وما التوفيق إلا به
ومن كلامهما بعث به لأبي جعفر يوسف بن حسداي
أما الزرقالة إبراهيم بن يحيى الأندلسي فلم يقع قط في طريق صناعة الهيئة. عليه أمرها فهو يقول بحسب سوانحه ولوائحه فتضطرب أقواله ويكثر كلامه فيما لا معنى له. ثم إنه بعد ذلك ذهب عليه معنى من معانيها هو كالمبدأ فيها، وذلك معنى وسط الكوكب، فإنه يعتقد فيه أنه النور الذي يحوزه مبدأ ما كأنك قلت مثلاً رأس الحمل والنقطة التي عليها يلقى الفلك المائل الخط الخارج من مركز الفلك الخارج المركز إلى مركز الكواكب. وهو يكرر هذا المعنى ويردده ويرى أنه من المبادئ الأول التي لا ريب فيها، فهو لذلك لا يزال يناقض بطليمونس في أكثر ما ذهب إليه. وهذا رأي وقع في من تقدمه، وإني لا عجب من وقوع ابن الهيثم على وضوحه، فإنك إن آثرت الوقوف على ما حكيته لك فاقرأ مقالته المعروفة بالشكوك على بطليموس في الفصل الذي يذكر فيه فساد الطريق التي سلكها بطليموس في استخراج ما بين المركزين في كوكب الزهرة وعطارد يتبين لك ما ذكرته. وإذا تأملت تلك المقالة وضح لك من أمر ابن الهيثم أنه لم يقرأ الصناعة إلا من أسهل الطرق، فما عساه لم يلح له لوقته أما اثبت الحكم على إبطاله وأما تركه مغفلاً وأنه لم يكن من أهل هذه الصناعة القائمين بها، وأنه أبعد عنها من الزرقالة بكثير. وهذه صناعة شغلت بها نفسي منذ تركت صناعة الموسيقى، والآن أكملت النظر فيها، إذ كان تبقى علي فيها النظر في مجاري العرض وهو من أصعب ما في هذه الصناعة، وقد أكملته. والمقالة التي قال الزرقالة فيها ما ذكرته هي مقالته في إبطال الطريق التي سلكها بطليموس في استخراج البعد الأبعد لعطارد. وأما صناعة الموسيقى فإني زاولتها حتى بلغت فيها مبلغاً رضيته لنفسي، ثم بعد ذلك صناعة الهيئة، فإني أكملت النظر فيها الكمال الذي يقتضيه ما وجدته من مبادئها. وفي أثناء ذلك تحققت أن كل من يذكر في هذه الصناعة بالكمال لم يحط فيها إلا بالتافه اليسير، واتفق ذلك سفر إلى أشبيلية، وذلك بعد أكمال نظري فيها، فإن كل من يدعى هذه الصناعة ففي أشبيلية مستقرة وإليها مصدره. وفي أثناء ذلك ما توضحت منحى أبي نصر في ضروب البرهان التي عددها، فإن ذلك كان بقي علي فقط فاستوضحته منذ قريب. ثم تجردت للنظر الطبيعي وأنا فيه لا أقدم عليه عملاً. فمن الأمور الظاهرة في السماع الطبيعي وأنانية قد تم، وإنما قصصته لأنه يتضمن المبادئ وكل ما بعده تبع له وخصصت منه هاتين المسألتين لعظم غنائهما: إحداهما في السادسة عندما يذكر مالا ينقسم بالسابق من قوله والذي ذهب إليه من رأيت له تفسيراً في هذا الكتاب إنما يذهب فيه إلى النقطة فيما له وضع، وإلى الآن وما يناسبه في الحركة فيما لا وضع له لا غير. ونعم أن هذا حق. وإذا تأملت محمولات المطالب وجدت بعضها تختص بها هذه، مثل قوله: إن ما لا يتجزأ لا يأتلف منه خط ولا من الآن زمان وأشبابها، وبعضها يشترك فيها مع هذه الخط والسطح مثل قوله: أن المتصل لا ينقسم إلى غير منقسم، وبعضها يعم هذه كلها يعم ما لا ينقسم وبعضها يعم هذه كلها ويعم ما لا ينقسم بالأضافة إلى متحرك. ويقال أن تلك لا تنقسم إما بإطلاق أومن جهة ما كالخط، وهذا الضرب الأخير يقال فيه لا ينقسم بالإضافة إلى ذي المكان، فمكان القلم الذي أكتب فيه لا ينقسم بالقلم الذي أكتب به وأن أنقسم بالإضافة إلى جزء أصغر منه. وهذا المحمول هو في مثل قوله: كل متغير فأول ما تغير إليه غير منقسم. وهذا الضرب من غير منقسم هو المقصود في هذا العلم. وتلك إنما أخذت مقدمات ليتبين هذا. وانظر إليه أبداً في هذه المقالة يقفك على معان كثيرة الغناء في هذا العلم. والمسألة الأخرى هي في السابعة وذلك قوله: كل متحرك فله محرك. فأول ما يجب أن يعلم أنه لم يرد أن يبين المحرك الأول بإطلاق كما يذكره المفسرون الذين رأينا لهم قولاً، ولذلك رأوا أن هذه المقالة فضل حتى أن تاسطيوس ترك أكثرها فلم يحفل بها، بل إنما أدرك المحرك الأول بالإضافة إلى حركة مفروضة، وذلك أن الأول في المحركات يقال على نحوين: أحدهما البريئ من كل حركة جملة، وهذا المذكور في الثامنة، وهو الذي شعر به المفسرون.
والنحو الثاني هو المحرك من حيث هو ساكن، فإن القلم يحرك المداد وهو يتحرك في حين تحريكه، ونسبة يدي إلى القلم تلك النسبة، فستنتهي ضرورة إلى محرك يحرك بحال فيه ثانية لا بأن يحتاج في حال تحريكه إلى أن يتحرك. وهذا الضرب يوجد في الأجسام، فإن كل جسم يحرك جسماً حركة جسمانية فإنما يحرك بأن يتحرك، وقد توجد أجسام تحرك من غير أن تتحرك كالمغنطيس للحديد فإنه يظن أنه يحرك لا بأن يتحرك، فالمغنطيس إذن محرك أول لأنه لا يحتاج في حين تحريكة إلى محرك، وإن لحقه تحرك فبوجه آخر. فأما سائر المتحركات فأمرها بين أن المحرك الأول فيها هو المحرك الأقرب. فإن توهم فيها أن متغيراً تغير بأن يتغير، فلعل ذلك بعكس الحال في حركة المكان، لأن المحرك في أكثر الأمر لا يلي آخر متحرك. وهذا إذا تؤمل وضح الغرض الذي أومأت إليه، وإذا تمسك بهذا النحو من النظر ظهرت به معان كثيرة عظيمة الغناء في هذا العلم. وبعد ذلك فإن كثيراً من الناس زعموا أن ما أتى به أرسطوليس ببرهان أصلاً، والإسكندر يعترف أنه قول حق، غير أنه يسميه منطقياً، والمنطقي عنده أن تكون أجزاء القياس أعني الحدود الوسطى بالعرض ولا يكون أحد قسمي ما بالذات. وليس الأمر في ذلك القول على ما ظن الإسكندر، بل الحد الأوسط ذاتي لكنه ليس بسبب، فهو إذن ذاتي لكنه يبين المتقدم بالمتأخر. وإذا بلغت ذلك ظهر، وظهر بظهوره أشياء لها حدود. حد الأضداد الفاعلة والمنفعلة التي هي أقدم حدودها فإن أرسطو حدها في الثانية من كتاب الكون والفساد بحدود متأخرة، وهذا عظيم الغناء في هذا العلم. هذا آخر كلامه فيما رد به على الزرقالة رحمه الله.
من كلامه في الألحان رضي الله عنه
بسم الله الرحمن الرحيم والله الموفق في جميع الأمور اعلم أن النغم التأليفية هي نسب اختلاط الأفلاك ودورانها ونغم الطبيعة العاملة بالمجاري الصحيحة. ولما راموا تلك الحكاية، وشبهوا تلك النسب الوهمية وحملوها على الطبائع الإنسانية، وجب لكل إنسان أن يميل إلى الطبائع المركبة فيه. فإذا وقع التشاكل وتوافقت الطباع تاقت النفس وفعلت وامتدت روحانيتها وانبسطت وجرى فيها من المادة الروحانية ما يبعثها على الأنسة. ولهذا كانت الفرس إذا أرادت تدبير لذاتها امدت النعم والغناء بأشعار تشارك الغرض الذي يخوضون فيه، فيطاع لهم الرأي الجميل ويوافق الصواب مذهبهم الجميل. وذلك أن ضارب العود إذا كان حاذقاً فطناً، وأراد أن يحرك صاحب صفراء ويهيجه، ألح بالضرب على البم، للمناسبة التي بينهما في الخفة واللطافة يهيج له السرور. وكذلك إذا أراد أن يحرك صاحب الدم ويهيج سروره ألح بالضرب على المثنى للمناسبة التي بينهما فلذلك يهيج الدموي المزاج، ويبعث له السرور والجذل ويتحرك له الفرح، ووزنه ضعف وزن الزير. وإذا أراد أن يحرك صاحب البلغم إلى طبعه ألح بالضرب على الزير، فإنه للمناسبة التي بينهما الكون طيبعتهما تهيج له الأحزان وتثير له الغموم والبكاء والنياحة. ووزنه ضعف وزن المثنى. وكذلك إذا أراد أن يحرك صاحب سوداء ويميل به إلى طبعه ألح بالضرب على المثلث للمناسبة التي بينهما لكون طبيعتهما طبع الأرض في حصامها وغلظ جسمها فيحدث له رعب شديد وجزع لأن السوداء أصل للفزع وعنها يتولد. ووزنه ضعف وزن البم، وأربعة أضعاف وزن المثنى، وثمانية أضعاف وزن الزير. قال: وبالجملة فترى كل صاحب طبع يتحرك حينئذ في مذهبه على قدر طبعه. قال: وينبغي للضارب، إذا أراد أن يوفي النغم حقها ويبلغ بالأنفاس غاياتها، أن يلتفت إلى المخارج الأربعة، وهي الصدر والحلق والجبهة والرأس، فيجعل بإزاء الصدر البم للمناسبة التي بينهما والصوت، ويجعل بإزاء الحلق المثلث، ويجعل بإزاء الجبهة المثنى، ويجعل بإزاء قحف الرأس الزير. وكلما ارتفع الصوت إلى الرأس نزلت يد الضارب في الأوتار على النظام والترتيب الذي جعلته الحكماء للأصابع الأربعة، فإنها جعلت السبابة للبم، والوسطى للمثلث، والبنصر للمثنى، والخنصر للزير. قال: وينبغي أن تحذر الضارب أن يركب بعض الأوتار بعضها في المجرى فيولد ذلك ضرراً في الأوتار وفساداً في أصولها متى مسها المضراب أو حثها الضارب. قال: فهذه هي الأصول التي إذا راعاها الضارب مشت أحواله ونغماته على السنن المستقيم والطريق القويم، وفاق أبناء جنسه، وكان يومه خيراً من أمسه.
ومن كلامه على إبانة فضل عبد الرحمن بن سيد المهندس
بسم الله الرحمن الرحيم البسائط منها مستوية وتدعى سطوحاً، ومنها غير مستوية وتسمى باسم الجنس. والبسيط الملاقي لبسيط إما أن يكون بسيطاً أو سطحاً. وكل سطح يلقى بسيط المخروط فإما أن يمر برأسه أو لا يمر. وقد تبين في الأولى من المخروطات أن كل سطح يلقى بسيط مخروط ولا يمر برأسه فإنه يقطعه. وكل بسيط يمر برأس مخروط فإما أن يماسه أو يقطعه، فإن ماسه فإما أن يماسه على نقطة أو يماسه على خط مستقيم، فإن ذلك مما بين البرهان أن تماسه لا يكون بإحدى هاتين الجهتين، ولم يتبين ذلك أبولونيوس. وكل سطح يمر برأس المخروط ويقطعه. وقد تبين في الأولى من المخروطات أن الفصلين المشتركين خطان مستقيمان، والقطع سطح يحسه يحده خطان مستقيمان يحيطان بزاوية هما ضلعان من أضلاع المخروط. وإذا كان ذلك، فكل سطح يقطع بسيط مخروط ولا يمر برأسه فقد يمكن أن يمر برأس المخروط سطح مواز له. فإن كان السطح القاطع موازياً لسطح يماس على نقطه فذلك القاطع ناقص مكان. وإن كان يماس على قطع فذلك مكان قاطعاً فالقاطع زائد. وإذا تمسك بهذا الأصل. ثم تلي بما يقتضيه التحليل، وضح بأيسر تأمل أن لكل قطع أصناف من خطوط الترتيب يكون منها على نسب متباينة، إذا كان بعضها يقطعها بنصفين، وهي الأقطار التي ألفاها من المهندسين، وبعضها يقطعها على نسب أخر من غير أن يوجد في إثبات وجود أحدها الصنف الآخر، وعند ذلك نتصور القطوع بأقدم صفاتها بالإضافة إليها، وتترتب سائر الخواص على رتبها فلا يتقدم بعضها على بعض في المعرفة حتى يظن لذلك بأن بعضها أقدم في الوجود من بعض، وتسقط عند ذلك كثير من تلك الأشكال الكثيرة البراهين، ويكون الاعتماد في استنباط أمور أخر أعظم فائدة وأكثر تصرفاً. وهذا النحو من النظم هو الذي وقع عليه ابن سيد المهندس فشف به على من شاركه من متقدمي المهندسين في المطالب التي شاركهم فيها. ثم إنه لم فرغ من هذا نظر في البسائط الملاقية لكل بسيط، مخروطاً كان أو غير مخروط، فوجد فصولها المشتركة ليست جملة في سطح واحد، فوضع سطوحاً تكون في بسيط الأجسام المقعرة على نسب معلومة، ثم أخذ الفصل المشترك بين السطحين نقطة، وأخرج منها خطاً على وضع معلوم إلى ذلك السطح، ثم أداره على ذلك الفصل المشترك فرسم طرفه في السطح.. إن ذلك الخط غير مستقيم ولا هو واحد من الخطوط المنحنية الثلاثة. ثم نظر في خواصه واستنبط منها أشياء، فكان نظره في هذه الأمور شبيهاً بنظر المتقدمين في الخطوط الثلاثة. غير أنه لم يتسع في العرض لممانعة عوائق زمانه ولانفراده، ويحتاج نظره إلى تتميم مناسب لتتميم نظر من تقدم. ومما اختص بالنظر فيه ابن سيد دون من تقدم من المهندسين ما أصفه: وهو أنه يعمد إلى قطعين من أي أصناف القطوع الثلاثة كانا، ويضعهما متقاطعين، ثم يفرض نقطتين في غير سطح القطعين في ناحية واحدة منه ثم يقيم عليها مخروطين فيصير المخروطان متقاطعين ولهما فصل مشترك، ثم يقيم سطحاً يلقى سطح القطعين على زوايا قائمة، ثم يعلم على الفصل نقطة، ويخرج منها خطاً على وضع يوجبه التحليل يلقى السطح القائم، يم يدير ذلك الخط على وضعه على الفصل المشترك، ويرسم طرفه في السطح خطاً منحنياً قوته قوة ذينك القطعين، ثم يضع أيضاً هذا القطع مع آخر من الثلاثة أو آخر في رتبته ويصنع كذلك فيكون الخط المنحني يقوي قوة القطعين، فيمر الأمر إلى غير نهاية في الطول والعرض. وبهذه الطريق استخرج كم خط نشأ بين خطين يتوالى على نسبة واحدة، وبهذه السبيل قسم الزاوية بأي نسبة عددية شاء. ويشبه توليد هذه القطوع التوليد الذي ذكره أوقليدس للخطوط في آخر المقالة العاشرة من كتابه. وحيث انتهيت إلى مثل هذا الموضوع من الأصل وجدت ما مثاله: قابلت جميع ما في هذا الجزء بجميع الأصل المنقول منه. وهو بخط الشيخ العالم الورع الزاهد البر العدل التقي عصمة الأخيار وصفوة الأبرار السيد الوزير أبي الحسن بن عبد العزيز بن الإمام السرقسطي، وهو ينظر في أصله المحبوبة من يد فريد دهره وبشير عصره ونادرة الفلك في زمانه أبي بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجة قراءة بقراءة على المصنف بإشبيلية. والعزيز المذكور أدام الله عزه يومئذ عامل عليها ومستفاد لخراجها وما أضيف من العمل إليها. وكان فراغ الوزير أدام الله عزه من قراءة هذا الجزء عليه في تاريخ آخره اليوم الخامس عشر من شهر رمضان سنة ثلاثين وخمسمائة. وكتب الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن النضر بقوص في شهر ربيع الآخر سنة سبع وأربعين وجهة كذا في الأصل والراجح أنها خمسمائة كما يتضح ذلك مما سيرد بعد. نسأل الله سبحانه علماً نافعاً في الدنيا والآخرة. إنه على ما يشاء قدير.
وكتب رضي الله عنه إلى الوزير أبي الحسن بن الإمام
علمي بفضيلتك الفكرية والخلقية لا أجد معه إلى مخالفة إرادتك سبيلاً، لتكون سوء عشرة أوض بمعلوم، وكلاهما شرارة. وكنت قد قلت أنه بلغك أن عبد الرحمن بن سيد كان قد استخرج براهين في نوع هندسي لم يشعر به أحد قبله ممن بلغنا ذكره، وأنه لم يثبتها في كتاب، وإنما لقنها عنه اثنان: أحدهما أنا، والآخر تلف في حرب وقعت في الأرض التي كنا فيها، وبلغك مع ذلك أني زدت عليه حين استخرجها والأمر أعزك الله على ما بلغك، ويكون ذلك بالعزم على أن أكتب لك كتاباً يتضمنها، وأن أضيف إليها مسائل قد كنت ذكرت لك أني صنعت براهينها مدة الاعتقال الثاني الذي كنت فيه. وقد كتبت إليك كل ذلك دون تفصيل، قال الذي صنعته إنما هو تتميم لما صنعه الرجل وتصريف له، فالمحرك الأول أحق بشرف الحركة من المحرك الثاني إذ كان متحركاً عنه، وقد كتبت إليك ذلك في هذا الكتاب. كل فعل إنساني فإنه بالذات يسدد نحو غاية ما إنسانية، وهو الخير الذي ينال بذلك الفعل فمقصد تدبير المنزل الثروة، ومقصد التفكر العلم أو الظن. وقد توجد أفعال إنسانية تلحق عنها لواحق، قد يمكن في بعض تلك اللواحق أن تكون متشوقات، فتنصب غايات، فتفعل تلك الأفعال التي تلحقها تلك اللواحق المتشوقة لأجل تلك لا لأجل ما هي له بالذات. ومن هذا تتقوم صنائع كثيرة وقوى بعضها شرور كالمكر والتمويه والرياء وصنائع المستعبدين وما جانسها، وبعضها خيرات كتعلم الاحتذاء والرياضة بالأفعال التي تفعل لا لينال بها غاياتها الذاتية، بل لتنال أشياء سددت الأفعال بحسبها وهي أصناف: منها ما يطلب فيها أمور مباينة في الجملة لغاياتها كالمصارعة، فإن غايتها الذتية الغلبة، لكن قد تطلب بها الصحة. والصحة قوى أو قوى للجسم المتنفس من حيث هو جسم متنفس، وهذه يقال لها رياضة وأفعال رياضية. والرياضة بالجملة كل فعل إنساني قصد به أن تتمكن عنه قوة ما، أو تصير بحال أحسن. فأما الأفعال التي ليس يقصد بها حصول ملكة لم تكن فليست برياضة، ولذلك لا يعد تعلم الاحتذاء في الرياضة. فإن متعلم اللحن ليس يتغنى ليطرب. بل ليحصل اللحن ملكته، فإذا حصل له اللحن وكمل وردده لتمكن في نفسه ويكون أقدر على أدائه قيل لذلك الرديد ارتياض في اللحن. وقد لخصت تلك الأصناف التي تقال عليها الرياضة في مواضع أخر. والفكرة صنفان: أحدهما صنف موضوعاته الذاتية الأمور الممكنة من جهة ما هي ممكنة، وغايتها بالذات الظن الصادق، فإن وقع اليقين عنها فالبعرض. ومنها ما موضوعاتها الأمور الضرورية من جهة ما هي ضرورية، وغايتها اليقين فإن وقع عنها الظن فبالعرض. والأول يخص الروية، والثاني لا اسم له. وقد يسمى في الوقت بعد الوقت الفكرة البرهانية والفكرة اليقينية. وقد يقال الروية على كليهما بالعموم. والروية والفكرة البرهانية ففي كل إنسان لم تلحقه آفة، وله قوة على قبولها. فأما وجود هذه القوة البرهانية ملكة فإنما هي للإنسان بالاكتساب. وقد توجد لبعض الناس بالطبع على ما يقوله تامسطيوس في القياس في ذوي الفطر الفائقة. فأما الروية فالاستعداد لها ينشأ بتنشئتنا، وهي تكمل باكتمالنا. وقد لخص أرسطو أمرها في السادسة من كتاب نيقوماخيا وليس الارتياض نحوها صناعة محدودة، ولا للأفعال الرياضية فيها اسم تختص به، والتجريب من أصنافها. وأما القوة على الفكرة البرهانية، فإن الرياضة التي تصيرها ملكة أصناف كثيرة، وهذه تسمى عند القدماء التعاليم والعلوم الرياضية. فأما صناعة المنطق فليست برياضة، بل هي صناعة تشتمل على أنواع الفكر وكيف تكون، وتلخص كل واحد من أصنافها. ونسبها إلى العلوم الرياضية نسبة النحو إلى قصائد الشعر وأجزائها والخطب وأجزاءها ولذلك يروض نحويوا العرب من يعلمونه بتكليفهم إعراب أشعار العرب كشعر امرئ القيس وغيره. وهذه التعاليم أربعة أجناس، ويشتمل كل جزء منها على أجزاء وما يجري مجرى الأجزاء، وقد لخص ذلك في كتاب البرهان. فأما هل كل واحد منها يروض قوة جزئية غير القوة الجزئية التي تروضها كلها يروض نوعاً واحداً من الرياضة وتتعاون له، فذلك مما يليق بغير هذا النحو. فقد يظن أن الكل متعاونة على تخريج الذهن وتسديده نحو العلم البرهاني، إذ كان بالطبع إنما عرف وألف الطرق الخطابية. إلا أنه إن كانت صناعة الارتماطيقي الموضوعة في كتب الارتماطيقاً وغيره تعليمية وأقاويلها فرياضتها غير رياضة الهندسة، رياضة الهندسة واحدة بالنوع. وقد يظن بأبي نصر أنه يرى الأقاويل الموجودة في الارتماطيقا بلاغية على ما يفهمه قوله في شرح الخطابة. فإما كيف الأمر فيه فإن القول لائق بالارتماطيقى إذ كانت أول التعاليم في الرتبة وقوى الفكرة البرهانية أخرى. والقوة التي يوجد بها البرهان إما أن تكون كالغاية لها أو تكون أشرفها. وقد يظن بقوة تأليف الحدود أنها أشرف، إلا أن ذلك بوجه آخر، وقد تبين ذلك في العلم الطبيعي. والبرهان بالعموم على ما لخص في مواضع كثيرة ثلاثة أصناف: برهان الوجود، وبرهان السبب، والبرهان المطلق وهو الذي يعطي الوجود والسبب، وهذا أشرف أصناف البراهين كلها. والارتياض في كل واحد من هذه إنما يكون بأن تفعل أفعالها على ما تلخص قبل. فالارتباض الذي يجعل القوة البرهانية ملكة، إنما يكون باستعمال البراهين المطلقة، وذلك بنحوين أحدهما كالغاية للآخر: أما الأول الذي هو كالتوطئة فهو إن نزاول براهين قد استنبطت على مسائل محدودة مؤلفة من أمور ذاتية ضرورية. والثاني الذي هو كالغية أن يستنبط المرتاض براهين أكثر من واحد على أمثال هذه المسائل. وظاهر على ما تلخص في البرهان أن الحد الأوسط يكون سبباً لوجود المحمول في الموضوع، فبالضرورة يكون الحد الأوسط إما حداً أو جزء حد. وهذا الارتياض ضرورة إنما يكون فيما تصور بما به قوامه، لأنه إن تصور لا بما به قوامه لم يكون فيما تصور بما به قوامه، لأنه إن تصور لا بما به قوامه لم يكن الأوسط شيئاً، وكان القياس إما دليلاً وإما قياساً صادقاً، وهو الذي يسميه الإسكندر الأفروديسي برهاناً منطقياً. ولما كانت التصورات، كما قلناه في أقاويلنا في صناعة النجوم، منها أول وهي المناسبة للمقدمات الأول، ومنها ما توجد بنحو آخر على ما توجد عليه المقدمات التي ليس من شأنها أن يوقعها قياس، وكانت هذه إما أن تكون متقدمة أو متأخرة، والمتقدمة هي التي بها يكون الارتياض، وكانت الأطوال وما يعرض لها ويوجد لها مما يتصور بهذا النحو، كانت مما يمكن أن يرتاض بها. فإن المثلث قوامه بأنه سطح تحيط به ثلاثة أضلاع، والزاوية القائمة قوامها بمساواتها للزاوية التي صامها وقد يظن ببعض البراهين المكتوبة أنها دلائل، فإن لمتشكك إن يتشكك فيقول: إن المهندس قد يبين المسألة وعكسها، فإن كان برهان أحدهما برهاناً مطلقاً فالآخر ليس كذلك، فبان أن كل مثلث مستقيم الخطوط زواياه مثل قائمتين ليس ببرهان مطلق. وقد لخصنا في أقاويلنا في البرهان ن أمثال هذه ليست مباينة للقضايا المؤلفة من المحمولات على المجرى الطبيعي، بل إنما هي تتميمات للبراهين الكائنات عليها. وإما هل يكون في الأقاويل الهندسية أمور بالعرض، فذلك إنما يكون عن سهو المهندس. مثال ذلك ما بينه أوقليدس إن ضلع المسدس إذا اتصل بضلع المعشر انقسم الخط على نسبة ذات نسبة وطرفين، فإن ذلك إنما هو لضلع المسدس بالعرض لما عرض إن كان مساوياً لنصف وتر الدائرة، وهو مثل قولنا الطافي على الماء إذا اتصل بالنار صار لهباً، وليس ذلك للطافي بأنه طاف، وإنما ذلك للطافي بأن عرض له إن كان زيتاً. وهذا قل ما يوجد في كتب المهندسين، وإنما تسامح في ذلك أوقليدس، أو ذهب عليه، لتلازم وجود ضلع المسدس ونصف القطر بالتكافؤ لزوم الوجود.
