أنتم عمار المساجد والذاكرين الله فيها، فمن؟
إذا لم تكونوا أنتم حماة الدين والأوطان، فمن؟
إذا لم تكونا العلماء والمخترعين، فمن؟
إذا لم تكونوا بُناة مجد هذه الأمة ورعاة عزتها وأساس نهضتها، فمن؟
حري بكم أن تكونوا في همة هذا الشاب الذي يقول:
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
إن الإنسان إذا علت همته فإنه لا يقنع بالدون ولا يرضيه إلا معالي الأمور، فالهمم العالية لا تعطي الدنية ولا تقنع بالسفاسف، ولا ترضى إلا بمعالي الأمور، فصاحب الهمة العالية لا يقبل أن يبقى في هامش الحياة، بل يجتهد أن يصل إلى ما أمكنه من الكمالات؛ ليقينه أنه إذا لم يزد شيئاً على الدنيا ويترك فيها بصماته في الخير وأعمال البر، فإنه سيصبح زائداً على الدنيا، وفضلة من فضلات الدنيا، أو في هامش صفحة الحياة.
يقول الشاعر:
وما للمرء خير في حياة إذا ما عد من سقط المتاع
نسأل الله تعالى أن يصلحنا وأن يصلح شباب المسلمين وأن يوفقنا وإياهم لما يحب ويرضى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

=================================================================
زهور ورياحين من كتاب أدب الدنيا والدين5






الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله صحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: فقد تكلم المؤلف رحمه الله عن رياضة النفس وسياستها ومما أورده في ذلك:
والحال الثانية من أحوال رياضتك لها أن تصدق نفسك فيما منحتك (الدنيا) من رغائبها، وأنالتك من غرائبها فتعلم أن العطية فيها مرتجعة، والمنحة فيها مستردة، بعد أن تبقي عليك ما احتقنت من أوزار وصولها إليك، وخسران خروجها عنك.
قيل لأبي حازم - رحمه الله -: ما مالك؟ قال: شيئان: الرضى عن الله، والغنى عن الناس. وقيل له: إنك لمسكين. فقال: كيف أكون مسكينا ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

وقال بعض الحكماء: رب مغبوط بمسرة هي داؤه، ومرحوم من سقم هو شفاؤه. وقال بعض الأدباء: الناس أشتات ولكل جمع شتات. وقال بعض البلغاء: الزهد بصحة اليقين، وصحة اليقين بنور الدين، فمن صح يقينه زهد في الثراء، ومن قوي دينه أيقن بالجزاء، فلا تغرنك صحة نفسك، وسلامة أمسك، فمدة العمر قليلة، وصحة النفس مستحيلة. وقال بعض الشعراء:

رب مغروس يعاش به ... عدمته عين مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
فإذا رضت نفسك من هذه الحال بما وصفت اعتضت منها ثلاث خلال: إحداهن: نصح نفسك وقد استسلمت إليك، والنظر لها وقد اعتمدت عليك، فإن غاش نفسه مغبون، والمنحرف عنها مأفون.(أي: ناقص العقل، ضعيف الرَّأي لا تصدر عنه حكمةٌ).
والثانية: الزهد فيما ليس لك لتكفى تكلف طلبه وتسلم من تبعات كسبه.
والثالثة: انتهاز الفرصة في مالك أن تضعه في حقه، وأن تؤتيه لمستحقه، ليكون لك ذخرا، ولا يكون عليك وزرا.
وعوتب سهل بن عبد الله المروزي في كثرة الصدقة فقال : لو أن رجلا أراد أن ينتقل من دار إلى دار أكان يبقي في الأولى شيئا، وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: ما أنعم الله على عبد نعمة إلا وعليه فيها تبعة إلا سليمان بن داود - عليه السلام - فإن الله تعالى قال له: {هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب} (ص: 39). وقال أبو حازم: إن عوفينا من شر ما أُعطينا لم يضرنا فقد ما زوي عنا.
وقال إبراهيم: نعم القوم السؤال يدقون أبوابكم يقولون أتوجهون للآخرة شيئا؟.

وقال سعيد بن المسيب: مر بي صلة بن أشيم فما تمالكت أن نهضت إليه فقلت: يا أبا الصهباء، ادع لي. فقال: رغَّبك الله فيما يبقى، وزهَّدك فيما يفنى، ووهب لك اليقين الذي لا تسكن النفس إلا إليه، ولا يعول في الدين إلا عليه.
ولما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالا يلوي بيده ثوبا فقال: وددت أني كنت غسالا لا أعيش إلا بما أكتسبه يوما فيوما. فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه، ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه.
وقال مورق العجلي: يا ابن آدم تؤتى كل يوم برزقك وأنت تحزن، وينقص عمرك وأنت لا تحزن، تطلب ما يطغيك وعندك ما يكفيك.
وقال بعض الحكماء: من ترك نصيبه من الدنيا استوفى حظه من الآخرة. وقال آخر :ترك التلبس بالدنيا قبل التشبث بها أهون من رفضها بعد ملابستها. وقال آخر: ليكن طلبك للدنيا اضطرارا، وتذكرك في الأمور اعتبارا، وسعيك لمعادك ابتدارا.