اكتساب البراهين
الاستنباط للبراهين متقدم في الوجود على اكتسابها بالتعلم، فإن اكتسابها بالتعلم إنما يتقدمه بالزمان فقط عند إنسان ما، لكن بعد إن يتقدم اكتسابها ضرورة عند إنسان غيره بالاستنباط، ولذلك كان القول فيها متقدماً بالرتبة على القول في تعلمها. وأيضاً فنما يوصف بصناعة الهندسة من كانت له قوة على صنعة براهينها، أما من لم تكن له تلك القوة، واقتصر على حفظ البراهين المستنبطة حتى يكون كما قال شاعر يونان كتاباً مبسوطاً، فإنما يقال له مهندس على طريق التشبيه بذلك. فلنقل فيما يخص الاستنباط الهندسي: والمطالب في صناعة الهندسة إما مركبة وإما بسيطة. والمركبة مثل قولهم إن الخط الأوسط بين خطين على نسبة تقوى على مسطح الأول في الثالث. وأما بسيطة، والبسيط على ما بين في بأرامينياس مثل قولنا هل الخلاء موجود. والمهندس فلا يستعمل البسيطة أصلاً، بل إنما يستعمل قوتها، ويستعملها على نحوين. مثل قولنا: نريد أن نبين هل يمكن أن نحد مرآة تكون قطعة من قطع مكان يحرق جسماً يكون فيها على وضع إذا وصلنا بينها وبين الشمس وبينها وبين المحرق كانت الزاوية التي يحيط بها الخطان قائمة، ومن عادتهم إذا قالوا ذلك وصولا القول: فإن كان ذلك فكيف نحده، وهذان مطلبان. فإن قوة قولهم هل يمكن أن يحد هي قوة قولنا هل هو موجود، أم هل هو حال لا يمكن وجوده. وربما سلكوا غير هذا المسلك ففصلوا الحد، وحملوا بعض أجزائه على بعض، ثم بينوا وجود المحمول للموضوع ببرهان، فإذا تبين ذلك القول ألفوا الحد، مثل ما يفعل أوقليدس في الخطوط الصم في المقالة العاشرة من كتابه، وكما فعل ذلك أبولونيوس في القطوع الثلاثة في أول كتابه في المخروطات، إذ كانت هذه كلها ليست ببنية الوجود. وليس كذلك المثلث المتساوي الأضلاع ولا المخمس، ولذلك لما كان بين الوجود، وكان قوله الذي يتصور به حداً، لم يستعمل فيه واحد من هذين النحوين. فهذه أ؛ د أنواع المطلوبات، وبين أن غاية هذا النحو هو التصديق. وهذان هما نحواً التصديق اليقيني في هذه الصناعة خاصة. وقد يطلبون جزءاً آخر من الطلب، مثل ما افتتح به أوقليدس كتابه، وهو قوله: كيف نعمل على خط مستقيم معلوم القدر مثلثاً متساوي الأضلاع. ويظن أن غاية هذا النحو ليس بالتصديق، فإنه إنما يصنع أولاً المثلث الذي يكون رأسه تقاطع الدائراتين هو المثلث الذي يكون رأسه بهذه الصفة، ويعطى البرهان على ذلك، فيصل بهذا النحو إلى مطلب مركب، وهو أن كل مثلث برأسه تقاطع الدائرتين فهو المثلث المتساوي، ثم يعطي البرهان على ذلك. فغايته القصوى إذن هي وجود البرهان، وبهذا تكون المسألة ارتياضية. فإما ما يظن به من إفادته القوة على إيجاده في المواد على مثل ما يستعمل كثيراً، مما تبين في الصناعة النظرية، أهل الهندسة الفاعلة، فذلك بالعرض لا بالذات. فإن كثيراً من المطالب النظرية في هذه الصناعة يتبين وجودها بأنفسها. مثال ذلك وجود وعاء من جسم شكل بسيطه مستطيل فإنه لمجسم وكانت قاعدته طوله، فإنه الشاهد إذا شاهده مرة واحدة في جسم واحد، كأنك قلت فضلة توب أو قطعة رق، وقع له اليقين في كل مجسم بالإطلاق مصنوع من مختلف الأضلاع. غير أن هذا البيان لا يكون هندسياً أصلاً، وإنما يكون هندسياً إذا قال نسبة المجسم إلى المجسم، إذا كانا لا بالأحوال كذا، هي النسبة التي تؤلف من قواعدها وارتفاعها، ثم أتى بالبرهان عل ذلك. وإنما يوقع الظن بذلك أن كثيراً من المطالب الهندسية مبادئ لأعمال الهندسة الفاعلة كالبناء والنجارة، وهذا أمر عرض لها من حيث هي أمور موجودة لا من حيث هي صناعة رياضية. ولما ظن بها هذا الظن، وكانت أعمال الهندسة منافع، كانت عند من ظن بها هذا الظن هذه المطالب أشرف مطالبها. ومن كانت عنده الهندسة الفاعلة جملة قل عنده لذلك جدوى الهندسة وأطرحها وهمه. والسبب في ذلك كله خفاء غايتها الذاتية من ظهور غايتها التي لها بالعرض. وظاهر أن هذا النوع من النظر إذا أخذ من حيث هو ارتياضي نظري، فإنما يفيد وضع المسائل المركبة، فإن وضع المسائل مركبة ليس مما يرشد إلى نفسه، بل يحتاج إلى صناعة وتأن. ولما كانت العبارة عن الأمور الهندسية بالألفاظ الدالة على معانيها يطول، استعمل المهندسون عوضها العبارة بعلامات، إذ كان استيفاء العبارة عن بعضها في غاية العسر والطول ولذلك نستعمل نحن ذلك فيما نقول لا في المثل. فليكن خط أب مفروضاً، وليعمل عليه مثلث أبج كيف كان. فيمكن أن يكون على خط أب مثلثات لا نهاية لها تكون زواياها مساوية لزاوية ج، ومثلثات زواياها أعظم أو أصغر، ونريد أن نعلم هل ينتهي دائماً إلى خط واحد أي خط كان أم لا، فإن كان لا ينتهي فنضع ذلك مطلباً، وتقول: كل مثلث يعمل على مثلث خط أب تكون زاويتاه مثل زاوية ب فسينتهي بعضها إلى خطوط مختلفة. وإن تبين أنها تنتهي إلى خط واحد، وهو قوس من دائرة حال قطرها من وتر القوس حال محدودة، جعلنا ذلك مطلباً، وتلونا ذلك استعمال البرهان عليه. وكذلك إذا فرضنا خط أب عليه نقطتان ح د، وأردنا أن يكون سطح أد في ح? د، مثل مربع د ب، وسطح ب ح في ح د مثل مربع أح، ثم وقفنا الفكرة الهندسية على أنا إذا وضعنا هـ? ز مفروضاً وكان ر ط المساوي له يحيط معه بزاوية، وأنفذنا ر إلى م، وط ز إلى ب، وجعلنا نقطة هـ? رأساً لمكان ضلعه القائم هـ? ز، وهو قطره. إلى هنا وجدت هذا القول الحمد لله على إحسانه، وصلواته على خير خلقه محمد وآله وصحبه.
ومن كلامه رضي الله عنه في ماهية الشوق الطبيعي
قال الوزير أبو بكر رحمه الله. التشوقات النظرية الطبيعية أولها وأقدمها لا بالزمان فقط بل وبالطبع، وكما يتقدم السبب المسبب وهو الذي به نقول ما هو، وهو التشوق إلى ما به قوام ذلك الشيء. وهذا قد يمكن أن يعطي خلواً من الهيولى، فإذا أعطى خلواً من الهيولى حدث تشوق آخر، وهو الذي نسأل بعما ذا هو، فإذا علمناه واتفق أن أعطى هذان فقط حدث تشوق آخر، وهو الذي فوق هذه الصورة هذا الموضوع ولأي شيء لقريب وكيف صار له بعد أن لم يكون له في وجوده، سواء كان كائناً أو لم يكن، وهذا السبب هو المحرك القريب. فإذا أعطيناه حدث لنا تشوق رابع وهو لم كان هذا، وماذا كان القد في تأليف هذا المعنى إلى هذا الموضع الذي من أجله حرك المحرك، وما القصد في هذا الوجود، فإن لنا بالطبع هذا التشوق، ولذلك يعد أرسطو قولنا: أن الطبيعة لا تفعل باطلاً وإنما تفعل من أجل شيء، في المقدمات الأول، فإن هذه المقدمة لو كانت باطلاً حتى يكون فعل الطبيعة نحو شيء إنما هو بالعرض لا بالذات، لكان هذا التشوق غير طبيعي. فلننزله كما هو في نفسه، فإذا أعطيناه فقد كمل العلم بالشيء، وكف التشوق جملة. وإذا تأملنا كل واحد من هذه الأربعة، التي هي الصورة والمادة والفاعل والغاية، تنزل كل واحد من هذه منزلة الشيء، ونشأ تشوق إلى الوقوف على أسبابه. وهذا لا يمر إلى غير نهاية فسنصل إلى مادة لا مادة لها أصلاً، وإذا وقفنا على مادة لا مادة لها لم ينشأ تشوق وكف هذا التشوق ولم يوجد. فإذا هذا التشوق إنما كان من أجل هذا السبب، فهذا السبب له إلينا نسبة طبيعية. لأنا متى لم نجده كان تشوق، فوجود هذا هو الغاية التي إليها تتحرك بهذا التشوق إنما كان من أجل هذا السبب، فهذا السبب له إلينا نسبة طبيعية. لأنا متى لم نجد كان تشوق، فوجود هذا هو الغاية التي إليها نتحرك بهذا التشوق. وكذلك متى وصلنا إلى فاعل لا فاعل له أصلاً كف هذا التشوق، فإذن ذلك الفاعل كان لمتشوق بالطبع. وكذلك إذا وصلنا إلى صورة ليست أصلاً متصورة بغيرها كف أيضاً ذلك التشوق. وكذلك في الغاية القصوى إذا وصلنا إليها كف ذلك التشوق. لكن إذا كف تشوق واحد، كتشوق الهيولى، فهل ينزل منزلة الأوساط فتكون فيها التشوقات الثلاثة أم لا يكون فيها تشوق أصلاً. فإن لم يكن كذلك فأي التشوقات يبقى وأيها يذهب، وهل كلها كذلك أو بعضها، وما نسبة التشوقات الطبيعية بعضها من بعض، فنقول: إن التشوق الذي يكمل بذلك السبب، فليس يمكن أن يكون فيه، فإنه لو كان فيه لم يكن ذلك السبب أولاً. فأما أنه يمكن أن ينشأ فيه موضع سؤال، فذلك ممكن في بعضه. أما وجود المادة فينقطع عنه بذاته أولاً التشوق إلى وجود السبب والذي على طريق المادة، وينقطع عنه بالقصد الثاني السؤال بما، لأنها غير ذات صورة كما تبين في الأولى من السماع الطبيعي، فإنها إن كانت ذات صورة فهناك مادة أقدم، ولذلك ينقطع عنه من ذلك السؤال عن الفاعل، لأن كل ما ليس بذي صورة فليس هناك محرك ولا ما يجري مجراه. وأما السبب الذي على طريق الغاية فلم ينقطع عنه، فإنه لو انقطع عنه لكان موجوداً بنفسه، وهو إنما هو موجود بالفعل، فكيف يكون موجوداً على أن وجوده ذاته، فهذا السبب يبقى دائماً. وكذلك الفاعل والمحرك يح? فإن الواجب أن ننتهي إلى فاعل لا مادة له، لأنه إن كان ذلك مادة لزم هناك أن يكون فاعلاً أو ما يجري مجراه، وهو الذي به صارت هذه الصورة في المادة، سواء كان ذلك تكوناً أو وجوداً كصور الأجرام المستديرة في موادها. وكذلك الغاية لأنها إن كانت صورة في مادة لزم أن تكون هناك الأربعة، فصارت غير غاية قصوى. فإما الصورة فليس يلزم فيها ذلك من هذا الوجه أولاً، فإنه إن وضعناها في مادة لم يلزم عنها ضرورة أن لا تكون صورة قصوى، بل يلزم عنها أن تكون لها غاية ومحرك، وهو السبب الذي به تكون الصور من الهيولى. لكن إن نحن نظرنا إلى الغاية، فإن كانت غير الصورة، فهي خارجة عنها، ففي الصورة جزءان أحدهما أكمل من الآخر، والأكمل هو صورة، فلم تكن صورة قصوى. ولننزل الأمر على أن الصورة القصوى ليست في مادة. فهذه إذن هي مبادئ التشوقات، فإن كانت الصورة والغاية والفاعل واحد بالموضوع كثيرة بالقول، فذلك المطلوب الطبيعي بهذه القوة النظرية التي لنا بالطبع. لكن قد توجد هنا تشوقات أخر غير هذه، وهو تشوقنا الذي يدل عليه حرف هل. وهذا التشوق قد يتقدم في الزمان السؤال بما، ولكن ذلك بالعرض، لأنا إنما نسأل بهل بعد أن يكون الشيء عندنا متصوراً بوجه ما، وأنه معنى ما معقول، ثم نطلب هل هو موجود أم لا. وهذا السؤال إنما يكون فيما لم يعطيناه الطبع، وفيما هو ليس لنا معلوم بالطبع. فإذا صار في حال التصورات الطبيعية، صارت له التشوقات الأربعة. فالسؤال بهل هو موجود، هو لنا بالحال التي لنا من غير الطبع، وإنما هو طبيعي بوجه آخر. فإن السؤال بهل هو إذا كان القضية المقرون بها حرف هل إنما هو ليصير به ذلك الموضوع في الحال التي من التصورات الطبيعية، وبينا أنا قد عرفنا ما الذي دل عليه بذلك القول. ويتبين في كل أمر طبيعي أن له إلى أذهاننا نسبتين: إحداهما كالمادة، وهو أن يكون متصوراً مطلقاً. والثانية شيء يوجد في التصور، ولا يمكن أن يوجد خلواً منه، وهو التصديق إن ذلك المعنى مستند إلى مشار إليه، وإن ما له ماهية خارج الذهن بها وجوده وليس وجوده بما له في الذهن حتى يكون قوامه وإنما هو بالذهن فقط، وإن ذلك التأليف الذي له إنما استفاده من الذهن، والذهن سبب وجود ذلك التأليف فيكون سبب وجوده لا في ذاته، بل خارج ذاته وقد استقصى ذلك في مواضع آخر. وكل متحرك فله محرك، والأمر إذا كان مزمعاً أن يكون يقيناً فيجب أن يكون قبل بالقوة يقيناً، فالبضرورة سيكون أمر يصيره شيئاً بالفعل، والاعتقاد بحال الذهن من حيث هو ذلك التصور موضوع، لأن التصور كما قلنا إنما هو يجري مجرى الهيولى، فإن كان إنما صيره في الذهن حال خارج عن التصور، كان ذلك سبب وجوده في الذهن فذلك مفارق لذاته، فقد يمكن أن يوجد من حيث هو ليس متصلاً بذلك السبب. وإذا ورد من تلك الجهة لم توجد له تلك الإضافة، فلم يكن يقيناً، وعاد الذهن إلى حالة الأولى. فلذلك كان من خاصة اليقين إلا يزول بعناد أصلاً. وإذا صار في الذهن من حيث هو ما هو، وتحرك من القوة إلى الفعل بالقوة المستفادة، خرج من القوة إلى الفعل. وحال هذا من النفس يقال له يقين، فلذلك إما أن لا يعلم بسبب هو تصور، وذلك هو المعلوم بوسط. وإما أن يعلم بوسط هو سبب وجوده، وإذا علم على هذا الوجه كف التشوق لذلك السبب. فلذلك البرهان الذي هو حد بالقوة أكمل البراهين، والحد المؤلف أكمل الحدود، لأنه ليس يبقى بعده تشوق أصلاً. وبين أن أجزاء أمثال هذه البراهين، ينبغي أن تكون أجزاء الحدود. وظاهران في أجزاء الحدود ما يليق أن يكون نتيجة برهان، ومنها ما يليق أن يكون مبدأ برهان. وأيضاً فإن أجزاء الحدود يجب ن تكون أسباباً وذاتية. وظاهر أن القسمة لا تعطي ذلك بما هي قسمة، بل هذا شيء يجب أن يكون معلوماً عند القسمة، وهذا العلم هو المشتهر بالعرض لا بالذات. وكذلك يعرض مثله في طريق التركيب، فإن التركيب بما هو تركيب لا يلزمه ذلك. فإن القصد بذينك النظرين الحدود، فكيف يمكننا أن نستعمل الحدود فيهما، ولا طريق إلى الوقوف على أن المحمولات ذاتية إلا بالحدود. فأما البرهان فإن ذلك من أجل ما به وجوده، ولا يلزم ذلك فيه طريق دور، فإن الموضوع فيه ليس المحدود بل هو جزء الحد، وليس في وضع علم حده مصادرة على المطلوب. فبين أن العلم بالبرهان إذا كان بهذه الصفة لم يفد أسباب الشيء، وظاهر أن نسبتها إليه هي الذاتية، غير أنه يفيدها وهي غير محمولة عليه، لأنه إنما أفادنا الأجزاء وهي بحال لا يمكن ن تحمل عليه. مثل أن يكون جزء البرهان جزءاً غير تام، فلذلك يبقى أن تصير تلك الأجزاء بحال تحمل عليه، ويركبها تركيب تقييد، فيصير ذلك البرهان الذي كان حداً بالقول حداً بالفعل. فأما إذا كان المطلوب حده طرفاً أصغر في القياس، فإن الوسط إن كان غير سبب وللموضوع، لم يلزم ضرورة أن يكون ذلك سبباً للموضوع ولا ذاتياً له، فكيف يمكن أن يكون منه حد، فيحتاج إلى سباره بأشياء آخر غير البرهان. وأن كان الوسط سبباً، وكان كالطرف الأعظم كلياً له، كان الطرف الأوسط جزء حد، وكان الطرف الأوسط الجزء الأول القريب منه، ومنه يأتلف الحد. فقد ظهر مما قلناه نسبة البرهان إلى الحد، وما مقدار غنائه فيه. وأجزاء الحدود المؤلفة بالطريق الصناعي وغير المؤلفة، نسب أجزائها بعضها إلى بعض واحد بالنوع، فإن كان هناك جزء وهو بالذات مبدأ برهان، فهناك جزء يجري مجرى مبدأ برهان. وإن كان هنالك جزء هو نتيجة برهان، كان هناك جزء يجري مجراه، فتكون الحدود. وإن كان هناك حدان، أحدهما متقدم للآخر، والمتقدم هو مبدأ برهان والمتأخر نتيجة برهان، ففي الحدود الأول ما هو كذلك. فتكون الحدود إما حداً هو مبدأ برهان، أو حداً يجري مجرى مبدأ برهان. ويكون حد هو نتيجة برهان، أو حد يجري مجرى نتيجة برهان. وكذلك تكون مؤلفة من أجزاء نسبها هذه النسب بعينها، فيكون الحد مؤلفاً من مبدأ أو ما يجر مجراه، أو نتيجة برهان أو ما يجري مجراها. فهذه النسب هي لأجزاء الحد من حيث المحدود طبيعة قائمة. وأما النسب التي بها تكون أجزاء الحد فصولاً وأجناساً، فإنما هي لها من حيث الموضوع للحد مضافاً إلى مقابله، ومن حيث هي شيء آخر غيره. فلنقل في البراهين التي تنتج المتأخرة عن الموضوع. هذا آخر كلامه في هذا المعنى وكذا وجد. الحمد لله على نعمه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. وحيث انتهيت إلى مثل هذا الموضوع من الأصل وجدت ما مثاله: قابلت جميع ما في هذا الجزء من الأصل المنقول منه، وهو بخط الشيخ العالم الأوحد الكامل الفاضل الزاهد أبي الحسن على بن عبد العزيز بن الإمام. وكما بقوص في سلخ شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وخمس مائة. وكتب الحسن بن النضر في التاريخ المذكور.
ومن قوله أيضاً وهو آخر ما وجد من قول الحكيم فيما دار بينه وبين الوزير في الصورة الأولى والمادة الأولى
ليستديم الله للوزير الأجل ما وهبه من الجلال والفضل وطلب الحقائق في العلم. رأيت فيما ذكره في ماهية الصورة الأولى أنها تارة تظهر أنها صورة للاسطقسات، وتارة تظهر أنها أخرى منزلتها من الصورة منزلة المادة الأولى من سائر المواد. والذي ظهر لي أن الصورة الأولى هي الصورة البسيطة، أو الصور البسائط، وهي التي تتصور وتوجد في مادة لا صورة لها، وهي المادة الأولى. والصورة الأولى أول صورة تحصل في المادة فهي الصورة معها في المادة. كما أن المادة الأولى لا مادة لها كما بين في آخر المقالة الأولى من كتاب السماع. وأول صورة تحصل في المادة الأولى هي صورة الاسطقسات، لأن الساسطقسات بسائط الموجودات، مادتها بسيطة وصورتها بسيطة. هذا من كتاب الكون والفساد، ومن كتاب الآثار العلوية، ومن كتاب السماء والعالم. وأظهر ما هو من كتاب الكون والفساد. والصورة أبداً مساوقة للمادة في الوجود، فلا تكون صورة قربت أو بعدت إلا في مادة مساوقة لها وفي منزلتها ومرتبتها، والمادة الأولى تساوقها في الوجود فلا تكون مادة قربت أو بعدت إلا وتساوقها صورة للوجود في منزلتها ومرتبتها. والرتبة والمنزلة والصورة الأولى وكل مادة سوى المادة الأولى وإن بعدت فإنما تكون مادة لموجود ما مفروض لصورة فيها، فتلك الصورة صارت معدة لقبول صورة ذلك الموجود المفروض. وبعد المادة الأولى ومرتبتها ومنزلتها من تلك المادة القابلة لصورة ذلك الموجود هو بعد ومرتبة ومنزلة الصورة الأولى من الصورة التي في تلك المادة القابلة ذلك الموجود المفروض. فإن الصور والمواد تتساوق، فمتى ارتقت مادة ما أورتبة بصورة تحصل فيها، كذلك ترتقي الصورة مثل ذلك وعلى نفس النسبة. فإن بعد مادة مفروضة من المدة الأولى مثل بعد الصورة. التي لتلك المادة من الصور الأولى وفي منزلتها ورتبتها. مثال ذلك: الإبريق أولاً هو النحاس، ثم تراب معدنه، ثم الاسطقسات، ثم المادة الأولى. فالمادة الأولى من المادة الإبريق في المرتبة والمنزلة الرابعة كذلك الإبريق صورته أولاً هي صورة الإبريق المختصة به، ثم صورة النحاس، ثم صورة تراب المعدن التي بها صار تراب المعدن معداً ليكون منه النحاس، فصورة الاسطقسات التي هي الصورة الأولى هي في البعد والرتبة والمنزلة في الرابعة. فالصورة الأولى توصف أنها صورة الإسطقسات وتوصف أن منزلتها من الصور منزلة المادة الأولى من سائر المواد. شك: إذا تبرهن أن المادة والصورة الأولى غير كائنة ولا فاسدة، وأنها حاصلة بالفعل مادة وصورة، وكل ذي مادة وصورة جسم يرشد إليه بإشارة ولم تكن تلك المادة والصورة على مادة الاسطقسات وبالجملة فلا شيء من المواد الكائنة الفاسدة فما هي المادة والصورة الأولى الحاصلة بالفعل، ولم قيل للمادة الأولى المشتركة هذا يضي.
كلامه في النيلوفر
قال: إنما عرض للنيلوفر وأشباهه أن يظهر بطلوع الشمس وينغمس في الماء عند غيبوبتها، من قبل أن عنصرها غليظ بارد إلا أن بها رطوبة، وجوهرها من شأنه أن يقبل الانبساط. فلذلك إذا طلعت الشمس، وتحرك الهواء عنها، حرك الماء بنوع حركته فوصلت إليها تلك الحرارة، وانجذب ذلك الجوهر الحار، فمانعه الجو البارد، ولم يستطع التخلص عنه، فيتحرك علواً. لأن قوة ذلك الجوهر البخاري في الماء أشد من قوته في الهواء، وقوة الجزء البارد في الماء أضعف منه في الهواء. فلذلك يتحرك علواً حتى إذا صار في الهواء صار كأنه بين الجوهرين بالضد وعند ذلك ينفتح الزهر لأن انفتاح الزهر حركته حركة وارد فإذا غربت الشمس برد ذلك البخار وغرق، وفعل البارد بقوته على الحركة في الهواء، فانغلق الزهر، وتقبض النبات، وغاص الجزء المرتفع في الماء. وقد يتشكك متشكك فيقول: إن الشمس نسبتها إلى الأرض في المشارق والمغارب واحدة بالنوع. ولذلك إما أن تكون الحرارة الواصلة عنها إلى الأرض واحد، أو تكون الحرارة في الغروب أكثر، فيلزم من ذلك إما ألا تتحرك هذه الأشياء هذه الحركات المتقابلة أو يتحرك واحد منها، وتكون الحركة المقابلة وسط النهار. والجواب: إن الشيء الواحد يتحرك حركات متقابلة في مواد متقابلة مثل النار التي تذيب الذهب وتجمد الخزف. وأيضاً فإن الحركة إنما تلتئم بوجود المحرك والمتحرك، فأول النهار يحرك بحرارته التي يستفيدها لأن المتحرك عنه موجود وهو الحار بالقوة، وآخر النهار يحرك بالبرد لأن البارد بالقوة موجود في ذلك الوقت. وقد تلخص كيف ذلك في غير هذا الموضع. هذا ما وجد من كلامه في هذا وغيره. نسأل الله العظيم التوفيق في العلم والعمل وخاتمة خير في عافية. الحمد لله على إحسانه وصلى الله على سيدنا محمد الهادي إلى الرشاد وآله وسلم تسليماً وهو خير من توكل عليه.
ومن كلامه في البحث عن النفس النزوعية ولم تنزع وبماذا تنزع
بسم الله الرحمن الرحيم قال: والنفس النزوعية أما أن تكون جنساً لثلاث قوى وهي: النزوعية بالخيال: وبها تكون التربية للأولاد، والتحرك إلى أشخاص المساكن، والألف والعشق وما يجري مجراه. والنفس النزوعية بالنفس المتوسطة، وبها يشتاق الغذاء والدثار. وجميع الصنائع داخلة في هذه. وهاتان مشتركتان للحيوان. ومنها النزوعية التي تشعر بالنطق، وبها يكون التعليم والتعلم وهذه يختص بها الإنسان فقط. وإما أن تقال على هذه الثلاث بتقديم وتأخير. وبين أن كل حيوان فله النفس النزوعية المتوسطة وبها يشتاق. وقد يوجد من الحيوان ما ليس له شوق الخيالية. وشوق النزوعية المتوسطة متقدم بالطبع للنزوعية الخيالية، وظاهر أن كل إنسان على المجرى الطبيعي فله هاتان القوتان متقدمتان على النزوعية والناطقة بالطبع. وقد تبين في الثامنة أن كل متحرك فله محرك، ومحركة غيره، وتلخص هناك أجناس المحرك، والمتحرك قد يكون متحركاً بالطبع وقد يكون خارجاً عن الطبع، فالمتحرك بالطبع كالحار، وأما الخارج عن الطبع فكسهم المنجنيق. وكذلك المتحرك قد يتحرك خارجاً عن الطبع كالحجر إلى فوق، وقد يتحرك بالطبع كالحار بالقوة والجاهل إلى العلم. والمتحرك بالطبع أما من ذاته وهو ما كان محركه فيه، وأما من غيره وهو ما كان محركه خارجاً عنه. وأعني به أن يكون محركه به وجود ذلك المتحرك، من حيث هو ذلك النوع من الجواهر الجسمانية، حتى يكون به قوام ذلك الجوهر، ويكون ذلك داخلاً في حده كالحال في الحيوان. وهذا قد يكون طبيعياً وبذاته، وهو كأصناف الحيوان، وقد يكون صناعياً كالميكانة، والصناع فهو داخل فيها بالعرض وخارج عنها بالطبع. فهناك جرت العادة بتحديده وتلخيص القول فيه في موضع آخر. والمتحرك من ذاته فبين أنه منقوم من المحرك والمتحرك. وما كان غير متقوم من هذين الجنسين فليس بمتحرك من ذاته. مثال ذلك الحجر، فإن المحرك فيه ليس بذاته، لكنه فيه من خارج عن ذاته بالقسر، فإن الذي للحجر بذاته كونه أسفل. وإذا كان كذلك فليس بمتحرك، وإذا كان فوق فوجوده إنما هو له بقاسر يقسره، وإذا تنحى القاسر تحرك إلى أسفل. فلذلك يحتاج في الحجر ضرورة إذا تحرك أن يكون أسفل بالقوة، ولا يكون أسفل بالقوة إلا بأحد وجهين: أحدهما طبيعي وهو متى كان الحجر أرضاً بالقوة. والثاني غير طبيعي وهو متى كان بالفعل ناراً أو ماء أو هواء فكان فوق بالفعل، وأسفل بالقوة. وهذه القوة في النار من حيث نار بالطبع لأن النار بذاتها أن تكون فوق بالفعل، ويلزم ذلك أن تكون أسفل بالقوة من أجل الهيولى الأولى المشتركة. وقد تكون أسفل بالقوة، وهو إذا كانت أيضاً بالفعل، فأمسكها ماسك فوق فهذه القوة للحجر ليست طبيعية، لكنها بالطبع من أجل الهيولى. وقد بين أبو نصر في كتابه في الموجودات المتغيرة كيف يصير ما هو بالقوة الطبيعية. وأسفل، أسفل بالفعل، وكيف يتحرك بحركة محركة فليؤخذ علم ذلك من هناك. فإذن الأرض تحتاج إلى المتحرك. فأما الأرض إذا تحركت إلى فوق فهي أسفل بالفعل، وقوتها على فوق قوة طبيعية، لكن لا على أنها حجر. فأما قوتها إلى فوق وهي حجر فهي لها بالطبع، على وجه ما قد لخص في غير هذا الموضع، فتحتاج إلى محرك قاسر فإذن ما كان له المتحرك والمحرك طبيعيين، فهو متحرك بذاته، كحركة الحيوان المكانية، لأن ذلك لا يمكن إلا في الحركة المكانية فقط. وأما الاستحالة فليس يجتمع المحرك والمتحرك في شيء بالطبع. والفحص عن ذلك يليق بغير هذا الموضع كحركات الصنائع، مثال ذلك أن يكون الطبيب مريضاً، فها هنا يجتمع المحرك والمتحرك في شيء واحد، ويتطبب المريض من ذاته، لكن ليس ذلك بالذات لكن بالاتفاق. فليكن هذا مبدأ لما نريد أن نقوله فنقول: إن من البين المقر به أن الحجر إذا زال القاسر تحرك إلى أسفل، فكان هبوطه شافعاً لزوال القاسر، وزوال القاسر له مبدأ. وقد تبين في الثامنة أن مزيل القاسر محرك بوجه ما، فإن الحجر إنما تحرك بزوال العائق، فكلاهما محرك، لكن مبدأ الحركة كما تبين هنالك إنما هو مزيل العائق، وعند ذلك صار الحجر ما كان له أن يكون، فإن الثقل ليس بمحرك بطبيعته، إذ لو كان محركاً بطبيعته، لكان له محرك بالطبيعة، والمتحرك عنه إنما هو بالقسر. ومن هنا يتبين ما قاله أرسطو في الثامنة أن الجمادات ليس تفعل بل تنفعل. فأما كيف حرك الثقل الحجر فنحن نقول فيه: قد تبين في مواضع كثيرة أن الهيولى لا صورة لها، ولا هي شيء موجود بالفعل. وإنما وجودها أبداً بالقوة إحدى المقولات العشر، وهذا هو مرتبتها في الوجود. وبين أيضاً أن الموجود ينقسم إلى المقولات العشر، وإن الجوهر الكائن الفاسد قوامه بهذا الموضع الذي هو الهيولى الأولى، وبمعنى آخر هو به موجود، وهو الصورة. والهيولى يوجد فيها ضرورة أكثر من مقولة واحدة، فإنه ليس يمكن ن يوجد جوهر هيولاني خلواً من أعراض كثيرة، ومثل أن يكون ذا كم وذا أين وذا كيف إلى غير ذلك من أجناس المقولات العشر، لكن تتقدم في الهيولى ضرورة أحد أنواع الجوهر، ولذلك يوجد في الهيولى ما يوجد فيها من أنواع المقولات التسع، وقوام ما فيه المقولات التسع إنما هو بما في مقولة الجوهر، وما في مقولة الجوهر يوجد في حدود ما في المقولات التسع. ولا يمكن أن يكون شيء مما في المقولات وقوامه خلو من الجوهر، وبهذا يفارق الجوهر الأعراض، فإن الجوهر إنما هو معنى يوجد في المادة الأولى، والمادة الأولى إنما هي موجودة كما قلنا بأنها بالقوة وإنما هي بالقوة أحد الجواهر من حيث هي ما هي، فهي بالقوة أحد أنواع العرض من حيث هي جوهر ما، وكذلك هي بالفعل أحد الجواهر بذاتها وهي أنواع الأعراض فإنها جوهر ما. وقد يتشكك على هذا القول فيقال: إنها لا تكون بالقوة جوهراً غلا وهي جوهر آخر، لكن ذلك بالعرض لا بالذات، لأن ما بالقوة ليس بمفارق الموجود لأنه لو كان مفارقاً لكان ما بالقوة موجوداً بالفعل شيئاً واحداً وهذا بين بنفسه عند مزاولة الصناعة الطبيعية أيسر مزاولة. فليكن على ما بالقوة هـ?، وليكن بالقوة هو ح. أولاً، فيلزم من ح ومن ك آ، فإذن هـ هي بالقوة ح ك م ل على ترتيب. فإذا صار الفعل ح صار ك م ل. وسواء كانت الأعراض واحداً أو أكثر ف? ح آ، وليس توجد في هـ? بذاتها بل هي أحد أسباب وجودها آك في هـ? وي، وليس كذلك ح، فإن ح توجد في هـ? من غير أن يتقدم في هـ? وجود آخر بالذات. وأما أن هـ? إذا كان بالقوة ح كان عند ذلك في هـ? نوع آخر مجانس ل? ح، فذلك بالعرض لا بالذات. فليس ذلك النوع سبباً لوجود ح في هـ?. فأما أن هـ? تحتاج في كونها ح إلى سبب آخر وهو المحرك، فذلك إنما هو لشخص شخص من أشخاص الجواهر لما كانت صور الأشخاص متقابلة في هيولى واحدة بالعدد، ولم يمكن اجتماع المتقابلين معاً في وقت واحد، وهذا خارج عما قصدناه. ولتكن الهيولى الأولى هـ?، وليكن ك أين ما كأحد أنواع الفرق، وك ليس يوجد في هـ?1 دون سبب يتقدم وجوده في هـ?2، وإلا فتكون الأعراض مفارقة للجوهر، فليكن على ذلك المعنى المتقدم ح، ف? ح إن كان به قوام ك ف? ك في ح على المجرى الطبيعي، وإن كان ليس به قوامه ف ك في ح خارج عن الطبع، ووجوده فيها خارجاً عنه قسراً أو غير ذلك، ولنه أين فهو قسر ضرورة، إذ أنواع الأين متقابلة، وجنسها غير مفارق للجوهر، بل يلزمه التكافؤ ضرورة، وذلك بين لمن زاول هذه الصناعة أيسر مزاولة، فوجوده فيه إنما هو لعائق، إذ ليس ك ومقابلة من المتقابلة التي هي للموضوع بالسواء كالجلوس والقيام لزيد، فإذن يتقدم ك في هـ? وجود أخر وهو إما وجود ح?، وأما نسبة العائق إليه، وهو سبب على أنه جزئ مما به قوام ك، فليكن على العائق ق ف? ك يوجد في هـ? مع وجود ح أو ق ضرورة، وليس يمكن أن يوجدك في هـ? دون ح? أو ق ولا بالقول مثلاً فكيف بالوجود. فإذا زال ح، وزوال ح إنما يكون ضرورة بتغير وقد يكون بالطبع وبأسباب أخر، فستزول ك بزوال ح، إن زال ح دفعة زال هو دفعة، وإن زال شيئاً فشيئاً زال هو شيئاً فشيئاً فزوال ك مساو لزوال ح، لأن ك فرضناه عرضاً طبيعياً ذاتياً. وقد يتفق أن يزول ك وح باق، فإذا كان ك في ح بالعرض إن كان في هـ? يتقدم وجود ق، فبزوال ق يزول ك، وإن كان ق يزول شيئاً فشيئاً ساو ق زواله زوال ك فإن زال دفعة، وذلك ممكن ففي ذلك الآن يلزم زوال ك، لكن إن كان ك له ضد، وإن كان لا وسط بينهما زال دفعة، وليكن على ضده ل، ولأن ك فرضناه ل? ح خارجاً عن الطبع، فإذن ل? ح بالطبع صار ك في ح، إذ لا وسط بين ك ول، ولا يخلو ح منهما كالواحد والكثير والزوج والفرد. وإن كان بينهما أوساط فبين أن ح هو بالقوة ذلك الشيء الذي إليه يتحرك، لأن كل متحرك فهو بالقوة ذلك الذي إليه يتحرك، ففيه المتحرك ولأن ما هو بالقوة ل هو بالفعل ك، ف? ك منقسم، فإذن يجب ضرورة أن يكون في هـ? ل ويحتاج وجود شيء آخر يوجب ذلك، كما قلنا، وهو إما هـ? وإما ح، لكنه ليس هـ?، فهو ح، وهو الذي يوجب له أن يكون فيه ك، وبه يستأهل هـ ك، فلذلك يلزم ضرورة أن يكون ك في هـ? في الآن لكن لما كان ل وك متضادين منقسمين، لم يكن ذلك في الآن وكان في زمان، فلذلك وجد جزء على اتصال دون أن يكون في أحد الأجزاء أبين، وهذا هو الحركة. فإذن ح هو المحرك له على هذا الوجه. وقد يسأل سائل في ك ول، إذا كانا لا وسط بينهما، متى صار ك في ح، فإن كان في الآن الذي زال فيه ح?، وح? كان أبدا ك، فقد صار ح? هو ك ل معاً، وهما متضادان، وذلك لا يمكن. وإن كان آخر، وكل آنين فبينهما زمان، فقد كان ح خلواً من ك ول، وصار بينهما وسط، وذلك كله خلاف ما فرض والقول في هذا هو جزء من القول في الحركة. وقد تبين أن الحركة لا أجزاء لها في السادسة من السماع الطبيعي، وتبين أن الآن إنما هو للمستقبل لا للماضي، فلنفرغ عن القول فيه للناظر في التغير، إذ ليس ذلك من سبيلنا في هذا القول. فقد تبين إذن كيف تحرك الجمادات، وبالجملة فكل ما يتحرك أحد الحركتين المتقابلتين بالذات. وأما الأجرام المستديرة فليس نجد فيها لحركة من حركاتها مقابلاً، وقد تبين ذلك في المقالة الأولى من كتابه في السماء والعالم. وكل ما يتحرك حركة واحدة من الحركات المتقابلة فهو جسم طبيعي وصورته هي ح يقال لها طبيعية على الخصوص. وكل متغير فله مقابل واحد أو أكثر من واحد فقد يقابله السكون فقط. مثال ذلك التعلم، فإن مقابله البقاء على الجهل. وقد يقابله مع السكون تغير آخر كالصعود فإنه يقابله اللبت أسفل، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى أسفل. وقد تقابل الحركة الحركة على غير هذين الوجهين. وقد لخص ذلك في الخامسة من السماع. والحركة في المكان فلها أطراف متقابلة، وهي لكل جسم هيولاني، وهي أولاً للإسطقسات. ولكل واحد منها واحد من أصناف هذه الحركة بالذات، كالهبوط للأرض، والصعود للنار. وهي لسائر الأجسام من أجلها، لأن كل جسم هيولاني فهو إما واحد منها وإما مؤلف من أكثر من واحد. مثال ذلك أجسام النبات والحيوانات، فإنها مركبة من الأرض والماء، والزيت والشمع فهو مركب منهما ومن الهواء والدخان، والبخار من الماء والأرض، وقد لخص أصناف هذه أرسطو في مواضع كثيرة. وأما الأجسام الأخر التي لم تعط مبدأ أكمل من هذا من مبادئ وجود الاسطقسات، بل مبادئ وجود ما مجانس لذل، فليس لها من حركة المكان بل بالذات إلا هذان الصنفان فقط كالذهب والشمع، وأجسام النبات وأجسام الحيوان إذا فارقتها الأنفس، كخشب العرعر وخشب الأبنوس، ولذلك توجد لها سائر الحركات بالعرض، إما خارجاً عن الطبع أو قسراً. وأجناس الحركة المكانية ثلاثة: منها الجنس الذي طرفاه الصعود والهبوط. والثاني الجنس الذي طرفاه التقدم والتأخر. والثالث الجنس الذي طرفاه التيامن والتياسر. فهذه الأجناس الثلاثة هي أجناس حركة المكان البسيطة. فأما حركة غير هذه فهي مركبة مثل حركة الوراب فأما حركة الاستدارة للحيوان فإنما هي حركة على شكل كثير الزوايا، فتكون مركبة على جهة التشافع والامتزاج. وتلخيص ذلك خارج عما نحن بسبيله. والحركة في المكان تسمى في لغة العرب بعض أصنافها النقلة وهي الحركة الإرادية، وربما قيلت في الحين بعد الحين في كل صنف من أصنافها، فيطلق عليها الانتقال. والانتقال ما كان منه في الفوق والأسفل وقد قلنا فيه. وأما الجنسان الآخران فإنما يوجدان للحيوان خاصة، وليس يوجد صنف صنف منها لصنف صنف من الحيوان، كما وجدت أصناف الانتقالات للاسطقسات، بل توجد المتقابلات بالسواء للحيوان الواحد بعينه في العدد، لكن لا كل حين من الزمان. والسبب في اختلاف ذلك هو أن الفوق والأسفل محدودان بالطبع، فإن الأسفل هو المركز، والفوق مقعر فلك القمر أو جسم آخر دونه، ولا يمن في المركز أن يكون فوق ولا في مقعر فلك القمر أن يكون أسفل، فإن ماهيتهما تقتضيان ذلك. فأما اليمين فليس بمحدود في ذاته، فإن وجود المكان يميناً إنما هو بالإضافة إلى المتحرك، ولذلك يكون المكان الواحد يميناً لواحد ويساراً لآخر في آن واحد، ويكون يميناً ويساراً لحيوان واحد بالعدد، لكن في زمانين لا في زمان واحد. وكل حيوان فهو ذو جسم متميز الجهات، وكل ذي جسم متميز الجهات فللمكان الأول الذي هو فيه إضافات متميزة إلى الأمكنة الأخر، ولكل نوع من أنواع الحيوان أنواع من المكان طبيعية له. مثال ذلك أن الطائر له أمكنة في الهواء طبيعية، وأمكنة في الأرض، وقد توجد له في الماء. وقد لخص ذلك أرسطو في كتاب الحيوان. فأما هل أمكنته في الهواء مشابهة لأمكنته في الماء أم لا، فتلخيص ذلك لائق بالقول في حركات الحيوان المكانية. فقد وقفنا هـ القول على وجود المتحرك في الحيوان بالطبع الذي هو به حيوان، لأن كل حيوان فهو ذو جسم متميز الجهات، وأمكنته متميزة الإضافات بعضها إلى بعض. هذا الحيوان من جهة ما هو حيوان. وأكمل الحيوان تميز جهات هو الإنسان، لأن جهات كل جسم مستقيم ست. فأما النبات فقد تميز فيه الفوق والأسفل، لكن بخلاف وضع العالم، وسنقول فيه بعد هذا، وأما الحيوان غير الناطق فقد تميز في الساعي منه الإمام والخلف. فإن ذوات الأصداف ليست بساعية، وتميز في أكثر هذا اليمين واليسار، فما الفوق والأسفل فلم يتمي فيه، إذ الحيات مستورة ولا قوائم لها. وأيضاً فإن وضع. كان فوقه هو ظهره، والظهر في الإنسان هو وراؤه، والإنسان في جميع الموجودات الهيولانية تميزت فيه الجهات كلها، فإن أمامه متميز من ورائه، وفوقه من أسفله، ويمينه من يساره. وهذه الأجناس أعني أجناس الحركة المكانية، قد تكون بإرادة الحيوان وقد تكون بالضرورة. فأما بالضرورة فكهبوط المتردي من علو، فإن هذا أحد أصناف ما يقال عليه بالضرورة. وقد تلخص ذلك في علم الأخلاق. ونقل المريض عن مضجعه قد يكون بإرادة كحركة الإنسان إلى السوق. وأما حركة الضرورة في غير الجنس الأول فقد يكون المحرك للحيوان خارجاً عنه، وقد يكون في الجنس الأول مثل نقل المريض من البيت إلى الشرفة. وأمكنة الحيوان فإنها مع تحديدها بالإضافة إليه فلا بد لكل مكان من تحديده، فإن الركن مكان حددته الطبيعة، والمقبض مكان تحدد بالقبض. وتلخيص أصناف أمكنة الحيوان لا يليق بالقول في الحركات المكانية. تم القول الحمد لله على نعمه. ! ?