وقال أبو العتاهية:
أرى الدنيا لمن هي في يديه ... عذابا كلما كثرت لديه
تهين المُكْرِمين لها بصغر ... وتُكْرِم كل من هانت عليه
إذا استغنيت عن شيء فدعه ... وخذ ما أنت محتاج إليه
ثم الحالة الثالثة من أحوال رياضتك لها أن تكشف لنفسك حال أجلك، وتصرفها عن غرور أملك ؛ حتى لا يطيل لك الأمل أجلا قصيرا، ولا ينسيك موتا ولا نشورا.
وقال مسعر: كم من مستقبل يوما وليس يستكمله، ومنتظر غدا وليس من أجله. ولو رأيتم الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، وإن أقمتم أخذكم.
وقال بعض الحكماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد لا يركن إلى الخدع، ولا يغتر بالطمع. وقال بعض الصلحاء: إن بقاءك إلى فناء، وفناءك إلى بقاء، فخذ من فنائك الذي لا يبقى؛ لبقائك الذي لا يفنى. وقال بعض العلماء: أي عيش يطيب، وليس للموت طبيب.

وقال أبو العتاهية:
ما للمقابر لا تجيب ... إذا دعاهن الكئيب
حفر مسقفة عليهن ... الجنادل والكثيب
فيهن ولدان وأطفال ... وشبان وشيب
كم من حبيب لم تكن ... نفسي بفرقته تطيب
غادرته في بعضهن ... مجندلا وهو الحبيب
وسلوت عنه وإنما ... عهدي برؤيته قريب
وقال بعض البلغاء: اعمل عمل المرتحل؛ فإن حادي الموت يحدوك، ليوم ليس يعدوك.
فإذا رضت نفسك من هذه الحالة بما وصفت اعتضت منها ثلاث خلال:
إحداها: أن تُكفى تسويف أملٍ يُرْديك، وتسويل مُحال يؤذيك. فإن تسويف الأمل غرار، وتسويل المحال ضرار.
والثانية: أن تستيقظ لعمل آخرتك، وتغتنم بقية أجلك بخير عملك. فإن من قصر أمله، واستقل أجله، حسن عمله.
والثالثة: أن يهون عليك نزول ما ليس عنه محيص، ويسهل عليك حلول ما ليس إلى دفعه سبيل. فإن من تحقق أمرا توطأ لحلوله، فهان عليه عند نزوله.
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأبي ذر - رضي الله عنه -: عظني. فقال: ارض بالقوت وخف من الفوت، واجعل صومك الدنيا وفطرك الموت.
وقال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: ما رأيت يقينا لا شك فيه، أشبه بشك لا يقين فيه، من يقين نحن فيه. فلئن كنا مقرين إنا لحمقى، ولئن كنا جاحدين إنا لهلكى. وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه -: نهارك ضيفك فأحسن إليه فإنك إن أحسنت إليه ارتحل بحمدك، وإن أسأت إليه ارتحل بذمك، وكذلك ليلك.

وقال بعض الشعراء:
ألا إنما الدنيا مقيل لراكب ... قضى وطرا من منزل ثم هجرا
وراح ولا يدري علام قدومه ... ألا كل ما قدمت تلقى موفرا
وقال الحسن البصري - رحمة الله عليه -: أمس أجل، واليوم عمل، وغدا أمل. فأخذ أبو العتاهية هذا المعنى فنظمه شعرا:
ليس فيما مضى ولا في الذي ... يأتيك من لذة لِمُسْتَحْلِيها
إنما أنت طول عمرك ما ... عمرت في الساعة التي أنت فيها
علل النفس بالكفاف وإلا ... طلبت منك فوق ما يكفيها

وقال ذو القرنين - رحمه الله -: رتعنا في الدنيا جاهلين، وعشنا فيها غافلين، وأُخرجنا منها كارهين. وقال عبد الحميد: المرء أسير عمر يسير. وقيل في بعض المواعظ: عجبا لمن يخاف العقاب كيف لا يكف عن المعاصي، وعجبا لمن يرجو الثواب كيف لا يعمل.

وقال بعض السلف: الله المستعان على ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف. وقال آخر: الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.
وقال آخر: اعملوا لآخرتكم في هذه الأيام التي تسير، كأنها تطير. وقال آخر: الموت قصاراك، فخذ من دنياك لأخراك. وقال آخر: عباد الله، الحذر الحذر، فوالله لقد ستر، حتى كأنه قد غفر، ولقد أمهل، حتى كأنه قد أهمل. وقال آخر: الأيام صحائف أعمالكم، فخلدوها أجمل أفعالكم.

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: الناس طالبان يطلبان: فطالب يطلب الدنيا فارفضوها في نحره فإنه ربما أدرك الذي يطلبه منها فهلك بما أصاب منها، وطالب يطلب الآخرة فإذا رأيتم طالبا يطلب الآخرة فنافسوه فيها.
ودخل أبو الدرداء - رضي الله عنه - الشام فقال: يا أهل الشام اسمعوا قول أخ ناصح، فاجتمعوا عليه فقال: ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون. إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيدا، وأملوا بعيدا، وجمعوا كثيرا فأصبح أملهم غرورا، وجمعهم ثبورا، ومساكنهم قبورا.
وقال عبد الله بن المعتز - رحمه الله -:
نسير إلى الآجال في كل ساعة ... وأيامنا تطوى وهن رواحل
ولم نر مثل الموت حقا كأنه ... إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس نازل
ترحل عن الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعد قلائل

ونظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فقال: أنا الملك الشاب. فقالت له جارية له:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب ... كان في الناس غير أنك فان






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المسارعة في الخيرات المسارعةُ في الخيراتِ والمسابقةُ إلى الأعمالِ الصَّالحةِ للفوزِ برِضا اللهِ - عزَّ وجلَّ -

بعضه  من الالوكة    قلت المدون لقد أغفل المسلمون أهم مطلوب ساد علي كل المطلوبات الالهية والتكليفات الربانية هو[عمل الصالحات بغير قيد وو تخصي...