ومن كلامه فيما يتعلق النزوعية بسم الله الرحمن الرحيم والله الميسر والمعين العادة إنما توجد للإنسان بالنفس النزوعية، فإن الذي يقبل العادة هو الجزء النزوعي والجزء العادي. والعادة أصناف تقال عليها العادة بتشكيك، فيجب أن نحصي الأشياء التي تقال عليها العادة، ونلخص بعضها من بعض حتى تتميز. الخشوع ومقابله لا اسم له في العربية فليسم الاستهانة. والخشوع للكمال من جهة أنه كمال، والاستهانة بالنقص من جهة أن نقص. لكن لما كان الكمال والنقص ليسا بذاتهما موجودين، بل أنهما حالان لحقتا الأمور، فكأنهما جنسان، فلذلك إنما يوجدان في موضوعاتهما، فكل كمال فيجب أن يخشع له. وهذه قضية أولى معترف بها عند الجميع، فأما أن هذا وذاك كمال فذلك مما يحتاج إلى تبيين. فقد يكون أمر ما عند قوم كمالاً، وعند آخرين نقصاً، وذلك بين لمن يتصفح الشرائع المختلفة والآراء والسير. وقد يكون شيء كمالاً عند شيء ونقصاً عند شيء آخر، وهذا هو الكمال بالإضافة. وهذه قد تكون وقتاً كمالاً ووقتاً غير كمال. لكن هذا ليس يقال له كمال، بل إنما يطلق عليه اسم الخير فإن الخير إما أن يكون مرادفاً للكمال أو أعم منه. والأشياء التي هي كمال قد تكون بالوضع وبالشرع، فتكون في بعضها الآراء المكتوبة والآراء المكتوبة تشتمل على الكمال بالوضع فتكون عند قوم ما، وعلى الكمال المشهور فتكون عند الجميع، وما بالوضع فمختلف. فما كان كمالاً عند قوم لا يكون كمالاً عند آخرين، وكذلك من نشأ في قوم لا تخشع نفوسهم لأمور يستهين بها آخرون. فلذلك إذا كان ما هو كال في الوجود وكان إنسان ما من قوم قد اعتاد إلا تخشع نفسه لذلك الذي هو كمال، ثم تبين له أن الأمر كمال لم تخشع له نفسه، ولا أكرمه، ولا رأي أنه حصل له شيء، فيكون ذلك العلم عند ذلك الإنسان مطرحاً لا يحفل به غلا من لزومه عن القول. وكما أن المرضى يحسون الحلو مراً ويرون الواحد كثيراً، كذلك مرضى النفوس يرون الكمال نقصاً ويرون النقص كمالاً، وكما أنه لا سبيل لهؤلاء المرضى إلى أن يحسوا الحلو أصلاً حتى يصلحوا، كذلك مرضى النفوس لا يمكنهم أن يروا الخير خيراً حتى تصح نفوسهم. وكما أن من المرضى من يحس الحلو مراً ويقضي عليه أنه مر، ومنهم من يحس أنه مر ويعلم أنه حلو ويقضي أن الآفة عنده فالأول واجب عليه أن يشتهيه وأن يطرحه والثاني ألا يشتهيه فقط وكلاهما لا يفعل عن الحلو ما شأنه أن يفعل عنه، كذلك مرضى النفوس يلحقهم هذا بعينه فلا يفعلون عن الخير، ولا يحركهم الخير، ولا تكون الصورة الروحانية للأشياء التي هي خير تحرك هؤلاء أصلاً، بل أن حركتهم فإلى الهرب منه. وأهل السنن المشهورة والموجودة في سني الستمائة للهجرة من تاريخ العرب فكلها توقع في النفوس أمراضاً، فلذلك لا يعرفون الكمال المتبرئ عن القوة، وإنما يعرفون السكون، وهو أذى بالقوة محضاً، وهذا يقترن به الشوق، فهم لذلك لا يشعرون، لأن الشوق ألم، ويعرفون من الكمال ما تقترن به الحركة لأن اللذة عند ذلك تكون. وإذا حصل الكمال وتم، لم يشعروا به. ولذلك لا يشعر الصحيح بصحته ولا يرى أنه أعطى شيئاً له قدر، ويشعر المرضى بها، فيرونها أعظم المدركات، إذ كانوا بالقوة أصحاء. والشعور بالسكون الكمالي، إن جاز أن يقال له سكون، لأنه سكون لا تقترن به قوة حركة فلذلك هو سكون على العموم، أمر فاضل جداً. فيجب أن نرتاض بالشعور به حتى يحصل ملكة، وهذا النوع إذا حصل ملكة كان له غناء في وجود إنسان عظيم القدر جداً. وهذا مما يجب أن يقدم فيوضع قبل القول في السعادة القصوى. وكما أنا قلنا في الأفعال، فكذلك يجب أن نفحص فنحصي على كم وجه يقال أن الفاعل يفعل، وكيف نحس الجزء النزوعي بالفعل. فإن النفس النزوعية تنفعل، وإنما نفعل لا بالنفس النزوعية، بل بجزء آخر هو بالفعل، لأن النزوعي بالقوة فقط. فقد يظن أن القول فيها لم ينقض في الكون والفساد، كما عرض ذلك في اليمين، فإن أرسطو إنما تكلم فيه في الآثار العلوية فيما لحق الجزء الكائن عن الاسطقسات، ولذلك قال في الخامسة عشرة من الحيوان أن القول في اليمين لم ينقض. وكل منفعل بل كل متحرك فهو بالفعل شيء ما، وهو بالقوة شيء آخر. فإنه لو لم يكن بالفعل شيئاً أصلاً لكانت القوة شيئاً موجوداً بالفعل، ولكان للهيولى الأولى صورة، وكان الإمكان قائماً بذاته وشيئاً قائماً بنفسه، وهذا ظاهر لمن زاول الصناعة الطبيعية أيسر مزاولة. والمتحرك هو جوهر ما، بل هو جسم ما، لأن كل متحرك منقسم. لكن ذلك هو للمتحرك بجهة متوسطة بين ما بالذات وما بالعرض. وأرسطو بعد ذلك فيما بالعرض، فإنه إن كان بالذات بوجه ما، فليس أولاً. والمتحرك بالقوة شيء ما بالذات وأولاً، وهو متحرك من جهة ما هو بالقوة، حتى لو وجد ما بالقوة شيئاً مفارقاً للأجسام لتحرك بنفسه، وصار ذلك الشيء إما جوهراً أو كيفا أو كما أو أينا أو غير ذلك من المقولات. لكن ما بالقوة يلزمه اضطرار كما قلنا أن يكون شيئاً ما بالفعل أحد المقولات، وهذه بالقوة أحد المقولات. فليكن ما بالقوة ووما بالفعل ح وبالقوة ك. وبين، لمن مارس العلم الطبيعي أيسر ممارسة، أن ما بالقوة من جهة ما هو بالقوة ليس تحت مقولة، وإن كان ما تحت مقولة، أي مقولة كانت، فهو موجود بالفعل. فالمقولات إذن تقابل ما بالقوة كما تقابلها ما بالفعل في ح وك إذا كانا تحت مقولة واحدة ف ح وك نوعان متقابلان. فإن كان جوهرين فلا اسم لهما. لكن قد يسميهما أرسطو وأبو نصر عند الحاجة إلى ذلك متضادين إلا أن المتضادين يحتاجان إلى موضوع واحد بالفعل وليس لهذين موضوع بالفعل. وإن كانا تحت أحد أنواع المقولات التسع، فما بالقوة موجود ضرورة جوهراً، فله وجود ثالث هو به موضوع ل? ح وك. ف? ح وك إن كانا تحت الكم فهما أكثر شبهاً للمتضادين من الصنف الأول. ولذلك يقال في النمو أنه حركة وأنه تغير أكثر مما يقال في التكون. وقد شابه أنواع الكم المتضادات في نحوين: أحدهما أنهما أنواع تقترن بها إعدام مجانساتهما كما وجد ذلك في صور الجواهر. والثاني أن لها موضوعات موجودة بالفعل قابلة لأنواع الكم، وليس لأنواع الجوهر موضوعات بل هي الموضوعات. بل أن قيل للمحرك موضوعات فبطريق التشكك. وإنما فارقت المتضادات في أن ليس لأنواع الكم طرفان محدودان ينطق عنهما، فإن أعظم الكلاب لا يمكن أن يكون له عظم الفيل، وأصغرها لا يمكن أن يكون له عظم نملة. فأنواع عظم الجواهر كثيرة مختلفة، وأطرافها غير محدودة. إلا أن يكون بالإضافة إليها، فيعرض لها تضاد كما يعرض لأطراف المزاج في الكيفية. وقد لخص ذلك في المزاج. فأما ح وك إن كانا كيفيتين، وكانا تحت واحد من أجناس الكيفيات الأربعة، فلهما موضوع موجود بالفعل، ويقترن بكل واحد من أنواع الجنسين عدم مجانساته، وفيهما نوعان طرفان لا بالإضافة بل بالإطلاق. ولا يمكن أن يوجد نوع أبعد من ذلك الطرف من مقابلة، وليس كذلك فيما هو كم. فليكن أصغر عظم، وهو الكلب مثلاً، عليه أ، وأعظم عظم عليه ح، وإنما وجد في أب وح? ود، فكل نوع من الكم يوجد في الكلب فهو أقرب من ح من عظم أمن د، وليس يوجد عظم أبعد من أمن د، ولو وجد ذلك لكان كلباً أصغر من د، وهذا لا يمكن. لكن إن فرضنا أحجراً فقد يوجد فيه أصغر من د، وليكن هـ? فعظم د أقرب إلى أمن هـ?. ف د ليس طرفاً في م إلا إذا كان م هو كلياً فهو نوع من الجواهر. فعظم أود ليس طرفين بالإضافة إلى الموضوع الأول الذي هو بالقوة، وهو الهيولى على التحقيق وبالذات، بل هما طرفان بالإضافة إلى الكلب، والكلب ليس بهيولي بل يجري مجراها، لكن جزاء من أجزائه هو هيولي. وأ وح ليسا طرفين من جهة إضافة لحقتهما فليسا إذن طرفين في الوجود، فإن كان شيء يوجد له أمر ما من جهة ما هو ذلك الشيء، فهو له في الوجود. وما كان يوجد فيه بحال ما، وكان ذلك الشيء يوجد ليس له تلك الحال، فليس يقال أنه كذلك في الوجود، بل أن كان له في الوجود فعلى طريق النسبة. وأيضاً فإن ح وك، إن كانا ليس تحت مقولة واحدة، فيمكن ضرورة أن يكون ح وك، وإلا كان د عدماً، ولم يكن شيئاً موجوداً. فغن كان لا يمكن ذلك، فليس ك وح أحدهما موضوع للآخر إلا كما يقال أن البر بالقوة بارد، لأن البر لا يلزم الحار في الماء وتلخيص هذه وإحصاؤها سهل لمن أراد ذلك، ونحن نكتفي بهذا التلخيص على طريق الرسم. فالمتقابلات كلها إذا كانت في موضوعاتها فيلزمها ضرورة فيها إعدام مقابلاتها. والإعدام أصناف، فمنها عدم الجوهر وعدم الكم وعدم الكيف. ولست أقول أن الجوهر يعدم أصلاً ولا الكم. فإن كان شيء ما ليس بكم كالعقل، فإن هذا سلب وليس بعدم. وقد لخص أبو نصر النحو الذي به يقال له عدم. والعدم ينسب إلى المقولة على نحوين: منها سلبها، كقولنا: السماء لا ثقيلة ولا خفيفة. ومنها رفع سلب نوع نوع منها عن موضوع يمكن أن يوجد فيه ذلك النوع، وهذا أحق باسم العدم من الأول، ثم يقال بعد ذلك النوع، وهذا أحق باسم العدم من الأول. ثم كتاب قاطاغورياس. وهذا النحو الثاني الذي ذكرناه هو الذي يذكره أبو نصر ويقول: أرسطو يعد عدم كل مقولة فيها، فعدم الجوهر في مقولة الجوهر، وعدم الكم في مقولة الكم. وبين بأيسر تأمل لمن زاول الصناعة الطبيعية أن المادة الأولى لا يمكن فيها أن نعرى من بعض المقولات حتى لا يكون فيها نوع واحد منها فأول ذلك الجوهر، وذلك مما تبين في الأولى من السماع الطبيعي، إذ لو عريت عنه لكانت المادة الأولى ذات صورة. ويليه الكم فإنه لوا جوهر واحداً هو، لأنه ليس بجسم، فما أبعد من ألف العظم مما لا ينقسم، فإنه إن كان كذلك وجد جوهر لا كم له وهذا محال. وقد تبين في أول السادسة من السماع ويتبين بياناً أكثر عند التأمل. ويجب أن تعلم أن العظم يقال على المستدير والمستقيم بتشكيك، وإن العظم المستدير ما كان له مركز، وقد لخصنا ذلك في تفسير معاني السابعة من السماع الطبيعي، ثم بعد ذلك في الهيولى جنس الكيف الانفعالي كالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ولذلك كل جوهر هيولاني فهو جسم. والجسم يقال بتشكيك على المتحرك باستدارة، وعلى المتحرك باستقامة، وهيولاهما ليست واحدة بالنوع، كما صورهما، بل تتناسب تناسب الصور. والمادة التي تقبل الحركة على الاستقامة هي الهيولى على التقديم، فأما التي تقبل الحركة المستديرة فهي أبداً موضوع، وليست بهيولى ولا مادة، بل إنما يقال لها هيولى ومادة بالمناسبة، كما يقال هذه موضوع بالشبه والمناسبة. فالهيولى الأولى لا تخلو من جنس الكيفية الإنفعالية، ولا يمكن تعريها منها، ولذلك إذا أراد أرسطو أن يدل على جميعها يقول كل جسم ملموس. وكذلك كيفية الكم الذي هو الشكل والصورة، وكذلك الأين، وكذلك الوضع، وكذلك المتى، وكذلك الإضافة. فهذه المقولات التسع بين من أمرها أن الهيولى الأولى لا تعري منها، لكن بعضها أبين من بعض. فأما الفعل والانفعال فقد تشكك فيه، لكن إذا تعقب أمره ظهر أنه كذلك. فأما مقولة له فإنها توجد لذي النفس، وقد يوجد في الجمادات ما يظن به أنه له، غير أنه إذا تعقب أمره ظهر أنه ليس تحت هذه المقولة. وكذلك اللون فقد يظن ببعض الأجسام أنها غير ذات لون كالهواء والزجاج، وأبين من ذلك الطعوم والروائح والمذاقات، فإن موضوعها قد يخلو من جميع أنواعها. لكن وإن كان ذلك فليست هذه موجودة للجوهر بذاته أولا، بل إنما توجد ثانياً، وبعد أن تتقدمها في الموضوع موجودات شتى تحت مقولة أخرى، وكأن هذه وإن لم تكن أنواعاً لتلك فهي كالأنواع. مثال ذلك الطعوم، فإنها وإن لم تكن أنواعاً للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة فليست خارجة عنها لأنها حرارة لحقها أمر آخر صارت به تلك الحرارة نوعاً لجنس آخر، كما عرض في القول في الأكر المتحركة، فإن النظر فيها ليس هندسيا متأتياً للنظر الهندسي بل هو واقع تحت النظر الهندسي. وقد لخصنا ذلك في أقاويلنا في النفس. وقد تلخص ما قلناه على نحو آخر وهو أن كل جسم فهو مؤلف من صورة وموضوع. وموضوع الأجسام السرمدية يخص بالموضوع، وموضوع الكائن الفاسد يقال له هيولى ومادة وما شاكل هذه الأشياء وكل جسم فاسد فهو أسطقس أو مؤلف من اسطقسين فزائداً. وكل مركب من أشياء ففيه ما لتلك الأشياء، فالأشياء اللازمة للاسطقسات هي لازمة لكل جسم هيولاني، والأشياء اللازمة للاسطقسات من المقولات هي أنها جواهر، وإنها ذوات إعظام، وإنها ذوات كيفيات انفعالية، وإنها ذوات أوضاع وأيون، وإن لها متى، وإنها مضافات، وإنها تفعل وتنفعل. وكل جسم ففيه هذه الأجناس من المقولات ضرورة، وأما سائر ما يوجد للأجسام الهيولانية فهي راجعة إلى هذه. مثال ذل الخشونة والقحل والصلابة واللين والملاسة، فأما سائر ما يوجد للأجسام الهيولانية فهي راجعة إلى هذه مقال ذلك. فإنها ضروب من الرطوبة واليبوسة، فإن اليبوسة إذا لحقها عارض صارت خشونة وقحلا، ومن الرطوبة تكون الملاسة واللين، وقد ذكر ذلك أرسطو في الثانية من الكون والفساد. وكذلك الطعم والرائحة فإن هذين الجنسين منهما في الثانية من الكون والفساد. وكذلك الطعم والرائحة فإن هذين الجنسين منهما الرطوبة واليبوسة كالهيولى، وأما الألوان فالقول فيها قول آخر. وإذا تعقب الأمر فيها ظهر أن هذا الجنس يوجد للإسطقسات، واستقصاء ذلك في غير هذا الموضع. وقد تبين في السابعة من السماع أن الاستحالة إنما تكون في المحسوسات، فليقف من شاء على ذلك من كلام أرسطو هنالك، ومما قاله المفسرون فيه. فالفعل والانفعال إنما هما في الكيفيات الأولى وهي التي بها يكون الكون والفساد، وهي الأربعة. وقد عددت في مواضع كثيرة. وقد بينا نحن في مواضع غير هذه أن القوى تقال باشتراك على المنفعلة وعلى الفاعلة، ورسمنا كل واحد من هذين الجنسين، فالقوى الفاعلة هي ضرورة موجودة وإنها تقترن بموجود بالقوة، والقوى المنفعلة تصير ضرورة موجوداً، وتصير شيئاً ما مشاراً إليه بعد أن كانت غير موجودة لكنها تقترن بموجود. والحركة في المكان تناسب الانفعال، ولا فرق بينهما فيما نريد أن نقوله. وكل متحرك فله محرك، وكل منفعل فله فاعل. والحركة في المكان إنما تنسب إلى الحيوان خاصة، وإلى الأجسام المستديرة. فلنترك القول فيما يخص المستديرة، فإنه ليس تنسب لنا هذه. والحيوان إنما يقال أنه متحرك بذاته ومن ذاته في المكان خاصة، وذلك أن فيه المحرك وهي النفس، والمتحرك وهو البدن، وقد تلخص ذلك في الثامنة من السماع. فالمنفعل هو البدن، والفاعل القريب هو النفس، وهو النزوع. ولا يكون نزوع إلا بوهم، وقد يكون الوهم ولا يكون نزوع. والوهم حتى يكون له كالآلة، أو هو في المتحرك حتى لا تكون هيولى لذلك الوهم إلا بذلك النزوع، فإنه ليس كل هيولي لكل متحرك، بل لكل محرك بالطبع متحرك بالطبع، وقد ذكر ذلك أرسطو في الثامنة من السماع. فأما أن التوهم ليس موضوعاً للنزوع، فذلك كالبين بنفسه، فالنزوع إذن في شيء آخر، ولأن النزوع في محسوسه، فهو ضرورة حال في جسم، إذ لا يحس إلا جسم. هل هو صورة لذلك الجسم كالزجاج، فإنه إذا كان زجاجاً بالقوة، وذلك عندما يكون حجراً، فليس يمكن أن يتخذ منه آنية. فأما إذا صار زجاجاً بالفعل أمكن ذلك كالرطوبة في السمع، فهو حال في ذلك الجسم، ولذلك الجسم وجود ما آخر، فلنفحص عن ذلك. والمقدمات الخاصة بهذا النظر الذي تتخذ منه الدلائل عليه قليلة، ولكن ليس يجب علينا لذلك ترك الفحص. وفي أمثال هذه يقول أرسطو: أنا وإن علمنا أنا لا نبلغ من العلم بهذا الأمر كنهه، فلنبلغ منه قدر الكاد، وهذا إنما هو في التصور لا في التصديق. فنقول: إنه قد تبين في غير موضع أن القلب أو ما يقوم مقامه هو مبدأ الحيوان، وأنه ينبوع للحار الغريزي الموجود في البدن، وإن بالحار الغريزي تكون جميع الحركات الموجودة في البدن، وأعني بذلك الاغتذاء وضروب النزوع والتوهم والتفكر، فإن الهضم وإن كان في المعدة فهي كالكتابة، وإن كان القلم هو الذي رسم الأحرف فإن الراسم هو الإنسان. وبالجملة فالمحرك الأول هو الذي ينسب إليه الفعل كما تبين ذلك في ثامنة السماع، وقلناه نحن في رسالة الوداع. فإن المنصور هو الذي قتل عبد الله بن علي، وإن كان لم يتناول ذلك المنصور بيده وكان بعيداً عنه، فإن الآلة قد تكون متصلة بالفاعل، وقد تكون منفصلة. مثال ذلك الصائد هو الذي أخذ الذئب في الحبالة، وإن كان الصائد غائباً عن الحبالة عند وقوع الذئب فيها، وذلك أن الآلة إما أن يودع المحرك الأول فيها حالاتها تفعل فعلها فلا تحتاج ضرورة إلى اتصالها بالمحرك. وإما أن لا تقبل تلك الحال إلا وهي متصلة بالمحرك كالقلم.
رسالة لأبي بكر محمد بن يحيى في المتحرك
قال أبو بكر محمد بن يحيى قد تبين في السماع الطبيعي بالأقاويل التي تعطي اليقين إن كل حركة تكون عن أكثر من محرك واحد، وهي التي لا يتحرك فيها المتحرك بنفسه بل بغيره، فإنها منسوبة إلى المحرك الأول خاصة دون سائر المحركين، وذلك أيضاً بين قريب بنفسه. وهذه القضية الكلية الصادقة يعترف بها الجمهور عند أخذها في موادها، فلذلك يقولون قتل الرشيد جعفراً، كما يقولون قتل المنصور أبا مسلم، وإن كان القاتل الأقرب لجعفر مسروراً أو من ائتمر له، وقتل أبي مسلم المنصور بيده، ولا ينظرون إلى المحرك الأقرب ولا يحفلون به في ذم أو حمد، اللهم إلا فيما كان للأقرب فيه موقع اختيار، فلذلك هو في بعض الأمور يجري مجرى الأول، فإن الأول إنما يعتقد فيه أنه بهذه الصفة. فإنه قد تبين في الثامنة من السماع أن المحرك الأول على التحقيق هو محرك الحركة السرمدية، لكنه بالإضافة إلى حركة حركة من الكائنة الفاسدة بالعرض لا بالذات. فلذلك يقال اللوم والحمد على ما حرك بالعرض. ولذلك كان في الشريعة عقاب قاتل الخطا غير عقاب قاتل العمد. وأما الآلات فليس لها في وجود تلك الحركة حظ من حمد واحد أو ذم اللهم إلا في بعض أحوالها، وسواء كانت المحركات المتوسطات أجساماً غير متنفسة أو أجساماً متنفسة، ناطقة كانت أو غير ناطقة. وإن من ذم أو حمد المحرك القريب فهو، كما يذكر أفلاطون في الكلب، أنه يعض على الحجر الذي يرمي به ويترك الرامين اللهم إلا إن كانت الآلة المتنفسة بحيث يمكن أن يعتقد فيها أنها أول محرك. وهذا كله بين بنفسه ويقين معروف موثوق به. وظاهر أيضاً مما تبين هناك وتبين في كتاب الحيوان وكتاب النفس وما كتبناه نحن في رسالة الوداع، وفي أقاويل لنا غيرها أن المحرك الأول في الحيوان هو النفس. وهذا أيضاً أمر ذا تأمله الناظر أدنى تمل صح له وتبينه. وقد تلخص في الأقاويل التي كتبت في النفس أن المحرك الأول للحيوان هو النفس النزوعية، وهي صنفان متقابلان لهما فعلان متقابلان: أحدهما لا اسم لجنسه فلنسمه على الإطلاق المحبة، ومنها يكون الطلب والانبساط، وفي هذا الجنس تدخل الشهوة الغذائية والغضب وسائر الأصناف الأخر. والصنف الثاني الكراهية وبها يكون الهرب أو الترك وفيها يدخل الخوف والسأم والملال وما جانسه، وتبين هناك بالأقاويل البينة أن سبب هذه هي النفس الخيالية. وقد لخص هناك أصنافها. وهذه كلها توجد للإنسان إذا كان حيواناً، ويختص الإنسان بالحركة الاختيارية، وهي التي تكون عن النطق، وبها ينسب إلى الإنسان الخطأ والصواب، وبها يحوز الصنائع. وهذه أصناف قد لخصنا القول فيها في مسيرة المتوحد وتبين هناك أن الحركة الإنسانية الخاصة بالإنسان هي التي تكونه عن الأمور التي توجبها الروية الصادقة. وبين أن الروية إنما تكون ضرورة نحو أمر ما، وإنها نحو غاية ما، وهي الخير على الإطلاق. فإن هذا الخير هو معشوق بالطبع محبوب للكل، والحيوان البهيمي إذ لم يعط النطق وهو الذي يعرف الخير بالإطلاق جعلت له معرفة الخير مقترنة بالمواد وذلك بالحس وبالتوهم. فأما الإنسان فإنه يعرف الخير في مواده ويعرفه مجرداً. ولذلك متى اشتهى الإنسان شيئاً، ثم علم بوجه ما أن ذلك الشيء الذي كرهه خير، ترك ما اشتهى وطلب ما كره في ذلك الأمر، فإن لم يفعل ذلك كان ذلك من فعله سفهاً ولعباً وضلالاً وما شاكل هذه الأصناف، إذ ليس لهذا الصنف اسم يخصه، وكان فعله ذلك حيوانياً لا إنسانياً. وقد بينا ذلك كله في سيرة المتوحد. فالمحرك الأول على الإطلاق في الإنسان هو النفس وأجزاؤها، وأما الجسد فهو مجموع الآلات. فإن مجموع الآلة الطبيعية هو البدن، ولذلك الحيوان قد يموت ولم يعدم من جسده عضو، كما قد يغيب النجار ولا يعدم من آلاته آلة، غير أن الفعل لا يتم لها إذ المحرك الأول قد عدم. وقد بينا في سيرة المتوحد أن الإنسان يقال أولاً في المعرفة بالجنس للجسد ولذلك يسمى الميت حيواناً باسم الجنس للجسد، ونظن ذلك على طريق التواطؤ ولهذا السبب تكرم جثث الموتى. ويقال ثانياً على النفس. ولهذا يقول سقراط يوم قتل لمن حضره فتكفلوا بي مر يظن على خلا الكفالة التي تكفلني من الحكام، إلى سائر ما قاله في هذا الفصل، فإن سقراط يقول: إن الذي يكون في موضعه عما قليل ليس بسقراط لكنه جثة سقراط، وأما سقراط فإنه ذهب مبادراً مسرعاً. وقد تبين في تلك الأقاويل في رسالة الوداع تناسب المحركات التي في الإنسان. وإذ ذلك كذلك، فظاهر أن الخير موجود بنفسه غير مائت ولا بال، وأنه معشوق في الطبيعة، وأن الحركة عنه وإليه هي أفضل الأمور الموجودة للإنسان من جهة ما هو ذو جسد، فإن حصوله أفضل الأمور الموجودة للإنسان بالإطلاق، وأنه سواء عند وجوده له كان ذا بدن أو غير ذي بدن اللهم إلا من جهة ما يحرك، فإنه لا يمكن أن يحرك أو يكون ذا بدن، فإن البدن إنما كان ليحصل له هذا الخير، فهو آلته التي بها يتحرك، فهو له كالسفينة التي يتحرك بها الملاحون، فإذا حصل كان عند ذلك البدن آلة بها يحرك غيره، ولم يكن له في وجوده الأخص أثر اللهم إلا في وجوده محركاً، فإن كونه غاية وفاعلاً غير وجوده غاية، فلذلك متى ترك البدن كان غاية فقط. فإذا حصل من إنسان آخر في هذه الرتبة، كان عند ذلك هو جميع المتقدمين.
في الوحدة والواحد
يجب أن نفحص عن الواحد وأصنافه، وعلى كم نحو يقال، فإن ذلك يدخل الشك فيما تبين في المقولات أنها واحدة، وأن أرسطو مثلاً والفارابي واحد بعينه ذلك، وبالجملة في الأجناس والأنواع فائدته القول في هذا النحو في محمول القضية. فقد ظهر إذن في الإثبات الموجود في النفس أن النفس إنما ركبت بذلك هذا النحو من التركيب. وكذلك يجب أن نتجوز في العلم الطبيعي عندما نبرهن فيه على الأنواع التي لها شخص واحد، إما اللذين كالشمس والقمر، وإما الذي كالأرض، فإن الأرض أنما يوجد لها شخص واحد كلي، وهي تفني بأجزائها، وكذلك الهواء والأرض في ذلك أشد تغليطاً. فإن البيان على الكلي لا على الشخص، حتى لو كان للشمس مثلاً أشخاص كثيرة لكانت تتحرك خارج المركز، فعند ذلك تكون المقدمات ذاتية، وإن أخذت على أنها ذلك الشخص، لم تكن المقدمة ذاتية على هذا النحو، وكانت علمية بالعرض، وعند ذلك يمكن ن تكون هذه المقدمات، سواء كانت أول أو نتائج، نافعة في الحدود بالذات. وجنس العدد هو المجتمع من الواحد ومن الكثير. وأعني بقولي: المجتمع، المتقوم. كما يقال الحيوان يجتمع من المغتذي والحساس، وليس في العدد معنى غير هذين. ونجد الأعداد إذا تكثرت وجدت بذلك أمور كثيرة مختلفة، فأولها الزوج والفرد والجذر والمربع والمكعب، وبالجملة فالمجسم والمسطح والأول والمركب والمباين والمشارك والتام والناقص والزائد والمحاب وسائر ما يلزم هذه. فقد يجب أن ننظر كيف لحقت هذه اللواحق المختلفة أجناسها لما تركبت من معنيين. الواحد قد يكون شخصاً مشاراً غليه كزيد وعمرو وهذا البياض وتلك الاستدارة. وقد يكون صوراً روحانية كالإسكندر وتبع. وقد يكون أنواعاً، وبالجملة فأمور معقولة كالخمسة الستة والإنسان والفرس، وبذلك نقول أن القطوع ثلاثة وإن ذوات الأضلاع الأربعة خمسة أنواع. والواحد الموضوع للعدد الذي يجري منه مجرى الهيولى فليس بواحد من هذه ضرورة، بل هو معنى الوحدة في موضوع، سواء كان هيولانياً أو روحانيا أو معقولاً، لأن الوحدة مما يقال في موضوع، اللهم غلا فيما وجوده أنه واحد، فإن تبرهن ن شيئاً بهذه الصفة دلت فيه الوحدة على ما يدل الواحد. وظاهر أن ما هذا سبيله فليس موضوعاً لعدد، إذ لا يتكثر، فإن التكثر إنما يلحق الواحد من أجل الهيولى. فالواحد الموضوع للعدد فيه ضرورة أمر يجري مجري الهيولى. وإذا كان الواحد يلحق المعقولات فالمعقولات له تجري مجرى الهيولى. وظاهر هنا إن الواحد يقال باشتراك على المعقولات وعلى الموجودات الهيولانية. وقد تلخص في غير هذا الموضع أن الواحد يقال على المعقول بتقديم وعلى الهيولاني بتأخير، لكن ليس في الزمان، وتبين هنا مما قلناه، إذا نظر فيه يسر نظر، أن العدد يقال على الهيولانية بنحوي التقدم، وعلى المعقولات بالتأخير وعلى طريق النسبة. فلننظر في اللاحق للمعقولات، فالواحد المعقول هو متقوم من معقولين: أحدهما يجري مجرى الهيولى، والأخر يجري مجرى الصورة. وهذا غير مدفوع مما يوجد العقل، فإن العقل قد يكون موضوعاًن فإن الموضوع والمحمول هذه حال أحدهما من الآخر، فإن المحمول صورة الموضوع. وقد يكون ذلك المحمول موضوعاً كالحد الأوسط في الشكل الأول، وما أحسن ما شبهه أرسطو بالخط المستقيم المتساوي بعضه على بعض. وإلى هذا المعنى أشار أفلاطون عند محاكاته إياه بالدوائر اللولبية. وإن نحن فرضنا أن ذلك يعرض في معقول لزم من ذلك ما لا نهاية معاً في الوجود، وذلك محال لا مرية فيه. فإذن سننتهي ضرورة إلى عقل لا يمكن أن يوضع، فيعمل منه شيء. بل أن عقل فذاته حتى يكون معنى عقل ومعقول فيه واحداً. فهذا هو الذي يلزمه القول أن هناك شيئاً أو عقلاً وهو بهذه الصفة. وهذا القول رسم، فإنه لا يتقدم ذلك المعنى بأنه لا يعقل منه غيره، بل أن هذه كلها نسب تلحقه، وأعدام نسب تلحقه. والذي يظهر من القول نه أخص به فهو الحد الذي يجري مجرى نتيجة برهان، وهو المقام مقام الجنس، وهو المدلول عليه بقولنا عقل. لكن هذا ليس بجنس بل هو اسم مشترك مشكك، وإنه أخص من قولنا شيء، إذ الشيء ليس يدل على الهيولاني وعلى غير الهيولاني، وعقل يدل على ما ليس بذي هيولى، فإذن يدل من هذا الوجود على جهة يمكن أن يتصور بها بنحو أخص. وأما أي عقل هذا العقل، وكيف لنا تصوره التصور الأتم بحسب طباع الإنسان، وهل تصوره الأكمل هو بحسب طباعنا أو بحسب طبيعته، فإن كان بحسب طبيعته فهو تصور تام من حيث هو موجود، وإن كان بحسب طبيعته، فإن كان بحسب طبيعته فهو تصور تام من حيث هو موجود، وإن كان بحسب طباعنا كان التصور في نفسه تم، إذ لا يمكن أن يكون أنقص فإنه ليس بذي هيولى كالزمان والحركة والمكان وسائر الموجودات الناقصة. وما هل تصور الموجودات الناقصة الوجود بحسب طباعنا أو بحسب طبعها ففيه فحص وعويص. وأما الكاملة فقد لخص القول فيها أرسطو فيما بعد الطبيعة، وذكر ذلك مرسلاً في أول المقالة الأولى من كتاب الفلسفة الأولى، وقد ذكره أبو نصر وغيره وأرشد إليه. وهذا القول جرت العادة أن يقال في التصورات الناقصة أما لأنها ناقصة كذلك بطباعها، أو لأنها كذلك من أجل طباعنا، فنقول: إن المعقولات الأول التي تفيدنا إياها الطبيعة من غير سعي لنا في ذلك نعمده ولا تفكر، فهي المبادئ الأولى للفكرة والروية، وبها يسمى الجسم الموجودة فيه هذه إنساناً ناطقاً بتواطؤ، فهي المقولات. فإن أي حيوان لم توجد فيه هذه ما أنها فيه بالقوة وهو كذلك بالطبع كالجنين ساعة يولد، أو بالعرض كالحد أصناف المعتوهين، فإن ذينك ليس واحد منهما إنساناً بالإطلاق، فإن سمي إنساناً فعلى الجهة التي يسمي الجنين عند كمال الخلقة في الرحم إنساناً، وإنما هو إنسان متكون، والآخر إنسان خارج عن الطبع. فالمقولات هي تصورات لأمور موجودة في أجسام محسوسة، فكل واحدة منها صورة مجردة عن الهيولى، لكن لا تفيدها الطبيعة إلا مقترنة بموضوعاتها غير مجردة عنها وغير متصورة مكتفية بأنفسها، كما نجد ذلك عند الصبي أول ما يعبر عنها في نفسه، فيسال ويجيب، فإنه إذا سئل عن محسوس واحد بعينه كم هو وأين هو وكيف هو ومتى كان، أجاب عن كل سؤال بواحد من أنواع المقولات الخاصة بذلك السؤال أو أجناسها المتوسطة وأشخاصهم، ثم بعد هذه الحال تصير له حال أخرى، وهي التي تسمى الروية، فيركب ويفصل ويفتش، وبالجملة فهو في الحالة الأولى الطبيعية إنما يسلك العقل عنده على خط مستقيم غير متقسم، وكذلك ما لم تحصل له الروية النظرية، أو من العملية الجزء الذي تشارك فيه النظرية. فإذا حدث له شيء من النظرية فقد قسم الخط بنصفين، وثنى أحد النصفين على الآخر، وخرج العقل من سلوكه على دائرة إلى سلوكه على خط لولبي، وهو عند ذلك يجعل العقل شيئاً ما موجوداً أو يقيمه مقام الموجودات الهيولانية، ويكون العقل في حال وضعه مؤلفاً من شيئين: من المحمول وبه يصير معقولاً، ومن الحال التي بها صار معقولاً موضوعاً لا. فإن الموضوع إن كان هو والمحمول واحدا من جميع الجهات، لم يكن ذلك محمولا ولا هذا موضوعاً، ولا كان المؤلف منهما قضية، ولذلك لا يصدق ولا يكذب، وإنما يكونان اسمين مترادفين، وقد تلخص ذلك في كتاب الحروف. والمعقول يوجد موضوعاً بوجوده: أحدها عندما يحمل عليه حده أو أجزاء حده التامة. مثل قولنا: الكرسي جسم من خشب صنع ليجلس عليه، وقولنا: الكرسي جسم. والثاني عندما تحمل عليه الأعراض كقولنا: الكرسي طويل أو عريض. والثالث وعندما تحمل عليه الأحوال المنطقية كقولنا: الكرسي جنس متوسط. والرابع أو عندما نفحص عنه كيف وجوده المعقول، لا كيف وجوده الهيولاني. فإن الفحص عن وجوده الهيولاني، وهو وجوده في أشخاصه، يقف بنا على جسده، وفحصنا عن وجوده المعقول ليس يقف بنا على هذه، بل يقف بنا على ما هو العقل بالفعل، لأنه لا فرق عند ذلك بين وجود الكرسي وبين وجود الإنسان من حيث هما معقولان. وهناك وجوه أخر تعديدها فيما نحن بسبيله فضل لا يحتاج إليه، فلنقتصر من أصناف الحمل على هذه، ولنفصل القول فيها فعند ذلك يظهر لنا الحال التي حاكاها أفلاطون بالسلوك على الدوائر اللولبية، وأرسطو بانثناء الخط المستقيم. وجمع أنواع الحمل إذا أحصيت الإحصاء اللائق بهذا الفحص كانا: إما حمل موجود في مشار إليه على موجود مشار إليه كيف كان، أو يستند إلى مشار إليه، وأقسامه: حمل الجنس والفصل على النوع، وحمل الجنس على النوع. وحمل العرض على النوع. والحمل من طريق ما هو على الشخص. والحمل من طريق ما ليس هو على الشخص. أو حمل ما ليس مشاراً إليه على ما ليس بمشار إليه، ولا من جهة أنه في مشار إليه، بل من جهة ما تنزل المعقولات منزلة الموجودات، فيكون المعقول يجري مجرى الشخص، وذلك حمل الأحوال المنطقية على المعقولات الأول، كقولنا: الحيوان جنس والناطق فصل. وهذا يدخل في حمل العرض على الشخص، فليعد في القسم الخامس. والثاني حمل ما يجري من هذه من طريق أنها موجودات تتنزل منزلة الأشخاص. والدلالة على المعقولات من هذه الجهة غير معروفة في لسان العرب، وأحرى بأن يكون في سائر الألسنة، وهو في طلبنا هذا المعنى الكلي الذي نحمله على كثيرين. وأما ما يدل عليه لفظ إنسان أو فرس ما هو وما قوامه، فهو من جهة يعد في القسم الثاني، ومن جهة أخرى يليق أن يعد في الرابع. إلا أنه في القسم الثاني أحرى وأليق. وبالجملة فليعد قسماً بنفسه من غير تقسيم. كمل ما وجد من هذا القول. الحمد لله على نعمه.
======================
ج2.
رسائل فلسفية لابن باجة/القسم الثاني
تقديم الناسخ:
قال القاضي الحسن بن محمد بن محمد بن محمد بن النضر وهو المعروف بالأديب: الواصل على يد الوزير أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام من كتب الوزير الفاضل أبي بكر ما نذكره. فمنها: شرحه لكتاب السماع الطبيعي. والقول على بعض كتاب الآثار العلوية. وكذلك على بعض كتاب الكون والفساد. والقول على بعض المقالات الأخيرة من كتاب الحيوان. والكلام على بعض كتاب النبات. وقول ذكر فيه الشوق الطبيعي وماهيته وابتدأ أن يعطي أسباب البرهان وحقيقته. ورسالة الوداع إلى الشيخ الوزير أبي الحسن المذكور. وكتاب اتصال العقل بالإنسان كتب به إليه أيضاً. والقول على القوى النزوعية كتبها إليه ما بين الكتابين المذكورين. وفصول تتضمن القول على اتصال العقل بالإنسان. وكتاب المتوحد. وكتاب النفس ينقص منه مقدار يسير ذكر الوزير أنه سقط منه بعد وقوعه إليه. وتعاليق على كتاب أبي نصر الذهنية. وفصول قليلة في السياسات المدنية وكيفية المدن وحال المتوحد فيها. ونبذ يسيرة على الهندسة والهيئة. هذا قول القاضي الأديب رحمه الله ووقع إلي مجموعة تتضمن ما هذا مثاله من كلام الشيخ الكبير الوزير أبي بكر رضي الله عنه فأثبتها كما ترى:
ومن كلامه رضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم وبه الحول والقوة والتوفيق والعصمة
بين العقل والقوة المتخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول
انظر ببصرة نفسك في نفسك إلى ما بين العقل والقوة المتخيلة من العجائب، ترى يقيناً أن العقل يأخذ من القوة المتخيلة معلومات هي المعقولات، حسب ما ذكرته، وإنه يعطي القوة المتخيلة معلومات آخر يبسها فيها: أما معلومات استنبطها العقل وبسطها في المتخيلة، مما يقدر الإنسان أن يصنعه بإرادته من آراء خلقية وصناعية وإما أن يعطي العقل القوة المخيلة معلومات يبسطها فيها من حوادث جرت في العالم يوجدها فيها قبل حدوثها، أو ما حدثت ولم تحصل في القوة المتخيلة عن حاسة، بل عن العقل الذي يخدمها، منها ما يكون بالرؤيا الصادقة، والعجب العجيب فيها ما يكون بالوحي أو بضروب الكهانات.
وبين أن ما يعطيه العقل الإنساني للتخيل ليس هو منه ولا يضعه هو فيه، بل يفعل هذا الفعل فيه فاعل علمه قبل، قادر على إيجاده لا إلاه إلا هو هو سبب وجوده، ومحرك الأجرام الفاعلة بإرادته إلى أن تفعل ما يريده في الأجرام المنفعلة كما أنه لما أراد أن نعلم ما يحدثه في العالم أفاض على الملائكة علم ذلك، ومن ملائكته يفيض ذلك العلم على عقول الإنسان فيدركه إنسان إنسان بحسب ما وهب من الاستعداد لقبوله. وهذا ظاهر، في الأكثر، في الصالحين من عباده الذين هداهم الله، وأخلصوا به وبملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه، فإنه يفيض عليهم، بتوسط ملائكته في الرؤيا، وغير ذلك، عجائب من الحوادث الحادثة في العالم.
ومن كلامه في المعرفة النظرية والكمال الإنساني أو في الاتصال بالعقل الفعال
وطرق إلى اليقين ببقاء النفس الناطقة إذا كملت، وكمالها أن تصير عقلاً بأن تعقل في ذاتها معقولات من التي هي عقل بالفعل، أحطها مرتبة عقل الإنسان وإذا عقل الإنسان هذه العقول، وصارت له عقلاً ومعقولاً، فتكون حينئذ صورة له يكمل بها كمالاً تاماً، بحسب ما للإنسان الكامل أن يكمل كأرسطو، أو بهداية من الله عز وجل كالأولياء. وبذلك يكون فعله في ذاته بذاته، وفعله هو أن يرى ببصيرة عقله وعمله يقيناً، وبذلك يرجع على ذاته بذاته فيكون الراجع والمرجوع إليه واحداً، كما قال الإسكندر، فيكون روحانياً لا جسمانياً، ولا يحتاج في وجوده إلى جسم، ولا أن يفعل في جسم، ولا في قوة جسمانية، وينبو عن القوة المتخيلة.
وذل أن قوة الإنسان النظرية تفعل أولاً في القوة المتخيلة، وهي قوة في جسم، بأن تجرد من المخلوقات الشخصية المتخيلة معانيها بأن تفعل وتعلم ما كل واحد منها بأسبابها الكلية، ولا تزال قوة الإنسان العقلية تتزيد بالفكرة في المخلوقات، وتطلب أسبابها بإحضار المخلوقات في القوة المتخيلة حتى تتمكن معقولاتها، وتصير تلك المعقولات عقلاً، ويرى العقل ببصيرته تلك المعقولات فيه، فلا يحتاج عقل الإنسان إلى قوة جسمانية يفعل بها، بل يفعل في صورته بأن يقل ذاته التي هي عقل، فيكون فعله هو عقله، ويكون بذلك باقياً، وفعله هو ذاته، كسائر العقول التي لا يفنى فعلها.
إن يعقل ويعلم لا يتحاج إلى شيء مادة هي سبب الفساد، وإنما حاجته إلى العقل الذي أوجده بما يفيض عليه، كحاجة سائر العقول العالية إلى العقل الذي فوقها وهو الذي أوجدها. والأعلى يفيض على الذي دون دائماً، والكل من السبب الأول على ترتيب. وهذا قد يكون كمالاً للعقل بطريق التعلم البرهاني حتى يتمكن ذلك صورة وقد نجد بالفعل ما هو أعلى من غير تعلم، على نحون ما يبلغه أصحاب الفطر الفائقة. فغن الكمال الإنساني الدائم قد يكون بأن يفيض على القوة الناطقة إذا كانت. دفعة أو بتدريج من العقل الفعال بصيرة يبصر بها الإنسان العالم، فيحصل له ما يحصل للواصل بالتعلم بعد التعلم من دوام الفيض وهؤلاء درجات أعلاها الأنبياء على درجاتهم، ثم الأخذون في أعمالهم و. بما جاءت به الرسل حتى يفيض عليهم ما يفيض على المتعلمي من غير تعلم، و.. أولياء الله على درجات.
والمعطي هذا كله العقل الفعال يظهر أولاً للمتعلمين بصيرة يرون بها المعقولات الأول التي بها هؤلاء يمتحنون حتى يصلوا، فإذا وجد استعداداً فائقاً أعطى ما هو أكثر بحسب ما هو استعداد في استعداداً فلا يبعد أن يصل بما فطرته الأنبياء إلى درجات من الكمال أكمل مما يوصل بالعلم البرهانين إذ كان الإنسان بالاستعداد قوياً للقبول، فإن العقل الفعال أبداً يفيض عنه كمال تام للإنسان في الغاية. والتقصير إنما يلحق من جهة الاستعداد القابل لا من جهته. وكما يفيض عن كل واحد من العقول الثواني على ترتيب عقل شبيه به ليس هو، كذلك يفيض عن العقل الفعال عقل شبيه به ليس هو هو، يبقى ببقائه، لا يحتاج في وجوده إلا له، كسائر الثواني التي لا تحتاج في وجودها إلا للذي أوجدها بما يفيض عليها أبداً.
وطريق الصوفية المستعدين للقبول، وطريق الغزالي من الطرق الموصلة، والطرق المأخوذة أولاً عن نبينا صلعلم. فأرى أن تمزج ما عندك من الكمال التعليمي بذكر الله عز وجل، وبالفكرة في كماله، بما عندك من اليقين بوجوده، وإنه عالم، وإن علمه بذاته فقطن وعلمه هو ذاته، فإنه يعلم جميع الأسباب من جهة علمه بذاته وبكمال ذاته التي بكمالها فاض وجودا ذلك الموجود، وإنه عالم بما فاض عنه، ولعلمه بذاته فيعلم ما يفيض عنه. فاعمل على تصفية نفسك بذكر الله وتعظيمه بصفاته على ما ذكر الشيخ أبو نصر في كتاب الله. وهو الموفق للحق لا رب غيره.
ارتياض في تصور القوة المتخيلة والناطقة
يرتاض الإنسان أولاً ويقوى في تصور القوة المتخيلة التي. القوة الناطقة فيها أعمالها أولاً وفيها تظهر وهي الموضوع. إذا حصلت فيها متخيلات المحسوسات كلها أو جلها فأقولك القوة المتخيلة الموجودة في الإنسان بالفعل، هي القوة التي يجدها الإنسان في نفسه، يرسم فيها رسوم المحسوسات، ويتصور بها ويحضر الإنسان فيها رسوماً من المحسوسات متخيلة بعد غيبتها عن الحواس، فيرى الإنسان فيها صفة زيد وعمرو وصفة داره ودابته وغير ذلك من المحسوسات المشار إليها، ويكون هذا الفعل من القوة المتخيلة في اليقظة والنوم.
وهي التي تركب صوراً من المتخيلات لم يحس بها، بعضها صادقة مثل تخيلنا زيداً في وضع كذا أو صفة كذا إذا كان كذلك. وبعضها كاذبة إذا تخيلنا زيداً بصفة كذا أو في موضع كذا وليس هو كذلك، ومثل تخيلنا عنزاً برأس إبل أو براس فرس أو غير ذلك من الأمور المخيلة الكاذبة.
وقد تركب وتتخيل أمراً ليس بشخص يحمل على أكثر من شخص واحد، فتحاكي صفة المعنى وتتخيله صنماً يعم أكثر من الواحد، ولا يعم كل ما يقال عليه المعنى، فتحاكي الإنسان وتتخيله فيها منتصب القامة ذا لحم وعظم متغذياً حساساً. لكن تتخيل الإنسان بمقدار ما، ولذلك لا يعم ذلك المتخيل كل إنسان. وللعقل في هذا التخيل فعل ما.
وإذا تأمل الإنسان جميع ما ذكرته في نفسه وجد القوة المخيلة في نفسه على ما ذكرته لا شك فيه ولا في وجودها. وكذلك وجود القوة الناطقة يجدها الإنسان في نفسه، ويعلمها علماً يقيناً لا يشك فيه بشيء من التثبت. وذلك أنا نجد في أنفسنا ما نتميز به ونفصل عن سائر الحيوان المتغذي الحساس، فإن الإنسان يجد في نفسه معلومات تحتوني على ميز الجميل والقبيح والنافع والضار يحوزها ويميزها، ويجد في نفسه أموراً يرى صدقها لا شك فيه، وأموراً هي على ظن، وأموراً هي كذب لا يجوز في الوجود. كل هذه المعلومات يجدها الإنسان في نفسه.
وهذه المعاني المعلومة في النفس تسمى نطقاً، وما يوجد في الإنسان يسمى ناطقاً. والنطق يقال على القوة الناطقة بالقوة التي شأنها أن توجد فيها هذه المعلومات، لأن الإنسان يوجد وليس فيه هذه القوة، وثم يقبلها، فتكون فيه بعد أن لم تكن، فقبل أن يقبلها له قوة شأنها أن تقبلها ليست في الفرس ولا في الحجر. ويقال أيضاً نطق على هذه المعلومات إذا كانت بالفعل موجودة بالقوة التي شأنها أن تقبلها، ويقال نطق على الألفاظ حين نعبر بها عن هذه المعلومات الحاصلة بالفعل. وكل هذا بين بنفسه بأدنى تأمل.
وهذه المعلومات الحاصلة بالقوة الناطقة بالفعل متى أخذت بالإضافة إلى الأشياء المأخوذة عنها سميت علماً، لأنها علم بها، ويه التي عرفتها، ومتى أخذت من حيث أدركتها قوة توصف بها، وتحمل على موضوعاتها المأخوذة عنها، سميت معقولات. ومتى أخذت من حيث أدركتها القوة الناطقة، وكملت بها، وخرجت بها من القوة إلى الفعل سميت عقلاً.
والنطق يخرج من القوة إلى الفعل بأن يحصل في نفس الإنسان معلومات. وحصول المعلومات يكون بدرجات أولها علم هذا المشار إليه. وهذا يكون أولاً بحصول حال هذا المشار إليه في القوة المتخيلة حصولاً مجملاً دون أن يجوز التخلي فيه، ويبرز صفة من صفاته، لا أنه الأبيض ولا أنه الطويل ولا النحيف، بل يميزه مجملاً، ولا يلتفت إلى صفة من صفاته، وهذا لضعف العلم بالشيء يشبه تخيل الحيوان الذي له تخيل. ثم إذا تمكن حال هذا المشار إليه في القوة المتخيلة، ارتقى الإنسان إلى هذا المشار إليه بصفات مفصلة يعرفه بها بالإضافة إلى مشار إليه واحد بعينه في العدد يميزه منها فيميز زيداً بأنه الطويل الأبيض النحيف، ويأخذ هذه الصفات في التخيل كأنها شيء واحد بعينه في العدد، مضافة إلى مشار واحد بعينه في العدد، ذ هي مضافة إلى واحد بعينه في العدد يميزه منها فيميز زيداً بأنه الطويل الأبيض النحيف، ويأخذه هذه الصفات في التخيل كنها شيء واحد بعينه في العدد، مضافة إلى مشار واحد بعينه في العدد، إذ هي مضافة إلى واحد بعينه. ولذلك زعم قوم ن ما تدل عليه الألفاظ باطل، إذ كانت تدل على كثرة فيما ليست فيه كثرة ولا هو كثير، لأن هذا المشار إليه الذي هو الطويل والأبيض ليس بكثير. وهذا كما ذكر الشيخ أبو نصر مخالفة للمحسوس وللمعارف وخروج عن الإنسانية. وبهذه المعرفة تحصل للإنسان المعرفة بالأشخاص من جهة ما هي أشخاص مشار إليها، وبها يحصل شخص زيد ويعلم. والصفات التي يعرف بها على النحو الذي ذكرته هي أشخاص الأعراض التي لا يوصف بها سواه، ولا يقع بها تشابه بين اثنين أصلاً، لأن تلك الأعراض لا يوصف بها سواه، لأن البياض الذي في زيد ليس هو البياض الذي في عمرو. به ما هو شخص بياض. وبعد حصول المتخيلات في القوة المتخيلة على هذا النحو تكون القوة الناطقة تنظر ببصيرتها فترى المعاني الكلية التي تحمل على ما في القوة المتخيلة، وبها تخيل وتميز ما هو كل واحد منها.
وإذا ذكرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني الكلية ميزتها وأحضرتها ورأتها، وذلك على ثلاث جهات: إحداها: أن تحضر القوة الناطقة هي هذه المعاني الكلية، وتراها في الأشخاص المتخيلة التي أخذتها عنها، فتحضر القوة الناطقة التي لزيد المعنى الكلي، وتراه ببصيرتها في أشخاص غير الأشخاص التي تراها فيها قوة عمرو، والناطقة على هذا تميز المعاني الكلية عند الجمهور وعند أولي النظر، فتكون المعاني الكلية متميزة عند الجمهور على هذا النحو فيرونها في أنفسهم ويحضرونها على ما ذكرته.
والجهة الثانية: أن تميز القوة الناطقة هذه المعاني الكلية حق الميز، لكن متى رأتها ببصيرتها، وحضرت في النفس مرئية، فإنما تراها ببصيرتها في القوة المتخيلة أيضاً وإن تفعل القوة المتخيلة أيضاً، ما شأنها أن تفعله من المحاكاة، بن تحاكي المعنى الكلي، وتصور فيها صنماً يعم أكثر من واحد، ولا يعم كل ما يقال عليه ذلك المعنى، كما يحاكي المصور صورة فرس من حجارة وكما يخطه الرسام في بسيط، لكن ما تحاكيه القوة المتخيلة أكمل، لأنها تحاكي، لأنها تصور صورة فرس متغذ صهال، لكن ما يعم كل ما تحايكه كل فرس، لأنها إنما تحاكي الأشياء محدودة بنهايات ومقدار من المقادير، فلا يعم صنمها مثلاً الفرس الكامل والمتوسط ولا المهر، وإنما يعم صنمها ما كان على المقدار الذي حاكته. فإذا ميزت القوة الناطقة المعاني الكلية، ورغبت إلى إحضارها لتراها وتبصرها ببصيرتها عند الفكر أو عند التفهم بالقول والمخاطبة، فإنما تراها ببصيرتها في الصنم الذي حاكته القوة المتخيلة. لكن القوة الناطقة تميز في ذلك الصنم أن عمومه ليس على الكمال، فلا يضرها ذلك فيما تفكر فيه وتبحث عنه في ذلك المعنى المعقول. وعلى هذا النحو من التمييز تتميز المعاني الكلية عند الصناع وعند أكثر من ينظر في العلوم فإن الصانع عندما يفكر كيف يصنع مصنوعاً ما، يحضر صنم ذلك المصنوع فيميزه ويتخيله ويدبر كيف يصنع، وكذلك الناظر في العلوم. معلوماته ليعلم ما هي وغير ذلك مما يوصف يحضرها أصنافاً في القوة المتخيلة.
وبهاتين الجهتين تخدم القوة المتخيلة القوة الناطقة بأن تحضر فيها خيالات الأشياء، إما خيالات أشخاص بأعيانها وإما صنماً يحاكي المعنى الكلي على النحو الذي ذكرته، فنأخذ القوة الناطقة في المتخيلات صفات كلية. ومن رأى أعمال القوة الناطقة في المتخيلات التي في القوة المتخيلة، حسب ما ذكرته، رأى تحقيق ما ذكرته يقيناً لا شك فيه، ورأى بقوته الناطقة حين قاضت عليها الموهبة، تلك الموهبة، كما نرى بقوة العين ضوء الشمس بضوء الشمس. والسبب القريب في الشمس، نبصر بها ونرى مخلوقات الله تعالى حتى نكون ممن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة إيماناً يقيناً، فنكون من الذين "يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار". ولا فكرة إلا بتلك الموهبة، وتلك الموهبة هي اتصاله بالعقل الفعال.
ولنرجع فنقرر ما ذكرناه على جهة الارتياض ليتمكن ولا بد من مساق القول من قبل ما مد فأقول: يجب على الإنسان أولاً حتى يرى ببصيرة نفسه القوة المتخيلة كما يرى الأشخاص ببصره ويميزها حق التمييز، ثم ينظر إلى القوة المتخيلة من حيث تتكرر عليها أشخاص المخلوقات، وكثر من المتخيلات فيها ماله شخص واحد، وماله أشخاص كثيرة، وما يتعلق بالأشخاص من الأعراض من مقدار ولون وعلم وصحة ومرض وحركة وزمان ومكان وغير ذلك من أشخاص المقولات، فإذا فعل هذا رأى ببصيرة نفسه أن للقوة الناطقة نظراً في المتخيلات تدرك بها ما تشترك به وما تتباين به المتخيلات الحاصلة عن أشخاص المخلوقات. والمعاني التي تشترك بها والتي تتباين بها هي الصفات والمحمولات والمعقولات التي تتميز بها وتوجد معلومة بها. وإذ ذاك فانظر كيف تكشفت هذه المعاني المدركة للقوة الناطقة بالموهبة الفائضة عليها كما تنكشف للبصر المبصرات بنور الشمس بعد أن كانت مغيبة، قبل أن يفيض على هذه نور الشمس وعلى تلك موهبة الله عز وجل التي بها نرى الكل وأجزائه، تحكم أن الكل أعظم من جزئه، وبها نرى الأعداد المأخوذة في معدودات مختلفة إذا قدرها الواحد و.. الأعداد المأخوذة في المعدودات المختلفة متصلة بعضها.. وإذ تكرر النظر في مخلوقات حتى يحضرها الإنسان في القوة المتخيلة، وفكر في مخلوقاته وفي خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار. والوحي والرؤيا وما تنطق به ألسنة الكهنة، تكشف القوة الناطقة. ببصيرتها، والتزمت التزاما ضروريا وجود موجودات لم تدرك بخيال ولا بحس، بل أدركتها القوة الناطقة علماً محضاً مختصاً بها، أدركته فيها وبها، وحينئذ ترى الناطقة ببصيرتها المعلومات فيها وتنبو عن التخيل، وإذا ذاك يتسع نظرها، وتتشوق إلى معرفة أسباب المخلوقات التي عقلتها. فإنها لا ترى أنها علمت المعلومات على ما ينبغي حتى تعلمها بالأسباب الأربعة، فيما كانت له الأسباب الأربعة، أعني إلى معرفة صورة الشيء، وما توجد فيه الصورة من المواد ومن الموضوع، وفاعله، والغاية التي لأجلها وجد. فإن الإنسان بالطبع يتشوق إلى معرفة هذه الأسباب ويبحث عنها ويسأل حتى في الأمور المحسوسة عن الأسباب الجزئية. ومثال ذلك بين في كل مصنوع وفي كل طبيعي.
والإنسان في الأمور المعقولة أشد تشوقاً لمعرفة أسبابها لنه نظر أعلى وأرفع وأنفع، فإنه بطلب الأسباب يصل الإنسان إلى الإيمان بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله وبالحياة الآخرة. والتفاضل في موهبة الله التي بها تبصر القوة الناطقة متفاوت بحسب ما يعطيه الله أيضاً في أول خلقه الإنسان من الاستعداد لقبول الموهبة التي بها تبصر القوة الناطقة. وهاتان الموهبتان ليستا بمكتسبتين، وإنما يكتسب ما بعدهما لمن وفقه الله تعالى إلى العمل. بما يرضيه، فهذا هو الكمال الإنسان، ولا يوجد إلا بما تأتي به الرسل عن الله عز وجل، فمن اتبع هوه فلا يضل ولا يشقى. فلسرد الإنسان نفسه بما حض عليه صلوات الله عليه، وندب إليه، وليجعل ذكره كله ونظره في مخلوقات الله عز وجل ودرجاتها في الكمال، كمال الوجود، فيرى ببصيرة قلبه ما هو كل واحد منها، وعما هو، إلى أن ينتهي بالضرورة إلى أن يعلم ببصيرة قلبه أن الله خالق جميعها، وإنه وحده لا شريك له، وأنه واجب الودود بذاته، وإن كل ما سواه من الموجودات حادث ممكن الوجود من جهة ذاته واجب الوجود بذاته، لا إلاه إلا هو، خالق كل شيء، وهو بل شيء عليم. وعلمه بالأسباب جهة علمه بذاته، لا أنه يعلم الأشياء من جهة الأشياء، كما نعلمها نحن، ولذلك علمه هو هو. ولما صدرت جميع الأشياء عن كمال ذاته فهو يعلم الأشياء لعلمه بما صدر عنه، ألا يعلم من خلق، وعلمه بالأشياء هو سبب وجودها. صانع لسبب مصنوعه الذي يخرجه إلى الفعل إنما هو علمه.. وارتفاع العوائق لكن يحتاج إلى الأسباب ولها بأيدينا. والله عز وجل لا يحتاج إلى آلة، بل إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون. والصانع لمصنوع ما يعلم ما في موضوعه استنبطه فأخذه بالفعل من علمه. في مصنوعه، فليس علمه بما في مصنوعه من جهة مصنوعه، بل من جهة علمه بما صنع، وكل من سوى ذلك الصانع منا إنما يعلم بما في ذلك المصنوع المستنبط من جهة ذلك المصنوع المشار إليه بالفكر والبحث، حتى يحصل له ما كان في نفس المستنبط له، ولا سيما في الأمور الغريبة الاستنباط مثل ميقاتة الزرقالة، وكذلك مخلوقات الله عز وجل ما نعلم نحن فيها ما نعلمه من جهتها ومن جهة الفكر فيها ببصيرة القلب، والله عز وجل يعلمها من جهة علمه بما خلق وابتدع فإنما الإنسان ولي ذلك الإنسان. خذ نفسك واعمل ببصيرتك في مخلوقات الله عز وجل حتى نوصلك إلى المعرفة به. "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً". وإذا علمت الله عز وجل وكتبه ورسله فمن أصل ممن نسيه "نسو الله فأنساهم أنفسهم" ومن نسي نفسه ضلالاً بعيداً، إذا لا طريق له إلى الهداية، وصار في ظلمات الشهوات من اتخذ ألهه هواه. فكن ممن جعل هواه ذكر ربه بقلبه، ووالي ذلك بجهدك يهديك الصراط المستقيم، "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين".
نظر آخر يقوي تصور ما تقدم لما كان العقل علم ماهيات الموجودات، والموجودات قسمان: موجودات نعقلها ولا نقدر على إيجاد الموجود منها، فينقسم العقل قسمين، أحد القسمين عقل نظري يعقل الإنسان ببحثه ونظره موجودات لا قدرة له على إيجادها البتة، لكنها تحصل معقولة له، على نحو ما لخصناه قبل، والقسم الثاني أن الإنسان يعقل الموجودات الصناعية التي له قدرة على إيجادها، وهذا هو للإنسان العقل العملي، وكماله أن يعقلها ويوجدها وبين أن وجودها يوجد بإرادة الإنسان وإنما توجد بأعضاء بدن الإنسان و، إما بأن تتحرك الأعضاء دون آلت من خارج، وإما بأن تتحرك الأعضاء فتحرك آلات من خارج، فتحركه الأعضاء إذا تم وجود المصنوعات الصناعية التي تكون بإرادة الإنسان، وهذا بين بنفسه. وبين أيضاً أن أعضاء الإنسان ليست تتحرك من ذاتها لعمل ذلك المصنوع، بل تتحرك بإرادة الإنسان، ثم توجد خارج نفسه مصنوعاً مثاله في نفسه.. تأخذ الأعضاء في وجود ذلك المصنوع، وهذا المثال خيال متخيل في القوة المتخيلة من النفس فيه عموم، وهذا المثال المتخيل يزول عن النفس ويحصل. آخر. هكذا أبداً كلما أراد الإنسان أن يصنع شيئاً يقيم في الخيال مثال ذلك المصنوع.
وإذا أمعن الناظر التثبت رأى ببصيرة نفسه أن قوة أخرى في النفس تبسط هذا المثال في الخيال، وتنقله من حال إلى حال حتى يكمل وجوده في النفس، وإذ ذاك تبدأ بتحرك الأعضاء لوجود ذلك المصنوع. وهذه القوة التي تفعل هذا وتبسطه في التخيل، هي التي تسمى العقل العملي. وهي العاملة أولاً، ثم التخيل يتخذ الأعضاء التي تتحرك لعلمه على نحو ما تحركها الإرادة بالقوة النفسانية. والعقل العملي إذن يبسط في القوة المتخيلة مثال المصنوع على مقدار ما يقصده من مقدار وهيئة، ثم تأخذ القوة المحركة للأعضاء من قوى النفس بما تحرك الأعضاء الحركات التي تدبرها فتدبرها وتوجد ذلك المصنوع الذي مثاله في القوة المتخيلة. فالعقل إذن أولاً هو الصانع لذلك المصنوع، لا الأعضاء التي تتحرك بالنفس، ولا القوة المحركة للآلات، بل العقل الذي يدبر تلك الحركات ويأخذ القوة المحركة للأعضاء بإيجاد الحركات. وقد تبين أن المصنوع لا يوجد نفسه، وإنما يوجد بما يليه ويماسه من الأعضاء والآلات المتصلة بالأعضاء. وبين أن تلك القوة للأعضاء لم توجده أولاً وإنما أوجدته القوة المحركة للأعضاء. وبين أن تلك القوة لم توجده أولاً أيضاً على الحقيقة، وإنما أوجدته قوة العقل التي رتبته أولاً في التخيل، ثم حركته الأعضاء بإرادته. والقوة المتخيلة في وقت إيجاد الشيء تستعين بالحس لتحضر فيها ما فعلته الأعضاء ليرى العقل هل ما تخيل في القوة المتخيلة في الحس على مثال القوة المتخيلة. وللعقل نحوين من.: أحدهما أن يصور فيها مثال ما يراد إيجاده، والثاني أن يحصل فيها على الحس ما تفعله الأعضاء المتحركة في ذلك الشخص الذي هو خارج النفس.
وإذا نظر هذا النظر في الموجودات الطبيعية وجدت الطبيعة مثل الأعضاء، وأنفس الأجرام السماوية مثل القوة المتخيلة، والفاعل هو الذي يعلم ما يفعل فيفيض على الأنفس السماوية ما يريد إيجاده ويصور فيها على مثال ما يصور العقل الإنساني في الخيال ما يقصد إيجاده في الطبيعة محرك موجود في الأجرام التي في الكون والفساد، ووجودها في هذه الأجرام عن حركة لأجرام السماوية. وأظهر ما توجد حركة الطبيعة في الأجرام التي في الكون والفساد عن حركة الشمس، فإنه توجد عن حركتها حرارة بها تفعل الشمس في النبات ما يظهر لنا من تحريك النبات إلى التغذي والنمو والتوليد، فحرارة الشمس. أعضاء بدن الإنسان والآلات التي بها يفعل الإنسان عن عقله، وكذلك حرارة الشمس هي التي تدبر الشمس وتفعل بما يفيض عليها من الله عز وجل مما يريد أن يفعله، فحرارة الشمس من حيث تفعل بها نفس الشمس وطبيعة ما يكون عن حركة جرم الشمس. وكذلك تصدر عن جميع حركات الأجرام السماوية طبائع تفعل بها في الأجرام الطبيعية وعنها تتغير الأجرام تغيرات مختلفة. وكما توجد المصنوعات عن الإنسان بالعقل والنفس والأعضاء، كذلك توجد الأمور الطبيعية عن عالم يفعلها أولاً في أنفس موجودة في الأجرام السماوية تدير بها الطبيعة لتوجد الأمور الطبيعية.
وينظر العقل النظري ببصيرته في العقل العملي، وذلك أن المعقول من المصنوعات في العقل العملي كلي متوحد، فإذا بسطه وأوجده في النفس بسطه وأوجده متكثراً، وإذا أوجده خار النفس أوجده في نهاية التكثير لأنه يوجده بنهايات وعلى مقدار في النفس، ويوجد كل واحد من المقادير التي في النفس أشخاصاً كثيرة خارج النفس. مثال ذلك: معقول الياقوت في العقل العملي هو معنى واحد، فإذا أوجده في النفس أوجده على مقدار ما من الصغر والكبر في الطول والعرض والارتفاع، لأنه ليس في قوة النفس أن تقبله كما هو في العقل من التوحد، لأن العقل أعلى وأشرف، فإذا أوجد خارج النفس أشخاص كل مقدار منها، أوجد كل واحد منها أشخاصاً متكثرة جداً، لأن المواد لا تقبل الصورة كما هي في النفس من التوحد. وهذا الذي ذكرته من المعنى الغريب الذي يدركه العقل النظري في العملي يلزم أن يقال: كل ما قرب من الواحد الأول كان أكثر توحداً، وكل ما بعد عنه في مرتبته كان متكثراً.
الفطرة الفائقة والتراتب المعرفي
الفطرة الفائقة المعدة لقبول الكمال الإنساني هي المعدة لقبول العقل الإنساني، ثم لقبول عقل إلهي وهو عقل مستفاد من الله عز وجل لا يدرك. وهي الفطر التي تعلم الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة التي هي بقاء لا فناء معه وسرور لا كدرات معه. والعلم في.. أن يرى ببصيرة نفسه، التي هي موهبة من الله عز وجل، الموجودات. عم كمال وجودها. فالذين بلغوا الكمال الإنساني هم الذين يعلمون أن الله عز وجل ومخلوقاته، وصار هذا العلم صورة لهم، وذلك هو الكمال العقلي. وأي كمال للإنسان ما أعظمه حتى سمى هذا العقل وهذه الموهبة بصيرة الأشياء ما تقدم القول فيه. وهذه الموهبة من الله عز وجل، التي هي بصائر القلوب، تتفاضل في الإنسان تفاضلاً عظيماً، وأعظم البصائر الموهبة من الله عز وجل بصائر الأنبياء صلوات الله عليهم يعلمون الله عز وجل ومخلوقاته حق علمه، ويرون ببصائرهم الفائقة في نفوسهم ذلك العلم العظيم دون تعلم ولا اكتساب. وأجل المدركات العلم بالله تعالى وهو لا سد، ويهدهم الله لمعرفته ومعرفة ملائكته علم ما كان ويكون من الحوادث الجزئية الحادثة في هذا العالم يرونها ببصائر قلوبهم من يغر أن يشاهدوها ويعاينوها. ودون الأنبياء أولياء الله الذين فطرهم على فطر فائقة يأخذون بها من الأنبياء ما يوصلهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة القصوى، ولا يزالون يصدقون بذلك حتى يروا علم ذلك في نفوسهم ببصائرهم بحسب درجات الموهبة من الله تعالى التي يبصرون بها نفوسهم على ذلك مسدون الدنيا ويأنسون ويلذون للفكرة بذكر الله ببصائرهم الفائقة، نطقت بذلك نفسهم أو لم تنطق، فإنه لا يخلو علم ذلك من نفوسهم. وهؤلاء المخلصون يفيض عليهم من الله عز وجل بحسب الرؤيا جزء يسير مما وهبه الله للأنبياء من الإطلاع على المغيبات التي تكون من الله تعالى في العلم على درجات. وأولياء الله منهم صحابة النبي صلعلم، وكل من أخلص لله وصدق فلا بد له من السعادة الأخروية.
وبعد أولياء الله طائفة قليلة، وهبهم الله بصائر يتحققون بها على تدريج ما هو كل موجود بقيناً، إلى أن يبلغوا من العلم اليقين بمخلوقات الله عز ودل ما يبلغهم إلى العلم بالله وبملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة، ويروا يقيناً ببصائرهم أنهم تبرأوا بذلك عن البدن، وحصل لهم الكمال الذي هو السعادة القصوى التي هي بقاء بلا فناء وعز بلا ذل. وبالجملة أن يدرك الإنسان أجل مطلوباته وأكملها، وهو العلم بالله عز وجل، حتى يكون كل ما دون الذي أدركه حقيراً عنده لا يرضاه ولا يحاكيه، بل يحب ما هو فيه ويلتذ به أكمل لذة ويتعشقه، وهؤلاء هم مثل أرسطو وهم قليل جداً. وابتاع هذه الطرائق عن ولائها طويلة، وربما مات طالبها في بعض طرق التعليم فلا يصل إلى السعادة التي هي السرور الدائم والطريق المضمونة التي لا تخيب. ومن وهبه الله فطرة وبصيرة يرى بها حقيقة ما جاءت به الرسل فليهتد بهداه، وليلتزم أوامره وما جاءت به الرسل، وليوالي على التفكر وعلى ذكر الله، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، فإنه ينكشف له العلم بالله وبمخلوقاته فيكون من الذين هداهم الله الصراط المستقيم "صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليه ولا الضالين". والمنعم عليهم الذين وهبهم الله الموصلة إلى القرب منه، فعملوا بما يرضاه، وجعلها لهم نوراً يمشون بها على الصراط السوي. والمغضوب عليهم هم الذين وهبهم الله موهبة توصلهم إلى القرب منه فيعملون بما لا يرضاه ويتبعون هواهم. والضالون هم الذين يمشون بغير موهبة. ومن جعل الله له نوراً يمشي به في الناس فليس كمن جعله في الظلمات ليس بخارج منها. ومما يجب أن يقرر أن الفطر الفائقة يعلمها الله ما في العالم من الموجودات التي ابتدعها بقدرته من خلق السموات والأرض وما فيهن مما شان الإنسان أن يعلمها بالتعلم. والفطر الفائقة إذا قربت من الله عز وجل علمها، وهو بكل شيء عليم. فإن المعقولات الأول التي يعلمها الله للإنسان المعد لأن يعلم بها إنما تحصل من الله عز وجل.
فيض العلم الإلهي
والله عز وجل يفيض من علمه على موجوداته ومخلوقاته العلم والعمل فيقبل كل موجود بحسب مرتبته من كمال الوجود. والعقول تقبل منه العلم بحسب مراتبها، والأجرام تقبل منه الأشكال والصور النفسانية بحسب مراتبها، ومراتبها بحسب أمكنتها. ولكل جرم سمائي عقل ونفس، فبالنفس يفعل الأفعال الجزئية المحسوسة على جهة التخيل، كانتقاله من موضع متخيل لا سرح على ذلك. وهذا الانتقال الجزئي المحسوس تحدث عنه أفاعيل جزئية محسوسة في الأجرام التي في الكون والفساد، وأظهر ما يكون هذا من الأجرام السماوية في الشمس والقمر. وبالعقل يعلم الإنسان العلم المنزلة عليه من الله عز وجل ذوات معقولة، وجزئيات من الحوادث الحادثة في المستقبل وفي الحال وفيما مضى فيما لم يشاهد بالعيان، وذلك غيب الله عز وجل يطلع عليه من يشاء من عباده بوساطة ملائكته. كذلك العمل يحدث عنه في الأجرام بوساطة أجرام، لا أنه يتناول الأعمال بذاته بل بعلمه، وعن علمه يحدث بوساطة جرم، لأنه إذا أراد وجود من الأجرام شيء من الأجرام فظاهر أنه يعلم ذلك الشيء فيوجده بوساطة ما يتحرك عنه من الأجرام، كما أنه إذا أراد إيجاد العلم أفاضه على العقول فيوجده في إنسان يليق به بتوسط عقل أعلى من الإنسان.
في الفيض والعقل الإنساني والعلم الإلهي
ولو رجعنا إلى القضاء والقدر لاسترحنا، فكل شيء يعلمه، لأنه يفيض الخير أجمع. كل شيء موجود بعلمه يختلف من جهة القابل، منه فاض مثل ذلك القابل فهو يعلمه، وعنه فاض كل موجود حتى ما يوجد في المادة القابلة للكون والفساد، وإن كان بتوسط، فنسبته إليه نسبة واحدة بتوسط ودون توسط، لأنه أعطى الأسه مطلعه كما هي في علمه، لعلمه بذاته، وأفاض على المتوسط أن يوجد الصورة مثل ما هي في علمه، وأفاض على القابل للصورة أن يقبل الصورة. هذا في جميع الموجودات حتى في مادة الكون والفساد، وحتى في العقل الإنساني. وجعل وجوده بعد عدمه لم يزل، فإذا كمل وجوده لم يزل موجوداً. وهذا الموجود وحده من الموجودات أزلي في الكون والفساد صفته هذه الصفة، لا يزال الوجود فيه كذلك، لا يزال يوجد بعد أن لم يكن. فإن وجد دام وجوده مع الدهر لا مع الزمان. فعلى هذا الوجه يكون عقل الإنسان له البقاء الدائم. وانظره في إيضاح الخير بجده، ففيه أبواب كثيرة في الخير. وأظنه الذي يسمى بمقالات الخير، فإن كل باب منه قول في الخير. فهذا ما ظهر لي فيما تجاذبناه. ولقد واليت النظر في أبوابه، فانكشف لي نور بين وعلم يقين، فلا أقدر أن أفارقه، ولقد علقت عليه. وانظر، مع نظرك في مقالات الخير، في عيون المسائل، ثم في قول أبي حامد، تجد الكل من نمط واحد، والكل في التأويل مع الكتاب العزيز متفق. لكن ذلك بأن توجد في بصيرة العقل في العقل، وهذا هو رجوع الشيء على ذاته، حتى يكون فعله هو ذاته، حتى لا يحتاج إلى فاعل يفعله ولا لمن يحفظه، بل هو حافظ ذاته، وفعله دائم لا يحتاج في وجوده إلى غيره، فليس له شيء يعدمه لأنه واحد في ذاته.
والنور هو في القلب نظر ننظر به المعقولات كما ننظر ببصر العين إلى الأشخاص المرئية. وبتلك البصيرة التي نرى بها المعقولات نرى لوازم المعقولات المتقدمة من اللوازم المتأخرة، وذلك هو العقل في المعقولات مجردة عن التخيل، وذلك هو نظره في ذاته بذاته أن ينظر بنور القلب فيرى دائماً ما حصل له، وينظر فيما يحصل عما قد حصل، ويرى ذلك النور به، فيرى دائماً ما حصل له، وينظر فيما يحصل عما قد حصل، ويرى ذلك النور به، فيرى دائماً ما حصل له، وينظر فيما يحصل عما قد حصل، ويرى ذلك النور به، فيرى رحمة الله الفائضة عليه، وهي وجوده الأكمل، كيف وسعت كل شيء على مثال واحد، وإنما اختلفت نسب القابل وعظمها قبولاً لذلك النور المتدع الأول.
ومن بعض ما ذكرته أن الأول يعلم الجزئيات من جهة علمه بحدودها، وهذا نقص في الوجود، لأنه وجود من كثرة معلومات، وليس علمه شيئاً إلا علمه بذاته، فهو يعلم الأشياء لا من الأشياء، بل من علمه بذاته الكاملة الوجود، وعن كمال وجوده فاض كل موجود إلى أنقص الموجودات. وعلمه بالموجودات هو سبب وجودها، وعلمه بالموجودات إنما هو علمه بالحركات، وأسبابها، فإنه مخترع الحركات كيف تكون. وجعل الأسباب كلها بعلم منه، مخترع الكل على ترتيب. فأول مخترع منه العقل الأول، ثم سائر الموجودات على ترتيب إلى أنقصها، وهي مادة الكون والفساد. وكل موجود في مرتبته وكماله واحد بذاته، ولا يكون به تشابه بين اثنين أصلاً فهو موصوف بما يوصف به الشخص الجزئي مما في الكون والفساد على جهة واحدة. وإنما قيل في الثواني في الأجرام السماوية إن بعضها أعم كلية من بعض من جهة ما يوجد عنها من الموجودات، لا من جهة ما تتشابه به. ألا ترى أن الأول يعلم جميع جزئيات العالم والثواني والأجرام السماوية، وكل واحد منها جزئي بذاته لا يتشابه به اثنان، فهو مخترع جميع جزيئات مادة الكون والفساد، وسبب وجودها إيجادها العقل الفعال، فإن لكل واحد من الثواني جرماً يفعل فيه بما رسمه نفس الجرم، ويوجده ذلك الجرم في جرم آخر. والعقل الفعال يرسم في نفوس أجرامه ما يقصد إيجاده في جزء جزء من المادة وإن دق، فالعقل الفعال متولى ذلك عن الأول، ويعلم ذلك، والأول ما يفوته منها جزء وإن قل، فهو يعلم كل نفس وكل كلمة ذرة، لأنها كلها محمولة في الهواء الذي هو محمول في جرم المادة. والأول واحد بالحقيقة عنه فاضت جميع الموجودات، والأول أعم الموجودات عموماً من جهة أنه واحد عام لوجود جميعها، لأنه مخترع لها ولأسباب وجودها. وإنك وإياي ممن يعلم ذاته بذاته. والعلم فعل ما، فذلك النور يفعل ذاته في ذاته لا يحتاج إلى فاعل غيره ولا يحلقه فساد. فقد ضللنا أن شغلتنا أموالنا وأهلنا فالله الله اغتنم التفرغ وتزود فلا ينفع إلا القلب السليم.
في العلم الإنساني والعقول الثواني والعلم الإلهي أو في مراتب العلم
. يحصل الإنسان هو هو صورة من يعقله، وكذلك هو. صورة من حيث عقله، وليس حصول صورته بأن يعلم ذاته وكيف توجد وصفاته هي هو وكيف يكون علمه هو هو وكيف. أن الموجودات ثلاثة: أجسام، وأعراض في أجسام، ومعقولات ليست بأجسام ولا أعراض في أجسام. ونتدرج إلى علم ذلك من معرفة المعقولات عندنا التي هي عقلنا، وهي موجودات ليست بأجسام ولا أعراض تحتوي على موجودات كثيرة، وهي ذات العقل لنا، وفيها نعمل حتى يكون الراجع والمرجوع شيئاً واحداً، وكان فعلنا هو جوهرنا، وحصلنا تناسب العقول التي لم تزل عقولاً بالفعل. لكنا نحس الجسد باقياً يفعل أحياناً بالعقل فيه وأحياناً يقوي أجسامنا. وأما الثواني ففعلها في عقولها دائماً وذلك بأن تعقل ما في عقلها دائماً، وذلك بأن تعقل في ذاتها الأول، وكيف حصلت جميع الموجودات عنه بحسب مراتبها منه.
والأول لا إلاه غيره يعقل ذاته فقط على كمالها فيعقل بعقل كمال ذاته ما يصدر عنه ويفيض من كماله، فيعلم جميع الأشياء لعلمه بذاته، فإنه لا يأخذ علمه بالموجودات أولاً ثم بأخرة يعقلها معلومة، على مثال ما يعقل الصانع المستنبط لموجود ما من جهة علمه به من ذاته، ثم كل من رأى ذلك الموجود من غير صانعه قد يعقله من بعد مدة وبعد فكرة كثيرة حتى يحصل له علمه به، وذلك هوان يعقله. مثال ذلك شخص الصفيحة والميكانة التي استنبطها الزرقالة فإنه إنما عقلها أولاً من ذاته لا من الميكانة والصفيحة، ثم من بعد رآهما بعده إنما يعقلها من ذينك الشخصين.
في الواجب الوجود والممكن الوجود
حدود ومقدمات يقينية ونتائج عنها يجب أن نرتاض فيها حتى وجودها. المبدأ يقال على ما له وجود حصل، أو يحصل عنه وجود شيء آخر مما ليس بموجود بوجه، ولا يمكن أن يحصل عنه موجود. ومتى كان الفاعل له فاعل، وتسلسل إلى ما لا نهاية له، وجب إلا يوجد موجود بوجه، إذ ما لا نهاية له من الفاعلين غير موجود. فلذلك يجب بالضرورة أن ينتهي الفاعلون إلى فاعل أول واجب الوجود بذاته وهو السبب الأول وبين أن الواجب الوجود بذاته لا يكون وجوده. إلى ما لا نهاية له، والواجب الوجود بغيره لا يوجد.. بذاته فمتى رفع الغير الذي هو به وجوده كان ممتنع الوجود بذاته. فإذن متى أخذ وجوده بغيره وجب وجوده، ومتى أخذ وجوده بذاته كان ممكن الوجود، وإما أن يوجد وإما أن لا يوجد. لأنه بالإضافة إلى غيره يوجد ويرفع هذه الإضافة لا يوجد، وهو بحسب ذاته معرض لأحد الوجهين إلى وجود وإلى أن لا وجود، وهذا هو من طبيعة الممكن. والممكن الوجود حادث عن محدث. والمحدث منه محدث بحسب ذاته وفي زمان يعم طرفيه، ومنه محدث بحسب ذاته لا في زمان، وهو الواجب الوجود بغيره أبداً، فيكون محدثاً عن غيره أي مستفيد الوجود عن غيره. فقد كان بحسب ذاته لا موجوداً إذ كان مستفيداً للوجود وحادث الوجود عن غير وذلك في غير زمان. فتكون العقول الإلهية مع الدهر لا مع الزمان، والأجرام السماوية مع الزمان لا في زمان. وكذلك تقوم الأجرام لأنها المحدثة للزمان، وما في الكون والفساد هو بحسب الزمان لأنه في الزمان والزمان محيط له به، فيه أول وآخر. والواجب الوجود بذاته لا يكون وجوده بغيره، فليس له سبب عنه كان وجوده ولا فاعل له ولا صورة في مادة ولا غاية ولا له أجزاء كان عنها وجوده، فهو واجب الوجود بذاته من كل الجهات، فهو واجب الوجود بذاته، وسبب الوجود لكل ما سواه. وكل ما سواه واجب الوجود به، فهو السبب الأول والواحد بذاته، البريء من إنحاء النقص الكامل الوجود، وليس وجود لسواه، وليس يمكن أن يكون وجوده إلا له، فقد انفرد به. والخير هو وجود ذات، أو وجود ما هو صلاح ذات، والشر مقابله، وهو عدم ذات أو عدم صلاح ذات. ولما كان الأول وجوده وجود محض خالص من كل نقص، كان هو خيراً محضاً خالصاً من كل نقص. ولما كان هو واهب كل وجود كان واهباً لكل خير وكل صلاح. ولما كان كل ما في الكون والفساد بطبيعته وجوداً، أو عدم لوجود، كان الوجود في الكون خيراً وعدم الوجود شراً. غلا أنه لما. الوجود هنا أبداً عن عدم صار العدم، وهو شر، سبباً لوجود الخير. ومن هذه الجهة قيل في الشر الذي هو عدم أنه خير بالعرض.
في الفاعل القريب والفاعل البعيد وخلود العقل
انظر إلى قول الغزالي في آخر كتاب المشكاة فإنه يعتقد أن الأول فطر جميع الفاعلين أن يفعلوا والمنفعلين أن ينفعلوا. وانظر إلى قول أب ينصر في عيون المسائل يقول: إن نسبة جميع الأشياء ليه من حيث أنه مبدعها أو هو الذي ليس بينه وبين مبدعها واسطة وإلى.. نسبة واحدة. والبرهان في ذلك بين في السماع أن الفاعل الأول هو الفاعل على الحقيقة، وأن الفاعل القريب لا فعل له. فالأول هو أن الذي جعل القريب أن يفعل والمنفعل أن ينفعل عن الفاعل. والقريب في المشهور عند الجمهور هو الفاعل في المادة من حيث يأخذون الأمور في المواد. وإنما يحمد أو يذم الفاعل الأول، مثل الملك العادل إليه تنسب العدالة ولو بعد في الرتبة عمن تحته من الفاعلين، منه وكذلك الجائر. ومن ينسب فعل الحركات إلى القريب كان كالكلب يعض على الحجر الذي يرمى به غيظاً على الفاعل لا يدري أنه فعل هو في ذلك مصيب. وفي هذا صعوبة، ولا سيما إذا بعد ولم توجد الأمور في المواد الطبيعية. والعقل الفعال بمعونة الأجرام السماوية هو الفاعل القريب في جزئيات الكون والفساد، والذي فطرهما على ذلك هو الفاعل أبداً بالحقيقة، وهو الشيء الذي يستحق الحمد، وليس واحد منهما يجهل. والخير وجود والشر عدم. ولولا العدم لم يكن وجود العقل الإنساني غلا مرة واحدة. وهو لا نهاية لوجوده لمن يطلب زوال وجود لا يزال ولا فساد له، فمنه الخير والشر منه، من جهة أن الشر خير لكنه بالعرض. وما أعظم منفعة الشر في الوجود، بل لا شر على الحقيقة وعلى الإطلاق في الترتيب الإلهي إذا لم يستمر توالي وجود ما في المادة. إلا أنه بل هو تمام الحكمة وإنما لعدم ما يعود بالنوع في المادة لزيادة عقل لا يفنى بل يبقى ببقاء موجود واحد بالعدد، وكل ما يوجد في المادة من غير نوعه، فمن أجل ذلك العقل وجوده وهو الغاية منه. وقد خلق الوجود المستمر على نظام واحد في البقاء من أول أمره، وكان هذا الوجود الآخر عن ذلك من كمال الحكمة والقدرة والفضل. تبار الله أحسن الخالقين. ومن جهات البرهان في بقاء العقل أن تلتفت أبداً في إلى بصيرة قلبك حتى تفنى تلك البصيرة، وهي التي تحوز بها المعقولات، وتراها بها كما ترى بصر العين نور الشمس الذي نرى به الملونات، حتى نرى بتلك البصيرة المعقولات، ونثبتها في العقل، ونتيقن وجودها وصدقها في العقل، حتى يكون الراجع والمرجوع إليه شيئاً واحداً. ومعنى ذلك أن يكون قائماً بذاته فقط لا يحتاج إلى شيء يقومه خارج عنه، بل هو الفاعل لذاته بتلك البصيرة، حتى يكون فعله هو ذاته وفي ذاته، فيكون الفاعل والصورة هو كالمادة، فإنه في ذاته ليس بمتكون من شيء آخر غيره. أما أنه لا يعقل ذاته إلا بالبصيرة الفائضة عليه من الأول، وهي البصيرة التي يعقل بها ذاته، فإذا لم يتكون من شيء ولا يفسد إلى شيء. لأنه إن أخذ فاسداً فسد إلى ذاته، لأنه ليس بمكون من شيء. فيكون موجوداً حين يفسد، وذلك محال. وهو العلة والمعلول والحافظ لذاته، وكل ما يفسد فإنما يفسد بزوال علته وحافظه، وهو العلة والحافظ لمعلوله الذي يحفظه. ولو زالت العلة لبقي بما فيه هو هو، وكان يفسد حين يوجد، وذلك أيضاً محال.
في تراتب العقول وخلودها
ولي في هذا نظر أطول من وجوه، البرهان عليه: أنه يجب أن نضع اليقين بحقيقة العقل على ترتيبه من أقرب العقول إلى الأول إلى أبعدها رتبة، وهو عقل الإنسان. وإن وجوده ببصيرة تفيض من الأول واحدة بعينها، ثم تختلف بحسب القابل، يبصر بها المعاني منزلتها منزلة نور الشمس المبصر به. والمبصرات إذا التقت من ينظر بعقله في المعاني أبصر تلك البصيرة وكذلك نور العقل. وكرر النظر والتثبت في أبواب إيضاح الخير تتيقن كيف ذلك، ولا سيما في الباب الرابع والمائة، والباب الخامس والمائة، والباب السادسة والمائة. وظهر في مراتب العقل أن منه ما يفيض من الأول دون متوسط، ومتوسط أكثر. وإن نسبة من يفيض إليه ممن يفيض منه نسبة الضوء الذي من داخل بيت من نور الشمس الذي في صحن الدار. خذ في نفسك ثلاثة أمور تعمل عليها تقربك من الله عز وجل: خذ لسانك بذكره وتمجيده وتعظيمه. وخذ جوارحك بما يعطيه قلبك. وتجنب ما يلهي عن ذكره أو يشغل القلب عنه. فإذا أخذت نفسك ابدأ بهذه الأشياء الثلاثة كنت من المخلصين لله، ولا يتم ذلك إلا بالصبر على إدامته.
في السعادة المدينية والسعادة الأخروية أو دفاع عن أبي نصر
أما ما يظن بأبي نصر في كلامه فيما شرحه من كتاب الأخلاق من أنه لا بقاء بعد الموت أو المفارقة، ولا سعادة إلا السعادة المدينية، ولا وجود إلا الوجود المحسوس، وإن ما يقال أن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس خرافات عجائز، هذا كله باطل ومكذوب فيه على أبي نصر، وذكر ذلك أبو نصر في أول قرائته. وليس يشبه قوله في هذا أقوال التي هي لوازم برهانية. وأقواله في هذا الكتاب أكثرها منسوبة، ويتشوق الرد بها على جهة توبيخ وسح لا يليق بمثله، مثل ما يقوله فيمن يقول أن بها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس أن قوله خرافات عجائز، بمثول سمجة ليكون حيوان عن حيوان أو عن النبات. وليس القول فيما هي السعادة الآخرة خرافات، وسيتبين أن لها وجوداً آخر غير الوجود المحسوس. وكذلك لا يشبه قوله أقواله فيما نسبه إلى بعض المتقدمين أنه يحصر عند المفارقة إحصاراً شديداً. وليس هذا قول أحد المتقدمين بل هو قول إخوان الصفاء الضالين. ويظهر من هذا القول إن السعادة إنما هي أن يكون الشخص جزء مدينة يخدم أو يخدم بحسب مرتبته في أن تحصل له ولأهلها الخيرات الكثيرة المحسوسة المدنية الملذة على ما يليق بمصالح الجميع، ويخدم بحسب مرتبته في أن يحصل له ولأهلها على أفضل الأموال المدنية وأبلغها في بقاء النوع على السلامة بطول البقاء. وهذا كله خطأ، فإن من حصل له الكمال الإنساني، فإن هذا الكمال المديني المحسوس هو كمال للإنسان بما هو جسم متغذ حساس متخيل ناطق النطق الذي يعم الجميع، حتى يدخل تحت هذا الحد جميع من يخدم المدينة ويسوسها، ويعرف قوته الناطقة في استنباط الخيرات المدينية بحسب مرتبته، كان خادماً أو مخدوماً أو المتولي السياسة. وليس هذا وجوداً آخر بحسب ما يظهر من أقوال المتقدمين بحسب خفاء ما جاءت به الشريعة عليهم. وليس هذا هو الكمال الإنساني عند المتقدم الذي يخصه بحسب شرفه في الوجود من بين سائر الحيوان الذي خص به الإنسان، وهو العقل، بحصول معقولات غير مرئية يقرب بها من الأول، لا يحتاج في وجوده ذلك إلى مادة، وليس يكون موجوداً محسوساً، وهذا هو نظر ما بعد الطبيعة، وأما الوجود المحسوس فنظر الطبيعي. ويتبين من قول أرسطو في مقالة و. الجواهر الموجودة ثلاث: جواهر في الكون والفساد. وجواهر الأجرام السماوية. وجوهر هو عقل لا يحتاج في وجوده إلى مادة. أعلاها الجوهر الذي هو عقل وعاقل بمعقول هو ذاته، وعالم وعلم بمعلوم هو ذاته لا يحتاج إلى ذات أخرى يعلمها ويعقلها، بل لعلمه بذاته فقط يعلم جميع الموجودات التي استفادت الوجود عن كمال ذاته، فهو يعلمها من علمه بكمال ذاته، فهو عالم بجميع ما يفيض عنه على مراتبها. ولهذا يعلم الجزئيات الموجودة بتوسط من جعل له ذلك بعلمه من ذاته لما جعل له، فلا تخفى عليه خافية. وسائر ما هو عقل إنما استفاد ذلك بمعقول ليس هو ذاته، إما واحداً وإما أكثر من واحد، وأخسها عقل الإنسان لأنه إنما يستفيد العقل بمعقولات كثيرة ليس هي ذاته فقط. والتدبير المديني معونة عظيمة في وجود عقل الإنسان، ولا سيما المدينة الفاضلة والتدبير الفاضل الذي غايته الأخيرة وجود العقل بمعلومات كثيرة أولها الله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله وجميع مخلوقاته. ولهذه المعلومات درجات بحسب مراتب أسباب العلم، حتى يكون لكل من في المدينة قسط ما من هذا الوجود بحسب قوة إنسان إنسان. هذا هو الخير الأخير الإنساني وجميع الخيرات المدنية إنما هي خير من أجل أن لها معونة في وجود هذا. فجميعها خير لا بذاته، وهذا خير بذاته. ومتى كان شيء من الخيرات المدنية خيراً بذاته، ولم تكن غايته هذا، لم يكن خيراً في الحقيقة، بل هو خير مظنون أنه خير، مثل الصحة والسلامة وغير ذلك من الخيرات المدنية. وهذا بين من عدة مواضع، وانظر في آخر هذا الشرح تجده قد ذكر شيئاَ من هذا. ولما كان عقل الإنسان من جملة العقول، وإن كان أخسها، فله بقاء. ودع ما يقال من إثبات وإبطال في أن عقل الإنسان يحتاج في وجوده إلى مادة أو لا يحتاج، وإن له حياة أخيرة غير المحسوسة أم لا. فانظر إلى بصيرة نفسك بحسب كمال ذاتك هناك اللذة. ألست تجد في نفسك وجوداً يقينياً بصيرة تدرك بها في الموجودات التي في القوة المتخيلة معلومات ليست بمحسوسة ولا بمتخيلة، وهذه المعلومات تسمى المعقولات، حتى لا يكون لك في القوة المتخيلة متخيل بوجه وإلا فلك فيه مدركات جاءت من ذلك الشخص المتخيل. والبصيرة المدركة لما في التخيل إذا أدركت. وأنت تتيقن بحقيقة ما تدركه وتبصره بتلك البصيرة، كما تتيقن بإدراك المحسوس بالحس، مثل أن هذا زيد، وإن هذا الوقت نهار، وغير ذلك من المحسوسات، حتى تكون نسبة هذا المدرك الذي هو عقل إلى مدركاته من القوة المتخيلة نسبة الحس المدرك إلى محسوساته، هذا يبصر وهذا يبصر بالضوء ما يحصل في الضوء، وهذا يبصر بتلك البصيرة ما يحصل في التخيل. وهذه البصيرة قوة إلاهية فائضة من العقل الفعال، وهي التي ذكرها أبو نصر في مقالة العقل والمعقول. وفي هذه المقالة المذكورة هداية غير ما يظهر من أول هذا الشرح الذي قد أفسد كثيراً. وإذا كانت هذه البصيرة الفائضة من العقل الفعال، وهي غير الفعال، تأخذ المعقولات وهي العقل الإنساني قائماً تفسد وهيه باقية لا تحتاج إلى مادة، وقد حصلت فيها مدركات لم تكن. انظر هذا. وإذا كنا نسمي حياً كل من له في الوجود إدراك بحاسة، وهو أخس الإدراكات. أليس الواجب أن نسمي حياً من يدرك المدركات الي هي أشرف، وهي ماهيات المدركات المتخيلة. وما يدرك بالعلم اليقيني عما حصل عن تلك الماهيات المأخوذة عن القوة المتخيلة، مثل ما تخيلنا لماهيات الحركات المساوية فيحصل لنا عن معرفة ماهيات هذه الحركات السماوية أشرف المعلومات وأعلاها. والمدرك لهذه المعقولات أحق باسم الحي. وإذا حصل هذا للإنسان عقل ذاته من حيث حصل فيها المدركات بذاته، ولا يحتاج إلى مادة ولا إلى أشياء غير ذاته من جهة ما حصل فيها تعقلها. وأنا أرى أنك تستشعر بهذه البصيرة المبصرة في المختيلات بحسب كمالك، وأنه يظهر لك أن في النفس ما يشبه الضياء من الشمس أو غيره، تدرك النفس بها ما يدركه البصر بضياء الشمس، وترى النفس تنفش في المتخيل بتلك البصرة مثل ما يفعل البصر بالعينين في أن يبصر المبصر، وذلك يسمى فكراً وهذا يجب بالبصر. وإذا أكمل الإنسان بحصول معقولات كما لا يجمع ما يمكن أن يحصل في القوة المتخيلة وما يلزم عن معرفة تلك المعقولات، كان فعله في ذاته لا في القوة المتخيلة، فصار تصوره وفعله في ذاته في معقولات، كان فعله في ذاته لا في القوة المتخيلة، فصار تصوره وفعله في ذاته في معقولات، كلية. لا.. في خيالات أشخاص جزئية في معقولات نعم جزئية، ولا يتلفت إلى خيالات الأشخاص التي في القوة المتخيلة، مثل خيال زيد وعمرو وهذا الفرس.. المتخيل هو ذلك الشخص بعينه ليس هو لسواه. والعقل لهذا يرى ببصيرة النفس وقول الله ينظر إلى هذا وقوله الحث أو منم جعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج عنها. فقد تبين مما ذكرته أن ثم وجود غير الوجود المحسوس، وما أعظم هذا النظر كيف خرافات العجائز.---------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق